صفاء جبران
مترجمة لبنانية
«كلما كبر الأولاد، يجب أن يتقلّص حجم الأم. لكن يبدو أننا نميل إلى الاستمرار في أن نكون عظيمات».
كلاريس ليسبكتور
[ 1920-1977]
كلاريس ليسبكتور هي واحدة من أبرز الكتّاب في الأدب البرازيلي واللاتيني. وُلدت في أوكرانيا، لكنها انتقلت مع أسرتها إلى البرازيل وهي طفلة رضيعة. نشأت ليسبكتور في مدينة ريسيفي، وانتقلت فيما بعد إلى ريو دي جانيرو، حيث بدأت مسيرتها الأدبية وحيث تزوجت في عام 1943 من الديبلوماسي ماوري غورجيل فالنتي ومنه أنجبت لاحقًا طفلَين، بيدرو وباولو، وبسببِ مهنة زوجها، تنقلت كلاريس للعيش بين العديد من البلدان، إيطاليا وإنجلترا وسويسرا والولايات المتحدة .
كانت في العاشرة من عمرها عندما توفيت والدتها بعد معاناة طويلة مع المرض: «كنت حاضرةً لأولدَ بطريقة جميلة، وكانت والدتي مريضة، وكانت هناك خرافة واسعة الانتشار، ألا وهي أن إنجاب طفلٍ يشفي المرأة من مرض. لذلك نشأتُ بإصرار، مليئة بالحب وبالأمل. لكنني لم أشفِ أمي. وحتى يومنا هذا أشعر بالذنب: خلقوني من أجل مهمةٍ، لكني فشلتُ». عانت كلاريس كثيرًا من ثقل هذا الفشل الذي سيكون له صدى في كتاباتها.
تمكّنت ليسبكتور من استخدام اللغة بشكل مبتكَر لإيصال مشاعر وأفكار معقدة. غالبًا ما تتضمن نصوصها تأملات فلسفية وتناقش الأبعاد النفسية للإنسان. كانت كتاباتها تُعتبر تحديًا للنماذج الأدبية التقليدية، مما جعلها تحتل مكانة خاصة في الأدب العالمي. تميّزت أعمال ليسبكتور بأسلوبها الفريد والعميق الذي يمزج بين السرد الشعري والاستبطان النفسي. كتبت العديد من القصص القصيرة والمقالات والروايات. أولى رواياتها هي قريبًا من القلب المتوحش( 1943) ، أما أعمقها فهي رواية ماء حي (1973)K لكن أشهرها ساعة النجمة (1977) والتي تعتبر واحدة من أبرز الأعمال في الأدب البرازيلي، وتبقى الأحب إلى قلوب القراء والناقدين رواية العاطفة وفقًا لـ ج . هـ . (1964).
كلاريس ليسبكتور الكاتبة البرازيلية الأكثر ترجمة، والتي عُرفت عالميًا بكتابتها غير التقليدية، غالبا ما كتبت عن الموضوعات التقليدية المتعلقة بالأمومة والمنزل والأطفال، لكن كتابة ليسبكتور عن هذه الأمور كانت بأسلوب غير معتاد. كانت جزءا من غرابة أسلوبها ورغبتها في نقل المشاعر والأحاسيس التي تكمن ما وراء الحقائق. فالأمومة موضوع مهم في عمل كلاريس ليسبكتور ولها تداعيات حتى في غيابها. في قريبًا من القلب المتوحش (1943)، سلطت الضوء على الأمومة ومتغيراتها بالنسبة للشخصيات، مثل والد جوانا، والدتها وخالتها، المرأة ذات الصوت، ليديا وجوانا نفسها، البطلة، التي، على الرغم من أنها لم تستطع إنجاب طفلٍ، كانت الأم العظيمة للسرد، لأن جميع الشخصيات الأخرى «تولد» منها.
نجلا كلاريس، الأمُّ والكاتبة، كانا دائما برفقتها. “لم أكن أريد أن يشعر طفلاي أن والدتهما كاتبة مشغولة ليس لديها وقت لهما. حاولت التأكد من أن هذا لن يحدث أبدًا. كنت أجلس على أريكة مع الآلة الكاتبة على ساقي وأكتب. وكان يمكنهما، في صغرهما، مقاطعتي في أي لحظة. وكم فعلا ذلك!”
كلاريس عملت كصحفية خلال عشر سنوات، ونشرت مئات المقالات، وعلى عكس بنات جيلها من الكاتبات، لم تتخلَّ بسبب مهنتها عن كونها أمًّا. “سُئلتُ مرة: ما الذي يهمّك أكثر، الأمومة أم الأدب؟ ولكي أجيب سألت نفسي: إذا كان لا بد من الاختيار بينهما، فماذا سأختار؟ كان الجواب بسيطا: سأتخلى عن الأدب. ليس هناك شك في أنني كأم أكثر أهمية من كوني كاتبة.” وكانت الأمومة واحدة من التجارب الثلاث التي تلخّص حياتها. وهذا ما أعلنته ليسبكتور في مقالة نشرت، في الحادي عشر من مايو، عام 1968، في «جورنال دو برازيل»، قالت حينها وبنبرة اعتراف حميمة:
التجارب الثلاث
هي ثلاثة أشياء وُلدت من أجلها وأبذل حياتي من أجلها. لقد ولدت لأحبّ الآخرين، وولدت لأكتب وولدت لتربية أطفالي.
“لأحبّ الآخرين” شاسع للغاية، لدرجة أنه يشمل حتى المغفرة لنفسي، مع ما تبقى. الأشياء الثلاثة مهمة جدّا، ولكن الحياة قصيرة، ليست كافية لكل ذلك، لذا لا بد لي من الإسراع، فالوقت ينفد. وأنا لا أستطيع أن أهدر دقيقة واحدة من الوقت الذي يؤلِّف حياتي. إن محبة الآخرين هي النجاة الفردية الوحيدة التي أعرفها: لا أحد يتوه إن وهب المحبة، وإن تلقاها في المقابل، ولو أحيانًا.
وقد ولدت لأكتب. الكلمة هي سيادتي على العالم. منذ الطفولة، جذبتني ميول عديدة بشدة وبحماس. إحداها الكتابة. ما زلت حتى الآن لا أعلم لماذا اخترتها وتبعتها.
ربما لأن الميول الأخرى تتطلّب تعلمًا طويل الأمد، بينما في الكتابة، فإن التعلّم يتأتى عن الحياة ذاتها التي تنبض فينا وحولنا. المعضلة أني لا أعرف كيف أدرس، ولكن في الكتابة، الدّرس الوحيد هو الكتابة بعينها.
لقد درّبت نفسي منذ السابعة من عمري لكي تكون اللغة، يومًا ما، تحت سلطتي. ومع ذلك، في كل مرة أذهب فيها للكتابة، تبدو كأنها المرة الأولى. كل كتاب هو عبارة عن بداية مؤلمة ومبتهجة. هذه القدرة على تجديد نفسي مع مرور الوقت هي ما أسميه العيش والكتابة.
أما نجلاي فلم تكن ولادتهما عرضية. أردت أن أكون أمّا. فأنجبت طفليّ بمحض اختياري: ها هما، الصبيّان، بجانبي، وأنا فخورة بهما، وأتجدّد فيهما: أتابع معاناتهما وكربها وأمنحهما ما هو ممكن للمنح. لو لم أكن أمّا لكنت وحيدة في هذا العالم. لكن لدي سلالة وها أنا أعِدُّ اسمي، يومًا بعد يوم، لهما في المستقبل. أدرك أنه في يوم من الأيام سوف يفردان أجنحتهما للانطلاق في الرحلة المفروضة، وسوف أبقى وحدي، وهذا أمر قاطع، لأننا لا نربي الأطفال لأنفسنا، بل نربيهم لأنفسهم. وعندما أصير وحدي، أكون قد اتبعتُ مصير جميع النساء.
أما المحبة فلن تتخلى عنّي. إن الكتابة أمر قويّ للغاية، ولكن يمكن أن تخونني وتهجرني: قد أشعر يومًا ما أنني قد كتبت نصيبي في هذا العالم وأنه ينبغي أيضًا أن أتعلّم التوقف عن الكتابة. لا كفالة لي في الكتابة.
بينما يمكنني أن أحب حتى يحين وقت الموت. المحبة لا تنتهي، وكأن العالم بانتظاري وأنا ذاهبة للقياه.
أدعو الله ألا أعيش في الماضي. أن يكون لي حاضرٌ دومًا، وأن أملك شيئًا في المستقبل، حتى لو كان وهمًا.
الوقت يهرول، الوقت قصير: يجب الإسراع ، لكن في الوقت عينه ينبغي أن أحيا كما لو كانت حياتي هذه أبدية فيصير الموت نهاية لشيء مبهر: يكون الموت أحد أهم إنجازات حياتي. إني أهاب الموت: لا أعرف ما هي السدم أو المجرّات التي تنتظرني. أريد أن أموت مؤكدة على الحياة والموت.
لديّ طلب واحد لا غير: عندما يحين وقت موتي، أرغب أن يكون أحد أفراد أسرتي بجانبي ليمسك بيدي. حينها سيتلاشى خوفي، لأنه سيكون برفقتي وأنا أعبر الممر العظيم. أتمنّى أن يكون التجسد موجودًا: لولدتُ من جديد بعد الموت، ووهبت روحي الحيّة لشخص جديد. لكن «أتمنّى أن» ليست إلا تنبيهًا: لو كان هناك تجسدٌ فهذا يعني أن الحياة التي أعيشها الآن ليست حياتي بالضبط، وهذا يعني أن روحًا قد وُهبت لهذا الجسد. أنا أريد أن أولد من جديد دائمًا. وفي الحياة التالية، سوف أقرأ كتبي كقارئة عادية معنيّة ولن أعلم آنذاك أنّي من كتبتها.
أحتاج لإنذار ما، لإشارة. هل ستصلني كحدس؟ هل سأدركها عندما أفتح كتابًا؟ هل ستأتي هذه الإشارة عندما أستمع إلى الموسيقى؟
إن أحد الأمور الأكثر وحشة في رأيي هو ألا نملك حدسًا.
الهوامش
– (كل المقالات، كلاريس ليسبكتور. ريو دي جانيرو- دار روكو للنشر، 2019، ص. 104-106.)
– قريبا من القلب المتوحش- ترجمة صفاء جبران. بيروت، دار الآداب، 2024.
– ماء حي – ترجمة صفاء جبران. بيروت، دار الآداب، 2023.
ساعة النجمة – ترجمة ماجد الجبالي، دار الكتب خان للنشر، 2018.
العاطفة وفقا لـ ج. هـ.( لم تترجم الى العربية).
– جميع الاقتباسات موجودة في كتابها، بعنوان: اكتشاف العالم، ريو دي جانيرو- دار روكو للنشر،1999.