في الأربعين سنة الماضية من عمر الغناء العربي، لم يرتبط فنان في أذهان الجمهور بالثورة والتمرد وحب الوطن كما ارتبط صوت مارسيل خليفة.
بلا شك أن صوت مارسيل خليفة دافئ. لكن لعله ليس الصوت الدافئ الوحيد ضمن أصوات الفنانين الذين يُطلق عليهم عادة لقب (الفنان الملتزم). إلا أن مارسيل هو صاحب القاعدة الجماهيرية الأعرض، وهو أيضا صاحب التقدير العالمي العالي لمؤلفاته الموسيقية. تقديرُ أهْلِ الفن ودور الأوبرا وقاعات الموسيقى الكلاسيكية الأكثر عراقة في العالم. مارسيل خليفة، فوق هذا، فنان يحمل مسمى (سفير العالم للسلام) من قبل منظمة اليونسكو. ما سر مارسيل خليفة الذي جعله الأميز والأقرب للناس؟ وجعل أغنيته وموسيقاه الخالصة تحظيان بكل هذه الحفاوة؟ هذه الورقة هي رحلة لسبر جزء من أغوار إجابة هذا السؤال، عبر تسليط الضوء على المضامين التي تغنى بها مارسيل وغنى لها، والثيمات التي احتفت بها أغانيه، والشعراء الذين ارتبط بهم. إنها رحلة تبدأ من طفولة مارسيل، مرورا بتأسيس فرقة الميادين وتتالي ألبوماته الغنائية والموسيقية. نتعرف في هذه الرحلة على موضوعات أغانيه، ونقف على نحو أخص عند علاقته الفنية بالشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، في محاولة لنلم بالعالم الفني لأغنية مارسيل خليفة، وأهميتها في سياقها التاريخي.
v v v
مارسيل خليفة فنان لبناني معروف بأغانيه المهمومة بقضايا الوطن، إذ ارتبطت أغانيه بقيم الثورة والأرض والحرية، واحتفت تحديدا بتضحيات الشهداء. اقترنت أغانيه بتقدير الأم والأرض، وارتقى بغنائه للحبيبة لتكون الأنثى والوطن في آن معا. وعلى صعيد كلمات أغانيه، ارتبط اسم مارسيل بمجموعة من الشعراء العرب الكبار على رأسهم الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش. ومارسيل خليفة –من الناحية الموسيقية- مرتبطة بآلة العود، وهما معا كأنهما أوركسترا لا تحتاج شريكا ثالثا، إلا أن احترام مارسيل للعود هو ما جعله في حقيقة الأمر يؤلف أعمالا موسيقية قدمتها له أوركسترات كاملة وذلك ليقدم كل صوت يمكن له أن يستخرجه من أوتار العود. هذه السيمفونيات التي يشكل العود محورا رئيسيا فيها هي ما لفتت الأنظار الغربية إلى قدراته في حوار اللحن الشرقي بالأوركسترا الغربية.
ولد مارسيل خليفة في بلدة عمشيت بلبنان عام 1950، دَرَسَ العود في المعهد الوطني العالي للموسيقى ببيروت (الكونسرفتوار) منذ أن كان عمره 16 عاما، وتخرج منه عام 1971. ومنذ بداية مسيرته في الغناء عام 1972 قدم ما يزيد عن عشرين ألبوما، بالإضافة لتأليفه موسيقى أفلام وموسيقى راقصة وُصفت بأنها تمزج الروح الشعبية والحداثة الشرقية.
يستعيد مارسيل خليفة طفولته في قرية عمشيت، إذ يقول كما يرد في سيرته المختصرة التي كتبها وليد نظمي آلا كمقدمة لكتيب (مارسيل خليفة وفرقة الميادين): نشأ مارسيل خليفة لعائلة فقيرة. لكن جده الذي كان صيادا ماهرا كان عازفا بارعا للناي ينشد العتابا والميجانا، وكان مارسيل قد بلغ 10 أعوام عند وفاة جده. اشترى مارسيل خليفة أول عود له عام 1965، أي عندما كان عمره 15 عاما فقط. ولقد درس العود على يدي أحد أهالي بلدته يدعى حنا كرم، ثم على يد أستاذ عود من جبيل يدعى حليم اللقيس.
يقول مارسيل أنه أدرك في نفسه نزعة التمرد بداية من المدرسة الابتدائية التي كان فيها، إذ كان التدريس فيها بالفرنسية، ويمنع على الطلاب الحديث بالعربية. لكنه كان يتحدثها مع أقرانه مع علمه أن هذا سيقود إلى توبيخه. لكن مدرسته هذه كانت تهتم بالمسرح والموسيقى. على أية حال فقد انتقل لاحقا إلى مدرسة أخرى تدرس اللغة العربية.
في عام 1966 التحق مارسيل بالمعهد الوطني العالي للموسيقى ببيروت، وكان يذهب من قريته إلى بيروت 3 مرات أسبوعيا، وهو ما يعني وجود مصاريف ضاغطة على أسرته، لكن والدته كانت خير داعم له للدراسة. في تلك الفترة أنشأ مارسيل مع رفاق قريته فرقة فنية في بلدة عمشيت، وكانوا يطوفون المناطق اللبنانية ويقدمون بعض العروض للأهالي. في عام 1971 توفيت والدة مارسيل، وهي السنة التي تخرج فيها من معهد الموسيقى بتقدير امتياز، وكان أول خريج في القسم الشرقي للمعهد. ولذا، تم تعيينه مباشرة مدرسا في نفس المعهد الذي تخرج فيه للتو. هنا بدأت النزعة النضالية لدى مارسيل، وأسس مع رفاقه رابطة اهتمت بالتوعية الوطنية، مما أدى إلى طرده من المعهد طردا تعسفيا بعد أربع سنوات من تعيينه فيه.
عندما اندلعت الحرب اللبنانية عام 1975، نزحت أسرة مارسيل من عمشيت إلى بيروت، وقد كان ذلك صعبا. كان الاقتلاع الأول للفتى المتمرد مارسيل الذي تشكل له الأرض قيمة أساسية في وجوده. لكن الجيد في تلك الفترة أنه تم إحياء تجربة فرقة عمشيت ولكن بشكل أكثر تنظيما، فولدت فرقة الميادين. وفي ظروف الحرب، كانت العزلة داخل البيت مفروضة على الناس لأن الشوارع ليست آمنة. يقول مارسيل: «لم أجد في عزلتي سوى أشعار محمود درويش». هنا بدأت دندنات مارسيل الأولى مع قصائد درويش وغيره من شعراء الجيل الذين تنحو أعمالهم منحى الثورة على الطغيان والاستبداد والقهر واغتصاب الأراضي.
ولما أصبحت الظروف أصعب في لبنان اقتلع مارسيل خليفة مرة اخرى، من لبنان كاملا إلى فرنسا، وهناك سجل أغنيته الدرويشية الأولى «وعود من العاصفة». ثم عاد لبيروت واستقر بها، وتتالت بعدها ألبوماته واحدا تلو الآخر.
بين تأسيس فرقة الميادين وانطلاق أول ألبومات مارسيل خليفة، وبين لحظتنا هذه في 2015، صار مارسيل خليفة اسما عالميا، وحالة استثنائية في الموسيقى العربية. ففي عام 2005 سمي مارسيل خليفة فنان اليونسكو للسلام من قبل المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلم «اليونسكو». وقد نال عددا كبيرا من الجوائز التقديرية العربية والعالمية لإبداعه الفني وإخلاصه للقضايا الإنسانية. كما تم منحه الدكتوراة الفخرية من الجامعة الأمريكية في بيروت تقديرا لمجموع إبداعاته. ومن أنشطته في السنوات الأخيرة أنه لعب دورا مفصليا في تأسيس وتطوير أوركسترا قطر الفلهارمونية منذ عام 2008 كمستشار فني ومؤلف وعضو مجلس إدارة. عزف الكونشيرتو العربي الذي ألفه خصيصا لحفل الأوركسترا الافتتاحي في جولات الأوركسترا العالمية في جميع أنحاء العالم. ألف مارسيل خليفة من حينها العديد من الأعمال للأوركسترا وقد قاد موسيقاه قادة أوركسترا عالميين ذائعي الصيت مثل لورين مازل وجيمس غافيغن، وعزفت مؤلفاته الموسيقية بواسطة العديد من الأوركسترات العالمية أمثال أوركسترا كييف السمفونية، أوركسترا أكاديمية بولونيا بيانكور، وأوركسترا سان فرانسيسكو لموسيقى الحجرة، أوركسترا ليفربول الفلهارمونية الملكية، والأوركسترا الفلهارمونية الإيطالية، والأوركسترا السيمفونية الإيطالية، وفي قاعات عريقة حول العالم كقصر الفنون (مونتريال)، رويال ألبرت هول (لندن)، الكونست هاوس (فيينا)، سيمفوني سبيس وميركن كونسرت (نيويورك)، مسرح بيركلي (بوسطن)، كندي سنتر (واشنطن)، قصر الأونيسكو في بيروت، دار الأوبرا المصرية، دار الأوبرا السورية، قاعة بليييل ومسرح الشانزيليزيه (ياريس)، مسرح لا سكالا (ميلانو)، قاعة باركو ديلا موزيكا (روما)، قاعة الكونسيرتهاوس (برلين)، دار أوبرا سيدني والعديد غيرها.
فرقة الميادين
في عام 1976 أسس مارسيل خليفة فرقة الميادين. اسم الفرقة بذاته يستحق التأمل. فالميادين جمع ميدان. والميدان يحيلنا مباشرة إلى عدة أشياء. فهو ميدان القرية أو البلدة. نقطة اللقاء فيها. بهذا المعنى فـ «الميادين» هي استعادة لطفولة مارسيل في بلدة عمشيت. لكن الميدان أيضا هو ميدان النضال. وهو ميدان الحرب. ونضال مارسيل وفرقته كان بالموسيقى، حيث الفنون هي ساحة النضال الحقيقية للرقي بالإنسان والحضارة.
نفس سنة تأسيس فرقة الميادين هي سنة صدور أول ألبومات مارسيل خليفة، ألا وهو ألبوم «وعود من العاصفة».
كلمات الأغنية الرئيسية التي حمل الألبوم عنوانها –وهي لمحمود درويش- تقول:
«و ليكن..
لا بدّ لي أن أرفض الموتَ
و أن أحرق دمع الأغنيات الراعفة
و أعرّي شجر الزيتون من كل الغصون الزائفة.
فإذا كنت أغني للفرح
خلف أجفان العيون الخائفة
فلأنّ العاصفة
وعدتني بنبيذ.. و بأنخاب جديدة
و بأقواس قزح
و لأن العاصفة
كنّست صوت العصافير البليدة
و الغصون المستعارة
عن جذوع الشجرات الواقفة.
و ليكن..
لا بدّ لي أن أتباهى، بك، يا جرح المدينة
أنت يا لوحة برق في ليالينا الحزينة
يعبس الشارع في وجهي
فتحميني من الظل و نظرات الضغينة
سأغني للفرح
خلف أجفان العيون الخائفة
منذ هبت، في بلادي، العاصفة
وعدتني بنبيذ، وبأنخاب جديدة
وبأقواس قزح».
شخصيا، لا أعرف هل سبق أحدٌ مارسيل خليفة في غناء قصائد محمود درويش، لكني أثق أنه طوال هذه السنوات الثماني والثلاثين منذ ألبوم «وعود من العاصفة» فإنه لم يقدم أحد شعر درويش بالغزارة والأداء النوعي كما فعلها مارسيل خليفة. ليست قصائد درويش ضيقة على الشأن الفلسطيني والشأن الفلسطيني بالأساس هم إنساني عام، لكنها قصائد تخص الإنسان المناضل، لذا عندما كان مارسيل يغنيها فإنه كان يغني أيضا للبنان الذي مزقته حرب العشرين عاما، وكان يغني للإنسان العربي الساعي للحرية والرافض أشكال الاستعباد المختلفة. بل إن هم مارسيل خليفة الكوني جعله يغني لبلد مثل كوبا –أم الثورات- في أغنية كوبا التي يقول فيها:
«يا رفاقي في كوبا الأبية/ عندي لكم من بلدي تحية».
وبمثل ما وصل لكوبا غنى مارسيل لليمن أغنية «أرض بلادي» الي يقول فيها:
«جينا عالدار جيناكي/ يا يمن الأحرار جيناكي
يالله يا رجال تنوحّد أرض بلادي..
وجنوب شمال أرض الشهدا بتنادي»
بعد ألبوم «وعود من العاصفة» عام 1976 صدرت لمارسيل الألبومات التالية: أغاني المطر (1977)، من أين ندخل في الوطن؟ (1978)، أعراس (1979)، عالحدود (1979)، عالأرض يا حكم (1980)، فرحة (1981)، الجسر (1983)، يا محلى نورها (1984)، أحمد العربي (1984)، سلامٌ عليك (1989)، تصبحون على وطن (1990)، ركوة عرب (1995)، جدل (1996)، بساط الريح (1998)، كونشيرتو الأندلس (2002)، مداعبة (2004)، تقاسيم (2007)، شرق ( 2007)، سقوط القمر (2012).
غنى مارسيل خليفة بالعربية الفصحى كما غنى بالدارجة اللبنانية، لكن الثيمات كانت متجانسة في حقل حب الأرض والاحتفاء بالفرح وتكريم الشهيد وأم الشهيد الصابرة. بعض أغانيه لم تكن تشاركه فيها جوقة، وفي أغان أخرى لفرقة الميادين لم يكن هو مشاركا معهم (مثل أغنية «يا وطن الشهداء تكامل»). وأحيانا كانت الأغنية بموسيقى، وأحيانا أخرى تكون نشيدا ملحّنا لكن يؤدّى بدون بموسيقى، وأبرز هذه التجارب أناشيد أميمة الخليل مع فرقة الميادين مثل «تكبّر تكبّر» و «نامي يا صغيرة» و «عصفور طل من الشباك».
للشهداء غنى مارسيل خليفة كثيرا، منها أغان عن الشهادة بصفة عامة وعن تضحيات الشهيد، مثل أغنية «بالأخضر كفناه»، و «يا وطن الشهداء تكامل»، وأغنية «تصبحون على وطن» والتي يقول مطلعها:
«عندما يذهب الشهداء إلى النوم أصحو
لأحرس أحلامهم من هواة الرثاء
وأقول لهم: تصبحون على وطن»
غير أنّ كثيرا من أغاني مارسيل في موضوع تضحيات الشهيد كانت مهداة لشهداء محددين بالاسم، مثلا اغنية «يا علي» المهداة للشهيد علي شعيب، وأغنية «الذكريات» للشهيد كمال جنبلاط، وأغنية «عريس الجنوب» للشهيد بلال فحص، وأغنية «الحدّي» المهداة للشهيد يوسف العظمة بطل معركة ميسلون، والتي يقول مطلعها:
«يا بيارق الثورة اطلعوا
عَ كل تلّي اتوزعوا
صرخة حِدّي صوت البطل
من ميسلون اتجمعوا»
غنى كذلك للأم.. بداية من «أحن إلى خبز أمي» وليس انتهاء بأغنية «حورية» التي هي نفسها أم محمود درويش. وقد غنى أيضا لأم الشهيد، ففي أغنيته «أجمل الأمهات» يقول:
«أجمل الأمهات التي انتظرتْ ابنها
أجمل الأمهات التي انتظرته
وعاد مستشهدا
فبكت دمعتين ووردة
ولم تنزوٍ في ثياب الحداد».
أما الوطن.. فهو المحور الأول لأغاني مارسيل. كانت هناك أغان موجهة خصيصا لمدينة بيروت، منها لحنه لأغنية «يا بيروت» التي غنتها أميمة الخليل ومطلعها يقول: (يا يا يا شوارع.. بيروت الحرب اليومية). ولبيروت غني كذلك «من أين ندخل في الوطن؟» والتي يقول مقطعها:
ودخلتُ في بيروت.. من بوابة النار الوحيدة
شاهرا حبي.. ففر الحاجزُ الرملي
وانقشعت تضاريسُ الوطن»
وفي هموم الوطن غنى أيضا «أنا يا رفاقي من الجنوب». ومن أشهر أغانيه في الوطن «إني اخترتك يا وطني» التي يقول مطلعها:
إني اخترتك يا وطني/ حبا وطواعية
إني اخترتك يا وطني/ سرا وعلانية
إني اخترتك يا وطني
فليتنكر لي زمني
ما دمت ستذكرني
يا وطني الرئع/ يا وطني»
إن المهم في أغاني مارسيل خليفة الوطنية أنها اعتلت بالوطن ليكون مأوى لجميع الأخيار. علينا أن نتذكر أن هذه الأغاني جاءت في فترة صراع طائفي عنيف، وقد نأى مارسيل خليفة بنفسه عن أية اصطفافات طائفية. ولم يكن هذا بالطبع سهلا. لكن هذا الأمر بالذات هو ما يجعل أغنية مارسيل عن الوطن نشيدا للثوار في كل البلاد العربية.
لقد تطورت أغنية مارسيل عن الوطن خلال نحو أربعة عقود من الزمن، فطبيعي أن الأغاني التي تغنى للوطن في زمن الحرب ستختلف عن تلك التي تأتي في زمن السلم، ولكن القاسم المشترك الذي ظل في أغاني مارسيل الوطنية –من حيث المضمون- هو أنها أغاني عن حق المواطن في الكرامة في وطنه، وتجسد هذا المعنى بوضوح تام أغنيته الشهيرة «منتصب القامة أمشي».
وإلى جوار الأغاني والتأليف الموسيقي الخالص، ألف مارسيل الموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام والاستعراضات المسرحية. فقد ألف موسيقى عروض عدد من أعمال فرقة كركلا مثل (حلم ليلة صيف). وفي الفيلم الوثائقي ألف موسيقى فيلم (كمال جمبلاط) لمارون بغدادي عام 1976، وفيلم (معروف سعد) لأسامة محمد عام 1979. كما ألف موسيقى أفلام روائية منها (حادثة النصف متر) عام 1981 وفيلم (صندوق العالم) عام 2003 لأسامة محمد.
وعن مارسيل خليفة صُنِع فيلمان وثائقيان، أبرزهما الفيلم الطويل «رحالة» والذي يحوي 33 مقطع فيديو من أعمال متفرقة لمارسيل خليفة.
علاقته بمحمود درويش
غنى مارسيل خليفة لمحمود درويش قبل أن يلتقيه على أرض الواقع. كانت البداية مع ألبومه الأول «وعود من العاصفة» الذي تضمن 4 قصائد لمحمود درويش من بين خمس أغانٍ هي ما احتواه الألبوم. غنى مارسيل لدرويش لأن ديوان درويش كان هو المتاح بين يدي مارسيل عندما اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية، حيث كان مارسيل لا يغادر منزله لظروف أمنية. وهنا وجد في كلمات درويش المعبر عما يعتمل في روجه.
وبقدر ما كانت قصيدة درويش غنائية الطابع، من حيث احتفالها بالموسيقى الداخلية للشعر، وانسيابيتها، وتنويعاتها النغمية، حملت ألحان مارسيل خليفة نفس الصفات. لم يتعامل مارسيل مع قصيدة محمود درويش كنشيد ثوري خطابي، لكنه رآها –على الأرجح- كموسيقى تُعلي من شأن الروح وتأخذها إلى ينابيع الأمل. لذا، كانت ألحان مارسيل غير خطابية رغم أن المضمون العام لبعض القصائد كان استنهاضيا. التحفيز الذي أراده مارسيل هو تحفيز الروح على التمسك بالأمل، واكتشاف مكامن السلام الداخلي في عالم يموج بالحروب والبارود. لذا، كانت المقدمات الموسيقية لأغانيه طويلة نسبيا، لأن الهدف لم يكن غناء الكلمات وحدها وتحويلها إلى نشيد للثورة بالمعنى الحزبي والحماسي الضيق للمفردة. المقدمات الموسيقية الطويلة خلقت مساحة للتأمل لدى المتلقي. مساحة لترتاح فيها الروح من ثرثرة زعماء الحروب. الغناء نفسه لم يكن حماسيا مندفعا، لكنه كان هادئ الإيقاع، تأملي الطابع كمشهد يكثر فيه الصمتُ في أحد أفلام إنجمار بيرجمان الكبرى. هذا التداعي الموسيقي في أغاني خليفة هو أحد أبرز وجوه اختلافه عن بقية الفنانين الملتزمين العرب. لقد تنامى عشق تأليف الموسيقى التأملية لدى مارسيل خليفة في الأغاني ذات المضامين الوطنية والسياسية إلى أن أصبحت المقاطع الموسيقية أطول فأطول. لم يؤلف مارسيل موسيقى مركّبة ومصنوعة عمدا لتناسب كلماتٍ ما، لكنه خلق من روح الكلمات موسيقى. في هذا الشأن يقول مارسيل خليفة في إحدى مقابلاته ما معناه أنه لا معنى لموسيقى لا تصمد لوحدها عند انتزاع الكلمات منها. هكذا، ومنذ فترة باكرة ألف مارسيل موسيقى قصيدة (أحمد العربي)، وهي قصيدة فيها أزيز الرصاص، ومع ذلك، فموسيقاها كانت أقرب للسيمفونية الخالصة. أسماها مارسيل (غنائية أحمد العربي)، وأنا أثق أن البحث عن اسم لها كان مضنيا. لم تكن أغنية عادية، كما لم تكن سيمفونية خالصة بالمعنى الغربي للتأليف السيمفوني. إنها نشيد موسيقي طويل يتخلله غناء لابد منه. غناء أصيل في العمل لا يمكن استبعاده. هذا النزوع لمجافاة التقليدي، بل ولتجنب تشابه مارسيل خليفة مع مارسيل خليفة، هو ما قاد فناننا الثائر وذا الحس الموسيقي الأصيل ليعتني أكثر فأكثر بسؤال الجوهر الموسيقي. ليس لدي تعريف محدد لمصطلح الجوهر الموسيقي، ولكني أقصد به سؤال (ما هي الموسيقى؟ ما هي إمكاناتها التعبيرية؟ كيف يمكن للعود –هذه الآلة المشرقية الحميمة والعريقة- أن تحمل أسئلة الفنان وتعبر عن كل هواجسه). أخال أن أسئلة من هذا النوع وأعمق منها بكثير كانت تشغل مارسيل خليفة، وهي ما قادته لاحقا لتأليف أعمال تعتبر سيمفونيات حقيقية، بل ويمكن وصفها بالتجريبية. فـ (جدل) مثلا كان اشتغالا على إمكانات العود تضمن حوارا أو جدلا بين عودين. و (كونشيرتو الأندلس) كانت عودة للجذور.
في تأليفاته الموسيقية الخالصة لم ينس مارسيل خليفة محمود درويش، بل تذكره بطريقة خاصة جدا لن يفعلها سوى مارسيل خليفة. فمن وحي قصائد درويش ألف مارسيل عملا موسيقيا خالصا أسماه (تقاسيم). هي سيمفونية موسيقية، ورغم أنه لا يوجد بها كلمات مغناه، إلا أن روحها تفيض بخلاصة محمود درويش، وهو أمر لا يزعمه مارسيل خليفه لنفسه، ولكن متذوقي أشعار محمود والعارفين بموسيقى مارسيل يستطيعون الإحساس به ويصل إلى أعماقهم. لرحمة القدر فإن هذا العمل قد ظهر قبل رحيل درويش بنحو عام واحد.
يقول محمود درويش عن مارسيل خليفة: «لعل أغنية مارسيل خليفة هي إحدى الإشارات القليلة إلى قدرة الروح فينا الآن على النهوض. فعندما كنا نستثني التعبير الثقافي من شمولية ما تعرض له الموقف العربي من انهيار عام كنا ندافع عن أمل شخصي في حماية منطقة من الروح يصعب اجتياحها بالدبابة أو بالعزلة. وسط هذا الخراب كانت أغنية مارسيل خليفة تنتشل القلب والأجنحة من الركام، كانت قوتها الهشة هي قوة الحياة في حصار السؤال والجواب. فيها وجدنا قوة المأخوذين إلى الموت على الغناء وعلى إبداع مستوى للواقع نمتلك فيه حرية افتقدناها فيما سبق من كلام وإيقاع.
البسيط ينفجر فينا لتفكيك المعقد في الوعي والعاطفة والواقع حين يغني أحد مستوياته بهذه البساطة ويفتح نافذة للرجاء. في أغنية مارسيل خليفة خبز للكلام وشيء واضح من جدوى وجمال يندفع. كنت على سبيل المثال أعلن لأمي الحب من زنزانة ولكن لم تدرك هي ولا أنا أدركت فعالية هذا الإعتراف إلى أن فضحته أغنية مارسيل خليفة».
خاتمة
عاصفة مارسيل خليفة التي أطلت بوعودها منذ عام 1976، لم تكن مزعجة أو تدعو لإغلاق النوافذ، إلا ربما لدى حراس الموسيقى الرديئة والمروجين لها. لقد كانت عاصفة من الحب واحترام الفن. كانت وعودها هي الأمل. ولقد صدقت هذه الوعود، فما إن انطلق الربيع العربي في تونس حتى كان صوت مارسيل خليفة هو صوت الأرواح المكتظة بالأمل. وبغض النظر عما تسير إليه أمور الإنسان العربي على أرض الواقع، فما زالت عاصفة مارسيل تعدنا بالنبيذ والأنخاب الجديدة، وبأقواس قزح. وهو الوعد الذي سيجعلنا دوما نحن إلى مارسيل خليفة ونعود إليه في اللحظات التي نكاد نفقد فيها الأمل.
الذين يحبون مارسيل خليفة يحبونه –على الغالب- لأنهم يجدون فيه ذلك الجزء المتواري الأكثر جمالا في ذواتهم: الطفل الذي لا يعرف الكذب. الطفل الذي يحب الاكتشاف والتجريب. الطفل ذو الكركرة العذبة. الطفل المتجدد الذي لا يمل المرء من اللعب معه—لأنه باللعب معه نستمتع، ونعيش طفولتنا، ونؤمن أنّ في المستقبل ما يستحق التضحية لأجله.
عبدالله خميس