مفيد نجم
كاتب وباحث سوري
تحتاج القراءة النقدية الناجزة لتجربة الروائي أحمد علي الزين تتبع المسار السردي الحكائي لهذه التجربة عبر أعماله المختلفة، والتي صدرت في مراحل زمنية مختلفة، وهي “الطيون وخربة النواح ومعبر الندم”، وثلاثية عبد الجليل الغزال (بريد الغروب- حافة النسيان وصحبة الطير)، إضافة إلى روايتي “العرافة وميراث نوح” . تهدف هذه الدراسة إلى معرفة التحولات و التطور الذي طرأ على بنية السرد وتقنياته في هذه التجربة وما يعبر عنه من حيويتها وقدرتها على تعميق هويّتها الإبداعية وتطوير بنيتها السردية والفنية والجمالية. إن ما يميزّ تجربة الكاتب هو مثابرتها على الإصغاء إلى صوت التجربة من داخلها وهو ما يظهر جليا في شواغل التجربة وهواجسها وخياراتها السردية إضافة إلى فضاءاتها الشعرية والمنظور السردي الذي تقدم من خلاله أحداث الرواية وشخصياتها. لذلك يلحظ القارئ لهذه التجربة أن مجموعة من العلامات والثيمات المعبرة عن شواغل التجربة فكريا ووجوديا وإنسانيا هي التي تهيمن على عالم هذه التجربة، وتؤكد على وحدتها وطبيعة المنظور السردي الذي ينطلق منه الكاتب في رؤيته السردية لبناء عالمه التي ينسحق فيها وجود الإنسان وحياته تحت عنف اللحظة المأساوية التي نعيشها حتى لتبدو مصائر شخصياته وحيواتها تكثيفا مروعا وحزينا لصورة هذا الواقع المحكوم بالاستبداد والعنف المنفلت والضياع.
لذلك بقيت شواغل التجربة السردية فكريا وجماليا مفتوحة على أسئلة الواقع والحياة وانكساراتها المروعة، التي أصابت كل شيء فيها انطلاقا من وعي يرى في الكتابة تمثلا وتمثيلا حيا لقضايا الحياة والإنسان في أكثر حالاتها اختلالا ومأساوية تحت وقع العنف وسلطة الغرائز المنفلتة الذي تعيشه، ما يفرغ الحياة والوجود الإنساني من كل قيمة ومعنى. إن القارئ لهذه التجربة يستطيع أن يتوقف عند جملة من العلامات المشتركة التي تمنح هذه التجربة هويتها سواء على مستوى شعرية اللغة المكثفة والموحية أو المنظور السردي وعلاقته بشخصية البطل/ السارد وما يضفيه من حميمة على العلاقة مع القارئ من خلال إلغاء المسافة بينه وبين المتلقي ما يجعل حضور الراوي والقارئ مشتركا في شخصية السارد، أوعلى مستوى وظيفة العنونة ووحدة البنية السردية التي تتمثل في علاقة جملة الاستهلال أو العتبة السردية مع خواتيم السرد في هذه التجربة.
العنوان كعلامة دالة
تنبع أهمية العنوان من وظائفه التي يقوم بها، وهي التعيين والإغراء والإيحاء والوصف وفق ما يحدده لها جيرار جينيت Gérard Genette في كتابه العتبات. لكن هذه الوظائف تتجلى أكثر من خلال العلاقة الإحالية المتبادلة بين العنوان والمتن السردي، والتي تجعل بنية العنوان ودلالته لا تنفصلان عن بنية العمل، الأمر الذي يجعل هذه العنونة تلعب دورا مهما في خلق أفق التوقع والتعريف بالعمل ومقاصده أو تأويله. وتظهر أهميته أكثر من حيث كونه صلة الوصل الأولى والمباشرة مع القارئ. تتميز عناوين أعمال الزين على مستوى بنيتها اللغوية باقتصادها اللغوي الشديد، الذي يجعلها تتألف أحيانا من كلمة واحدة،(الطيون – العرافة)، أو من جملة إسمية (معبر الندم- صحبة الطير- بريد الغروب- حافة النسيان- خربة النواح- ميراث نوح). إن هذه السمات القارة للعنوان على مستويي البنية اللغوية والنحوية تلتقي مع بنيتها الدلالية فهي تحمل في الغالب دلالات مكانية أو أسماء أو صفات لكنها جميعا تنطوي في بنيتها النحوية على حذف مبتدئها بقصد إضفاء نوع من الغموض عليها. إن البنية الاستعارية لأغلب هذه العناوين والتي تتعالق من خلالها مع لغة السرد الشعرية تكشف عن التكثيف الدلالي الوحي والكثافة البلاغية للعنوان ودور ذلك في اجتذاب القارئ واستدراجه إلى داخل النص السردي لمعرفة دلالاته، الأمر الذي يكشف عن أهمية العنونة في عملية التلقي وعن المقاصد التي يتم على أساسها اختيار هذه العنونة من طرف الكاتب.
في هذه المقاربة سنحاول دراسة الوظيفة التي تقوم بها جملة الاستهلال أو العتبة السردية من حيث دورها في التأسيس للحكي والكشف عن رؤية الكاتب من جهة، وفي علاقة الاتصال التي تقيمها مع القارئ وقدرتها على اجتذابه وشد انتباهه للدخول في مغامرة القراءة. كذلك تظهر أهمية هذه العتبة السردية على صعيد علاقتها بخواتيم العمل السردي ودور ذلك في تحقيق وحدة هذا العمل السردي أو العكس، إذ يمكن أن تكون بعض الخواتيم غير متطابقة مع جملة الاستهلال أو البداية كما يؤكد على ذلك الشكلانيون الروس في دراستهم لهذه العلاقة بقصد خلق صدم القارئ من خلال عنصر المفارقة الذي تنطوي عليه. إن جملة الاستهلال التي ترتبط ارتباطا مباشرا بشخصية السارد في الرواية تمثل البؤرة المركزية في هذا العمل الروائي حيث سيتفرع عنها مجموعة من البؤر الأخرى التي تشكل مجموع البنية السردية للعمل الروائي.
تتوزع جملة الاستهلال عند الدارسين على ثلاثة أنواع هي الجملة التي تهتم بتحديد المكان والزمان في الرواية وتكون وظيفتها وصف المكان لوضع القارئ في إطار المكان الذي ستجري فيه أحداث الرواية والإيحاء بواقعيته من خلال التفاصيل التي يقدمها الوصف له، ولما كان لا مكان دون زمان والعكس صحيح فإن العتبة المكانية هي عتبة زمانية في آن معا. أما النوع الثاني من جملة الاستهلال فتعنى بشرح فكرة الرواية، في حين يلجأ النوع الثالث من جمل الاستهلال إلى اقتحام عالم الرواية دون الاهتمام بمكان أو زمان الرواية أو فكرته المحورية ما يدخل القارئ مباشرة في صلب أحداثها ووقائعها. لكن هناك نوعا آخر من جملة الاستهلال هو الجملة تهتم بتقديم شخصية بطل الرواية والتعريف بها وقد تنطوي جملة الاستهلال أو العتبة على وصف المكان وتقديم شخصية بطل الرواية معا، كما سنجد ذلك واضحا في أكثر من رواية من روايات الكاتب.
إن أهمية جملة الاستهلال في السرد الروائي تنبع من كونها العتبة التي يمكن للقارئ من خلالها أن يطل على عالم الرواية السردي إضافة إلى ارتباطها ارتباطا مباشرا بضمير المتكلم أو بطل الرواية ما يجعل وجهة النظر التي ستقدم من خلالها الأحداث والشخصيات ترتبط ارتباطا مباشرا بهذا الموقع الذي يحتله/ البطل السارد في أحداث الرواية. لذلك يتسم السرد في هذه الأعمال بأنه سرد ذاتي يحاول من خلاله البطل/ السارد تقديم رؤية موضوعية للواقع تتداخل في كثير من الأحيان مع الرؤية الذاتية التحليلية، والتي تتجلى في ما يعيشه البطل من مشاعر وأحداث وتداعيات وأخيلة. وتزداد أهمية هذه العتبة السردية من خلال قدرتها على إدخال القارئ في عالم الرواية أو علاقتها بخواتيمها ما يكشف عن تماسك بنية السرد ووحدته وعن الرؤية التي تقدمها الرواية أو الراوي للعالم. لذلك سنتناول في هذه المقاربة الوظائف التي تقوم بها جملة الاستهلال أو العتبات السردية في رواية العرافة وثلاثية عبد الجليل الغزال (حافة النسيان- صحبة الطير- بريد الغروب) إضافة إلى علاقتها مع خواتيم هذه الأعمال وما يشي به ذلك من دلالات وما يحققه من وظائف.
في رواية العرافة (دار الساقي 2017) يتولى السارد/ البطل في عتبة السرد أو جملة الاستهلال تقديم نفسه وتعريف القارئ بها (اسمي سهيل العطار من مدينة طرابلس، يعود نسبي إلى سلالة من العطارين، كان آخرهم شهاب العطار جدّ والدي الذي أحمل اسمه، كان هذا الجد صاحب مزاج إضافة إلى تجارته في العطور والأقمشة، يعرف كيف يستخلص روح العطر لنساء المدينة، فكان يمزج زهر الليمون وزهر الياسمين والبنفسج ويضع هذا المزيج مع عيدان خشب الصندل الذي كان يحمله معه من الهند..).
إن محورية هذه الشخصية في الرواية ستجعل تطور أحداثها يرتبط ارتباطا مباشرا بتطور هذه الشخصية وحركتها في المكان، ولذلك فإن أهمية هذه العتبة السردية تتمثل في كونها تشكل البؤرة السردية الأولى التي سوف تتفرع منها بؤر السرد الأخرى في الرواية، ما يجعلها ترتبط ارتباطا مباشرا بشخصية السارد/ البطل وتتحول إلى عنصر مهيمن وظيفته التعريف بهذه الشخصية، الأمر الذي يجعل القارئ يكتسب معرفة خاصة بها وبالخلفية التي تستند إليها في علاقتها مع العالم، وهو ما سنجده ماثلا في الفضاء الشاعري الذي تتحرك فيه هذه الشخصية وفي العلاقة التي ستنسجها مع العالم الذي يحيط بها من غناء وموسيقى وفلسفة وجمال سيظل مسكونا به ومشدودا إليه بوصفها نافذة الروح التي تطل منها على الحياة والعالم . وفي حين تبدو جملة الاستهلال مستغرقة في التعريف بشخصية البطل/ السارد في هذه الرواية فإن جملة النهاية أو خاتمة الرواية تعنى من خلال لعبة التخييل باستحضار الدلالات العميقة للجمال الذي تشكل الموسيقى والمرأة بؤرته باعتباره أجمل ما يمكن أن تنطوي عليه نهايات الرحيل من مشاهد في هذه الحياة (سمعت صوت الكمان يتسرب من بيت، هنا في رأس بيروت حين رفعت رأسي شاهدت نافذة مضاءة في ليل المدينة وطيف فتاة يظهر ويختفي خلف ستارة شفيفة من الموسلين. حانية كانت كحورية فتية وخدها لصيق آلة الكمان. أضاء الصوت الجهة المعتمة من الرحيل. انحنى الزمان كالقوس فملت برأسي جهة القلب).
وتظهر العلاقة الوثيقة بين جملة البداية وجملة النهاية من خلال التاريخ الخاص الذي تقدمه الرواية لشخصية البطل/ السارد في رحلته من الطفولة وحتى ما قبل الرحيل الأخير، لكنه تاريخ يتداخل فيه الخاص مع العام كما تتداخل فيه الأمكنة الممتدة من العراق إلى طرابلس وبيروت ومدن أوروبية أخرى، ما يدل على وحدة العالم السردي وترابطه وعلى تعدد البؤر السردية، التي تتوالد من بؤرة جملة الاستهلال مع تطور أحداث الرواية الذي يصاحب حركة البطل في المكان الذي تمتلئ الرواية به، وعلاقتها بالشخصيات الروائية التي ترافق هذا الانتقال والحركة في المكان باعتبارها تمثل أنماط وعي ثقافي واجتماعي مختلفة.
لكن جملة الاستهلال أو العتبة السردية في رواية حافة النسيان من ثلاثية عبد الجليل الغزال (دار الساقي 2010) سوف تحاول وصف المكان الذي ستجري فيه الأحداث بوصفه البؤرة الضرورية التي تؤسس للسرد وتنهض به ما يكسب القارئ معرفة بالمكان الذي ستجري فيه أحداث الرواية وما تنطوي عليه العلاقة المتبادلة بينه وبين شخصية بطل الرواية من تأثير وما يولد من أخيلة وأفكار سنجد أثرها واضحا في وصف بطل الرواية لهذه العلاقة (لا شيء يتبدل هنا والذي يحرك سكونية الزمن ويغير في المكان، هو صدف كصدفة حياتي، وسعيي وعبوري فيهما. لا شيء يتبدل هنا سوى ما تفعله الريح في إعادة تأليف الكثبان، تمحو وتؤلف مثلما محوت وكتبت قصائد الهوى لهدى في وادي أبو جميل في بيروت في تلك الأيام. ولاحظت أنه بدأت تنتابني لحظات تأمل خاطفة تسرقني من الذي أنا فيه. كمسألة تفكيري بلعبة الزمن أو بفعل التشبيه الذي قمت به بين الكتابة والمحو وفعل النسائم في الكثيب المتثائب أمامي كامرأة ضحوية). تتميز جملة الاستهلال هنا في تحديد المكان الصحراوي الذي ستبدأ منه أحداث الرواية، ولما كان السارد هو بطل الرواية فإن جملة الاستهلال ترتبط به ارتباطا مباشرا، ما يجعل الرؤية السردية أو وجهة النظر في هذه الرواية ترتبط بهذه الشخصية نظرا للموقع الذي تحتله في عالم الرواية وعلاقتها بالأحداث التي ستظل تدور حولها. إن أهمية هذه العتبة السردية أنها تتجاوز وصف المكان إلى ما يولده عند بطل الرواية من تداعيات وصور ذات دلالة تنقلنا بين زمنين ومكانين مختلفين تماما إلى درجة التناقض ما يجعل القارئ يتعرف أكثر إلى هذه الشخصية التي ستلعب دور البطولة والسارد في هذه الرواية.
وتأتي جملة الختام على شكل تداعيات من زمن الطفولة تحمل دلالاتها الخاصة حول علاقة شخصية البطل/السارد بالمكان والرحيل والفقد، ما يظهر علاقة الترابط القائمة بين جملة الاستهلال وجملة الختام على مستوى وحدة العالم السردي للرواية، فالسارد/ البطل الذي وجدناه في جملة الاستهلال يواجه مصيره وحيدا في عالم صحراوي تلعب فيه الريح وتستدعي عنده ذكريات قديمة هو نفسه الشخص الذي يعود إلى زمن الطفولة وعلاقتها بالمكان وما يولده ذلك من رغبة وشوق ونداءات لاختراق حدود المكان وراء البعيد والغامض (وعوى في سمعي صدى صوت آخر عتيق كان ينتزعني أيام طفولتي من الدار لأجري خلفه أو بمحاذاته وصبية أشقياء في غباشات أيام بعيدة. كنت أقف على سطح البيت وأتابع فلوله وهو ينفث دخانه حزاما أسود ينداح وراءه ويتلاشى تدريجيا ويغيب في الأفق ويغيب معه الصوت. إنه القطار… كان يترك في نفسي رغبة ما ونوعا من القهر صار لاحقا نوعا من الشجن والإحساس بالفراق..، زاولت عرجي).
وتحضر الصحراء مرة أخرى في جملة الاستهلال التي تؤسس للحكي في رواية صحبة الطير(دار الساقي 2010) كما يظهر ارتباطها المباشر بشخصية السارد/البطل الذي يبدأ بوصف المكان الذي ستنطلق منه أحداث الرواية ووصف علاقته به للدلالة ليس بوصفه المكان الذي ستجري فيه أحداث الرواية وحسب بل لإبراز أثره في مغامرة السرد باعتباره عنصرا فاعلا ومؤثرا فيها، ما يكشف عن ارتباط هذه العتبة السردية ارتباطا مباشرا بشخصية البطل/ السارد في هذه الرواية، ويبرز الموقع الذي يحتله الراوي/ البطل في السرد الحكائي وأحداثه (تثاءبت الصحراء. تمادت في الوحشة. عزّ عليّ ما أنا فيه. كنت مكوما كصرّة من أسمال بالية، هكذا بدوت لنفسي وأنا مستسلم لهبوب خفيف، محمل برائحة المطر، وبالقرب مني صاحبي، كلبين رفيق متاهتي زائغ في السراب يختلط اطمئنانه بحذر مباغت).
وعلى عكس جملة الاستهلال التي كانت وصفا مكثفا وموحيا للمكان تأتي جملة الختام أو النهاية في هذه الرواية على شكل ديالوغ يعكس الحالة النفسية التي يعيشها بطل الرواية وتداعياتها العميقة وهو يواجه مصيره الحزين. إن هذا الشجو المصاحب للنواح وما يوقظه في النفس من شعور عميق بالأسى هو تعبير عن علاقة هذه الشخصية بالعالم من خلال تجربتها التي عاشتها فيه بوصفه عالم ضياع وتشرد وفقد وخسارات وهو ما يعد ثيمة أساسًا في أكثر أعمال الكاتب التي صدرت حتى الآن وكأنه يرثي هذا العالم ويرثي معه شخوصه بوصفهم آخر من تبقى منه قبل أن يغرق كل شيء في هذا الواقع وتمحي فيه ذاكرة التاريخ وحيوات البشر الذين عاشوا ذكرياته وأحلام جيله المهزوم (جاءني صوتها من النسيان. أنا هنا يا جدتي في البادية حيث حملتني ذات يوم البغال من وادي الدموع. أنا هنا على باب الله كما كان يقول والدي عندما كنت أسأله لوين رايحين يا بيي يقول على باب الله. تذكرين يوم طلب منك غناء الفراقيات بعدما صعدنا غابة الصنوبر وكانت الحجال تفر هلعا من فرقعة حوافر البغال. كنت تمتطين بغلة مزينة في رقبتها طوق من الخرز الأزرق والأحمر والأصفر وقد خط جبهتها سطر من اللون الرمادي وأمي خلفنا على دابة أخرى، كانت تتنهد وتعد ما نسيته في البيت من حاجات وآنية وصور… لم تحمل معها سوى الحسرات. غني لي يا جدتي كي أغفو مرة أخرى على نهايات هذا العالم غني لي غني.. غني. وغنت جدتي ونوحت كعادتها…..). إن هذا الشعور بالحزن والوجع والفقد والحسرة يعد البؤرة التي تتكثف فيها تجربة حياة بطل الرواية، وليست التداعيات التي تحضره في هذه العلاقة سوى تعبير عن الشجن والأسى المستوطن في أعماق هذه الشخصية في علاقتها بالعالم الذي يتسم بالقسوة والضياع والخوف.
ولا تختلف جملة الاستهلال في رواية بريد الغروب (دار الساقي 2014) عن جملة الاستهلال في الجزءين السابقين، فالجملة المكانية التي تعني بوصف المكان وتقوم بوظيفة تأسيس السرد والنهوض به في هذه الرواية تختلف عن المكان الصحراوي الذي يتسم بالسكون والضياع وتغيب عنه الأسماء، فهو في هذه الرواية ساحة حرب حقيقية يجري تعيينها وتسميتها ووصف عصف القذائف فيها. لكن بطل الرواية/ السارد هنا -على خلاف شخصيات رواياته الأخرى- هو شخص أعمى يغرق في ظلمة نفسه وفي ظلمة المكان من حوله من هول ما يتساقط من قذائف عليه. وكما لاحظنا في جمل الاستهلال السابقة فإن ثمة ارتباط بين هذه الجملة وشخصية السارد/البطل بسبب ارتباط أحداث الرواية به ما يجعلها تضع القارئ في أفق العمل الروائي وتدخله فيه. إن هذه العتبة السردية هي بؤرة السرد الأولى تتفرع عنها مجموعة من البؤر السردية والمحاور الأخرى تشكل في ما بينها نسيج البنية السردية للرواية (كانت ليلة عاصفة عمياء كعيني. نعم هناك ليلة عمياء أشدّ من عماي بحيث يبدو كل شيء يرتطم بكل شيء. كائنات وأشياء وأرواح تتصادم بعشوائية وتزعق في أقصى الألم. وكان من الصعب عليّ أن أفرق بين دوي القذائف وصوت الرعد. يبدو لي أن القذائف ترتطم “ببرج المر” على كيف “وادي أبو جميل” في هذه المدينة بيروت. بيروت أشياء كثيرة تتبدل فيها وأشياء كثيرة تزول).
ويظهر الترابط والوحدة بين جملة الختام وجملة الاستهلال من خلال وحدة المعاناة التي يعيشها بطل الرواية في هذا المكان البيروتي الذي تحول بفعل الحرب إلى جحيم يأكل الأخضر والبشر معا. إن هذا الوصف المخيف الذي يقدمه بطل الرواية للمكان وعلاقته به يدلل على علاقة التقابل الضدية المعبرة عن رؤية البطل للمكان الجحيمي الذي تمثله المدينة بيروت والمكان الريفي الذي تمثله نجاة في خياله الذي يستدعي صورتها وكأنه يفر من هذا الجحيم إلى الماضي أو ذلك المكان الريفي النقيض بوصفه حاجة تستدعي قسوة الحاضر ورعبه وخرابه.( أكلتني وأكلت كل ما فيّ. لم تعش في بدني. كان هشا يابسا كحطبها المفلَّع من الجفاف. كلانا رحم الآخر في الاحتراق وهذا نادر في الزمان. صرت والحطب كوم رماد. شاهدت موسى يعود الدرب نزولا يجرّ الدابتين نحو الدير. كانت مريم تهدهد موسى ابنها وترضعه ساهمة في سرب من الطير يعبر السماء هو الذي أراه من هنا. ونجاة تطعم الجديين طرابين خضراء. في الليل هب الهواء وطير رمادي نحو الغابة تساقطت على الأغصان كنفناف تساقط بعضي على أجنحة طيور هاجعة في الشجر. لم أشعر بالرماد.. زاولت غفوتها وزاولت فنائي).
إن استراتيجية الكتابة السردية في هذه التجربة وما تهجس به فكريا وجماليا يظل حاضرا على امتداد السرد وبؤره التي تتفرع عن جملة الاستهلال وصولا إلى جملة الختام التي تجعل هذا السرد يتحرك بين قطبين كما تتحرك حياة شخصياته في هذا العالم الموحش والمسكون بالخسارات والألم والفقد. لذلك تلعب جملة الاستهلال أو العتبة السردية والتي تسمى بفن البدايات دورا هاما ومركزيا في التأسيس لهذه العوالم السردية وما تريد أن تقوله في هذه التجربة، وفي ما تحاول أن تقدمه به من معرفة بهدف وضع القارئ وإدخاله في عالم الرواية. وتتعزز أهمية هذه الدور من خلال ارتباط هذه العتبة بشخصية السارد/ البطل الذي ترتبط به ارتباطا مباشرا أحداث الرواية. كذلك تتسم هذه الاستراتيجية باشتغالها على ترابط ووحدة العالم الروائي وخطه السردي الذي يصل البدايات بخواتيم في هذه الأعمال التي تبحث عن الإنسان كقيمة ضائعة ومختطفة في عالم يحكمه الضياع والعنف والقهر والخراب.