تصف جوليا كريستيفا الكتابة عن الشعر أو النقد قائلة : “أنه إدراكُ هذه التنقّلات بين المنطق واللامنطق، وبين الواقع واللاواقع، وبين الكائن واللاكائن، وبين الكلام واللاكلام، ما تختصّ به اللغة الشعرية ..”
(Geimas,essais de sémiotique poétique,1972,p:43)
إذن، نسعى، في هذه المقالة البحثية أن نلقي الضوء على عمل شعري، في باب قصيدة النثر، للشاعر اللبناني يوسف بزّي، وهو بعنوان “في فم الغراب ” الصادر عن دار رياض نجيب الريس، العام 2015.
ولكن القارئ، كاتب هذه السطور، سوف لن تكفيه مادة الكتاب الحديث الصدور –لعام خلا – بل سوف يستعين بكتاب للشاعر سابق، هو “بلا مغفرة” والصادر العام 2005، عن الدار نفسها، وذلك من أجل الركون إلى مدوّنة جديرة بالتأمّل في مسار صاحبها الأسلوبي، وفي سجلّ المواضيع التي باتت تشغله في اليوم، بعد أن شغلته مواضيع أخرى في زمن أبعد، وفي بداياته .
بداية، لا بدّ من تعريف أولي بالشاعر يوسف بزّي، موضع الاهتمام وصاحب العمل الشعري المقصود بالنقد والوصف . يوسف بزّي من مواليد بيروت، على ما يورده، العام 1966، يروي في إحدى ملخّصات سيرته أنه انتقل من كونه مجنّدًا حزبيا أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، الى كاتب صحفي في مجلة “صباح الخير “(1987)، ومحرر في مجلة الناقد، وجريدة الحياة، والنهار، والسفير، والرأي العام الكويتية .الى ذلك فقد اضطلع الشاعر بمهمة المسؤول الثقافي في جريدة الاتّحاد (أبوظبي)، و موقع الرأي نيوز (2012)، وغيرها . أما مؤلفات الشاعر فهي : المرقّط (1989)، العنف الأصولي (1991)، رغبات كأسناننا (1993)، تحت المطرقة (1997)، بلا مغفرة (2004)، نظر إليّ ياسر عرفات وابتسم (2005)، في فم الغراب (2015).
ولئن كنت لم يسبق لي أن تناولتُ بالبحث أعمال يوسف بزي، فإنّي تابعتُ أعماله الشعرية وقرأتُ مجملها، وتساءلتُ عن الزاوية التي يحسنُ بقارئ شعر قصيدة النثر أن ينطلق منها ؛هل يحسن به أن ينطلق من معايير تجاوزَها هذا الجنسُ الأدبي الشعري، والذي لا يزال البعض ينكر كونه كذلك (المناصرة، 2002)، و(بزّون، 1997) وغيرهما ؟ أم ينطلق من اعتبار أنّ الشعريّة التي ينبغي أن يوسمَ بها هذا الشعر إنما هي ماثلةٌ في محصّلة المظاهر اللغوية والدلالية التي يفترق فيها عن الكلام العادي، أي عن النثر الطبيعي الذي يقوم في أبنية وخُطَبٍ ودلالات، ليشكّل منظومات (معجمية، وتركيبية، وبيانية، وإيقاعية ) رمزية ذات محمولات (دلالات) نامية الى تصوّر ورؤية خاصّة بالشّاعر، في ما ندعوه الكتابة الشعرية؟
بالتأكيد، سوف أعتمد الخيار الثاني لمحاولة توصيف أعمال الشاعر يوسف بزّي، رغم أنّ العجالة لن تكون كافية لمعالجة الإشكالية بالجنس الأدبي وبلزوم تجاوز القصيدة-النص إلى الخطاب برمّته . ومع ذلك سوف نلمّح إلى هاتين الإشكاليتين في سياق مقالتنا البحثية هذه .
يقول الشاعر يوسف بزي : “الكلمة التي تخشّنُ مادّتَها / محفوظةٌ فقط / من ثقل استعمالها بين الفكّين ” (ص:36) ولأنّها كذلك، أي الكلمة المنذورة ليستخدِمَها الشاعر في الدلالة على عالمه الخشن والفظّ والمفارق للنموذج الرومنسي – الذي يؤثر الكلمة الناعمة والموحية والنامية الى عالم الطبيعة – فقد وجدنا الشاعر بزّي ميّالا إلى معجم القسوة، في ما يُستدلّ منه على عالم القسوة الذي تحفل به المجموعة ؛ سكاكين، شيطان، حقنة، الحوض، المشرط، خراءك، مبولة، مقصات، الجحيم، مسلخ، أورام، الجراثيم شواء، مرض، القساطل، الطوائف، مقبرة، الزفت، شواء، دفن السيدات، حقد، التجارة، الرعب، الغربان، الخطيئة …هذا العالم الذي يعرض الشاعر لعدوانيّته التي كادت تقضي على زوجته(ريم) مرضًا (علبة شوكولا على سطح المنام )، والتي عاشها في فتوّته تسكّعا وحان استحضارها شعرا ( حفلة شواءعند جبل يطلّ على عاصمة )، أو جعل يستحضر آونات عدوانية كان شاهدا لها (البلطة ) .
في مقابل عالم القسوة ومعجمه اللذين راح الشاعر ينفثُهما، في مجموعة “بلا مغفرة”، من أجل أن يتطهّر من أثرهما على ذاته المفردة، وكيانه المصاب بآلام لا يشفى منها : (Catarsis)
“آه إنّي أُضمرُ
دمعةً عابرة في مسرحية
أتخيّلُ مستودعًا ضخمًا
منَ الخسارات ..” (74)
ثمة عالمٌ من القسوة، من نوع آخر، في مجموعة “في فم الغراب “، قسوة الاستبداد الذي لا يزال الشاعر يبسط مظاهره في قصائد متفاوتة الطول (جئتُ بالمستقبل الميت، دخول وخروج وأرض مدقعة، الرئيس..) يختار الشاعر يوسف بزي مفردات عالم القسوة الثاني من منهلين : السياسة والمكان الجديد (فرن الشباك) اختيارا واعيا هذه المرّة، منسجمًا مع إصراره على تحميل القصائد محمولات الخطاب السياسي الذي يسعى إلى تعرية الاستبداد والمستبدّ وتصوير جموع المقهورين، في مشهديات ما بعد حداثية بل سوريالية، ضحايا مستعادين من أفلام كارلوس سورا التي تروي الفظائع المرتكبة في الحرب الأهلية الإسبانية، وغيره من الأفلام التي لا يكفّ الشاعر بزّي عن الاستئناس بها للإحالة عليها في توصيف آثار الحرب (الأهلية اللبنانية) واستلابها الكائن –الشاعر جوهر كيانه الهانئ؛ الجريمة، الحديد، قبر، تقرير عسكري، الصرخة، السكاكين، حكومة، الأسلحة، الرياء، مدافن، الحطام، قذيفة، البئر، المتفجرات، الخنادق ..
ولكنّ اللافت، في معجم “فم الغراب ” كثرة الصفات الدالّة على رؤية الشاعر السياسية وعلى استلابية الذات والآخرين ؛ الجماعي، التاريخي، المحمومة، جسورون، مفعمون، بكائية، المأتمي، فاسد، المعذّب، المستقبل الميت، نازحين، مرميين، المجرم، الجلاد، (ثمرة ) وحشية، (الجرح) السماوي، (الاحزان) المدنّسة، (الشرّ ) الضروري …الخ . ربما لأنّ الشاعر قصد أن يبسّط (للقارئ) خطابه السياسي فيستوحي الأخير ما ينبىء عن موقفه (الشاعر) من الاستبداد والمهجّرين والرئيس وغيرهم، وبالطبع هو موقفُ الصارخ والمندّد بالاستبداد والمستبدّ والجلاّد، والمتماهي مع المطرودين و”المهجّرين ” و”السجناء الذين فقدوا أقدامهم” ومع “الأمّهات (اللواتي) تهنَ عندَ الحدود” (ص:22-23).
بيدَ أنّ لغة بزّي الشعرية لا تحدّدها الكلماتُ ولا الحقول المعجمية ودلالاتها المختلفة، وإنّما تعيّنها كذلك الصور البيانية، بل المشاهد الشعرية الأقرب ما تكون إلى المشاهد السينمائية الثابتة، بالإضافة إلى بِنى الجمل الشعرية، وإيقاعاتها الداخلية، وبِنى القصائد التي تتفاوت اتّساعًا وتناميا بين المجموعتين، وعلى مدى عشر سنوات أو أكثر . وإذا اتفق أنّ “صُنْعَ القصيدة هو من ألعاب البنيان (الحِرَفيّ)” على ما، فقد توجّب أن ننظر إلى القصائد باعتبار بِناها وأشكال تناميها التي مولينو (Molino.j1994) يقول تنسجم مع رؤية الشاعر أو تعبّر عن هواجس واعية ولاواعية، على حدّ سواء .وعلى هذا، فإنّ الناظر إلى الصور الشعرية في المجموعتين، المحددتين مدوّنةً للقراءة النقدية، يتبيّن له الآتي :
أولا – أنّ الشاعر، إذ يؤثّث قصائده بالصوَر الشعرية، لا يلتفتُ إطلاقًا إلى الإرث البياني الحديث أو التقليدي، بإدراك منه أو بغير إدراك ؛ فالصورة الشعرية لديه، هو سليل قصيدة النثر اللبنانية، ومن جيلها الرابع – إن أحسنتُ التأريخ – يكفيها أن تكون مشهدًا بذاته، مستلاّ من الواقع، على أن يكون حاملا دلالة جزئية أو راسمًا تفصيلا من تفاصيل المناخ الدلالي في القصيدة . وهذا واضحٌ بقوة في كتاب “بلا مغفرة “.
“سكاكين تتبادلُ الطعنات ” (ص:11)
“يتقدّمُ رجلٌ يحملُ وثائقَ أرملتِه ” (ص:11)
” أحياءٌ يترصّدونَ قمرًا حقيقيًّا “(ص:11)
“بائعُ جرائدَ ينطحُ ابنَهٌ ” (ص:11)
“أنظّفُ حنجرتي من أهلي “(ص:12)
“ننخُّ مقرفصينَ حولَ شواء اللحم / بفانيلات ملطّخة ” (ص:31)
“جاؤوا مصطحبين ضحيّة : /جبين واسع ” (ص:45)
وبالأحرى أنّ هذه الصور –المشاهد إذ جعلها الشاعر نقاطَ جذب، بل زوايا للنّظر إلى الموضوع المعالَج، تُجبرُ القارئ على متابعة الخيط الدلالي الموصول في ما بينها، فهي تشكّل بذاتها مفاصلّ أساسية في بنيان القصائد . وعلى هذا النحو، يعمدُ الشاعر يوسف بزّي إلى تنمية قصائده، ولا سيّما في القسم الأول من مجموعة “بلا مغفرة “، وفقَ آليّتي تشبيك الصور الشعرية والمشاهد وتنويعها، وهما آليتان معتمدتان في بناء القصائد عامة (أنظر. مولينو، ص:148) المتوالدة بالتداعي والتجاور، حينا بعد حين .
ولم يمنع هذا الأمر من أن ينتقل الشاعر، في قصائد أخرى من المجموعة نفسها، إلى اعتماد آلية السرد
وتنمية أقصوصة أو حدث على امتداد القصيدة، (البلطة، ص:45-47)، وتليها آلية الوصف التي تقضي بالتوقف لدى سمات من الموصوف ( هو، ص:49-57) الذي ليس سوى ذاته، والتأمّل في أبعادها الدراماتيكية ( “هو وقميصه …/هو وصوته الزجاجي …/ هو الشّاحبُ الورديّ ..”) التي تصوّره ضحيّة “البلاد ” الماضية الى ريفيّتها القاتلة .
في كتابه “في فم الغراب ” يعمد الشاعر يوسف بزّي إلى استثمار خبرته السابقة في صوغ الصور الشعرية – وهي مكوّنٌ أساسيٌّ في لغته الشعرية – ولكن من زاوية للنظر أخرى هي زاوية المتكلّم (صاحب الخطاب) ذي الرؤية السياسية الفاضحة (الجلاّد ) والمعرّية جوانب في المجتمع خافية أو متستّرة بـ”كذبة بلا قياس ” (ص:30) .لا يصعّب الشاعر على القارئ صورَه الشعرية، في كتابه “في فم الغراب “؛ بل رأيناه وقد راعى سقفًا وسطًا، هو بين الخزين السريالي المغرق في غرائبيّته، والملاحظ في كتابه السابق، وبين الخزين العامي أو المألوف الذي يتماهى مع الخطاب المتداول وأدبيات السياسة .
“حيثُ يتلاشى المكرُ التاريخيُّ في البادية ..
“القشعريرةُ والدمعةُ والمطرةُ الأولى ..
“والصّرخةُ التي هي بعذوبةِ الأطفال ..
” وكانَ السمُّ يسهرُ على شفاهنا .. “نطوفُ الآنَ كأضواء بينَ القرى الفقيرة بالكلماتِ الفقيرة ..”
ولئنْ أثقلَت معادلة الصورة الشعرية الموازية لشعار سياسي أو لفكرة واصفة الاندفاعةَ الشعريةَ أو المسارَ الشعريَّ العام في القصيدة ( مثال :”مطمئنّين بما يمنحهُ الشّحوبُ المأتميُّ للأرامل / مجروحينَ بالبردِ، بالسكاكين التي تمزّقُ ظهورَ المعتقلين، ص: 16 )، فإنّ وفرةَ الصور الشعرية وحسنَ انتقال الشاعر، من آلية السرد والوصف، إلى آلية تشبيك الصور السالف وصفها، وإلى آلية التكرار ( تكرار بعض اللازمات مثل :”جئتُ بالمستقبل الميت …جئتُ بالمستقبل الميت …ص:19-25) وتنويع الصور الشعرية وتراكيبها،
هما كفيلتان بإبقاء لغة الشاعر يوسف بزّي يقظة وقيدَ الانفتاح والتجدّد .
انطوان ابو زيد