زاهر السالمي*
هكذا تبدو القصيدة بعد أن ترجمتها الابنة:
“أوراق المقابر، أوراق الجسد تنمو
فوقي، فوق الموت، سبع وردات لاحقاً.
في أقصى النظر، يحمل على ظهره
الجَملُ أفقا ًوجبلاً صغيرا.
ظلالها تتنفّس معاً ومعها يظل
كل شيء مَحْميّا. وعلى الرغم
من تعدّد الأوراق فالجذع واحد.
الفتات الذي يطيرعالياً يُفضّل مناقير
الطيورعلى أهواء الريح. أهواء؛ ذلك
الشَعرالنابت في أعلى الرأس، الشعرالذي
مهما مشّطه يظل واقفاً وكأنه في محكمة.
ثانية واحدة تعادل الأبدية”.
الشاعر ذو الحجم الصغير، يُطْلق جُملاً
صوتية، حروف من مصفوفة أبجدية
في خليط عشوائي غليظ! الابنة تفهم
كل هذا، تشربه.
شاعرها الذي يطيل النظرإلى الفراشات،
ككل الشعراء، يتميز بذلك الداء العُضال:
-لا يستطيع العمل!
ليس صاخباً، ولايُخلّف كثيراً
من الأوساخ مثل نحّات أو رسّام.
إذن ماذا يفعل؟
القصائد.
لكنه ليس مُخرِّبا، وإن يكن التخريب
مجازاً لازماً للشعر، ربما يجب التخفيف
منه، توفيراً لطاقة الخيال التي يمكن
أن تستهلكها وأنت تقرأ قصيدة.
وفي الأخير، في عالم حديث، تخريبهم
يضاهي العنف لدى الكلاب، تشذيبه مفصلي
لحياة أليفة!
شاعركِ إذن يكتب قصيدة حديثة!
ربما؛
الحداثة عصرية، تجدها في كل سطح
مضاء بتيار زمن كثيف.
والتاريخ؟ رقم مجرد. الإنسان
رقم غير مُجرّد. في عصرنا
شركات تجارية تَصفّه على الأرفف
وترعاه.
تفاحة خد، مزروعةٌ في الخد. حتى
تنضج وتتفتح مُحْمرة عليك أن تسقيها ببعض
الملّليلترات من لعابك، لايمكنكَ بيعها ولا حتى
أكلها فتتضاحك راقصة معدتك. إنها ليست تفاحة
في مركز تجاري.
حين ذهبتُ إلى السوق، وجدت شعراء، كتابةً من كل
الماركات، وحسب الطلب.
خمسة وسبعون في المائة كانوا صُلّعاً مُلتحين.
بعضهم يغادر الطعام في منتصفه ويهيم دون وجهة.
يحدث هذا كثيراً عند غروب الشمس أو ظهور
القمر أو الضباب. لابد وأن تكون جينات أجدادهم
الذين حصدوا تلك الارضَ القديمةَ، كانت
خصبة حينها. وعلى الرغم من ذلك فهم نادرون،
ليست كوتشينة!
قبل أن أقرر شراءه، سألت: كيف سأرفه عن شاعري
الأليف؟
اشتري له دفتراً بأوراق بيضاء وأقلام.
كانت رَدّة فعله تجاه السريرغريبة بعض الشيء! تشبه
أحد تلك المشاهد في أفلام رعاة البقر تقع أحداثه
في حانة ريفية:
استلقى وأدخل يده في المعطف. أخرج…
ماذا فعل بحق مامون! هل كان عنيفا؟
أخرج كتابا. بدأ يقرأه.
ومن مامون هذا بحق الجحيم؟ إله المال والنقود في
الإنجيل ذو أصول عبرية، هكذا أشار مترجم الرواية.
ليس مخرباً ولا إرهابيا، شاعرنا يأكل معنا على المائدة.
لكن علينا أن نشد الحزام. في قديم الزمان، كان
الحزام صالحاً لتخفيض الاستهلاك، ربما، لفظ أثري.
الثقافة لا تُستهلك، فكلّما استخدمتها زادت أملاكك:
إنه يستعمل كُتُبَه الشعرية كمراجع اقتصادية!
تَمشّى الشاعر في البيت بتؤدة، ككل الشعراء
تائهاً نظره في خط التقاطع ذاك بين السقف
والجدار: إنها الحرية: لا الخضار ولا الفاكهة على
رأس الأولويات الضرورية! صراحة…!
هناك دراسات تؤكد أن الحصول على رسّام، أو
ممثل، أو راقص، أو حتى شاعر، يساعد على مقاومة
الضغط، ويخفض من كولسترول دمنا، مما يجعلنا
مواطنين أكثر إنتاجية.
لكنه مجاز. المجاز كذبة!
أعذب الشعر أكذبُه. مقولة، اختلف فيها القدماء
والفلاسفة المعاصرون:
أخرج من جيب معطفه كتابا، وأطلق النار على
الجمهور.
النتيجة تتأرجح بين موت وحياة، وقد اختلف
الحاضرون في الحياة وتأويلاتها. أما الموت، فنتيجة
مؤكدة – منتهى لا منتهى.
النحّاتون والرسّامون – وإن كانوا يوسّخون كثيرا- تركوا
لنا تلك الروح مُعلّقة في ضباب هيولي، محفورةً
في كهف، أو مدفن أو تمثال، وربما ورقة بردي.
أنظر إلى هالة الشمس، الشفقَ القطبي، الكتلَ الإكليلية،
كلها هناك.
حتى شاعرنا الذي خرْبش فوق الجدار، فتح لنا نافذة
تطل على البحر في ذاك الجدار. معلقةٌ تلك قصيدة
في جدار.
تقول الإحصائيات بخصوص ذلك الفعل:
إما قصيدةٌ أو على الأقل بيت شعر كل يوم!
هكذا تعوّد الشاعر أن يمشي ويقول قصائد.
كيف للبحر الكبير جداً أن تحويه نافذةٌ
صغيرة جدا؟
ماذا.. هل فتح نافذة دون رخصة من البلدية؟
وحين تتحول الموسيقى الى صوت آلة حاسبة:
– إرهاب.
خيال الشاعر إصبع منقوع في الواقع: سِيتار.
أنفاس ترتقي كسرد مُتقطّع يحول يداً مقطوعة
تنزف إلى منديل في هبّة ريح مفاجئة(2).
بحيرة بجع إلى ديناصور طائر، حتى السباغيتي
الى لحم أو محّار.
تَعْرية واغتصاب يفوح منه خصب. حقيقة
في غموض دِقّة مطلقة:
هنا يدخل الجمهور، مرتدياً أزياء مسرح
زئبقي؛
نقرأ وزن الكتاب حسب معيار حاضر كان موجوداً
في صبيحة ما. مهم مصدره في سياق ديماغوجي.
مكتوب على رقعة جلد أوقحف أو ورقة مصقولة،
لا يهم.
أخرج من جيب معطفه كتابا، عيونُه نظرةُ بندقية:
ارتبك الجمهور.
سماء ماسورة. هناك تُقرفص
بادية، قيلولة في ظل
سِدْرة. تلك مفردة تصحّرت،
بعد أن أخذت عوامل
التعرية
قضمتها الكبيرة:
أيها الراعي،
مزمارك ريح تشقّ الفؤاد،
وعزلتك فِناء فسيح(3)،
يُغوي الفراشات، تلك
التي هي
كمنجات على خاصرة.
أخرج من جيب معطفه عيونَه غيمةً عزباء..
يحدثني كأنما الوحيدان على هذا الكوكب، بعيداً
عن كل الخليقة. يجعلني أتحدث مع ذاتي.
في هدوء قنّاص في مضيق، يَخُطّ متناثراً قمّة
فمستنقع.
في حالة شغف بقدم مائدة الصالون، قال:
يمكننا أن نجد قصيدة في أي شيء، بل يمكن
أن نجدها منشورة على بساط الأرض. نعم،
أو مستلقية على زجاج النافذة.
إنها في كل مكان، وتفضل الاختفاء
في الأماكن الأكثرِ بساطة، مثل قدم مائدة،
أو تحت السرير.
أخذت صديقاتي إلى البيت، فقط لرؤية
شاعري. وجدن قصائد تصلح لرؤية
البحر. ارتدين المايوهات.
كم كانت جميلة تلك الجملة. أي جملة!
عليك أن تتخيلها.
أصير شاعريةً إذا وضعتها في سياق
مُنزاح مع قطار يتسارع خارج القضبان.
ذلك هو المركب السكران مترنحاً
دون إيقاع، وتد، ثبات.
قرر أبي التخلص من الشاعر، لسوء
الحالة الاقتصادية، وضعناه في السيارة، ثم وقفنا
تحت شجرة، في حديقة، أنزلناه ورحلنا.
لا أستطيع الأكل، بكيت كثيراً واقتلعت الكثير
من علامات الرعاية التجارية لأثاث غرفتي.
قالت أمي: وأنا أنظف البيت، نظرت إلى غُريْفة
الشاعر، إلى ذلك الذي خربشه فوق الجدار،
رأيت البحر.
رحيله تحول إلى فراغ: حقيبة الجلد تلك، جثة تلك،
جثة حيوان ميت.
خلف كل صخرةِ شاعرٍ مجاز: فخّ تتفاقم فيه
كثرة. ليست مهرجانية تلك قصيدة تسكن فيها
عيناك ورقة، حافّةَ ورقة. مُهرّج بوق فإطار.
يظهر باباي بعشبته الحديدية، يُضحكنا
لكنه ليس المهرج.
في كل حانة عالم، عن أشيائه الصغرى يذود،
وفي دمعة كأس يذوي. تلك الدمعة روحُك
مُحْدودبة.
مصابيح كاشفة، شمس متوحشة، تُعمينا.
عشيرة من العصر الحجري، كلماتها
أرواح، والطبول إيقاع مرسم ليلي.
إنه الشاعر في الرواية: قماشة تُحاك عليها
المصائر المختلفة.
الفصل الأخير، في ما يشبه الخاتمة:
تقريريٌّ بجرعات فائضة. لم تستهو الشاعر
تلك النهاية..
“عليَّ أن أقطع أميالاً لأنام”.
إحالات:
1 – هيّا نشتري شاعرا: عنوان رواية للبرتغالي افونشو كروش. ترجمة عبدالجليل العربي. مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس العاصمة. الطبعة العربية الثانية،٢٠١٧.
2 – أمجد ناصر: “مرتقى الأنفاس”، “حياة كسرد متقطع؛ قصيدة: منديل السهروردي”.
3 – أمجد ناصر: “رعاة العزلة”.