ما بين الغياب والحضور، المنفى والوطن، الكثيف واعادة النظر للعالم، يطل علينا دائما الشاعر الكبير وديع سعادة بقصائده التي تمثل صوتا شعريا مقطرا ومذهلا مبتكرا فى المشهد الشعرى المعاصر،ووديع سعادة قد نشر ثمانية دواوين ، بدءا من باكورته«ليس للمساء أخوة» وحتى أخر دواوينة، حاول دائما -عبر شعريته المميزة – أن يعيد ترتيب الحياة من خلال تفاصيلها التى نكاد لانلحظها أو نلحظها ولكن لاتتوقفنا بغرض الوصول لمعيار معادل للحياة المتداعية التى تتخللنا بقسوة مرعبة، ويعد الغياب هو المحور الارتكازي الذي يبني منه وديع سعادة كل أعماله، إن وديع سعادة يعد من أهم من طوروا فى قصيدة النثر وهو يتميز أيضا بعدم سعيه وراء النشر وأنه يكتب من أجل الكتابة وللكتابة فقط، إنه بالفعل من طراز فريد وقد كان لنا معه هذا الحوار:
g ما بين الاغتراب وبين الانتماء ومنذ «هل للمساء إخوة» وحتى «قل للعابر أن يعود..نسي هنا ظله» تجربة شعرية مميزة وخاصة جداً، ولكن أين يقع الشاعر الكبير وديع سعادة مابين المفردتين- الإغتراب والإنتماء- وماذا كان الشعر بينهما أيضاً؟
– لم يخالجني يوماً شعور بأني أنتمي إلى مكان بعينه. أشعر بأني أنتمي إلى الشعر أكثر مما أنتمي إلى الأمكنة. هكذا أحمل انتمائي معي أينما أذهب، هكذا أكون أنتمي إلى كل الأمكنة. لكن هذا لا يعني أن هذه الأمكنة التي يجعلني الشعر أنتمي إليها ليس فيها اغتراب أيضاً، لأن الشعر ليس مكاناً بل هو وهْمُ مكان. الشعر هو إقامة في الوهم، انتماء إلى الوهم، لكنه الوهم الجميل، الوهم الأجمل من الواقع، الأجمل من الحقيقة.
g النص عندك وتحديداً في ديوان «مقعد راكب الباص» يأخذنا إلى ما وراء المحذوف من القصيدة، أو كما يقول البعض إلى فضاء مابين السطور.. أيعد هذا تكتيكاً لوديع سعادة أم أن هناك رؤية للمحذوف؟ وهل المحذوف أحياناً يفوق قوة اللامحذوف؟
– أرى أن الشعر ليس هو المقروء منه فقط بل، وفي الدرجة الأولى، هو المحذوف منه أيضاً. إنه المقروء الذي يحيلك إلى المحذوف. أعتقد أن هذه هي ميزة الحداثة في الشعر، فيما الشعر غير الحداثي هو المقروء منه فقط.
أنا، شخصياً، أفضّل أن أقرأ خطاباً، لا شعراً، إنْ كان هذا الشعر لا يمنحني سوى المقروء منه، إنْ كان لا يحيلني إلى فضاء ما بين السطور.
g الماضي والذكرى والعلاقة الأبوية تحديداً في أعمالك – خصوصاً الأولى- تأخذنا دوماً إلى مساحة من التأمل والبهجة الحزينة، وكأن الأمر انعكاس لنا عبر مرآة شعرك.. فماذا يمثل لك كل هذا الماضي المخلوط بذكراه؟
– ربما نحن لسنا سوى نتاج الماضي. لكننا لن نكون في الحاضر إن لم نحوّل ذاك الماضي إلى فضاء من التأمل.
صحيح أن الماضي والذكرى موجودتان بقوة في شعري، لكني بالقوة ذاتها جعلت ُ منهما فضاء رحباً في الحاضر: أعدتُ بهما اختراع طفولة جديدة، ولو بالوهم.
g قلت في حوار لك «الشعر قول زجاجي» ألم تخشَ تحطم الزجاج، وهل مازال الزجاج نافذة للعالم أم أن وديع سعادة بغربته أصبح يخشى الزجاج/الشعر؟
– الزجاج نافذة، وهكذا الشعر. لكن إذا كان الزجاج نافذة على الخارج فإن زجاج الشعر نافذة على الداخل. وإذا كان الزجاج نافذة في الواقع فزجاج الشعر نافذة في الخيال.
أنا فعلاً أخشى تحطًم الزجاج. أخشى تحطًم زجاج الشعر وليس زجاج الواقع. لا بل أتمنى لو يحطم زجاجُ الشعر زجاجَ هذا الواقع.
قلتُ إن زجاج الشعر نافذة في الخيال، وقد يعني هذا أنه نافذة في الوهم أيضاً.
g هل هناك «تركيب آخر للحياة»؟ وكيف تراه وسط هذا التراكم العبثي الآني الذي نعيشه منذ الربيع العربي؟
– لا تركيب آخر للحياة إلا بالشعر، وأعني أيضاً بالوهم… أما هذا الذي يسمى ربيعاً عربياً فلم يثمر حتى الآن سوى خريف أحمر، لم يفعل سوى استبدال استبداد باستبداد آخر أكثر تخلفاً وأكثر ظلامية، عدا عن أنهار الدماء وقوافل اللاجئين والمشردين وتحويل البيوت إلى ركام ومقابر… فهل في الركام هذا، وفي أنهار الدماء هذه، وفي الظلامية هذه، يمكن أن يكون هناك تركيب آخر جميل للحياة؟
g اللغة عندك وتركيب الجملة فيهما سحر خاص جداً يختلف عن درويش مثلاً وعن الماغوط.. فكيف ترى الجملة الشعرية؟ وهل هناك حقاً حذف وتنقيح لحظة الكتابة ذاتها؟
– أنا نادراً ما أحذف أو أنقح في شعري. فإما يأتي هذا الشعر منساباً كما هو في لحظة الكتابة أو لا يأتي. فإنْ لم تأت القصيدة هكذا من اللحظة الأولى، أمزقها. لا أنقّح أو أحذف أو أضيف، بل أمزقها، لأني أريد أن تكون ولادتها ولادة طبيعية مكتملة من البدء، كي تكون ولادة جميلة بلا عمليات تجميلية.
g اليومي المعاش هو ميزة قصيدة النثر منذ بدايتها، فكيف ترى قصيدة النثر الآن وما قبل الآن؟
– لستُ مخولاً أن أكون ناقداً أو «قاضياً» على الشعر، سواء ما يُكتب اليوم أو ما كُتب في السابق. لكل كاتب أسلوبه ورؤيته ومفهومه، ولا أحب أن أجعل رؤيتي ومفهومي مقياساً لما يكتبه غيري… أنا، في اختصار، أحترم كل الشعراء بغض النظر عن رأيي الشخصي بشعرهم.
g هل هناك أزمة ما بين النقد والقصيدة؟ أو هل هناك قراءات مقصرة للقصيدة ؟
– أعتقد، نعم، ثمة مسافة بين الشعر ونقده. النقد الشعري اليوم، لدى معظم النقاد العرب، لا يتعدى كونه وظيفة في صحيفة. أعني مقالات يومية فيها من العجالة أكثر مما فيها من النقد والقراءة في العمق.
g الشاعر وديع سعادة، هل نحن فى زمن الغياب؟ وماهو الغياب تحديداً عند وديع سعادة؟
– الكلام على الغياب يتطلب مساحة كبيرة من الكلام لا أظن أن في إمكاني اختصاره هنا… أقول فقط، قد يكون الغياب حضورنا أكثر من حضورنا ذاته.
g الجنون مطاف البراءة أحيانا؟ فهل الجنون في قصيدة وديع سعادة معادل ضمني للهوية؟
– في الجنون نبحث عن هوية أخرى غير الهوية التي لصقتها فينا المفاهيم السائدة والتعاليم والتقاليد. نبحث عن خروج من القفص الذي وُضعنا فيه. نبحث عن أجنحة، عن طيران… هذا العالم بات سجناً وأشغالاً شاقة يا صديقي، وبات لا يمكن الانعتاق من حيطانه الإسمنتية المقفلة إلا بالجنون.
g تكرار كلمة العابر كثيراً في أعمالك يجعلنا نراك أنت نفسك كالعابر فينا شعرياً.. فهل كان هذا مقصوداً؟
– ليس في شعري مقصد معين أمليه على أحد. فقصيدتي منفتحة على التأويلات، وكل قارئ يرى فيها تأويله الخاص، وبهذا المعنى لست أنا كاتب شعري الوحيد، بل كل قارئ يعيد هو، برؤيته، كتابة شعري.
….