سليم الحاج قاسم
1
مطرٌ.
طريقٌ كثير الشكّ في سالكيه.
خيبةُ من خسروا رهان البارحة واضحةٌ في سيمياء الوجوه.
تتكلم الغربة بين اتّجاهين ويتلعثم المصير. البعض كان يسمع، ويتظاهر البعض الآخر بالسّماع. كنّا بلا عددٍ، لا يعلمنا إلّا الضّوء الذي يتبع خطوات الشّمس.
في المقهى الذي أجلس فيه رجلٌ لا يحبّ الضّوء، يتخيّر زاوية شبه معتمة ليجلس فيها. لكنّه كان يعشقُ نور القمر، يقضي السّاعات الطّوال في مراقبته من خلال النّافذة، وحين يأفل، يكمل ما تبقّى من قهوته في جرعة واحدة ويمضي. رجلٌ صامتٌ يندرج ضمن تفاصيل المكان حتّى الذّوبان. كان هذا دأبه كلّ ليلة، وكنتُ لا أتورّع عن مراقبته من بعيد حتّى لا يستهجن تجسّسي عليه. لا أعرف ما شدّني إليه، ربّما جلسته، صمته، انسيابيّته، تفسّخه المفرط، ولكنّني جعلت من وقت لآخر أسدّد حسابه، حتّى وإن لم يشكرني ولو مرّة واحدة.
مرّة، طلبت من النّادل أن يعطي الرّجل قهوة على حسابي. سألني عن الرّجل الذي أقصد فأشرت إليه، لكنّه تحيّر في إشارتي. شدّني من يدي نحو الطّاولة حيث يجلس الرّجل، لكنّه لم يكن هناك. في بهرة الضوء الخفيفة، تنعكس صورة جدارية على بلور النافذة فتوحي بأنّ رجلا ما يشغل الكرسيّ، أمّا الطاولة ففارغة، وأمّا الكرسيّ فمكسور. لقد تهيّأ لي أنّي أراه وأنّه يوما سيلتفت نحوي ويراني. لا قمر وراء النّافذة ولا ضوء أمامها، لقد قضيت شهورا أدفع حساب رجل لا يشرب قهوته إلّا في خيالي.
2
لو تيسّر من المكان نصفه لقضينا الدّهر في تخمين النّصف الآخر. كلّ له سرّ يحاول حفظه. بعضهم لا سرّ له سوى نفسه. قال أحدهم :
– عرّف بنفسك.
– أنا بعض ما تبقّى من شفتيها بعد القُبَل.
تقول عرّافة الحيّ أنّ طفلا مجنونا زرع قطعة حلوى أمام منزله. تعهّدها بالسّقاية عاما تلو آخر، وبالرغم من أنّها لم تنبت، ولم تثمر، لم يتوقّف الطّفل يوما عن تفقّدها. في أحد الأيّام مرّ عليه فلّاح وقال: “لم نكن نلومك حين كنت صغيرا تزرع الحلوى، أمّا الآن فقد كبرت، لن تنبت حلواك أيّها الولد المجنون”. تقول العرافة إنّ الطفل أجابه: “أعلم، ولكنّها أمنية أستيقظ لأجلها كلّ صباح”.
3
نسلوا من الجبال، لا يرتدون سوى جلودهم. هجمت صيحاتهم من كلّ صوبٍ حتّى أصابهم خوفٌ من أنفسهم. أحدهم كان يموتُ. وجعٌ عميقٌ يقطّع أوصاله. ليس الألم ما يمزّقه. تمزّقه الوحدة في الموت وسط الجموع.
كيف أكلّم ليل المدينة في هذا النّهار؟ كيف أفسّر نهارها في هذا الليل المظلم؟
أمس، نامت امرأة قرب رضيعها على قارعة الطّريق. حين استيقظت وجدته ميّتا، ولم تدرِ أتحزن أم تفرح.
عادة، في هذا الوقت من الليل تبدأ المدينة في التخلّص من وزنها الزّائد. بعد دقائق ستُقفر الشّوارع وتصمت الأوصال. ثمّ، لن يبقى في المجال غيرنا: نمشي، نتوه، نضيّع دروبنا كلّها ونطلق أسماء جديدة على الأشياء… بعد قليل، سنكتب صفحة أخرى في مجلّد حبّنا…
4
كلّما رسمتُ وجهكِ على دفتري
وُلِدت من بين أناملي حمامة بيضاء
وطارت إليكِ محمّلة
برسائلي القديمة.
أوحيتُ للّيل أنْ أنفُض غبارك عن مفاتنها
مسّد الحُلمَ برفقٍ،
تدفّقْ بين ناهِديها كماءٍ ضارب
واخلُقني من تقاطع نهرين وقُبلة.
كم من الوقتِ يلزمكَ، كي تخمّن المسافة التي تفصلها عن مزهريّة البهو؟ متى أقلعتَ عن تدخينِ مسامّ رقبتها الزاجلة أيها البحر؟ هل تراقبُ انعتاق موجة من الأخرى، كي يولد الأبيض الذي يذكّركَ بها؟ ما الذي كنتَ تقوله لها في غفلة من الشمسِ، كي تشرق من نافذتكَ كلّ ليلة؟
أنتَ، يا أنتَ أيها البحر، هل تحبّها مثلي؟
5
الإمكان فسحة المضطرّ، لكنّه ضرورة المختار. الواحد يتساوى مع اللانهائيّ، إذا كان المعدود عاقلا.
قصّة منتحلة: مرّة، داخلا إلى قاعة سينما، أخذت عاملة الاستقبال بيدي لتتخيّر لي مقعدا. حين وقعت عينها على كرسيّ شاغرٍ همّت بأخذي إليه ثم تراجعت قائلة: “تعال ندخل الصفّ من الجهة الأخرى”، سألتها عن السبب فقالت: “لو دخلنا من هنا، سنسبّب إزعاجا لأربعة أشخاص، أمّا من الجهة الأخرى فلن يفسح لنا المجالَ سوى شخصين”. جعلني هذا أفكّر: في مثل هذه الحالة سيّان شخص أو مليون، لأنّ الشخص المتضرّر هو في كلّ الأحيان واحد، ولن يتضرّر مرّتين إذا تضرّر غيره معه. لو سبّب لي أحدهم إزعاجا، فقد اكتمل إزعاجه لي، ولا فرق إن تسبّب في إزعاج غيري أم لا. ربّما يبدو لنا، لوهلة أولى، أن حادث القطار الذي تسبّب في موت ثلاثة أشخاص، هو أهون من الحادث الذي تسبّب في موت عشرين. لكن، بالنسبة للمتضرّرين وعائلاتهم، الأمر سيّان. من فقد ابنا في الحادث اكتمل موته، سواء علم بموت غيره أم لا. الموتى دائما واحد حتّى وإن تعدّدوا.
تقول الإحصائيّات: هذه السنة، انخفضت نسبة قتلى الحوادث بخمسة عشر بالمائة.
لكن، من الذين كان يجب عليهم الموت بحادث سير ولم يفعلوا؟ … طريقة حمقاء في الإحصاء.
الإمكان اختيار، ونسفٌ لكلّ من لم يقع عليه الاختيار.
6
في الملهى الليليّ، رجلٌ يراقص امرأة ويشرب نخبها. لم يعرف هل أحبّها، أم أحبّ الرقص معها، أو أحبّها في الرقصة، أو أحبّ نفسه وهو يراقصها. عندما ذهبت دندنة الخمر من رأسه، عرف أنّه لم يحبّ سوى النّخب الذي شربه.
أمس، صادفت الوقت يمسّد ظهر المدينة. كل ذاهبٍ سيعود، والرّاحلون ما يزالون هنا. حتّى الموتى سيُبعثون. يقول الوقت: “الجميع يتذكّر الموتى، وحدي من أذكر أولئك الذين لم يولدوا بعد…”.
أدركتَ سرّ الموتِ فاحتدمتْ خطاهُ
سيلٌ من الأهوالِ يمشي في مداهُ
كشفتْ له الظلماءُ عتمةَ روحه
إن مدَّ إصبعهُ إليها لا يراهُ
بحرٌ، محيطٌ، جنّةٌ وجهنّمٌ
كونٌ من الأضدادِ يبلغ منتهاهُ
هذا وجودك، لا كما قد ترتجي
لا وجهه الحبّ القديمُ ولا قفاهُ.
7
هل يمكنُ للسّفينة الرّابضةِ في عرض البحر منذُ سنواتٍ، حتّى كادت تتحوّل -بفعل التقادمِ- إلى أحفورة، ألّا تكون تائهة ولا عاطلة؟
لهذا الإمكانِ المستصعبِ شروط ذات طابعٍ تأوُّليّ لا بدّ من توفّرها: فتلك السفينةُ- الكناية عن طاقمها، تلك التي ليست تعرف الآن أيّ وجهةٍ تقصد، على أيّ اتّجاهٍ تُقبل، وإلى أي هدفٍ تمضي بالضبطِ، تلك التي ترفض فكرةَ كونها ضالّة، فلا ترتضي الإقرار بها لا سرّا ولا جهرا، تلجأ لمدحِ المكان الذي انتهت إليه، فتوقّفت فيه واستقرّت، بغض النظر عن مدى قربه من وجهتها الأساسيّة. إنّها تحوّله من موضعٍ للتيه والضّلال، إلى مقصد مدروس ومبرمجٍ لهُ، إلى غاية قصوى مقصودة، وبالتالي، هي تستكين إليه، تعتبر إدراكها له إنجازا في حدّ ذاته، وتشرعُ في التغنّي به وتمجيده. إنّ هذه السفينة لا تكتفي بعدم الاعتراف بهذا المنزل الذي نزلت به كدليلٍ واضحٍ على الفشلِ والفوات فحسب، بل إنّها تنكرُ مدلوله ذاك في مرحلةٍ أولى، ثمّ تعكسه وتحيله إلى ما يقابله، أي إلى إشارة صريحة للنّجاحِ الكامل المستوفى، في مرحلة ثانية. في غاية هذه الصّورة- المثل، تُتبدّل جميع دلالات هذه الرقعة الصغيرة من البحر، فعوض أن تكون معنًى مكشوفا للضّياع، تستحيل عنوانا عريضا للاهتداء. إنّها تتشكّل كإشارة قطعيّة على ما ينفيها، فيتحدّد مدلولُها بكونه عكسا صريحا لشهادتها، ويصيرُ مرادُ قولِها نقيض قولها نفسه. هل الماء إذًا، مجازٌ للماء؟ هل البحرُ إذًا نفيٌ هرمينوطيقيٌّ للبحر؟
لهذا التعامل الفكريّ- النفسي مع الخريطة بمعناها الحقيقي والمجازي، أي كإسقاط مكانيّ وكدلالةٍ في آن، ثلاث نتائج أوّليّة:
الأولى، أنّه لا يمكن لأيّ سفينة بعد الآن أن تضلّ الدّرب أو تتوه في الأعماق، وهذا المستحيل ليس مجرّد مستحيل في درجة الإمكان أو التماكنِ -كما قد تشير إليه اللغة-، أي إنّه لا يتعلّق بمبدأ الاستطاعة، ولكنّه مستحيل مرجعي، معرفي، وأنطولوجيّ، بل إنّه يكاد يكون مستحيلا “فيزيائيّا” في إحدى جوانبه، ذلك أنّ هدف كلّ سفينة لا يقع تحديده إلّا حسب مبلغ علمها به وبعد وصولها إليه.
الثانية، هو أنّ العلاقة بين مفهومي “النجاح” و”الفشل” تكتسي طابعا ترادفيّا، وهو عكس دلالاتها اللغوية على الأقل، وبالتالي يغيب مبدأ التقييم بالكامل، وتتساوى جميع مياه البحر، وجميع المواقع فيه، وتتساوى تبعا لذلك جميع سفنه، الضالّة منها والمهتدية.
الثالثة، أنّه لن يُعتمد أيّ أسلوب ولن يُبذل أيّ مجهود لتفادي ضياع السّفن الباقية، إذ إنّه لا يمكن حلّ المشكل، في الوقت الذي يغيب فيه الوعي بهذا المشكل، أو يغيب فيه الوعي بضرورةِ إيجادِ آفاق للحلّ أو التسوية.
هكذا تقضي الأمم المتخلّفة وقتها في تبيان أنّها الأمم الأكثر اهتداء، ووسم غيرها بالضياع والتيه.