في هذه الرواية المتميزة ما يُفاجئ قارئ الرواية العربية مرتين: فهي العمل الأول لكاتبها النجيب، الذي جمع بين الموهبة والاجتهاد، وهي تأتي من بلد عربي حديث العهد بالكتابة الروائية. ألقى السعودي يحيى امقاسم ضوءاً ساطعاً على الكتابة الروائية في بلده، مبرهناً أنّ الرواية لم تعد حكراً على بلد عربي دون آخر، وأضاف إلى الرواية العربية عملاً مختلفاً، لا يلتقي القارئ بنظير له إلاّ صدفة.
انطلق الكاتب من مكان يعرفه، ورجع إلى زمن مضى وجمع حكاياته. يتمثل المكان بقرية «عُصَيْرَة»، النازلة في «وادي الحسيني» جنوب غربي السعودية، ويتراءى الزمن في ماضٍ قريب، يسبق القرن العشرين، أو يتلوه، بمقادير محدودة. وسواء كان الزمن واضحاً، أو يعوزه شيء من الوضوح، فهو قائم في زمن سبق استقرار السلطة، كما لو كان الروائي يفصل فصلاً كاملاً بين زمنين: زمن أول يدع الإنسان مع عفوية طليقة، إلاّ ما تأمر به سنن الطبيعة، وزمن لاحق تضبط فيه السلطة معيش البشر. ومع أنّ دلالات الزمان والمكان تصدر عن متواليات حكائية تنسج خطاباً روائياً عن الطبيعة والسلطة وتبدّل أقدار البشر، فهي صادرة أولاً عن شغف الروائي بموضوعه، الذي جعل أرواح الأجداد ماثلة في أحفادهم. ولعلّ هذا الشغف، الذي يحتفي بقيم راحلة، هو الذي يضع في النص الحكائي، الذي يستولد حكاية من أخرى، نصاً آخر، يساوي بين الحكاية وجمالية سردها، مؤكداً أنّ وفاء الأحياء للأموات، يأتي من شكل الكتابة لا من موضوعها.
تستهل الرواية بزمن ملحمي، يُوائم موضوعه، قبل أن تفرض تحولات البشر زمناً تراجيدياً، يقود الإنسان إلى مصير لا يستطيع التحرر منه. يترجم الزمن الأول علاقة الإنسان بالطبيعة، حين تكون أماً له ويكون امتداداً لها، يتبادلان الألفة والحماية، بعيداً عن العسف، وعما يكسر علاقة متوازنة متوارثة، لا جَوْر فيها ولا مفاجآت. ولهذا يبدو الفضاء الملحمي، الذي يُعابث فيه «ابن الطبيعة» أمّه، فضاءً مغلقاً، له سننه المتوالدة، وله حكمته التي تُواسي «ابن الطبيعة» وتعالج قضاياه. تشكّل الطبيعة، في هذا الفضاء، مرجعاً للإنسان متعدد الوجوه، يعلّمه الاقتصاد والوفرة، ويفصل بين الطمأنينة والمغامرة، ويقيم له الحدود بين المقدس والمدنس. كما لو كان خارج الإنسان داخله، أو كان في خارجه ما يأخذ بداخله إلى طريق الصواب. وبسبب ذلك يقدر «الإنسان الطبيعي» المسافة بإشارات من الطبيعة، متكئ على «عدد التلال»، أو تخوم «برك المياه»، التي يعرفها واحدة واحدة. بل أنّه يميّز من الحشرات بين»رسل الخير والعطاء» وإشارات الشر والوعيد، فيضع على الأولى خيطاً من ثيابه، ويتطيّر من الثانية ويلتمس النجاة. تهمس له الطبيعة، في الحالين، بما سيأتي وتعطيه بشارة، أو تحذّره مما ينبغي الحذر منه، كما لو كان بين الطرفين تواطؤ دافئ، أو لغة مشتركة قوامها الأمومة المباركة: «والقمر يحكي لهم عن ألوان الذرة عن حصار الموسم أو ما تعارفوا عليه بالخريف إذ خرف الزرع مستوياً للحصاد». تجاور حكاية القمر، عن الخريف والحصاد، حكايات الريح والمطر وغضب الطبيعة، إذ الأخير رغم عنفه، وجه آخر من النعمة، لأنّ الطبيعة صرحت به قبل أن يأتي. وكما يقدر الإنسان البريء المسافة بـ»عدد التلال» والمساحات المكانية الضيّقة، فهو يقدر الوقت بملامح الطبيعة وتبدّلات الفصول، إذ النجوم بوصلة واتجاهات الريح ساعة غير مرئية. والواضح بين الطرفين، أي الإنسان والطبيعة، هو التكافل والتكامل، وتلك الأمومة القديمة، التي تملي على الإنسان أن يلوذ من الطبيعة بالطبيعة: «أوقدوا ناراً هائلة، جرياً على عادتهم كلما خسف القمر، إيماناً منهم بأنّ النار الكبيرة ستقود القمر إلى مداره الصحيح فلا يحترق، والنساء وضعن على مطاحن الحبوب ماء ليلمع القمر، ويرى جسده المحترق، فيختار طريقاً أفضل للخلاص…». يبدو القمر، في تصور «ابن الطبيعة» إنساناً آخر، يرى ويختار ويعرف دروب الخلاص، بقدر ما يبدو الإنسان قمراً آخر، يخشى التيه والحروق. تقنع علاقة التناظر بين الطرفين، أنّ الإنسان وجه من وجوه الطبيعة، وأنّ في وجوه الأخيرة وجوهاً من الإنسان.
قرأ الروائي موضوعه، في علاقاته المختلفة، ووضعه في شكل فني مطابق، ذلك أنّ الملحمة زمن الرضا المقتصد بالأسئلة، الذي يجيب عن المعلوم بمعلوم آخر، ويترك الطبيعة تجيب عن المجهول المحتمل. فلا يسأل عن السعادة إلاّ من افتقدها، ولا يسائل الشقاء إلاّ من غادرته السعادة. وإنسان الطبيعة، كما تصفه «ساق الغراب»، هو الذي أدمن على المتاح، ووحّد بين المتوقع واللامتوقع في آن. ولن يكون معتقده الديني، الذي يُحيل على عقيدة الإسلام، إلاّ صورة عن «متاح» لا يعرف التطرّف والتزيّد، يلبي حاجة إنسانية متوارثة، تنوس بين الخوف والموت، ويلبي الإنسان تعاليمه بيسر كبير. تنبثق تصوّرات «ابن الطبيعة» من «الجوهر الإنساني»، الذي يرضي معتقداً لا يرهقه، ولا يُملي عليه ما لم يتعوّد عليه. توحّد أولوية الجوهر الإنساني على المعطى الديني بين الأزمنة المختلفة، فالحاضر هو الماضي والمستقبل امتداد لهما، والقدر حاكم الأزمنة جميعاً. وبسبب ذلك لا يتعامل السرد الملحمي مع إنسان يسيطر على مصيره، بل مع إنسان يقود «مصيره الحميم» إلى حيث يشاء. لا غرابة، والحال هذه، أن تبقى الحكايات، في الطور الملحمي، حكاية واحدة، وأن تكون الحكايات، في «ساق الغراب»، رغم اختلاف ظاهرها، متناظرة، في انتظار ما يقوّض الزمن الملحمي ويستدعي زمناً آخر.
يُحايث الطبيعة، وهي المستوى الأول في «ساق الغراب»، مستوى ثان عنوانه: القبيلة، التي هي وحدة إدارية اقتصادية قيمية، تتعرّف بماضٍ مشترك، حقيقي أو متخيّل، وبجملة من الأعراف المتوارثة، التي تحدد المسموح والممنوع لكنها تتعرّف أولاً بقبائل أخرى، تُغايرها أصولاً وأعرافاً، إذ لا قبيلة إلاّ بقبيلة أخرى، تُهادنها أو تتقاسم معها العداء. وإذا كان خصام الإنسان مع الطبيعية يعثر في «خبرة» الطرفين على ما يُلغيه، فإنّ الصدام بين قبيلة وأخرى أكثر خطراً لأنّه يمسّ أموراً جوهرية مثل الشرف والكرامة وأسباب العيش ومواد الحياة. زاوجَ الروائي، بمهارة مدهشة، بين «التقصّي الأنثروبولوجي» والسرد الحكائي، جاعلاً من الحكايات مجلى للعادات القبلية، ومدرجاً القيم القبلية في حكايات متوالية: طقوس العشق والشجاعة، حيث العاشق الشجاع فوق الأعراف وقوتها، وحيث لشرف القبيلة المهدور حكايات مغايرة، ولتلك الأنثى الرائعة المهيمنة حكايات تساوق الكرم الطبيعي وعفويته، كما لو كان في «أخلاق الطبيعة» المتسامحة ما يُلغي الفرق بين الذكر والأنثى ويحتفظ بـ»جوهر الإنسان» لا غير. تتكشّف مهارة الروائي، التي تأخذ شكل البداهة أو تكاد، في الحوار الجمالي المتبادل بين قيم القبيلة وحكاياتها، الذي يزهد بالسرد الإخباري المباشر، ويُصيّر الأخبار إلى علاقات فنيّة.
يقول ابن القبيلة الذي استثيرت رجولته: «يقتلوني… لكن ما يلمس واحد منهم رجولتي وأنا ابن عصيرة». و»ابن عصيرة» عبارة تجمل كل أمجاد عشائره في «وادي الحسيني» وتستنهض روحاً لا ترضى بخذلان أجدادها. يتكشّف الانتساب إلى الأجداد قيمة عليا جديرة بالموت في سبيلها، وحكاية كبرى تتناسل في حكايات لاحقة، تذوب في الحكاية الأولى وتُوسّع آفاقها. اتكأ النسيج الحكائي على علاقة متناوبة ثنائية البعد، تستمد مرجعها الخارجي من أحوال القبيلة، وتعثر على مرجعها الداخلي في حكاية متناظرة متوالدة ينقلها الزمن، لاحقاً، من وضع إلى آخر. تفصح الحكاية، بالمعنى النظري، عن الثبات، مسّ ذلك علاقة الإنسان بالطبيعة، أو علاقته بالقبيلة. فالطبيعة هي الطبيعة، لا «جدل» فيها ولا سيرورة، باستثناء زمن خارجي عنوانه الفصول الأربعة، والقبيلة هي القبيلة، تستأنف أطياف أجدادها، وتذيب حاضرها في «مجدهم» القديم. ذلك أنّ معنى «الإنسان القبلي» يصدر عن انتسابه إلى أجداده، وعن دوره في إعادة إنتاج قيمهم. لذا يشكّل المساس بقيم القبيلة إهانة لها وتهديداً لوجودها، وتهديداً لزمنها «القديم»، الذي لا يحتفظ بشرفه ومعناه إلاّ إذا استمر في الحاضر وأخضعه لأعرافه. مع ذلك، فإنّ الثبات، بالمعنى الروائي، يُعيد إنتاج قيم القبيلة ولا يكون ثباتاً كاملاً، بسبب قوة الزمن، التي تقود الصبي إلى شبابه والكهل إلى شيخوخته، وتفعل في وحدة القبيلة وتضامنها. يحتفظ الثبات، في العالم الملحمي، بالقيم والتصورات والرؤى، ويخضع الإنسان إلى دورة الفصول، قائلاً بالتبرعم والنمو، في انتظار «زمن خارجي» يأتي برحيل غير متوقع.
يتماهى ابن القبيلة، بوعي، بقبيلته ويستمد من انتسابه إليها مبرر وجوده، وتحاكي القبيلة، دون أن تدري، الطبيعة، مشدودة إلى الثبات وتوطيده، كما لو أنّها لا تكون قبيلة، إلاّ إذا أعادت علاقاتها الداخلية إنتاج التاريخ القبلي الذي أفضى إليها. ومع أنّ في الفضاء الملحمي، الذي يُوحد بين الطبيعة والقبيلة أو يكاد، ما يُوحي بمنظور روائي يحتفي بالثبات وزمنه، فإنّ الاحتفاء يفسّر على مستوى القيم، لا بمقولات شكلانية عن التطور والثبات. ذلك أنّ البراءة الملتحفة بالطبيعة «سترحل» قريباً، ويرحل معها المتسامح والعفوي والغنائي، مخلفة وراءها قواعد قاطعة تُعيد تخليق البشر بشكل جديد. وواقع الأمر أنّ يحيى امقاسم، وليس بعيداً عن الاستهلال الروائي لـ»مدن الملح» لعبد الرحمن منيف، يُرثي في ما مضى نسقاً أخلاقياً مضى، قوامه الدفء الإنساني واللعب وتضافر «أبناء الطبيعة». يُعلن الروائي هذا الرثاء، الذي يُخالطه الحنين، عن إخلاص الأحياء للأموات، الذي كانوا يعيشون في «وادي الحسيني» ذات مرة، ويُثني على الطبيعة المتسامحة التي لا تفصل الإنسان عن دوافعه الطبيعية، ويقف إلى جانب المهزومين، الذين خسروا زمنهم الغنائي ورُحّلوا، بالقوة، إلى زمن سلطوي مغاير.
فَصلَ الروائي فصلاً كاملاً بين زمنين متناقضين، هُزم أحدهما آخر، متوسلاً الحكاية المتوالدة المتناظرة حيناً، والحكايات المتكسّرة المتلاشية، حيناً آخر. فإذا كان في الزمن الغنائي ما يستولد من الحكاية حكاية أخرى تمتد فيها، فإنّ في الزمن التراجيدي، الذي تلاه، ما يصيّر الحكايات المتكسّرة حكاية جديدة البنية والوظيفة في آن. فالزمن الأول، الذي يدور حول وحدة الإنسان والطبيعة، يحيل على أفراد يتناتجون بلا تغيير، بينما يُحيل الزمن الآخر على حقبة تاريخية انتهت، أو على حياة جماعية قديمة تسير إلى أفولها الأخير. ولهذا يُقرأ الزمن الأول في ملامح الأفراد الذين يعيشون فيه، بينما يمسح الزمن الثاني الملامح ويكتفي بمصائر البشر. إنّه الانتقال من الزمن العضوي، الذي لا تاريخ فيه، إلى زمن تاريخي معوّق، ذلك أنّ السلطة، القادرة على الهدم والبناء تنتج التاريخ ولا تنتجه، لأنّها تُنفي الزمن المغلق الطبيعي بزمن سلطوي مغلق، ينقل الأفراد من ثبات مرن مرح سعيد إلى ثبات رمادي لا حياة فيه. وبسبب ذلك، تتوالد المتواليات الحكائية متشجّرة في الطور الغنائي، وتقع، في الطور اللاحق، في التماثل الفقير، مصرحة بأنّ الحكاية الوحيدة هي: حكاية السلطة. بعد زمن النعمة، الذي يُصالح بين الطبيعة والإنسان، يأتي زمن المأساة، الذي يُنفي التصالح بعنف لا اقتصاد فيه. وبعد زمن الجماعة الطبيعية، يأتي زمن «التجميع السلطوي». أسّس الروائي الزمن الأول على حكاية واحدة تتشجّر في حكايات، وأسّس الزمن الثاني على بنية حكائية، تحتشد بعناصر متعددة. أعلن في هذا الفرق، المصاغ فنياً، عن القطع الحادّ بين زمنين، أو عن رحيل الزمن الغنائي ووفود الزمن المأساوي.
عبّر الروائي عن عنف التحوّل باستهلال، متعدد الوظائف، عنوانه: «فحولة إلى حين». يسرد الاستهلال، في مستوى منه، حكاية «فحولة في طريق الأفول» تدفع بصاحبها، وهو يبتر جزءاً من جسده، إلى قسوة دامية صارخة، مذكرة بالرقص اللاهث الذي يسبق الموت، ويشير إلى قدومه. يوطّد الاستهلال، في مستوى آخر، دلالة ما سيأتي، لأنّ الفعل القاسي الدامي يُستعاد بعد أكثر من سبعين صفحة، كما لو كان موضوعاً وإشارة معاً: موضوعاً قوامه صبي شجاع يقوم بما كان يقوم به أسلافه، وإشارة إلى قوة قادمة تجعل الصبي وأسلافه جزءاً من الماضي. تعيد وحدة الموضوع والإشارة صوغ دلالة الاستهلال، فيصبح استهلالاً وإنذاراً معاً، أو استهلالاً منذراً، يُوكل إلى حكاية محدودة الوشاية بما ستصرّح به الحكايات اللاحقة. تتحول حكاية الاستهلال إلى تعليق حزين على مآل الفضاء الملحمي كلّه.
اتكأ السرد على وحدة المستويين الطبيعي والقبلي، اللذين تؤثثهما جماعة عضوية طليقة، تعيش الترحال وبداهة القيم ونعمة الحرية، قبل تسلل مستوى ثالث، أرقّ المستويين السابقين قبل أن يهزمهما. عبّر هذا المستوى، الذي صاغته الرواية بحركة متنامية قوامها الترقّب العاجز، عن انتقال الجماعة من سلطة القبيلة إلى سلطة الإمارة. أملى الترقّب، فنيّاً، تكاثر الإشارات المنذرة، إذ للأمير رائد ورسول ومقرئ، وإذ في الشخوص جميعاً حكايات تلمح إلى الأفول. انطوى المستوى الوافد على دلالتين: انتقال الجماعة الطبيعية من اللامقيّد إلى المقيّد، الذي يضيق مساحة المكان ويكاثر الحكايات، وانتقال قيمي يستبدل بالولاء القبلي ولاء جديداً، يضع أوامر الإمارة فوق «العشيرة وأمجادها». أزاح المستوى، في دلالتيه، الحكاية الأم بحكايات جديدة، إذ للطبيعة بشر وحكايات، وإذ للسلطة بشر لهم هواجس ضيّقة.
ولعلّ صعوبة الانتقال، التي تجعل صبي «ابن عصيرة» يعيش كهولة مبكّرة، هو الذي فرض حضوراً سلطوياً متباطئاً عنوانه: «قارئي القرآن»، بلباسهم النظيف وحركاتهم المحسوبة، «يُراقبون ما يحيط بهم»، ويرى فيهم أهلُ القبيلة «صوراً مزعجة»: «المقرئ رسول خبيث للإمارة، خائن وكاذب باسم الرب»، ورجال الدّين «يشترون ويبيعون في الرب كأنّه ملكهم، وكلما عارضت قاتلوك ببنادق الأمير…» «يدعون أنّهم رحمة أُخرى عقب النبي وأنّ غيرهم ثلة من المارقين…». تأملت الرواية اللقاء الفاجع بين البراءة الطبيعية والمقدس السلطوي، متوسلة مصائر الشخصيات، المترقبة الهاربة العاجزة المتداعية، كما لو كانت الشخصيات الروائية مرايا تعكس موت الزمن العضوي وولادة «التاريخ»، الذي هو ليس تاريخاً تماماً. وإذا كان الملحمي قد تكشّف، في مستوى منه، في وحدة الإنسان والطبيعة، فقد كان على هذا الملحمي أن يغلق صفحاته، شيئاً فشيئاً، في زمن عاتٍ شائك عنوانه: صراع المقدس والمدنس، الذي يمحو الكلام الملوّن المتعدّد الملتبس بكلام أُحادي اللون قوته من قوة المتحدث به.
جاء رجل الدّين السلطوي بثلاثة أوامر دينية الشكل سلطوية المضمون: إنّهاء «طقوس الختان القبلية» والاستعاضة عنها بإجراءات مغايرة، تشرف السلطة عليها وتُعاقب المخالفين. تصبح الرجولة، بالمعنى الإشاري، شأناً من شؤون السلطة، ويعاقب في الفرد المخالف التاريخ القبلي الموروث الذي ينتمي إليه. ولهذا يطلق الصبي «ابن عصيرة»، في الاستهلال الروائي، صرخته العالية الشاكية الغاضبة، ذلك أنّ السلطة تعبث بقيم أجداده، قبل أن تستبيح «رجولته». يتمحور الأمر الثاني حول وضع المرأة، التي تبدو حرّة مسؤولة «متزعّمة» في الزمن الطبيعي، وتتحوّل إلى مخلوق ناقص ومبتور في الزمن اللاحق. ولعلّ هذا الفرق هو الذي أطلق تلك الغنائية الواسعة في الفضاء الروائي، حيث للمرأة وجوه متعددة، وحيث المرأة القوية السمحة الفطنة تسوس شؤون القبيلة، ويرتضي الجميع بما تقول، قبل أن يسخر الدين الجديد من قبيلة تنصاع إلى مشيئة «حواء التي قادت في الجنة تمرداً على الرب». ينهى الأمر الثالث عن اختلاط الرجال والنساء، ويفرض الحجاب الذي لا تكون المرأة مسلمة إلاّ به.
تنطوي الأوامر الثلاثة، في شكلها الديني البسيط، على نتائج اجتماعية حاسمة: إلغاء حرية الاختيار واعتبار السلوك الفردي شأناً سلطوياً، والتأسيس الديني للتراتب وتوطيده جزءاً مُحايثاً للطبيعة الإنسانية، فلو لم تكن «المرأة فتنة» لما وجب حجابها، ولو لم يكن الاستعداد للرذيلة جاهزاً في النفوس لما حرّم اختلاط الجنسين. لا مجال في الزمن السلطوي المنتصر للحركة الحرة والكلام الطليق، فالمقرئ هناك، ولا مجال للعشق الذي يفترض الشجاع القديم، الذي يغزو حبيبته في عقر دارها، وتحتفل القبيلة بشجاعته وتهديه الحبيبة وما في «رحمها».
تدخل الحكاية، في المجتمع السلطوي، إلى طور جديد: إذا كانت الحكاية المتشجّرة تستلزم عقلاً طليقاً، ينصاع إلى الغريزة السليمة، ولا تمتثل إلى ثُنائية المسموح والممنوع، فإنّ دخول المسموح والمحرّم يفقر الحكايات جميعاً، طالما أنّ المجهول لا ضرورة له، وأنّ السيد المقرئ يضبط حركة المعلوم والمجهول. ولهذا تنزاح رواية «ساق الغراب»، في منطقها الداخلي، شيئاً فشيئاً، من تعددية الحكاية، المفتوحة على احتمالات متنوعة، إلى حكاية تنكمش أوصالها، سائرة إلى أُفول أخير لا يمكن الهرب منه. بيد أنّ الأمر الأعمق دلالة، والذي تعامل معه الروائي برهافة عالية، يتمثل في الشكل الحكائي، المرتبط بالزمن الغنائي، «الذي لا تاريخ فيه»، وفي الشكل الحكائي الذي يُعلن «ميلاد التاريخ السلطوي». تتحاور الحكايات، في الزمن الأول، سائرة إلى/ منطلقة من حكاية عضوية جامعة متجانسة الأطراف، كلّ عنصر فيها يعترف بغيره ويستكمل به. على مبعدة عن ذلك يبتر الزمن السلطوي الحكايات، فما يبدأ لا يكتمل، وما يُولد لا ينمو، مستمداً دلالته من بنية حكائية تتداخل فيها شظايا حكائية، قسرية الميلاد وقسرية النهاية. يُحيل الزمن السلطوي، بهذا المعنى، إلى بنية حكائية مغلقة، تستدعي: المأساة، التي تستدعي بدورها: «التاريخ»، الذي هو محصلة لتحولات حادّة عميقة، استولدت من مجتمع آفل مجتمعاً جديداً.
ومع أنّ القراءة الشكلانية تميّز في النص الروائي، الذي كتبه يحيى امقاسم، بين التاريخ وما قبل التاريخ، إذ الأول هو السلطة وإذ الثاني فضاء له قيم وأعراف مغايرة، فإنّ الفلسفة الروائية، التي أنتجها النص، تقلب دلالة المقولتين، مؤكدة أنّ التاريخ الحقيقي هو تاريخ الجمال والتسامح والعشق وتُساوي الرجل والمرأة، وأنّ «ما قبل التاريخ» هو الزمن المقيّد، الذي يمحو نقاء القلب بغمغمة المقرئ، ويمحو الطبيعة البريئة السمحة بتعاليم تسخّف الإنسان وتحتفي بالبلاغة. وما قبل التاريخ السلطوي، الذي يُعادل التاريخ الحقيقي الجميل، هو الذي يدفع «الصبي المتمرّد» إلى نصرة أجداده، وهو الذي يجعل من «المرأة القادرة»، التي هي مرآة للذكورة والأنوثة معاً، عنواناً لزمن بهيج : «كانوا يعطون جزءاً يسيراً من حصادهم للأم، ثم تحتفظ الأم بباقي الميزانية لسد حاجات ملحة قد تصيب أي فرد في القبيلة، بقيت الأم تدير شؤون المحاصيل والرعي بشكل عام». تبدو الأم، التي تشرف على شؤون القبيلة، مجازاً للمجتمع العفوي، الذي يعيش طبيعة مرنة قديمة، تمارس السواء والاعتدال، من دون بلاغة معقدة. ولهذا تواجه الأم القادرة «المقرئ» وتنهره وتسخّف آراءه، ذلك أن الفرق بينهما هو الفرق بين الطبيعي والمصطنع، وبين المرن اللدن الدافئ والمتكلّس البارد الحسوب، وبين زمن النقاء والرحمة وزمن الإثم والعقاب. الأم القادرة هي الطبيعة، في فصولها المتعددة، و»المقرئ السلطوي»، المتعنّت والحسوب، مضاد للطبيعة، يُضيف إليها ما لا تحتاجه، محاولاً إعادة تخليق الطبائع البشرية، منصّباً ذاته، باسم الدّين، إلهاً زائفاً.
أين يتجلّى التاريخ في رواية «ساق الغراب» ؟ وما موقع الزمن التاريخي من مقولة الزمن التي هي قوام العمل الروائي ومرجعه؟ يتجلّى الزمن في اغتراب الإنسان الوجودي، الذي تغزوه الشيخوخة وينتقل من المتوقّع إلى اللاّمتوقع، الذي يرمي به إلى مصير غير منتظر. قرأ الروائي الاغتراب في شخصياته جميعاً، وترك القارئ يتأمل ما يشاء. أمّا الزمن التاريخي فظهر عاري الوضوح في بعدين: الانتقال من مجتمع اللاّدولة إلى مجتمع الدولة، الذي يرفع الاغتراب إلى حدوده العليا، حيث إرادة الإنسان من إرادة السلطة. يتكشّف البعد الثاني في صناعة تصوّر جديد للعالم، تقترحه السلطة، وتطبقه أدواتها ويجتاح، شيئاً فشيئاً، وعي بشر كان لهم، ذات مرة، تصوّر مغاير للعالم. تتحدّد الدولة، بهذا المعنى، مرجعاً للقوانين والسنن، وصانعاً جديداً للوجود الإنساني، تُبارك ما ترضى عنه، وتقتلع ما ترغب عنه اقتلاعاً لا رحمة فيه.
أنتج يحيى امقاسم في نصّه الروائي خطاباً روائياً كثيفاً ورهيفاً يُضيء علاقات النص الفنية، ويدلل على فنيّه العالية، ذلك أنّ دلالة الخطاب من تكامل العناصر الفنية التي صاغته.
تتلامح ثنائية المقدس/ المدنس في رواية «ساق الغراب» أكثر من مرة: تتجلّى في المواجهة بين الأم الطبيعة و«المقرئ الصناعي»، إذ الأولى مجلى للقمر والمطر والخصوبة والتوالد، وإذ في الثاني تعقد الكلمات والروح العقيمة. وتتكشّف في الحوار، المضمر والصريح، بين الأحفاد المهزومين وأطياف الأجداد، الذين احتضنتهم الطبيعة وامتثلوا إلى القوانين البريئة، وتستظهر، صارخة، في الفرق بين «التدين الطبيعي»، الذي يعبد الرب ويعترف بالإنسان، والتديّن السلطوي، الذي يصيّر الرب والبشر إلى رطانة ظالمة متديّنة. وهذه الثنائية، التي تتضمن الرثاء ومناجاة المطلق واستنهاض الأموات، هي التي وضعت في النص لغة مركبة، تعبّر عن الحرية وجمالية الخلق، تُحاكي ذاتها وتتطيّر من المحاكاة، لأنّ الدفاع عن المفرد الطليق يقود إلى طليق آخر في مجال اللغة. عمل الروائي، وهو يُواجه زمن الإثم بزمن البراءة، على توليد لغة تحاور الأزمنة وتقف فوقها، كما لو كانت لغة نص قديم، ينصر الجمال الإنساني، في جميع الأزمنة.
اجتهد الروائي السعودي يحيى امقاسم، بشكل يقترب من الندرة، في توليد لغة تعادل موضوعه ورؤاه، محوّلا اللغة المكتوبة إلى منظور للعالم. فإذا كانت اللغة من فكر الذي يكتبها، فقد أراد الروائي، المشدود إلى الجميل في وجوهه المختلفة، لغة من «موضوعه»، تودع الجميل الذي مضى، وتحتفظ به جميلاً في الذاكرة المكتوبة. انطوت الكتابة، التي تُرثي مثالاً مهيباً اندثر، على الشعر والنثر وعلى ما هو قريب من التصوّف. فرض التصوّر الرومانسي للعالم، الذي يُخالط الرواية بأقدار مختلفة، نثراً ينزاح إلى الشعر، يتسع للأنا الكاتبة، التي عيّنت ذاتها امتداداً لما كان، فهي وجه للأجداد، وحنين إلى الطبيعة، وهي المتسائلة عن معنى الخير والشر والوجود، جمع يحيى امقاسم أسئلته الوجودية والتاريخية والجمالية، وأذابها في رواية عنوانها «ساق الغراب»، منتهياً إلى نص جميل يثير الفضول، يسائل في حقبة منقضية معنى الوجود الإنساني كلّه.
ناقد وأكاديمي من فلسطين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقدمة خاصة لطبعة ساق الغراب في دار الجنوب، تونس 2010م.