يحيى يخلف، روائي فلسطيني استطاع ان يكون في مقدمة الروائيين العرب منذ منتصف الستينات من القرن الماضي، عُرف بروايته الاولى نجران تحت الصفر وان كتب القصة القصيرة فأبدع فيها وكتب الشعر. وكان كالكثير من المثقفين الفلسطينيين في ذلك الوقت، فدائيا، حمل السلاح والقلم، في سبيل قضيته الاولى، القضية الفلسطينية. مولع بالكتابة منذ نعومة اظفاره، ونهم بالقراءة حتى هذا الوقت ويؤكد انه يحب المساء حيث يختلي فيه ليقرأ او يكتب. تبوأ مناصب ثقافية مهمة في منظمة التحرير الفلسطينية وشغل منصب الامين العام لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين منذ تأسيسه، كان له دور كبير في الثقافة الفلسطينية اهلته ليشغل منصب وزير الثقافة الفلسطيني في عهد الرئيس الحالي محمود عباس “ابو مازن”.
يحظى يخلف باحترام واسع في الوسط الثقافي الفلسطيني، فهو بالاضاقة الى اسهاماته في الكثير من الابحاث والدراسات التوثيقية للقضية الفلسطينية، يتمتع بشخصية يطغى عليها الدماثة والادب والهدوء. اوكلت له رئاسة جائزة فلسطين الدولية للتميز والابداع بعد الشاعر الراحل محمود درويش. تفرغ للكتابة وترك العمل الرسمي في عام 2012 ، وعمل على انشاء دار للنشر خاصة للاطفال، جل اهتمامه الآن. التقينا به في مكتبه بدار البحيرة للنشر في مدينة رام الله مشروعه الجديد، وكان معه الحديث التالي وحديث عن مجمل تجربته الثقافية التي امتدت على ما يزيد من ست عقود:
* تحدثنا عن بداياتك، كيف كانت؟
بداية كتابتي كانت في منتصف الستينات من القرن الماضي، وتفتّح وعيي الثقافي والوطني في مرحلة النهوض القومي أيام عبد الناصر، شجعني أستاذي سليم أبو رحمون مدرّس اللغة العربية في مرحلة الدراسة الثانوية عندما عرضت عليه خربشاتي ومحاولاتي الأولى في كتابة القصة القصيرة، وكان له الفضل في تشجيعي، وقال لي: إنّك تخطو خطوات واثقة لكي تصبح أديبًا مرموقًا.
صارت القراءة هوايتي الأولى، وواصلت محاولاتي في الكتابة. كنت أنشر خربشاتي في صفحة القرّاء في الصحف المحلية، وكنت أحلم بالنشر في مجلة “الأفق الجديد” وهي مجلة ثقافية تصدر في القدس في ذلك الوقت. وكانت المجلة الثقافية الوحيدة في الأردن، والضفة والقدس وقتها ملحقة بالمملكة الاردنية، وكانت تنشر لأسماء معروفة، ولعبت دورًا مهمًّا في تنشيط الأدب الأردني الفلسطيني، ونشرت معرفة في التيارات الأدبية والفكرية التي كانت سائدة آنذاك، وخصوصًا الوجودية وكتابات سارتر وسيمون دو بوفوار وفرنسوا ساغان. كما شجّعت القصص والقصائد التي عبرت عن نكبة فلسطين، وقدمت في وقت لاحق نماذج من قصائد ما أطلق عليه غسان كنفاني “أدب المقاومة”، فعرفتنا بمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد وراشد حسين وغيرهم.
عام امتحانات الثانوية العامة “التوجيهي”، انشغلت بالقراءة والكتابة، على حساب دراسة المنهاج المدرسي، وقبل الامتحانات بشهور، أرسلت لأول مرة قصة لمجلة الأفق الجديد عنوانها “البطل”، وصرت أنتظر نشرها، فصدر منها عددان دون أن تنشرها، وفوجئت بنشرها في عدد تزامن ظهوره مع ظهور نتائج امتحانات الثانوية العامة، وكنت نجحت بمعدل جيد، لكني لم أفرح لنجاحي في الامتحانات قدر فرحي بنشر قصتي الأولى في مجلة مرموقة فتحت لي الباب لأكون كاتبًا معروفًا في الأردن والضفة الغربية.
كان طموحي كبيرًا، فانتقلت أحلامي للنشر في مجلة الآداب البيروتية ذائعة الصيت التي يصدرها د. سهيل إدريس انذاك، ولعبت دورًا مهمًّا في التجديد والحداثة، وكان يكتب بها كبار أدباء وشعراء ونقاد الأمّة.
كان النشر في “الآداب” يعني الخروج من الدائرة الضيّقة المحلية إلى الدائرة الواسعة – الدائرة العربية.
نشرت لي الآداب قصصي بعد نكسة حزيران، كان د. سهيل إدريس حريصًا على نشر كتاباتي وكتابات كتاب فلسطينيين لأنّه رأى في تلك الكتابات امتدادًا لأدب المقاومة والرد على الهزيمة، وكنت وقتها قد التحقت بالثورة الفلسطينية، وانضممت إلى صفوف الفدائيين، وكتبت قصصًا عن حياتهم وتجاربهم، وهكذا قدمتني “الآداب” للمشهد الثقافي العربي.
صدرت لي عام 1972 مجموعتي القصصية الأولى “المُهرة” عن طريق اتحاد الكتاب الفلسطينيين، وقوبلت باهتمام من القراء والنقاد. لكن الفرصة الثمينة أتيحت لي عندما قررت الانتقال من القصة القصيرة إلى الرواية، وكتبت روايتي الأولى “نجران تحت الصفر”، وهي عن تجربة عشتها عندما عملت لسنة دراسية واحدة بعد تخرجي من دار المعلمين في مدينة نجران بالممكلة العربية السعودية معلّمًا. وفوجئت بما حققته من اهتمام ونجاح من النقاد والقراء. كان نجاحها مدويًّا، وقدمتني إلى صدارة المشهد الروائي العربي، ومُنعت في السعودية وطالبت الدول العربية بمنعها لانها تتحدث عن المسكوت عنه وعن منطقة فيها تعتيم، لكنها انتشرت وتعددت طبعاتها ووصلت إلى كل مكان واعتبرها الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب واحدة من أهم مائة رواية عربية صدرت في القرن العشرين.
* انت ابن النكبة، وكنت شاهدا عليها رغم صغر سنك وقتذاك، ما تحمله من ذكريات لتلك المأساة وكيف اثرت على مسيرتك؟
أول ما علق بذاكرة طفولتي مشهد الاقتلاع والتهجير عندما أطبقت العصابات الصهيونية الخناق على بلدتنا سمخ، الواقعة على الشاطئ الجنوبي لبحيرة طبرية. كان الرجال الذين يحملون بنادقهم العتيقة ويرابطون عند مبنى سكة الحديد الذي بناه العثمانيون، قد قرروا إخلاء النساء والأطفال من البلدة ونقلهم إلى مكان آمن، والمكان الآمن كان قرية الحمّة عند الحدود الأردنية السورية، التي كانت تبعد حوالي عشرة أميال عن بلدتنا سمخ، نقلوهم نقلاً مؤقتًا بانتظار دخول الجيوش العربية وفك الحصار، ومن ثم عودة المهجّرين.
* رُحِّلت نساء العائلة وأطفالها في عربة يجرها حصان، حشرونا فتكومنا في العربة، وكنت اسمع البكاء والعويل. عندما كان الحصان يجر العربة المكتظة، بصعوبة، كنت أتشبث بثياب أمي وأنظر إلى وجهها، وكأني أتساءل: هل هذه التي تسح من عينيها دموع أم قطرات مطر؟
سيبقى هذا المشهد عالقا بالذاكرة على امتداد العمر، وخصوصا سنوات الشتات، سنوات الرحيل من منفى إلى منفى. وستبقى رحلة الرحيل هذه ماثلة في الوعي واللاوعي.. رحلة الشتات في عربة يجرها حصان، حصان عجوز رافقنا في رحلة اللجوء إلى مدينة إربد في الأردن، ومات لاجئًا ذات شتاء يشبه الشتاء الذي اختلطت فيه قطرات المطر بدموع أمي.
تعلمت في مدرسة الأهل ما لم أتعلمه في مدارس وكالة الغوث والتربية والتعليم، وارتبط ذلك بقصص الأهل وحكاياهم عن البلاد الضائعة والمحتلة، ووصف البحيرة -أم الحياة- وطيورها وأسماكها، والأماكن، من بيوت وعمائر وحقول وبساتين وشرفات ونوافذ، وذكريات مفقودة، وغناء ومواويل وفولكلور الأعراس، وليالي الحصاد، وانتظار عجول تولد في ربيع قادم، وأشواق وحنين لبحيرة سطحها الرقراق يشبه بطن الغزالة.
كثير من الحكايا والقصص صارت جزءًا من مخزون ذاكرة الطفولة، وتحولت فيما بعد إلى نسيج فني في قصصي ورواياتي، وأذكر هنا ما غرفته من ذاكرة الطفولة وظهر على سبيل المثال في قصة “تلك المرأة الوردة” ورواية “تفّاح المجانين”.
رافقني الهم الوطني مثلما رافق أبناء جيلي. رافق طفولتي وشبابي وكهولتي. رافقني وأنا أدرس في مدارس وكالة غوث اللاجئين، كانت طفولة تعب وشقاء، أصعب ما فيها حبوب زيت السمك والحليب المجفف ووجبة عجّة البيض الإجبارية، وخيمة من قماش الشادر يلعب بها الهواء، يتصدرها لوح أسود وطباشير، وأولاد يجلسون على حصيرة وتتعلق على أكتافهم أكياس من القماش محشوة بدفاتر وكتب وأقلام رصاص.
* من حديثك عن البدايات وتجربة التهجير ووجع النكبة ، كنت مولعا بالقراءة، هذا ما استشفه منك، فماذا تعنيلك؟
علاقتي بالقراءة بدأت عندما كنت في الثانية عشرة. أول كتاب قرأته في طفولتي كان “دمعة وابتسامة” لجبران خليل جبران. سحرني جبران وحببني بالقراءة، فالتهمت في غضون أعوام مكتبة المدرسة. قرأت أمهات الكتب من التراث مثل الأغاني، والمستطرف، والبيان والتبيين، وغيرها. كما شدتني قصص المنفلوطي ونجيب محفوظ وعبدالحليم عبدالله ويوسف السباعي. وفي وقت لاحق، بدأت أقرأ القصص المترجمة، فقرأت رواية القمر وستة بنسات لسومرست موم، والشيخ والبحر لهمنجواي، والمعطف لجوجول، والمسخ لفرانز كافكا، وروايات أخرى. وصرت أشتري من مكتبات المدينة روايات دار الهلال، وسلسلة كتابي التي تصدر من مصر وتقدم تلخيصًا للروايات العالمية، مثل قصة مدينتين، وأحدب نوتردام، وموبي ديك. ساهم في تثقيفي بائع الكتب في شارع السينما، أشهر شوارع مدينة إربد، واسمه “الزرعيني”. كان يعرض على الرصيف كتبًا مستعملة بعضها ذو قيمة عالية، يبيعها بقروش قليلة، ويخبئ لي ما هو ثمين منها. وأذكر منها كتبًا لسلامة موسى وطه حسين والعقاد والرافعي وعلي الجارم وغيرهم. والى الان احب القراءة واحب الليل لاختلي بنفسي ساعات طويلة اقضيها في الكتابة والقراءة.
* بعد رواية “نجران تحت الصفر”، وما حققته من نجاحات كيف تابعت مشوارك ؟
بعد نجران تحت الصفر، كتبت مجموعة قصصية عنوانها “نورما ورجل الثلج” عن حياة الفدائيين في جنوب لبنان. ونشرت قصة بعنوان “تلك المرأة الوردة” لاقت قبولاً واهتمامًا كبيرين، ثم توقفت عن كتابة القصة القصيرة، وذهبت إلى الرواية.
روايتي الثانية كانت بعنوان “تفاح المجانين”. غرفت فيها من ذاكرة الطفولة، وغطّت الرواية مرحلة السنوات الأولى التي أعقبت النكبة، وصورت مظاهر الحياة وقسوتها في المخيّم والمدرسة والحارة، ورصدت العلاقات الاجتماعية وتكسّر الطبقات، إذ ساوى اللجوء بين الجميع، وحولهم إلى طبقة واحدة، هي طبقة اللاجئين.
واصلت الانحياز للرواية، فكتبت “نشيد الحياة” عن مرحلة الاجتياح الإسرائيلي وحصار بيروت عام 1982، من خلال أحداث تدور في مخيّم الدامور، يتشابك فيها الإنساني بالوحشي في زمن الحرب، وتوثق لعملية بطولية حقيقية استطاعت فيها مجموعة فدائية مفاجأة قائد القوات الإسرائيلية الغازية “يكتوئيل آدم”، وهو يجتمع مع قادة الكتائب في عمارة داخل الدامور، والإيقاع به وقتله وقتل كثير من المجتمعين وانسحاب الفدائيين إلى قواعدهم سالمين.
دور ثقافي استثنائي رغم ظروف الثورة
* هل كان للخروج من بيروت في 82 اثر على مسيرتكم؟
بعد خروج قوات الثورة الفلسطينية من بيروت عام 1982، انتقلت إلى دمشق، وعشت في مخيم اليرموك مع عائلتي، وتوقفت عن الكتابة الإبداعية بسبب الظروف القاسية التي مرت بها الحركة الوطنية الفلسطينية، ومنها حركة الانشقاق في تنظيم فتح بدعم من النظام السوري، والخلافات التي نشبت بين ياسر عرفات والفصائل الكبرى “الجبهتان الشعبية والديمقراطية”، كما حدث انقسام في الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وكنت أشغل منصب الأمين العام له، وألقت الأحداث بظلالها على أرواحنا.
غادرت دمشق إلى الجزائر مع عائلتي، وعشت عامًا بضيافة كريمة من حزب جبهة التحرير، استطعت، بالتعاون مع محمود درويش وعدد من أعضاء الأمانة العامة منهم احمد عبد الرحمن وبسام ابو شريف ورشاد ابو شاور، عقد موتمر توحيدي حقق المصالحة وأعاد اللحمة للاتحاد، وكان مقدمة لعقد مؤتمر الحوار الوطني والتوحيدي في 87. ونجحنا كمثقفين في فتح باب الوحدة الوطنية انذاك.
بعد عام من إقامتي في العاصمة الجزائرية، انتقلت إلى تونس، حيث عينني الرئيس عرفات مديرًا عامًّا لدائرة الثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية.
مرحلة تونس
يتحدث يخلف عن مرحلة تونس، ففيها عاد إلى دفاتره وأقلامه، وبدأ يخطط لكتابة ثلاثية روائية عن ملحمة كفاح الشعب الفلسطيني، وعمل عامين كاملين في البحث والتوثيق للتاريخ الشفوي والعودة إلى مصادر تاريخية ومذكرات شخصية لمؤرخين وشخصيات سياسية واجتماعية عن الفترة التي سبقت قرار التقسيم عام 1947، والأوضاع التي رافقت الحرب في عموم الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك منطقة الجليل الشرقي.
بعد هذا الجهد البحثي، يضيف يخلف انه شرع في كتابة الرواية الأولى من الثلاثية، وهي رواية “بحيرة وراء الريح”، التي تدور أحداثها في بلدته سمخ التي بنيت في عهد الحكم الروماني، ويعمل أهلها في الزراعة والصيد والتجارة، حيث إنها كانت محطة لسكة حديد الحجاز، يمر منها القطار القادم من حيفا والذاهب إلى درعا ودمشق وحلب.
ويتابع يخلف قائلا: هدم الجيش الإسرائيلي بلدتي بعد احتلالها عام 1948، وأعدت بناءها بمعمار فني توفرت له عناصر فنية عالية. من خلال الرواية التي صدرت عن دار الآداب عام 1990، أي بعد ما يزيد على أربعة عقود من تاريخ النكبة والكارثة، ما يعني أنّ زمنًا كافيًا مر لكي تكون التجربة الروائية قد اختمرت، ويستطيع الكاتب أن ينظر إلى الحدث الممثل بالنكبة نظرة موضوعية في سرده الذي يتصدى لمكر التاريخ.
استقبلت الرواية استقبالاً حسنًا، وكتب عنها العديد من الدراسات، وفازت بجائزة فلسطين التقديرية عام 2000، هذه الجائزة التي كان يترأس لجنة تحكيمها الشاعر الراحل الكبير محمود درويش.
واضاف يخلف، كان من المفروض أن أنجز الجزء الثاني من الثلاثية خلال عقد التسعينيات، لكن كانت حركة السياسة في تلك المرحلة أسرع من حركة الحياة، إذ فوجئنا حينها بالإعلان عن محادثات سرّية أجرتها منظمة التحرير الفلسطينية في أوسلو عام 1993، أفضت الى اتفاق إعلان المبادئ، وعرف باتفاقيات أوسلو، التي عادت بموجبها قيادات وكوادر وقوات عسكرية إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، وبموجبها أيضًا تأسست السلطة الفلسطينية.
كان الاتفاق مفاجئًا وصادمًا، وعارض الاتفاق عدد من المثقفين والنخب، وكنت واحدًا منهم، حيث نشرت عدة مقالات في الصحف تنتقد اتفاق أوسلو، وعارضه أيضًا من بين من عارضوا الشاعر محمود درويش، لكن عندما أتيحت لي ولغيري فرصة العودة إلى أرض الوطن، لم نتردد.
العودة الى الوطن
ويسرد يخلف رحلة العودة الى الوطن قائلا، عدت في بادئ الأمر إلى غزة عام 1994 بعد قضاء ستة وأربعين عامًا في المنافي، ولعلّ أول ما خطر ببالي الحصول على تصريح والذهاب إلى بلدتي سمخ، وبالفعل، استأجرت سيارة وذهبت بصحبة صديقي جهاد قرشولي – ابو منهل – ابن طبريّة، في رحلة من غزة إلى بحيرة طبريّة. كانت رحلة عجيبة وغرائبية تحوّلت إلى رواية كتبتها عام 1995 ونشرت عام 1996، وكان عنوانها “نهر يستحم في البحيرة”. لقد شاهدت بلدتي التي هدمها الإسرائيليون عام 1948 بعد ستة وأربعين عاما، ثمّ حولوها إلى منتجعات سياحية.
وقفت على الأطلال وبكيت. لم يكن من أثر للبلدة سوى مبنى محطة سكة الحديد، ذلك المبنى عثماني الطراز، وقد عبّرت باستفاضة عن مشاعري وما ذرفته من دموع في الرواية.
بعد زيارة بلدتي سمخ، انتقلنا إلى مدينة طبرية، مدينة صديقي جهاد قرشولي التي لا تبعد عن بلدتي سمخ سوى بضعة كيلو مترات.
وصلنا طبرية، وتكرر ما حدث معي لصديقي ورفيقي في الرحلة، وحين انتهينا من الوقوف على الأطلال، رفض صديقي إنهاء الزيارة والعودة من حيث أتينا. وأصرّ على أن نبقى ونبحث عن السيدة اليهودية “بيرتا”. وبيرتا كانت قبل النكبة تعيش في طبرية. كانت تعمل راقصة في ملهى الليدو الواقع على شاطئ البحيرة. كانت “بالارينا” ساحرة وخارقة الجمال، يخطب ودّها أفندية يافا وخواجات تل أبيب، لكنها اختارت فلسطينيًّا اسمه “قدّورة”، يعمل ميكانيكيًّا، فأحبته وعشقته وأسكنته معها، وتفهّم أهالي طبرية من يهود وعرب هذه العلاقة ولم يستنكروها. بعد حرب 1948 وتهجير سكان طبرية العرب، انضم “قدّورة” إلى طوابير اللاجئين، وسكن مخيّم اليرموك في ضواحي دمشق، فلحقته بيرتا وعاشت معه في خيمته، وعرفت المخابرات السورية أنّ سيدة يهودية تعيش في المخيّم، فألقت القبض عليهما، وتبيّن للمخابرات أن الموضوع موضوع حب وغرام وليس موضوع تجسس، فأطلقت سراح قدورة وسلّمت بيرتا إلى الصليب الأحمر الذي أعادها إلى إسرائيل.
كان صديقي يريد أن يلتقي بالسيدة بيرتا، ربما ليشم رائحة السلام والتعايش.
أمضينا ثلاثة أيام نبحث عنها حتى عثرنا على منزلها وعرفنا أنها تزوجت ولم تبارح طبرية. وصلنا أخيرًا البيت وطرقنا الباب، فاستقبلتنا شابّة تبدو كما لو أنها في العقد الثالث من عمرها، عرفنا فيما بعد أنها ابنتها. عرّفناها بأنفسنا، وإنّ عائلة صديقي كانت على صلة بالسيدة بيرتا وأننا أتينا لزيارتها.
أدخلتنا الشابة إلى الصالة، وغابت عنا قليلاً، وفي انتظارها كنا نتلهف لرؤية الجميلة ذات القامة الممشوقة بيرتا. فجأة، أدخلت الشابة سيدة على كرسي متحرك، على وجهها نظارة سميكة، وعلى أذنيها سمّاعة، ووجهها مليء بالتجاعيد. فوجئنا، وصعق صديقي، ها هي بيرتا في أرذل مراحل العمر.
عندما خرجنا، كان صديقي محبطًا، وفي تلك اللحظة، كنت قد قررت أن أكتب روايتي عن تلك الرحلة؛ “نهر يستحم في البحيرة”، وفي تلك اللحظة أيضًا، قلت محدثًا نفسي: جئنا نبحث عن السلام، فوجدناه لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم، ووجهه مليء بالتجاعيد.
بعد هذه الزيارة، بحثت عن هاتف محمود درويش الذي رفض العودة إلى الوطن تحت راية أوسلو. حصلت على هاتفه واتصلت به وكان في باريس. دار بيننا حديث طويل أفضى إلى اقتناعه بالعودة. وأقتطف من الحديث جزئية صغيرة، فقد سألني إن كنت زرت بلدتي سمخ وشاهدت البحيرة، فأجبته بـ”بنعم”، ثمّ سألني عن انطباعاتي، فأجبته: بعد ستة وأربعين عامًا، لم يستطع الإسرائيليون جر البحيرة من مكانها.
اصدارات الثلاثية
ويتابع عن تجربته، هكذا تأخرت سنوات طويلة قبل أن أواصل كتابة الجزءين الثاني والثالث من الثلاثية التي استلهمت ملحمة كفاح وصمود شعب. فكان الجزء الثاني، رواية “ماء السماء” التي صدرت عام 2008، والجزء الثالث، رواية “جنة ونار”، التي صدرت عام 2011. وأحداث ووقائع هاتين الروايتين امتداد لأحداث وشخصيات ووقائع رواية “بحيرة وراء الريح”. هما عن ملحمة كفاح الشعب الفلسطيني. والروايات الثلاث هي رواية واحدة لأولئك البسطاء الذين واجهوا مكر التاريخ.
* لعب المثقفون الفلسطينيون دورا طليعيا في فترة المنفى وبالبلدان التي استضافتكم، بحكم وضع القضية وبحكم وجود حركة تنويرية فلسطينية، فهل دوركم اقتصر فقط في البلدان التي تواجدتم بها ؟
الفلسطينيون لعبوا دورا في وصل ادب المشرق والمغرب واتذكر اننا في بيروت قمنا بدعوة ملتقى الشقيف الشعري وشارك في هذا الملتقى عدد كبير من الشعراء منهم الشاعر امل دنقل، محمد برادع، سيف الرحبي ومثقفين اخرين من الكويت والامارات. فبيروت كانت بابا مفتوحا لكل المثقفين المغلقة في وجوههم ابواب بلادهم واتذكر كان في ذلك الوقت شعراء كثر من العراق منهم سعدي يوسف والشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة. واتذكر عن الشاعرة لميعة انها كانت مولعة بابو عمار وتكتب له القصائد وتحرص على حضور كل الفعاليات التي قد يتواجد فيها. ومرة كتبت قصيدة في مديحه فيها من الابيات:
كل الشعوب توحدت في شعبه
…. وحدوده انى تشير يداه
يدعونه الختيار ذاك لحكمة
…… وانا كما الطفل النقي اراه
لولا جلالة قدره لكونه…. رمز الفداء لخلتني: اهواه
وصارت لميعة تلقيها في الصالونات البيروتية التي تستضيفها حتى مرة سألت القيادات اللبنانية ابو عمار عن القصيدة وفي يوم وبعد انتهاء عمله تذكر موضوع القصيدة وارسل في طلبي انا ومحمود درويش لاحضار القصيدة وعندما احتج درويش على ايقاظه ليلا لانه ينام باكرا رد عليه ابو عمار اشتقتلكم فارسلت بطلبكم فرد عليه درويش اشتقت للميعة. وسمع القصيدة معلقا على السطر الاخير ان هذا هو بيت القصيد.
ويسرد يخلف بعض ذكريات ذلك الزمن وليقول ان ابو عمار كان يحب امل دنقل وجاء في ملتقى في بيروت ليلقى قصيدة لا تصالح المعروفة وكان ابو عمار مولعا بهذه القصيدة، وعندما علم ان امل دنقل مصابا بالسرطان خصص له راتبا شهريا وساعده في عملية العلاج.
* عشت كل تجربة المنفى والعودة الى ارض الوطن، فكيف تقيم المشهد الثقافي الفلسطيني الان؟
اننا نشهد حراكا كبيرا من الادباء والشعراء وخاصة من جيل الشباب. والثقافة الفلسطينية في الداخل تنضج وتتطور وتتوفر فيها العناصر الفنية العالية في جو التحدي للاحتلال، وهو ابداع حداثي، لا يعيد تكرار شعارات مرحلة ادب المقاومة. ووصل الى صدارة المشهد الثقافي العربي، وفي هذا العام على سبيل المثال، استطاع عدد من المبدعين ومنهم شباب الوصول لجوائز عربية وعالمية، مثل البوكر، وغريفين، وجائزة الشيخ زايد. ولكن الانتاج الفلسطيني لا ترافقه حركة نقدية، وان وجدت مراجعات ودراسات متواضعة حوله، وربما الاقبال من القراء على متابعة الانشطة الثقافية يكون المعادلة الموضوعية الذي يسد ثغرات النقاد. وهذا الزخم في الانتاج الادبي بفلسطين الان يذكره بالظاهرة التي برزت في بيروت خلال السبيعات وبداية الثمانينات، واطلق عليها “ادب الرصيف”، واعتبر حينها حالة تمرد على السائد ومحاولة لكسر المألوف. ولكن الكم يظهر النوع، والنص الابداعي يجد طريقه دون اي دعاية، وياخذ مكانه دون مجاملة، والناس تميز الغث من السمين. واعتقد ان المثقف يجب ان يتمتع بالفكر والخلق الكريم والمثقف سلوك. والكاتب المميز من عنده حضور ونحبه لانه مبدع.
واعتبر يحلف ظاهرة الفيس بوك الشعرية، انها لا تصنع شعراء، ولكن تعبر عن حالة تمرد ومحاولة لكسر المألوف بوسائل بعضها ساذج وجزء منها جيد. وان التكنولوجيا ابعدت الناس عن القراءة، ومن يكتب عن نفسه انه شاعر او كاتب اراه انه لم يقرا ابن خلدون والجاحظ وهذا ما نتج عنه عربية ركيكة اثرت في مستوى الانتاج.
* ما هو جديدك؟
الآن اكتب رواية جديدة عن فلسطين وستكون رواية تاريخية ارجع فيها الى التاريخ ولكن اسقاط على الواقع وعلى عبقرية المكان، فيها احداث تاريخية وفي الداخل قصص وقضايا الانسان الفلسطيني وتبنى على تقلبات التاريخ ولكن تؤكد على عبقرية المكان التي تحظى بها فلسطين منذ الازل.
* من هم اصدقاؤك والذين بقيت على تواصل معهم؟
الاصدقاء الاقرب لي احمد دحبور ورشاد ابو شاور وخالد ابو خالد وقد التقينا خلال الثورة، كما ان صداقتي عميقة مع محمود درويش ومريد البرغوثي ومحمود الريماوي، وكان لي صداقات اخرى أهمها مع صلاح خلف وكمال عدوان. ولي معارف كثيرون في كل بقاع العالم العربي.
* ما الذي دفعك بعد مسيرة طويلة والانخراط بالعمل السياسي والثقافي وفي تفاصيل القضية الفلسطينية المعقدة بالاهتمام بأدب الاطفال وتنشئ دار البحيرة للنشر المختصة بكتب الاطفال، فهل يمكن القول انه تعبير عن تعبك في التعامل مع الكبار؟
رغبت بعد كل هذه المسيرة ان اتفرغ للكتابة ووجدت من هذا المشروع الصغير ملاذا لي اديره بهدوء ويعنى بالاطفال جيل المستقبل.
تغريد سعادة / كاتبة وصحفية من فلسطين