عيسى جابلي
أشعلتُ سيجارة، فاضطرمت النّار في جسد امرأة كانت تجلس بجانبي. كنت في حديقة عامّة في قلب المدينة. وكانت تسوّي شعرها وتسبح في هاتفها. دفعتها في ماء النّافورة المقابلة، وجاء رجال الإطفاء. قبضت عليّ الشّرطة. كانوا يضربونني بعنف، ويدفعون بي في سيّارة سوداء.
بينما كانوا يوجّهون إليّ تهمة القتل العمد، كانت خياشيمي ملأى بعدُ برائحة الورق المحترق، وصورة المرأة تلمع في ذهني بشعرها الاصطناعيّ المصبوغ وحاجبيها المرسومين بالكحل بعناية ورموشها الاصطناعيّة ووجهها المطليّ بلون ورديّ غارق في الحمرة وشفتين تجاوز أحمر الشفاه حدودهما فبدا فمها أوسع حتّى تدلّى على لحيتها وكاد يبلغ أنفها. قلت لهم:
كلّ ما في الأمر أنّني أشعلتُ سيجارة. لا أعرف كيف التقط جسدها النّار بتلك السّرعة.
انهالوا عليّ ضربا ورفسا. وأنا أحلف لهم بأغلظ الأيْمان أنّني لم أكن أعلم أنّها من ورق، وأقسم لهم أن أدفع ثمن علاجها، وأن أطلب منها الصّفح. ولكنّهم أثبتوا عليّ التّهمة، وقادوني إلى السّجن.
***
ظلّت امرأة الورق تتردّد في ذهني، فرحت أراجع ذاكرتي في زنزانتي. قفزت إليّ زوجتي. كنت التقيتها قبل عشرة أعوام. كانت طريّة كسحابة ماطرة. رأيت ذلك في رقصاتها إذ تتلوّى على موسيقى اليونانيّ السّاحر «ياني»، فأحسبها ذابت. كنت أراها مغمضة عينيها عن العالم تنحت من جدائل الهواء بأصابعها تحفًا وتماثيل. تتمايل. تتقلّص.. ثمّ تتبعثر مثل أسطر قصيدة نثر. تنكمش وتضمحلّ، ثمّ تبين وتتبدّى كفكرة مراوغة. تهتزّ الفكرة وتنتفض ثمّ تنساب جدولًا في اللّيل كأنّ خريره رجع صدى الوجود. تموت مع الموسيقى.. ثمّ تحيا فتحييني..
كانت الأيّام تنساب بنا كزورق ورقيّ في غدير، حتّى جاء يومٌ صرت أسمع منها في كلّ حركة أصواتا غريبة أشبه ما تكون بحشحشة الورق. كلّما تحرّكتْ سمعتُ حفيف ورق في جسدها. مرّة كنّا نرقص عاريين. كانت لحظات الرّقص هي آخر ما ظلّ يربطنا بعد أن عجنتنا الحياة، وطوتنا في دولابها الذي لا يهدأ. كانت بين ذراعيّ عارية. الموسيقى تنبعث هادئة في غرفتنا الباردة، والإضاءة الزّرقاء الخافتة تزيد الجوّ رطوبة، أمّا الشّموع القصيرة المتناثرة في زوايا الغرفة فعيونٌ باهتة تسجّل المشهد المتدفّق صامتة. في تلك اللّحظات، شعرتُ لأوّل مرّة أنّني، وأنا أمسك بخصرها، إنّما ألامس دمية. اضطربت دقّات قلبي على وقع إحساسي الغريب ذاك، ولكنّني حاولت أن أتماسك. محوت ذلك الشّعور بابتسامة زرقاء خفيفة كي لا أفسد المشهد. سأواصل الرّقص بهدوء يتناسب والمشهد، وسأدفع يدي لتمرّ على ظهرها العاري، وستسري فيّ حماسة رجل شرقيّ، فأمتطي نهديها.. ولكنّني سأفاجَأُ بذلك الإحساس بملمس الورق أشدّ وضوحا. وإمعانًا في التّحدّي، سأسرّب أصابعي بين فخذيها، فإذا المكان بارد كبحيرة جليديّة، جافّ جفاف ورقة في يوم قائظ.. حينها، لن أجد مفرّا من الانسحاب متعلّلا بضيق في النّفس وإرهاق ومزاج سيّئ..
سمعتُ مرّة زوجة عمّي تقول عنه لإحدى جاراتها غاضبة:
إنّه كرذونة!
ولكنّني لم أفهم العبارة في حينها. في السّجن بدت لي أوضح ما تكون. لقد كان في جفاف صندوق من الورق المقوّى دون شكّ. تذكّرت أيضا صديقة قديمة هجرتني وأنا مراهق قائلة:
أنت مملّ وثقيل كيوم أَحَد!
لم أرها منذ ذلك الزّمن. ولكنّني ما زلت أذكر بعدها أنّني صرت رجلين يصفع أحدهما الآخر باستمرار. كان هناك رجل فيّ يقف دائما أمامي فيجلدني. مرّة قال لي:
كن غيرك! لقد تعفّنتَ!
ومن حينها صار هاجسي دوما كيف أكون غيري؟ كيف أغادر دور يوم الأحد؟
قالت لي زميلة في الكلّيّة:
يومك اجترار لأمسِكَ، وغدك اجترار مقرف لهما معا!
ثمّ صارت تشرب قهوتها بعيدا عنّي..
في تلك الأيّام، تعرّفت صديقا. كان يائسا مثلي. دعاني يوما على غير عادته إلى حفل موسيقيّ. بكينا معا. من الغد قلت له:
لمّا كنت صغيرا كنت أعشق الرّسم.
لامني كثيرا لأنّني مع الأيّام تركت هوايتي الأجمل على وقع مشاغل الأيّام. ألحّ عليّ أن ندخل نادي الرّسم في مركز ثقافيّ قريب. صرنا نتردّد عليه ثلاث مرّات في الأسبوع. استعدت غرامي بالألوان بسرعة عجيبة. طوّرت مهاراتي. تعلّمت تقنيات جديدة. بدأت بتقليد لوحات عالميّة سورياليّة. في الرّسم وجدت لذّة عجيبة لا أعرفها في فنّ من الفنون. كانت تبعدني عن دراستي للطّبّ. لم يعد الإنسان مجرّد ماكينة تصيبها الأعطاب، فنتمكّن فيما بعد من إصلاحها. إنّه أكبر من ذلك. صرتُ صانع الأعطاب شخصيّا. أشوّه وجه هذا، وأمحو أعضاء ذاك.. أبتكر شخصيّات خياليّة: رجلًا وجهه باب منزل قديم، امرأة بنهدين من صلصال ومؤخّرة حجريّة، قطًّا بحجم جبل ذيله قطار بخاريّ معلّق في الهواء، بشرًا بملامح آلهة فرعونيّة..
مرّة وزّعتُ امرأة واحدة على عشرين لوحة. نصف عينها يأكلها الدّود هنا، والنّصف الآخر تحوّل إلى ذيل ثعلب ضاحك، والشّعر أفعى تنساب بين ثلاث لوحات، واللّسان سيف بتّار يخترق أربع لوحات….
قدّمت اللّوحات في معرض سنويّ للرّسّامين الهواة. كنت أرى دهشة الزّوّار في أعينهم. ليلا عندما يخلو المعرض، أتفحّص تدويناتهم في كرّاس الإمضاءات. كانت كلماتهم مليئة بالغرابة. أحد الزّوّار وضع نقطة تعجّب ووقّع تحتها. زائر آخر رسم وجها شيطانيّا. كنت أتأمّل خطوطهم وملاحظاتهم المتباينة، حتّى سمعت صوتا عظيما كهزيم رعدٍ صيفيّ. انتفضت من مكاني، فإذا الملامح التي وزّعتها على اللّوحات العشرين قد اجتمعت في امرأة من لحم ودم، وإذا اللّوحات العشرون بيضاء!
كنت أرتعش خوفا. هممت بالهرب. ولكنّها التقطت ذراعي قائلة:
فيمَ خوفك؟
ثمّ أضافت:
لم أر رسّاما فرّ من لوحاته قبلك..
قرّبتني منها فتجمّدتُ فيما كانت تمرّر أصابعها الطّريّة على خدّي:
أنت شابّ لطيف!
بعثت فيّ أصابعها الدّفءَ رغم ملامحها المفزعة المرعبة الغريبة. كنت سأسألها:
من أنت؟ ما اسمك؟ كيف غادرت اللّوحة؟
ولكنّها كانت قد جرّتني خارج قاعة المعرض مسرعة.
في المقهى الكبير في الشّارع الرّئيس، شعرتُ بأنس افتقدته زمنا. كان الدّم يتدفّق في جسدي كأنّني أُحقَن به للمرّة الأولى. قالت:
أنا الآن بلا مأوى!
ابتسمتُ لها وقد استسلمتُ لقدري قائلا:
أنا منذ اللّحظة مأواك..
ثمّ تابعتُ لمّا ذابت عيناها فرحا:
أشعر أنّني أستعيد بك الحياة. أنت أُلفتي.
أبعدتني ألفة عن الرّسم، أو إنّني غرقتُ فيها كأنّما أغرق في لوحة سورياليّة غريبة الأشكال والألوان. كنت منبهرا بها. صارت تحضر معي بعض المحاضرات في الطبّ، ولكنّها سرعان ما سئمتها، وصارت تنتظرني في مشرب الكلّيّة حتّى أنتهي من المحاضرات.
سافرنا إلى أمكنة عديدة. كانت فراشة تحلّق في قلبي كخفقة جناح. منذ أن غادرت اللّوحة، أخذت ملامح القسوة والغرابة التي سلّحتها بها آن رسمتها تختفي، أو إنّني تعوّدتها شيئا فشيئا حتّى صارت ملاكا حقيقيّا يقاسمني غرفتي. قضت ألفة أشهرًا تنام في حضني عارية. كنّا نكتفي ببعض القبل الطّويلة حتّى يسرقنا النّوم من الغرفة. في تلك الأيّام أعادت لي الشّعور بأنّ الأنثى «كمنجة» نسيتها الآلهة في الأرض بعد انتهائها من نحت الكون وخلق الخلائق. ذكّرتني بعيد ميلادي الذي أهملته من زمن. دعتني إلى حفل. سقتني الفودكا وسقيتها حتّى وقت من اللّيل.
لمّا عدنا إلى غرفتي كانت ألفة تنزع فستانها. رأيت موجة تتعرّى. لم أنتبه إلى ذلك سابقا، ولكنّها في تلك اللّيلة كانت من بنات البحر. سرّحت الموجة شعرها مجدّدا. اكتحلت. صبغت شفتيها بالأحمر. نظرت إليّ وقد تورّدت وجنتاها، وذابت نظراتها حبّا. اقتربت منّي، فمددت يدي السّكرى. مرّرتها على فخذيها وخصرها ثمّ ذبنا في قبلة محمومة. فرّ منّي جسدي في تلك اللّيلة. ركب الموجة. رأيتها وحشا عنيفا يزلزل صراخها الغرفة كأنّ بها جنّا. كانت تتلوّى وتشهق وتئنّ وتنقبض بشدّة وتنفرج، وفي أوصالي سرت قوّة لم أعهدها، فراحت تهزّ ذلك الجسد الطّريّ هزّا. في الجنس تصبح المرأة قيثارة غاضبة بمخالب أسد وجسدٍ لطيف يعبق برائحة الشّبق الحياةِ.
كانت أشهر قد مضت على لقائي بألفة. انخرطنا شيئا فشيئا في الحياة اليوميّة. بدأت نزهاتنا تقلّ إلى أن انعدمت تقريبا. لم نعد نلتقي إلاّ ليلا مرهقيْن لا يقوى أحدنا على الكلام. ذات ليلة هرب من عينيّ النّوم. تقلّبتُ في مكاني. أطفأتُ جميع الأضواء فيما هي نائمة في الجانب الآخر من السّرير. سحبت سيجارة. أشعلتها. وما إن سحبت نفسا حتّى قفزت النّار إلى جسدها كإسفنجة من الكحول، فأخذت تلتهمها النّيران. كنت أغالب رائحة الورق المحترق وأصيح عاليا لمّا سقطتُ من كرسيّي في قاعة العرض. كان قلبي يكاد يغادرني، وأنا أتفرّس لوحاتي العشرين معلّقة بعناية على الجدران..
علّمتني ألفة كيف أحافظ على زوجتي لمّا صرت أشتَمّ من جسدها رائحة الورق. أبعدتها نهائيّا عن النّار. صرت أدخّن في شرفة المنزل الذي جهّزته بمضادّ للحرائق تحسّبا لاشتعالها المحتمل، ولكنّ سهوي في ذلك اليوم في الحديقة أنساني الحذر، فالتقط جسدها النّار وحملني إلى السّجن. قضيت فيه عشرين عاما بعد أن توفّيت.
أمس دخل عليّ مدير السّجن. كان ضخما كما لم أره طيلة مدّة سجني. قال لي:
يمكنك المغادرة. انتهت عقوبتك.
لمّا كنت أمضي ورقة خروجي كان هو قريبا منّي، كانت رائحة الورق تفوح منه بوضوح نادر.
واجهت الشّارع بعينين شبه مغمضتين. كانت الشّمس ساطعة. كنت أتنقّل إلى المحطّة متثاقلا كأنّني «جان فال جان». كانت المدينة تعبق برائحة الورق حدّ الاختناق، وكنت أتساءل:
لماذا لا يشتمّ النّاس ما يصلني من رائحة؟
فكّرت قليلا، ثمّ قلت كالمحدّث نفسه:
ربّما لكثرة ما تعوّدوا رائحة الورق نسوها. عندما نتعوّد شيئا لن نميّز وجوده فيما بعد..
طرقت الباب. فتح الأولاد. ارتموا في حضني يتصايحون فرحا. كانت أجسادهم رطبة كأنّما خرجوا للتّوّ من غدير. قبّلوني بحرارة وتصايحوا كضفادع جذلى بهطول المطر، ولكنّهم سرعان ما تراجعوا يسدّون أنوفهم بأصابعهم الطّريّة.. هل أزعجتهم رائحة الورق تفوح من جسدي؟!