يائير حوري
ترجمة: ربيع ردمان *
المدينة، بوصفها شكلا فنيا يبحث عن الكمال، تمثِّل أساسا جوهريا تَستمدُّ منه التَّجربة الإنسانية فعاليتها وترسم مسارها على نطاق واسع. والواقع أنه ظل يُنظر إلى عواصم الثقافة منذ فترة طويلة كرموزٍ يَستوحي منها الكُتَّابُ شرعيَّةَ نِضَالهم من أجل السُّلطة الثقافية.
(Desmond Harding, Writing the City: Urban Visions & Literary Modernism)
صنعاء لها وجهُ قدِّيسةٍ
ولسانُ حَكيم
وصوتُ شَهيد
وعواطفُ شاعر
(عبد العزيز المقالح، كتاب صنعاء)
استقبل الكثير من النقاد “كتاب صنعاء” الصادر عام 2000 بحفاوة نقدية واسعة. إن استخدام عبد العزيز المقالح الفاتن للغة الشعرية الرفيعة، واستغلاله الفريد لمنظر المدينة، وإعجابه بمدينته، كان باعثا للاهتمام النقدي الكبير بالشاعر بوصفه صوتا شعريا مُتميِّزا(1).
تتناول هذه المقالة “كتاب صنعاء” الذي يمثل منعطفا مهما في تجربة المقالح الشعرية وتسعى إلى تعيين بعض جوانب شعريته المتميزة وتحديد رؤيته الفنية الخاصة على نحو ما تجلّت في هذه المجموعة الشعرية. وللقيام بذلك سأتبنّى استراتيجيةَ القراءة التي اقترحها الباحثان وليام شارب William Sharpe وليونارد والاك Leonard Wallock، اللذان أكدا أن «إحدى أكثر الطرق نجاعة لدراسة المدينة أن يتم تصوّر المظهر الحضري بوصفه شكلا مناظرا لشكل التأليف الأدبي»(2). أؤكد أولا أن “كتاب صنعاء” لا ينحصر في كونه مجرد تمجيد للمدينة ومعالمها، كما ذهب إلى ذلك معظم النّقاد. وفي تقديري، إن اختيار المدينة كمحور ارتكاز لهذه المجموعة الشعرية لا يخلو قطعا من دلالة مجازية. وأريد بكلمة “مجاز” أن النص الشعري ينطوي على مستويات أو طبقات متعددة من المعنى ، وأن المعنى المباشر الحرفي هو مجرّد عتبة أولى إلى المعنى الدقيق أو الأعمق للقصيدة(3). يعمد المقالح بوصفه شاعرا حداثيا إلى توظيف المظهر الحضري لمدينة صنعاء في المقام الأول للتعبير عن تأملاته في العملية الإبداعية. وبصفته شاعرا حداثيا يكتب بأسلوب مركّب يُضافر فيه بين المشاهد الواقعية وغير الواقعية في حين يضفي على قصائد المجموعة طابعا صوفيا؛ “صوفيا” بمعنى أن المتكلم يُؤالِف بتواصلٍ حميم بين تأمله الخاصّ في إبداعه الأدبي ورصده لمناظر المدينة. كما تتجلى حداثية المقالح في اللاخطية الزمانية الواعية بذاتها في النص الشعري؛ فـ”السرد” يثب من الماضي إلى الحاضر ثم يعود ثانية بحيث يفيد الشاعر إفادة تامة من الأساطير والتخييلات الدينية في الكشف عن تأملات أناه المنعكسة على جوهر فَنِّهِ(4).
عُرِف عبد العزيز المقالح كشاعر حداثي بارز في اليمن، ثم كباحث أدبي متميِّز امتد تأثيره إلى ما وراء حدود بلاده. ولد المقالح عام 1937 في قرية “الصول” بمحافظة إب جنوب صنعاء، وانحصر تعليمه الأساسي في كُتّاب القرية(5). ثم أُرسل إلى صنعاء لمواصلة تعليمه الثانوي فانضم إلى المدرسة العلمية. سافر المقالح بعد ذلك إلى القاهرة للالتحاق بجامعة عين شمس حيث أنهى فيها دراسته للدكتوراه. وتُعدُّ أطروحته دراسة ًاستقصائيةً رائدة يتتبع فيها ويستكشف مسار الشِّعر اليمني الحديث وتطوره. وأصبح المقالح بُعيد عودته إلى بلاده منشغلا إلى حَدٍ كبير بالحياة الأدبية في اليمن. وبالإضافة إلى مسيرته المرموقة كشاعرٍ وباحثٍ، ترأس مركز البحوث والدراسات اليمنية بصنعاء وعمل رئيسا لجامعة صنعاء. وفي عام 1986 منح جائزة لوتس للأدب التابعة لاتحاد الكتاب الإفريقي الآسيوي، كما عمل مستشارا ثقافيا للرئيس اليمني. يعتبر المقالح شاعرا وكاتبا غزير الإنتاج نشر له ما يقرب من خمسة عشر ديوانا شعريا وأكثر من أربعة عشر من الكتب والدراسات في مجال الأدب العربي شعره ونثره.
يتكشّف “كتاب صنعاء” في شكل أمثولة خيالية؛ تصوير حَسَن الوقع وحالم موشَّى بالإيحاءات المجازية الآسرة. تضم المجموعة خمسا وستين قصيدة كُتب معظمها على نمط الشِّعر الحر (يستخدم المقالح في المقام الأول تفاعيل بحري المتقارب والمتدارك الشعريين)، بينما جاء بعضها الآخر من غير وزن. تنقسم كل قصيدة في المجموعة إلى مقطعين شعريين طويلين. وفي معظم قصائد المجموعة يتضمن أحد المقطعين الشعريين تصويرا مُتَعيِّنا للمدينة؛ فالمتكلم يولي اهتماما دقيقا ومضنيا لكل التفصيلات المتناهية الصغر من المدينة الواقعية، إنها مدينة تتأرجح دون انقطاع بين الرتابة والصخب، بين السأم والحماسة. ومما تجدر ملاحظته أن المقالح على خلاف معظم الشعراء الحداثيين العرب الذين ينظرون إلى المدينة عموما بوصفها طاردة وهدّامة، فالمدينة لدى المقالح هي رمز للتَجَذُّر، وفي تمجيده المُطوَّل والمستغرق للعاصمة اليمنية يُصوُّرها كمكان مفعم بالحيوية، ومع ذلك فهو مبهج للعقل والقلب.
وبالمقابل، في الضرب الثاني من المقطع الشعري تتوارى العاصمة صنعاء كواقع مادي ملموس، وتحتل مكانها في تصاعد متزايد صورُ المدن الأكثر أضواء وشهرةً. وعلى الرغم من تفصيلات المدينة المجسدة وجانبها الحضري المدهش بشكل لا تخطئه العين إلا أنها تبدو مع ذلك تحت سيطرة قوة روحيَّة مُبْهَمة يجدها الشَّاعرُ شديدة الإغواء ومُغرية. وغالبا ما تأتي المناظر الحضرية من خلال الاستبطان الذاتي كوسيلة لتسليط الضوء على عزلة المُتكلّم، فهو فرد مُتَوحِّد يستكشف منظر المدينة ويضفّر المشاهد بتأملاته المُنْعكسة على العملية الإبداعية.
خلال هذه العملية، يجد القارئُ نفسَه إزاء استقصاء مجرد بدرجة عالية لمحتويات المدينة. تعمل استراتيجية المقالح في هذه المقاطع الشعرية على عدة مستويات مختلفة؛ إذ تستخدم معالم المدينة بوصفها كينونات “شِّعرية” تستحوذ على الرُّوح الحقيقية للمدينة. ويغدو موقف الشاعر تجاه المدينة متمثلا في جانبٍ واحد هو السعي إلى استكشاف تلك المظاهر الخفية، كما تحتل تيمة “مدينة الروح” بشكلٍ متدرّج مكانةً راجحةً في هذه المجموعة الشعرية. بالإضافة إلى الشعور بالتّسامي والتصورات الغيبية اللذين يعملان على دعم تأملات الشاعر التي تتخلل بصورةٍ ملحوظةٍ هذه المقاطع الشعرية. ونتيجة لذلك، فكلّ شيءٍ مُتَعَيِّنٍ في المدينة يغدو روحا وتجليا واضحا من تجليات قوةٍ عليا.
تتبدى السِّماتُ الصوفية للمدينة حتى في القصيدة الاستهلالية في الكتاب، حيث يشبّه المقالح المدينة بامرأة:
كانت امرأة
هبطتْ من ثياب الندى
هطلت
ثم صارت قصيدة
هي عاصمةُ الروح
أبوابها سبعةٌ
– والفراديس أبوابها سبعةٌ
كلُّ بابٍ يحقق أمنيةً للغريب
ومن أيّ بابٍ دخلتَ
سلامٌ عليك
سلامٌ على بلدةٍ
طيّبٌ ماؤها طيبٌ
في الشتاءات صحوٌ أليفُ
وفي الصيف قيظٌ خفيف…..
(مكة عاصمة القرآن،
باريس عاصمة الفن،
لندن عاصمة الاقتصاد،
واشنطن عاصمة القوة،
القاهرة عاصمة التاريخ،
بغداد عاصمة الشعر،
دمشق عاصمة الورد،
وصنعاء عاصمة الروح) (6).
تُشكّل ثيمة المدينة بوصفها امرأة ينظر إليها سكانُها بإعجابٍ حينا وبرهبةٍ حينا آخر، محورا أساسيا في القصيدة. وتُبْرز استعارةُ المقالح للمدينة كامرأة التَّصوّرَ اليُونغي Jungian الذي يَنظر إلى المدينة كرمزٍ للأم وللأصل الأنثوي بشكل عام. يقتفي المقالح خطى أدونيس في تصوير المدينة ككيانٍ أنثويٍ غامض، يصور الشاعر السوري أدونيس، في القصيدة الثانية “دمشق” من مجموعته “المسرح والمرايا” (1968)، المدينةَ كامرأة، ويصف عمليته الإبداعية بكونها تفاعلا ماديا بينه وبينها:
أومأتِ
جئتُ إليك مثل حنجرة يتيمة
أَقتاتُ،أنسج صوتها الشَّفقي من لغةٍ رجيمة
فالكون من ورق وريح
ودمشق سرّة ياسمين
حبلى
تمدّ أريجها
سقفا
وتنتظر الجنين(7).
يجسّد السَّطر الأخير من قصيدة المقالح شعريةَ إضفاء الطابع المكاني spatialization كما عُبر عنها في هذه المجموعة الشعرية؛ إذ تأتي تأملاتُ الشاعر متداخلةً مع مكنون مشاعره الشخصية. ومن تداخلها يبرز “تراسل الحواس” الفعّال الذي من خلاله يحقق رصدُ جلالِ الأشياء الخارجية دوره كقناة في نقل سلسلة كاملة من انفعالات الذات الشاعرة التي تمتد من الأناة إلى العاطفة المُتَّقدة. وبداية من القصيدة الاستهلالية للكتاب ستتحول المدينة إلى مزيجٍ من الأشياء المُتعيِّنة وابتكارات خيال الشاعر المدهش؛ إذ ستصطبغ تأملاته بنزعته الجمالية الحالمة فيما سيختار طريقة ذات بعد تبادلي بحيث تسِمُ المدينة جهوده الإبداعية بميسمٍ يتعذر محوه وتعمل في الوقت نفسه كصورةٍ مرآويةٍ مثالية لتلافيف ذهنه الفريد. يستخدم المقالح صورا فردوسيَّة لالتقاط روح المدينة كما يتصوّرها هو. وما المقطع الشعري الأول إلا ملخص تفسيري للسَّرد الجَنَّاتي Edenic narrative كما يظهر في القرآن الكريم، وبشكلٍ خاص في سورة الزمر: }وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ{ (٧٣).
وتجدر الإشارة إلى أن الاستراتيجية الشعرية التي تبناها المقالح قد استخدمت على نحوٍ واسع في الشعر الغربي. وفي إطار مناقشة صورة المدينة في الشعر الحضري الأميريكي والأوروبي يُحدِّد الناقد الأدبي كريستيان فيرسلايس Kristiaan Versluys اللعبة الشعرية بأن “مدينة الروح” تُشكّلها عينا شاعرها باستخدام التخيلات الدينية:
«إنِّها عالمٌ تسكنه الأبدية، ذلك العالم الذي يتجلى عند مستوى الإدراك الباطني الذي يتشاطره الناس على مر الأجيال وفي مختلف الأصقاع. وبهذه الصفة فهي لوحة فنية معبرة تجسد تعبير إيمرسون عن “الروح السامية”. إنها ترسي لقاعدة وصل ونقطة التقاء بين الأجيال، وتعكس حقيقة أن اللذة تنقل المتأملين إلى حالة من الشعور الديني المشترك، حالة تبتهج فيها روح الجميع بالجمال اللامحدود للعالم المحيط، قبل أن تتماهى في ينبوع جماعي من الإعجاب الروحاني […] إنه عبور بطيء يتمُّ من خلال العديد من حالات التكرار للموتيفات نفسها، بدءا من مظهر الأشياء المتشظية – سطح الكيانات الحضرية – وصولا إلى جوهرها الموحّد والباطني. وبهذا المعنى، فالقصيدة تحكي قصةَ النَّقاء، وتحرير الحواس والتَّرويح عن الضمير الذي يجعل من التَّلذذ الروحاني بمنظر المدينة أمرا ممكنا. وبعبارة أخرى، فالتلذذ الروحاني لا يُعطى، وإنما لا بد أن يُكتسب»(8).
في الواقع يبدو أن بعض قصائد الكتاب تعبِّر عن نزعة صوفية على نحو ما تتجلّى في كِتَابات جلال الدين الرُّومي وأسلافه في النظر إلى الرحلة بوصفها رحلةً إلى “مدينة الله”(9) من جهةٍ، ورحلةً لاستكشاف الذات من جهةٍ أخرى (تباعد عن ذاتك/ فمثل هذه الرحلة/ سوف تقودك إلى ذاتك) إنِّها رحلةٌ نحو “البيت العتيق” على حد تعبير آن ماري شيمل في دراستها لقصائد الرُّومي(10).
ومع ذلك، وكما أسلفنا، فالمقالح لا يستخدم منظر المدينة لمجرد إبراز معنى التأمل والطبيعة الخارقة أو لإثارة شعور “بالاتحاد الروحاني” بين الذات الشاعرة والمدينة التي تقطنها. وكذلك لا يسعى إلى أن يصوِّر المدينة كفضاءٍ مشبعٍ بجوٍ روحي أو لمجرد أن يطبعها بهالة مقدسة، بل عمد إلى توظيف منظر المدينة ليفيد منه في التأمل الذاتي في طبيعة اللغة الشعرية. في “القصيدة الرابعة والعشرين” يضع الشاعر أمامنا مدينتين متجاورتين: مدينة “متخيلة” أو “شعرية”، وأخرى يقدِّمها على أنها واقعية وخيالية في الوقت نفسه:
ذات حلمٍ
هبطت على سلمٍ من أساطير
محفورةٍ في ضمير الزمان
رأيتُ بيوتا من الضوء
أعمدةً من نهارٍ بهيجٍ
وأسواق من فضةٍ
وشوارع من ذهبٍ
قيل لي: تلك صنعاءُ….
إنَّ صنعاء غير التي في دمي
لا يراها سوى الحلم، نافرةً،
ولها جسدان وشمسان
فاهبطْ على سلّمٍ من مرايا الحروف
وصفِّقْ إذا ما وصلتَ أقاصي المدينةْ.
(تحت صنعاء مدن كثيرة متعددة الأسماء،
اغتالتها أصابع الزمن
ذات يومٍ صرخ أحد السوّاح:
صنعاء تنام تحت صنعاء
بدأ الحفر بأظافره
وجد سلّما من الرخام
يؤدي إلى غرفٍ ذات ضوءٍ صاعق
وإلى سلالم مغطاةٍ بسجاجيد ناعمةٍ
في واحدةٍ من هذه الغرف
رأى مسرجة من المرمر الأبيض
كانت تتحدث بلغةٍ لا يفهمها
ورأى أشخاصا نائمين
يتأهبون للصحو
وبجوارهم سيوف من الذهب الخالص
وقبل أن يسعفه الجنون
كان في طريقه إلى المطار) (11).
تنشُد الذات الشاعرة استكشاف اللغة عبر مستوى اللاشعور حيث، وكما يلاحظ جاك لاكان، أن «وظيفة اللغة ليست الإبلاغ فحسب بل أيضا الاستحضار [إثارة التداعي]» (12). فالمدينة تغدو مسيجة بحلم المتكلم، ومن ثم تُزَوِّدُه بنقطة ارتكاز لعرض فكرته عن الطَّاقة الخلَّاقة اللانهائية التي تنطوي عليها اللغة الشِّعرية. ولكي يصل المرء إلى عمق صنعاء “المُتَخيَّلة” – كما يقدِّمها المقطع الشعري الأول – ويعانق جوهرها فلا بد أن «يهبط على سلمٍ من مرايا الحروف». إنها مدينة أنشاتها بالكامل طاقة اللغة الخلَّاقة. فاللغة الشعرية، في نظر الشاعر، لا ينبغي أن تستخدم كأداة وصفية فحسب، بل بوصفها قوة إبداعية فعّالة. وتبعا لذلك، يناضل الشاعر لتأسيس ثنائيةٍ واضحةٍ بين المدينتين ويعلن بوضوح أن «صنعاء غير التي في دمي/ لا يراها سوى الحلم، نافرةً». فالقدرة على تصوُّر المدينة الحقيقية تُمنح فقط للشاعر العرّاف، لمستحضر الأرواح الذي يستغل الفعالية السِّحرية للكلمات ليخلق مدينةٍ مثالية ليست مشيّدة بالحجارة والفولاذ، وإنما مدينة من الكلمات. ومن ثم، يمكن قراءة المقطع الشعري كـ “سرد شارح” metanarrative، وكتعليق “مكاني شارح” metaspatial لطبيعة الفضاء التخييلي.
أما المقطع الشعري الثاني، فيبدأ بصورة لمشهدٍ يومي في المدينة “المُتعيِّنة” – سُيَّاح يزورون المدينة القديمة ويطيلون النظر إلى آثارها ومعالمها – سرعان ما تتحول إلى صورة مُشْبَعة بروح الواقعية السِّحرية. فالسَّائح الذي يرغب في استكشاف طبقات المدينة المختلفة ويكتشف “سلما من الرخام” (كما لو أنه على النقيض من “سلم من الحروف” في المقطع الأول) يجد نفسَه أمام مشهدٍ لا يُحتمل وقوعه؛ لقد رأى غرفا ذات ضوء مبهر تستضيف أجسادا مُسَجَّاة تتأهب للبعث من مراقدها. ومع أن هذا المشهد وقع في المدينة الواقعية، فيبدو أن المقالح مقتنع أنه لكي يُعبّر عن فَرَادَة المدينة، فيتوجب عليه أن يُؤَثِّل الطّبقة الواقعية بمجموعة من المشاهد الغاصة برؤى الأحلام الغريبة ليتسنى له تجاوز محدودية الوصف الطبيعي. إن نزوع الواقعي السِّحري نحو غير الواقعي يكشف، كما يقترح الناقد سكوت سيمبسون Scott Simpson عن:
«الوعي بقدرة الدلالة على الوصول – نقل المعلومات كاملة – كما يُستعمل السِّحرُ في تمويه تلك المحدوديات ذاتها […] فالواقعية السِّحرية تتعامل مع مشكلات الدلالة التي يتعذر تجنبها من خلال تقديم انطباع بالتفوق، إنه انزياح إضافي يبدو ظاهريا وكأنه بإدماجه للخيال يتحاشى محدوديات النص الواقعي ويتفادى إخفاقاته»(13). فالدمج غير الملتحم بين الواقعي والسِّحري والملموس والحالم يُحوِّل صنعاءَ المقالح إلى فضاءٍ غامضٍ ومُحيّر، كما يعبر في الوقت نفسه عن تأملات الشاعر الخاصة حول فعل الإبداع الشعري ذاته.
ينطبق وصفُ فارس W. B. Faris وزامورا L. P. Zamora في الغرض من استخدام الواقعية السحرية على قصيدة المقالح:
«الواقعية السِّحرية غالبا ما تتيح الاندماج أو إمكانية التجاور بين العوالم والفضاءات والأنساق التي يتعذر الجمع بينها في صِّيغ التخييل الأخرى. إن نزوع نصوص الواقعية السِّحرية للقبول بتعدد العوالم يعني انها تموقع نفسَها في الغالب على الحدود بين هذه العوالم أو ضمنها – في المناطق الظواهرية والروحية حيث التَّحول والانسلاخ والتفسخ أمرٌ مشترك، وحيث السِّحر فرعٌ من النِّزوع الطبيعي أو البراجماتي. ولذلك قد تعتبر الواقعية السحرية امتدادا للواقعية realism في اهتمامها بطبيعة الواقع وتمثيله representation […] فالعقل والجسد، الروح والمادة، الحياة والموت، والحقيقة والخيال، الذات والآخر، الذكر والأنثى: كل هذه حدود يمكن محوها، وانتهاكها، وتشويهها، ودمجها معا، أو إعادة صياغتها بصورة أساسية في نصوص الواقعية السِّحرية»(14).
يتجلى التهجين في الثيمتين الرئيسيتين – المدينة ورؤية الشاعر الفنية – التي تحكم بنية هذه المجموعة الشعرية، في التعبير المتواتر في ” القصيدة الرابعة عشرة”. تتضمن القصيدة مقطعين شعريين يمارس فيهما المقطع “الواقعي” تأثيره على المقطع “الشعري”:
حين جئتُ إلى الأرض
كانت معي في قماطي
وكنتُ أرى في حليب الصباح
بياض مآذنها
والقباب
وحين هجرتُ البلادَ،
ابتعدتُ
إلى قارةِ المسك
كانت معي
في القصائد مترعة بالغناء الكتوم
وفي الكتب المورقات بماء الأساطير
كنتُ أراها تسافر في الأبجديات…..
(من أين لكلماته اليابسة ماءٌ فتورق
مذ كان يجلس على مقاعد الفصل الثالث الابتدائي
وهو يحلم أن يناديها
أن يخاطب الغيمة الواقفة خلف الأسوار
أن يداعب بالقصيدة كل حصاةٍ ملونةٍ
على الرصيف
أن يشارك في كتابة الأغاني
التي ترددها الأزقة الضيقة)(15).
يؤكد المقطع الشعري الأول مجدّدا على الصِّلة الروحية الوثيقة بين المتكلم ومدينته. فالمدينة “الواقعية” رافقت المتكلم كطفل ولد ونشأ فيها. وحين اضطر إلى مغادرة موطنه، أخذتْ تلوح صورةٌ لمدينة مختلفة، مدينة شكَّلتها اللغة وهندسَتْ بنيانها: «كنتُ أراها تسافر في الأبجديات» على نحو ما يؤكد المتكلم. يختتم المقطع الشعري الأول بإعادة تأكيد فكرة أن المدينة هي المحكّ الأساسي في رؤية الشاعر وقدرته التعبيرية. غير أن هذه الخاتمة ستُشكّل نقطة جوهرية يشرع من خلالها الشاعر في التأمل الذاتي لإبداعه (المُنكفئ) كرسامٍ بالكلمات: «من أين لكلماته اليابسة ماء/ فتورق؟» فاستبدل حلم الشاعر الذي «يداعب بالقصيدة كلَّ حصاةٍ ملونة» برغبة الطفل في اللعب والاستمتاع بمواقع المدينة.
المدينة في المقطع الشعري الثاني شعرية تماما، صحيح أنه لم يتم ابتداعها من عدم، حيث تظهر بعض كياناتها المادية على شكل لوحات، ومع ذلك فهي مبتدعة بواسطة لغة الشاعر ومشيّدة من خلال قصائده. كما يُضفى على أشيائها الملموسة والمُتعيِّنة طابعا إنسانيا وبذلك فهي تشارك في إعادة الكتابة الشعرية للمدينة: «أن يشارك في كتابة الأغاني/ الأغاني التي ترددها الأزقة الضيقة». يستحضر المقالح ببراعة في هذه القصيدة “حالةً من الترقب والحساسية”، وكما يعبر فيرسلايس عن ذلك حين يناقش هذه التقنية الشعرية في الشعر الحضري:
«إن نفاذ الغموض إلى الواقع وتحويل المحفزات النفسية إلى جوٍ تسوده الألفة سمتان نموذجيتان للمدينة، حيث الشاعر محاط دوما بالإشارات والرموز، وحيث قد يبرز – في أي وقت ودونما سبب – وضعٌ محمّل بالإشارات يتخطى بكثير حدود ما قد يبدو للعيان. “فكل منعطفٍ في زاوية شارعٍ”، كما يفترض فيرسلايس، “قد يتيح احتمالات غير متناهية» (16).
في “القصيدة الثالثة والعشرين” حيث يتغاير المقطعان الشعريان مرة أخرى، يشحن المقالح الكلمات التي يشكّل بها قصائده بطاقة إبداعية خلاقة:
شاعرها يجد البحر – مضطربا تارةً،
هادئا تارةً –
في عيون الحبيبة “صنعاء”
(عبر الطرقات الجبلية
وعلى خيول الكلمات
جاءوا من شرفة القصيدة
انحدروا
وحفرت أشجانهم على مداخل المدينة
نيران شوقٍ لا تنطفئ
عانقوا الشوارع المضيئة بالتاريخ
ومثل حليب الأمهات الدافئ
شرب الناس قصائدهم
فأضاءت القلوبُ بالألم اللذيذ…. (17)
إن كلمات القصيدة، عند الشاعر، هي الكيان الوحيد الذي بوسعه تعيين المدينة. فضلا عن أنها تعيد كتابة تاريخها والكشف عن مشاعر الاكتئاب التي تنتاب المدينة وقاطنيها في بعض الأحيان. فكلماته، إذن، هي محاولة لاقتناص العابر، والشارد، والأطياف الغامضة. وبذلك، تغدو مدينة الشاعر تجسيدا لدفقته الشِّعرية، وذخيرةً ممتلئةً بالدلالات الخفية المُتَّسِقة في أعمق طبقات الروح. يرى فيرسلايس أن:
«اللغة تبرز واقعا، والواقع يعبر عن رؤية، والرؤية تخلق مزاجا، في حين أن المزاج يتيح طريقة محددة للنظر تُشكِّل بدورها الواقع وتلهم الشاعرَ في استخدامه لكلمات بديعة الجمال وفاتنة تتصادى بطريقةٍ سحرية»(18).
كما يتجلى تماثل المدينة مع المهارة الفنية للشاعر أيضا في “القصيدة الخامسة والخمسين” التي يتناول فيها سكان المدينة الموتى:
لا تلوموا غبار القصيدة
إن مدينتكم هي أولُ ما يقرأ الشعرُ
آخر ما يكتبُ الشعرُ
تغسلُ بالدمع وجه مدينتنا
ويديها
وتصافح – بالحزن – أكفانها والنعوشْ(19)
تكتسب الفكرة القائلة إن الأشياء المادية في المدينة “تكتب” تاريخها وتشكل بذلك جوهرها، حضورا مهما في “القصيدة الرابعة والثلاثين”. أما في هذه القصيدة، فيعمد المقالح إلى توظيف أسلوب التجسيد الشعري:
يكتب الحجرُ المتوهّج أشكاله
وامتداداته،
في الفضاء حنينٌ إلى الشرفات
قصورٌ من السرو
صفصافةٌ تتحدى النجومَ
بأوراقها
حجرٌ أبيض القسماتٍ،
وآخر أسودُ
يحتفلان بميلاد عاصمة
الروح….
ثم أقواس استيقظتْ
خرجتْ من غبار الزمن
وأعمدةٌ،
وقبابٌ،
وما ليس تُحصي القصائدُ
من حجرٍ مورقٍ،
وأساطيرُ آجرةٍ،
وكتابْ.
(في كل صباحٍ خريفي يخرج الشاعر
من نومه
قبل أن يطلّ وجه الشمس
من وراء “غيمان”
يرتدي دهشة الأطفال ويحشر نفسه في الأزقة
الضيقة
ليكتب تاريخ الحجارة
وأحلامها
حجارة من كل الألوان
والأشكال، من كل الأزمنة والعصور
ذات صباح أنصت الشاعرُ بعينيه إلى صوتٍ
طالعٍ من حجرٍ أخضر يقول:
ليس البشر وحدهم من تتعدد فيهم
الألوان
والأجناس
الأحجار أيضا تتعدد ألوانها(20).
لكي يُضفي المقالح على “صنعاء الشعرية” مزيدا من الشعور بالرُّوحانية والتصوف، فإنه يوظف تقنية التشخيص personification بفعاليةٍ مؤثّرةٍ، وذلك بعزو الصفات الإنسانية إلى كيانات المدينة الجامدة، ولا سيما صخورها وأحجارها. ولقد أوضح الناقد الأدبي صموئيل ليفين Samuel Levin ببراعة طبيعة هذه المراوغة الشعرية عندما ناقش هذا النوع من التشخيص. يرى ليفين أن التشخيص يقوم على عزو الخصائص المسندة لنوع محدد إلى أفراد من أنواع مختلفة، فعبارة “كانت الصخرة مبتهجة” – كما يوضِّح ليفين – تقوم على إسناد حالة عاطفية إنسانية إلى كيانٍ قد يستقل بحالات أخرى. فيتم تشخيص هذه الصخرة بإكسابها خاصية الابتهاج الإنسانية. غير أن قرءاة خاصية الإسناد على أنها تقريب يدني بالصخور إلى الحالة الإنسانية المعروفة بـ”البهجة” سيتولد عنه ما يدعوه ليفين بـ”تجريد” القول. ويبرز التَّحولُ المفاهيمي عندما يحاول المرء أن يتخيّل ما تكونه البهجة بالنسبة للصخور للوصول إلى ما يشير إليه ليفين بالتجريد الجذري. ومن هنا نجد ليفين يربط هذا المفهوم على نحوٍ مباشر بفكرة وليم وردزورث “رؤية كُنه حياة الأشياء”، فهي عملية تنطوي بلا شكّ على ضربٍ مميّز من ضروب التصوف الفينومينولوجي(21).
تبرز شعريَّة التشخيص لدى المقالح بتعبيرها الفريد ثانيةً في “القصيدة السابعة والثلاثين”، وذلك عندما يصف لحظة “النشوة”:
لستُ أحتاج شيئا لأدخل
في ملكوتك
أصعدُ في نشوةٍ من أثيرِ التذكر
لا وقتَ يفصلُ ما بيننا.
بعد أن رجعتْ كلماتي إليك
ووجهي.
تذكرتُ…
أطعمك اللهُ
غذّاك
من ماء تلك الحجارة
واغتسلتْ مقلتاك
وأدركتَ سرَّ القصيدةْ(22)
يتم تشخيص “بيوت” المدينة، في حين أن المدينة ذاتها تغدو صورة مرآوية ذات مرجع ذاتي يطرح من خلالها الشاعر بحماسةٍ رؤيته الشعرية. إن رؤية المتكلم الحلم في هذا النوع من التشخيص «تتطلب غموضا يفتح لحظة تأمل الذات النصية لذاتها»، كما يلاحظ ذلك الباحث جيمس باكسون Paxson بتفطن في دراسته المنهجية عن التشخيص(23). ويشير باكسون أيضا إلى أن التشخيص يستدعي العديد من التأملات الشعرية الشارحة في اللغة ذاتها. وبموجب ذلك تتحوَّل المدينة من مجرد تمثيل محاكاتي للكيانات الجامدة إلى “نَصّ” ينتظم فيه كل من المتكلم والقارئ. ويرى باكسون أن هذا النوع من التشخيص يخلق أيضا الإيهام في خط السير المتدرج الذي يجتازه المتكلم الحالم عبر مجموعة متحدة المركز من الأبنية المُتَضَمَّنة، حيث يعمل التَّمثلُ الأنطولوجي لمستويات الحلم إلى يقظة الواقع على إبراز المهارة الفنية والنصية في كل سجل القصيدة:
«إن طبيعة الانعكاس الذاتي في هذه النصوص التشخيصية – التي تُبرز على الدوام تعقيدات أبنيتها المجازية وإبداعاتها الشعرية – هي وحدها من يدفع بهذه النصوص إلى عالم التمثيل الكنائي الخالص. وذلك أن النص الذي تُصرِّح بنيته الملتبسة بشيء هو فعليا يقول شيئا آخرا غير محتواه السردي المحض. إنه يشي ضمنيا بالتوتر بين المألوف المتوقّع، بين فعل التشخيص المجرّد بقوته الدِّرامية الاختزالية في الغالب، وبين طاقة المجاز الأدبية التي – عندما تُدفع إلى حدودها القصوى– تغدو قادرة أن تثير الشك في كل محاكاة لإعادة الخلق»(24).
تغلف “القصيدة الأخيرة” وجهة نظر الشاعر بخصوص نوعية لغته ذات الخيال الواسع؛ فليس للواقع المستوحى معنى خارج القصيدة. ولأن اللغة مستفيضة ومِطْوَاعة فهي تُعيد للوجود نقاءه، وعالمه البكر، وتبثّ فيه الحياةَ برؤيةٍ فنيةٍ نادرة. ويأخذ هذا الوصف مساره نحو البوح في نهاية المقطع الشعري الثاني:
كلُّ آجرة فيكِ
كلُّ المآذن، كل الحجارةِ
تشكره،
تشكر الله
أجرى مياه الجمال بآجرها ومآذنها
ومنازلها.
والقصيدة
كل التماعةِ حرفٍ بهذه القصيدةِ تشكره
تشكر الله ألقى بها قطرة من رذاذ
تناثر من بحر أندائِه….
قادني قميص الكلمات
وقاد الحروف العمياء
إلى أحياء المدينة العتيقة
فاستعادت الحروف ذاكرتها
وبصرها
رأت رخام اللغة يتدلى بين السماء
والأرض.
وضوء المعنى يبرق
ويتنزل من قبة العرش
لم يكن حلما
كان حقيقة مبتلة بندى الليل
ونشوة النهار الأخضر(25).
ثمة لغة تولَّدت عن الاستخدام الخاص للغة، هي الوسيط والرسالة معا، يشير فيها الدَّال إلى المَدلول، ومع ذلك فهذا المدلول لا وجود له سوى في العَيَانِيّة البديعة للدال، فصنعاء المقالح هي نتاج توليفةٍ من الكلمات والصور. إنها جزء لا يتجزأ من شبكة من التوافقات أو التناظرات، وهذه المشاركة في كيان أكبر تفسّر لنا التبادل المتكرر بين الحالة المزاجية ومنظر المدينة، بين الذات والموضوع، بين العقل المبدع ومحيط بيئته. وأحيانا تتشابك الروح والمحيط إلى ذلك المدى الذي يستحيل فيه في بعض الأحيان تحديد ما إذا كان الشاعر يستخدم وصف محيطه للتعبير عن حالته المزاجية أو ما إذا كانت الأخيرة، على العكس، ناجمةً عن محيطه. من يتأمَّل “كتاب صنعاء” يجد تلمُّسا مستمرا “للنقطة الثابتة من العالم الدَّوّار” (بحسب عبارة إليوت)(26)، إنها حالة مرنة من الجمود وإحساس بالملاذ الميتافيزيقي، تتضمن – بدلا من أن تستبعد – الوعي بالإمكانات الرؤيوية في المحيط الحضري للفنان.
وبوضع صنعاء “الواقعية” وصنعاء “الرُّوحية” جنبا إلى جنب ينجح الشاعر في خلق ما يشير إليه الناقد الأدبي براين ماكهيل Brian McHale بـ “الوسطَ المُمْتَنِع”، ذلك العالم الشَّفاف الذي يفوق كلّ من حدود المُخيِّلة القصصية وواقع الحياة المادي(27). فاللغةُ، وفقا للمقالح، هي الأداةُ الوحيدة التي يستطيع من خلالها الشاعر الكشفَ عن مدينته: إنِّها تنقِّب عن أبعاد الصور الذهنية للأشياء، ذلك الجانب من المادية التي تماهتْ في المتعالي. ومن ثم يغدو “كِتَابُ صنعاء” اعترافا بأن ثراء مدينة الشَّاعر يتجاوز أي وصف، وأن ثروتها البصرية معينٌ لا ينضب حقا. ومن خلال دعم الشعور بالاتحاد الصوفي، يخلق المقالح واحته الشعرية التي تنمحي فيها الحدود وتتماهى، وحيث لا يكون الإبهام محتمل الوجود فقط بل ومطلوبا أيضا. وهكذا، يغدو الشاعر مستثمرا بارعا للعديد من الاحتمالات التي تملأ الوجود الحضري. إن التَّصاعد اللولبي اللامتناهي بين هاتين المدينتين يخلقُ كتابا فريدا من نوعه يُعيِّن للشعر واللغة مهمةً خاصة؛ فالكلمات هي التي تسْتَعِيدُ النِّظام في عالم التعقيد المُحَيِّر. إنّها تُشَيِّدُ مدينةً بديلةً، مدينةَ الروعة غير المظنون بها التي توجد في الداخل وفي فكر الشاعر أولا، “الرائي والحكيم” (كما يقول فيرسلايس)، ولكن في العقل الذي له من الحكمة ما يكفي ليعجب، ومن النباهة ما يكفي ليدرك، ومن الجمال الذي للمقالح، وكما للسكان الحضريين جميعا، فقد كان – والأكثر أهمية – كرسّام بالكلمات، قادرا على الإيحاء والتعبير.
الهوامش:
العنوان الأصلي للمقالة:
She is the capital of the soul: The book of Sana by Abd AL-Aziz AL-Maqalih،
ونشرت في مجلة :
Journal of Arabic Literature, Vol. 38, No. 1 (2007), pp. 53-66
1 – انظر على سبيل المثال: علي حداد، عشبة آزال: قراءات في الشعر اليمني، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2002، الفصل الرابع؛ محمد الخولي، عناوين بين الجنة، البيان، 10 / 4/ 2000 ص26؛ محمد صالح الجرادي، القرية هي العالم كله، الوطن، 9 / 9/ 2002، ص14؛. أحمد ياسين السليماني، يوتوبيا جديدة عبر الكلمات، أخبار الأدب، 7 / 7/ 2002، ص17.
2 –
William Sharpe & Leonard Wallock, “Reading the Modern City,” in Visions of the Modern City, ed. William Sharpe and Leonard Wallock (Baltimore: Johns Hopkins University Press,1987), 1-50.
3 – وبهذا المعنى حول “الأمثولة” انظر:
Sayre N. Greenfield, “The Politics of Allegory and Example,” Genre 24 (1991): 233-255.
4 – حول مفهوم اللاخطية في النص بوصفها سمة حداثية انظر:
William T. Noon, “Modern Literature and the Sense of Time,” in Thought 33 (1958), 571-603.
5 – نستند في هذه السيرة القصيرة على Robert Campbell في كتابه:
Contemporary Arab Writers (Beirut: Saint-Josephe University, 1996), 1233-1236.
6 – عبد العزيز المقالح، كتاب صنعاء، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، ط1، 2000، ص ص 15 – 16.
7 – علي أحمد سعيد (أدونيس)، الأعمال الكاملة، دار المدى، دمشق، المجلد الأول، ص465.
8 – Versluys, 54 – 55.
9 –
Annemarie Schimmel, Rumi’s World: The Life and Works of the Greatest Sufi Poet (Boston: Shambhala, 1992), 160.
10 – المرجع السابق، ص159.
11 – المقالح، كتاب صنعاء، ص ص 107 – 109.
12 –
Jacques Lacan, “The Function and Field of Speech and Language in Psychoanalysis,” Ecrits: A Selection, trans. Alan Sheridan (New York: Norton, 1977), 30-114; see also Bruce Fink, The Lacanian subject: Between Language and Jouissance (Princeton, N.J.: Princeton University Press,1995).
13 –
Scott Simpson, “Sources of Magical Realism,” in Magical Realism: Theory, History, Community, ed. Lois Parkinson Zamora and Wendy B. Faris (Durham: Duke University Press, 1995), 154.
14 –
Lois Parkinson Zamora & Wendy B. Faris, “Introduction: Daiquiri Birds and Flaubertian Parrot(ie)s,” Ibid., 7-8.
15 – المقالح، كتاب صنعاء، ص ص 67 – 69.
16 – Versluys, 143 .
17 – المقالح، كتاب صنعاء، ص ص 103 – 105.
18 – Versluys, 215.
19 – المقالح، كتاب صنعاء، ص234.
20 – المقالح، كتاب صنعاء، ص ص 147 – 150.
21 –
Samuel R. Levin, “Allegorical Language,” in Allegory, Myth, and Symbol, ed. Morton W. Bloomfield (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1981), 23-38; Also see, Leon Waldoff Wordsworth in His Major Lyrics: The Art and Psychology of Self Representation (Columbia, MO: University of Missouri Press, 2001), 60-64; see also, Newton P. Stallknecht, Strange Seas of Thought: Studies in William Wordsworth’s Philosophy of Man and Nature (Bloomington:Indiana University Press), 1958.
22 – المقالح، كتاب صنعاء، ص ص 161 – 162.
23 –
James J. Paxson, The Poetics of Personification (Cambridge: Cambridge University Press, 1994), 87.
24 – المرجع السابق، ص ص 94 – 95، 163.
25 – المقالح، كتاب صنعاء، ص ص 137 – 139. وحول التقنية الشعرية انظر أيضا: Versulys, 192-217.
26 – انظر:
Versluys, 172-191.، وانظر أيضا: T.S. Eliot, Four Quartets (London: Harcourt Brace & Company, 1943), 13-16.
27 –
Brian McHale, Postmodernist Fiction (New York: Methuen, 1987), 106.