جفلت هذا الصباح على حلم غريب، حيث وجدت جيوبي خاوية وملابسي رثة ممزقة وأنا أتسمر على رصيف شارع "كورنيش مطرح" المزدحم بالمارة، أمد يدي بذل على يدا سخية تعطف علي، وحين التفت يمينا وشمالا وجدت الرصيف وقد تحول الى صف متسولين يمتد الى اللانهاية. ضحكت وأنا أرتدي ملابسي هاما بالخروج باتجاه سوق السمك الذي أحبه.
"متسول ؟! !! "
الجمعة، حيث تكتظ الممرات الضيقة في الأسواق وعلى ضفاف شاطىء مطرح، وأمام المحلات في الشوارع الرئيسية،كانت بوابة "المثاعيب" المرممة حديثا المواجهة لبيتي أول ما يطالعني كل صباح. تقف هكذا منذ زمن بعيد، وقد تحولت مع الأيام الى بقايا ذكرى لطفل مجنون وسخ الملابس يحمل في حزامه الذي اشتراه له أبوه في العيد الماضي مسدسا بلاستيكيا صغيرا، يتصيد به أصدقاءه الذين يصرخون بأعلى صوت "الله أكبر" بينما يحشر هو جسده الضئيل داخل صندوق القمامة العمومي الكائن أسفل البوابة،حيث لا يخطر للأطفال النظاف الاقتراب منه، ويبقى هو هناك حتى ينتهي رصاص المسدسات الأخرى، فيخرج هو متوحشا غادرا مبيدا الكل، أو يختبىء في البرج الصغير الواقع أعلى البوابة حيث حذر الأباء ابناءهم منذ زمن من مغبة الولوج الى داخله خشية الجن والسحرة التي تسكنه منذ الأزل، حيث تجرأت شابة جميلة (يقال إنها كانت أجمل فتاة في مطرح) الى الدخول هناك خوفا من عقاب أبيها بعد أن راها تحادث شابا قدام باب البيت، ولم تخرج من البرج منذ حينها، وحيث كان يلمح هو بقايا علب لأسماك التونة وزجاجات عطر كبيرة كلما أطل على البرج من خارج الباب فاعتقد أيامها بأن ما يرده هو طعام وشراب الجن المفضل. يبقى في البرج مرتعشا خائفا من شيء لم يظهر له بعد، مسلحا نفسه بشجاعة غريبة لم يترب عليها حتى تنتهي ذخيرة الأطفال الآخرين.
الصبح شديد البرودة مع بداية شهر شباط، والأرض رطبة. وما أن عبرت البوابة حتى لفت انتباهي حالة الصمت اللاطبيعية. كانت المحلات التي اعتادت فتح أبوابها مع صلاة الفجر مغلقة، "المخبز اللبناني" لا تنبعث منا رائحة رغيف كالعادة، ودكان الحاج علي بائع المرطبات وعصير البرتقال الطازج والخضراوات بدا ساكنا هامدا. مصطبة العجوز "مياء" بائعة الحمص والفول خالية، حيث اعتدت على شرب شاي الحليب الساخن وتناول رغيف مملوء بالفول تارة وبالجبن تارة أخرى قبل توجهي للعمل كل صباح، وكانت العجوز كثيرا ما تستغل تلك الفترات في الحديث عن ابنتها التي ساعدتها في إعداد قدور الحمص والفول والتي تقوم عادة بغسل الأطباق والملابس وتنظيف البيت الصغير. كانت العجوز قلما تأخذ مني نقودا مقابل ما أتناوله من طعام، حتى تلك المصطبة بدت جافة يابسة، وحتى سيارات الأجرة التي يملكها خلفان وسالم وسعيد والتي عادة ما أسمع شحير محركاتها على امتداد الطرقات، بقيت هي الأخرى صامتة.
وحين توقفت لبرهة من الوقت أمام بيت العجوز مياء الطيني المسقوف بسعف النخيل اليابس، وطرقت الباب المتداعي، لم تجب، فأيقنت بأن ثمة سرا غريبا يشمل المكان، وانني ربما أخطأت حين لم استمع للإذاعة ليلة الأمس أو حتى هذا الصباح، وشتمت نفسي على الوقت الطويل الذي أهدرته سدي في محاولة فاشلة لتهذيب قصيدة رثاء لوالد صديقي الذي نفق في نزوى قبل ليال هاما بإرسالها للجريدة صبيحة الغد.
منذ يومين أو أكثر، حيث بدأت إجازتي السنوية وحيث قررت السفر باتجاه الشرق القريب بعد اسبوع، تسمرت قدام جهاز التلفزيون الذي يبث قنوات فضائية جميلة، وكنت قد اعتدت مع صبيحة كل جمعة، على حلاقة ذقني والتوغل في الأسواق حيث يروق لي كثيرا مشاهدة الباعة والتجار والزبائن ووجوه النساء المتزاحمات على المحلات، قبل أن أصل لسوق السمك. هذا الصباح تبدو الأشياء غريبة جدا، البيوت هادئة، السكك صامتة، المحلات جافة ميتة، حتى صياح الديكة الذي كثيرا ما نرفزني مع كل فجر جديد، اختفى اليوم تماما. وترددت وأنا أهم بالعودة الى بيتي في البداية، لكنني، وباعتقاد جازم، شحذت همتي ومضيت، فاليوم يأتي بعد ليلة خميس باردة جدا وربما فضل الجميع النوم. كانت الساعة قد تجاوزت السابعة بقليل، وكنت كلما توغلت في السكك واستدرت ناحية المحلات المغلقة والطرقات الهادئة، كلما كبر الصمت واتسع السؤال. وحين اشتعلت أعماقي وغدت مثل لهيب يضطرم، عدت أدراجي ناحية البيت. كنت خائفا من شيء ما لا أعيه، أدرت جهاز التلفزيون، أدرت المذياع، لكنني فوجئت بصمت عميق جدا، كل الأشياء تبدو صامتة ساكنة هذا الصباح، عداي وجوفي.
لم استطع المكوث في البيت لأكثر من ساعة. حالة الصمت الغريبة جدا لم تترك لي فرصة للبقاء أكثر، ان في الأمر سرا ما، سرا غريبا جدا، فخرجت ثانية. الساعة تجاوزت الثامنة، ولا ثمة حس. ولجت سوق مطرح القديم، كانت بوابات المحلات الخشبية مغلقة يتقاطر منها صمت عميق، وكانت الممرات خاوية تماما من المدرة وعربات الحمالين الخشبية، واختفت تماما جلسات المتسولين وبائعي الساعات اليدوية والصرافين ورائحة الأجساد المكتظة والمختلطة ببخور وعطر النساء الحريف. وجزمت ساعتها أن أمرا ما غير طبيعي يحصل، أو أن ما أراه مجرد حلم آخر وسأصحو منه بعد قليل.
انعطفت صوب سوق الظلام، حيث اعتدت أن أسلكه في اتجاهي نحو سوق السمك، وحيث أشتم روائح البهارات المختلطة بروائح البخور الكثيرة وروائح الصندل ودهن العود وألمح عن قرب وجوه النساء المزدحمة أمام شرفات المحلات وأيدي الهنود والسيخ التي تتعمد ملامسة النساء في الأماكن الرخوة.
كان السوق يبدو مظلما هذه المرة مثل اسمه، حتى تلك الحشرات الصغيرة التي كثيرا ما ألمحها تسحق تحت الأقدام وهي تتراكض بجموع نحو قطع السكر الملقاة، قد اختفت هي الأخرى. وتساءلت حينها: هل هو يوم صمت عالمي تكاتفت فيه سائر المخلوقات الأرضية عداي؟!!
اتجهت بعد ذلك ناحية الكورنيش الموازي لسور اللواتيا القديم، حيث تكتنز منازلهم ما بين السور الأبيض الأمامي والجبل الشاهق في الخلف وحيث اعتدت على رؤية بشرتهم البيضاء الناعمة أمام محلاتهم أو أمام بوابة السور، وبدا كأنه هو الآخر يعيش حالة صمت، حتى تخيلته وحشا غابت عنه الحياة. حينها ارتعش قلبي، وتوجست خيفة، وجزمت بأن شيئا ما ربما حدث أو ربما سيحدث بعد قليل، وان الكل قد علم بالنبأ وانني أنا الوحيد الأحمق، الذي غفل عن سماع الإذاعة. وفاجأني وجه عجوز متغضن البشرة، اندلق فجأة من بين ألواح النافذة، كانت سيماؤه توحي بغضب ما، حدق الي بنظرته الحادة، بزق، ثم أغلق النافذة. كاد بزاقه أن يتوسط وجهي لولا أنني تنحيت عنه فسقط على نعلي. التهبت بعدها الأسئلة في رأسي، كبرت وتعاظمت، سخنت النفس وأوشكت على الانفجار.
ما الذي يجري هنا؟
هيجني الصمت الجاثم مثل موت مطبق عميق فكدت أن أزعق في البيوت الهامدة، وأصرخ بحدة حبالي الصوتية كي أعقل ما يحدث.
ما مرد هذا الصمت غير العادي؟!
ولماذا لا يوجد سواي في الشارع ؟!
في الفجر، الفجر المملوء برطوبة البحر ورائحة الأسماك تستيقظ مطرح لزجة برطوبة مالحة يتصاعد الأذان من الجهات الأربع وتبدأ مشاوير الأقدام.
أين مطرح تلك ؟ ما الذي يجري حقا؟
ان الناس. ناس العالم كله، من الهند، من السند، من نيويورك المخيفة، ومن لندن الواسعة كلهم يأتون الى مطرح ليشتموا لساعات بسيطة رائحة الهدوء الفريد ويتسكعوا بحرية حلوة وأمان لن يجدوه أبدا في كوكب الأرض. إن أبي الذي زارني قبل ليلتين لم يفلح في محاولته الطويلة في إقناعي بالنكوص معه الى نزوى، أخبرته بأنني مسكون بمطرح، وان مطرح الحلوة في دمي. لكن مطرح تبدو غريبة علي هذا اليوم.
صبيحة الجمعة لا تجد متسعا تخطو عليه في سوق مطرح ولا فسحة تضع عليها جسدك، أنفاسك تختلط بأنفاس آخر أو أخرى، ويندلق رجل مجنون بعصاه وابتسامته الدائمة، يهش على المدرة والسيارات. أين هو اليوم أيضا؟!
ما سر هذا الصمت الغريب ؟!
أين البشر؟:
أين تلك الجموع الشديدة التي تعودتها تملأ الشوارع خصوصا أيام الجمع ؟! حتى مسجد اللواتيا بقي مغلقا باردا دون العادة.
والهنود !! أين كل أولئك الذين تعودت الاصطدام بأجسادهم الطافرة بروائح حادة.!!
حين وصلت الى سوق السمك، حيث تعودت على مزاحمة المشترين، والتصبيح على وجوه الباعة والصيادين الذين حفظوا اسمي وحفظت أنا وجوههم وأسماءهم وأنواع الأسماك التي يصطادونها والأوقات التي يرمون فيها شباكهم وأنواع المراكب التي يملكونها، لأصل في النهاية الى وجه العم «ضحي» العجوز الذي اعتاد تخصيص سمكة طازجة لي. حين وصلته، ألفيته خاليا يابسا، تنبعث منه روائع عفنة. كانت المصاطب بيضاء لامعة وخالية من بقايا الأسماك والدماء الكثيرة. حينها أدركت بأنني أخطأت بخروجي هذا الصباح، وأنني عما قليل ربما سأرتطم بموت مفاجىء غير متوقع أو مصير مجهول ينحدرا باتجاه جهنم.
وتذكرت بأنني صليت هذا الصباح، والبارحة، وأنني لم أفعل سوءا سوى ملاحقة فتاة متزوجة تسكن في البناية المجاورة. وتذكرت الرسالة التي وجدتها قبل شهر أسفل الباب، وكيف اني ضحكت ساخرا غير مصدق بأنه لم يتبق على القيامة سوى أربعين ليلة.
كان شعور بالخوف قد طغى علي وشملني حتى هطل عرقي برغم برودة الجو. شعور حاد صاخب يغلي في الداخل فيحرق بقايا تماسكي الواهن. وتسمرت مكاني مذعورا من شيء لا أفهمه، شيء ربما سيحدث بعد لحظة أو ربما سينفجر الآن، وربما اختارني ضحية دون كل البشر. وتأكدت بأن كل الذي أعددته للزواج في الشتاء القادم قد احترق، وأنني الآن أخرج من ملابسي وأطير صوب البحر أو صوب الصحراء. سيحدث ذلك لي دون كل البشر، فأنا الذي خالفت قانون الطبيعة وخرجت، في حين بقي الكل في بيوتهم حتى العجوز مياء لم تبرح دارها ولا استجابت لطرقاتي، أنا الوحيد إذن الذي خالف قانون اليوم والمكوث في المنازل، وربما خالفت أشيده كثيرة لا أعقلها.
بقيت هكذا لفترة طويلة وأنا أحدق لزرقة السماء والبحر. حتى البحر بدا هادئا وديعا هذا الصباح. المراكب هادئة، السفن الضخمة في البعيد هادئة، ان ظاهرة غير طبيعية سوف تحدث عما قليل. وسردت على نفسي كل الاحتمالات الممكنة:
قلت: ان هدوء البحر هو الهدوء الذي يسبق العاصفة، وربما إنه الطوفان، وان العالم استمع لتحذير الأرصاد الجوية فبقي الناس في بيوتهم، وانني المخبول الوحيد في مطرح الذي خرج ليستقبل حتفه بترحاب. وأمعنت النظر في السماء فكانت صافية.
قلت: إنها ربما حادثة مشابهة لتلك التي مكثنا فيها داخل حجرنا نرتجف هلعا على سماع تحذير عنيف اللهجة جازما بأن أشلاء من قمر صناعي سيسقط فوق أحد السطوح الهشة في مطرح، وانه محمل بأشعة هالكة.
قلت: أو ربما يكون المذنب الهائل الذي قرأت عنه في كتب المدرسة منذ زمن بعيد، والذي يتوقع سقوطه اليوم، وربما هذا الصباح، أو ربما هذا اللحظة، وحينها سيصطدم بالأرض بجلبة عنيفة فتندثر سائر البيوت والجبال وينطمر الخلق أجمعين.
وتذكرت الأوزون والحكايات الغريبة التي لا أصدقها، وتذكرت الإيدز، بداية انتهاء البشرية كما انتهت قبل ذلك الديناصورات. فربما اكتشفوا كما كنت ألح على زملائي في المكتب بأن الإيدز ينتشر الآن في الهواء بكثرة.
بقيت هكذا لثوان، قبل أن أقرر، وبسرعة العودة أدراجي من حيث أتيت قبل فوات الأوان.
قلبي يرتج بشدة داخل تجويفي الصدري وأنا اجتاز الشارع الرئيسي باتجاه الشارع السفلي المقابل لسور اللواتيا. وتساءلت: هل كان أبي على علم بما سيحدث ولذا كان إصراره قويا هذه المرة ؟
كانت السيارات المصطفة في كل الاتجاهات صامتة ميتة والتفت ثانية ناحية البحر في محاولة أخيرة لرؤية حياة ما فكانت مناظر السفن والمراكب توحي بحزن دفين غامق، ولا ثمة صوت لموجة يتيمة. حينها، وعلى حين غرة، داهم مسمعي صوت محرك سيارة، فتوقفت فاغرا فاهي شاخصا بعينين صامتتين، اعتقدت جازما في البداية أن ما أسمعا هو من وحي دواخلي الحالمة بهمسة صوت واحدة وسط غابة الصمت الهائلة حول. أصخت السمع أكثر. أجل، إنه صوت سيارة. أيقنت وقتها بأن الحياة قد بدأت تدب من جديد على الأرصفة وفي المحيط، وأن الفوضى المعتادة والأصوات المتداخلة والروائح المختلفة ستحتدم في الساحة الفارغة بعد قليل، وستكتظ الممرات والسكك والأسواق ثانية، فابتسمت لذلك الشعور المريح أخيرا، لابد أن أحدهم كان قد عبث بساعتي فخرجت مبكرا جدا. إلا أن هذا الشعور الذي خامرني لثوان معدودات لم يلبث أن تبخر فجأة وتلبسني شعور الخوف من جديد حين خشيت من أن يكون القادم واحدا مثلي، مخبولا آخر نسي الاستماع للإذاعة فخرج يلاقي حتفه هو الآخر.
مكثت محدقا في السيارة التي بدأت تقترب حتى غدت في الجانب المواجه لي. حينها التفت الي الثلاثة الذين عجت بهم السيارة. فرمل سائقها، فانبعث من تحت العجلات صوت غليظ ودخان، ولمحت الثلاثة يترجلون، يحمل كل واحد منهم عصا غليظة مكورة الرأس. فشملتني رجفة حادة من دقائق رأسي وحتى أخمص القدمين ووقف الدم في عروقي.
ما الذي يجري ؟!!
من هؤلاء؟!!
صاح بي أحدهم: أنت.. قف مكانك.
اعتقدت لبرهة بأنهم يلاحقون شخصا ما يحقدون عليه ويريدون هصره بعصيهم المخيفة، وانهم ربما تخيلونني ذلك الشخص. لكن، ومع دنوهم مني، ولها جس لم أتبين حقيقته، أطلقت لساقي العنان فانطلقتا. رفعت طوف دشداشتي وضغطت عليه بين أسناني وركضت. هبطت السلم القريب والثلاثة يتدافعون خلفي مثل طوفان. كانوا هانا نلين بعصيهم المرعبة الغامقة، وكان صوت أحدهم حادا فظيعا: قف يا حمار، قف يا بعل، يا نذل..
انحدرت ناحية سوق الظلام وهم يتراكضون خلفي، ودقات قلبي خائفة، ونفسي يختنق تدريجيا، كنت متأكدا بأنهم لن يتوقفوا عن ملاحقتي وأن تنفسي سيخور بعد لحظات.
برحت سوق الظلام وولجت سككا ضيقة، واكتشفت وأصواتهم القميئة تبتعد تدريجيا، بأنني أملك ساقين سريعتين، وضحكت بهستيريا غريبة وأنا استحضر ما يحصل. كأنني وسط كابوس مفزع وأنها ليست مطرح هذه التي أراها اليوم والتي عشقتها منذ نعومة عقلي. وان شيئا ما عصيبا قد حصل دون أن أعلم به. كان نفسي قد بدأ في النضوب التام مع اقتراب خطواتهم وتزايد صراخهم وشتائمهم. وكنت على يقين بأنني لو وقعت بين أيديهم الآن، حتى لو لم أكن من يريدون، فإنهم لن يتركوني وشأني، بل سيمزقون جسدي كله. كانت الطرق جميعها تقودني نحو طرق جديدة، حين لاح لي صندوق قمامة عمومي، فشددت على ساقي وقذفت بجسدي وسطه.
بقيت أشهق هواء عفنا متسارعا قبل أن أسمع اقتراب أقدامهم من المكان فخفضت تنفسي. كادت الرائحة الخانقة أن تهلكني هي الأخرى، وتساقطت بقايا رز وعظام أسماك على ملابسي وانسكب سائل على وجهي. كان قلبي ملتهبا في الداخل ويسبح جسدي في ذعر وعرق كثيف لم أعرف مثله من قبل. وكان كلما هدأ ركضهم كلما زادت لعناتهم وسبهم.
– أين هرب ابن الكلبة ؟
– سأحطم هذه العصا على رأسه
– سأسود حياته النذل
– جبان.. حقير
– ………………
ما الذي يجري اليوم ؟!
وما كل هذه الشتائم المقززة ؟!!
ومن هؤلاء ؟!
ومن يلاحقون في الأصل ؟!
وتذكرت أحداث اليوم، والأسواق الصامتة، والسك الذابلة، والبيوت الهامدة.
لابد وأن في الأمر سرا ما.
كانت الأسئلة الحارقة تتسارع نحو ذهني تتسابق وتتشابك في عقلي الذي يوشك على الانشطار. بقيت بعدها للحظات كاتما على نفسي بين أكوام القمامة الكثيفة دون حراك. حينها انبعثت من اللاشيء خطوات جديدة راكضة في البعيد.
فصرخ أحدهم: ذاك هو
وزعق الثاني: إنه آخر
وركضوا خلفه وهم يصرخون: قف، قف مكانك والا كسرنا عنقك، قف يا فشيم يا قليل التربية، يا زبالة.
– هناك ثالث
– يا أولاد الحرام يا….
بقيت مكاني لفترة بسيطة وأنا أصيح السمع للخطوات التي ابتعدت وانتشرت، وبقيت الأسئلة العصيبة تحرق كل رأسي. كنت لا أزال مقتنعا في الداخل أن ما أراه هو مجرد كابوس لم ينته بعد، وأنني مازلت نائما، لم استيقظ بعد.
استقمت، وقفزت من على الصندوق. بكم ثوبي مسحت السائل الذي انسكب على وجهي ورقبتي، ونفضت ما على ملابسي من عظام وطعام، تنفست بعمق، وتلفت في الاتجاهات، كانت القمامة العمومية تقع وسط منازل قديمة متشابكة تفصل بينها سكك ضيقة، حدقت في الوجوه الشاخصة من بين فتحات النوافذ والستائر، ابتسمت وانطلقت صوب سوق السمك.
يونس الاخزمي ( قاص من سلطنة عمان)