ينهل الشاعر العماني هلال الحجري، في مجموعته الشعرية «هذا الليل لي» (صدر ضمن سلسلة «كتاب نزوى»)؟ عناصر تجربته الشعرية من أمكنة وأزمنة متعددة، لكن المكان العماني يظل هو الأشد بروزا، كما يبقى الزمن الراهن هو الأكثر حضورا في القصائد السبع والأربعين التي يشتمل الديوان عليها، هذه القصائد التي تتركز في شكل قصيدة النثر أساسا، لكنها لا تغيب عنها قصيدة التفعيلة، والقصيدة العمودية/ الخليلية التي يبدو أنها تعود إلى بدايات الشاعر.. إلا أنها بدايات ناضجة تنطوي على موقف ورؤية ضمن صياغات متمكنة لغويا- شعريا.
بين عالمين أساسيين تتحرك نصوص الحجري وقصائده، عالم من الطفولة، البراءة والحب والشعر، وهو العالم الذي مضى، والعالم القائم في الواقع الراهن، عالم الموت في أشكاله وتجسيداته المختلفة، عزلة وبرودة وهروبا وعبثا. بين هذين العالمين يحاول الشاعر أن يقيم عالمه الخاص، العالم الذي يعلن فيه الشاعر قوله «أنا المذعور من القصيدة/ أنا المذعور من كل شيء»؟ الشاعر الذي يرى «النفاق حتى في المرايا». وهو بين العالمين يتأمل في ذاته وما تنطوي عليه من عوالم حينا، وبالخصوص في قصائد النثر التي تميل إلى الكثافة والقِصَر، ويلجأ إلى التصوير حينا آخر، وتحديدا في قصائد التفعيلة الأطول نَفَسا.
ويعيش الشاعر في قصائده ما يسميه «عزلتي المكتهلة» التي يرى فيها أن «الأيام جثة تنهبها العزلة وجلد الذات»؟ ويرثي فيه «العمر المفرط في الهرولة»؟ متنقلا بين عيون الأطفال «المدورة الصغيرة» وما تحمل من دلالات البراءة وما يدور في فلكها، وبين «سجالات «الاستشراق»/ وصراعات الثقافة»؟ فالثقافة ترتبط عنده بالابتعاد عن أرض الفطرة ودخول مجاهل العالم الجديد ومتاهاته ومآسيه. لذلك يخاطب ذاته وهو يكتشفها في المقهى «بين ضفتي كتاب/ فتصحو من غيبوبة/ استعبدتك فيها سياط المعرفة».
كما تظهر المعرفة في مواجهة القرية، والقرية هي الانتماء الأول، بل هي تمثل للشاعر «الفردوس المفقود»؟ فهو يشبه قريته «الواصل» في قصيدة تحمل هذا الاسم بأنها «حصان طروادي/ يعدو إلى الآخرة دون لجام»؟ أي أنه الحصان البري الجامح، هذا الجموح الذي يجذب روح الشاعر المغترب عن قريته لأنه موزع بين وحل المدينة/ العالم الحديث وبين ما يسميه «كبرياء المعرفة»؟ فهو يطارد الحصان الطروادي الجامح لكنه لا يمسك به:
كيف لي
أن أمسك حتى بذيله
وأنا الأعزل الذي إحدى رجليه في الوحل
والأخرى تنوء بكبرياء المعرفة
هل هي الدعوة إلى الجهل لمواجهة المعرفة، هل يمكن أن تحيل العبارة؟ أم هي النزعة الرومانسية التي باتت تسكن الشعر الجديد لتضع الطبيعة والبراءة والحب في مواجهة العالم الجديد الذي ظن البعض أنه سيكون جنة الله على الأرض- عالم العولمة والموت والخراب؟
الشاعر/ شخص القصيدة يتمنى لو يمسك بذيل الحصان الجامح/ القرية لأنه «الأعزل» والموزع بين «الوحل»؟»كبرياء المعرفة»؟ فهذا الكبرياء الذي يفصله عن جذوره ورموز براءته مرفوض حتى لو كان كبرياء مرتبطا بالمعرفة، ما يعني الرغبة في الجمع بين المعرفة والجذور القروية البسيطة، هذه الشخصية الثالثة التي يسعى إليها الشاعر ما بين قريته ومعرفته.
وحين نمضي في مواجهة الشاعر لادعاء الثقافة وما تنتجه من لوثة المثقفين، نجده يعلن رفض هذه اللوثة وذلك الادعاء بقوله صراحة «أكره النساء المتثاقفات/ كما أكره النقاد والمخبرين». هذا الرفض يأتي في سياق التعبير عن عزلة الشاعر/ الإنسان في زمن الافتعال والزيف الذي يعيشه كل من ينتمي إلى البساطة والبراءة. وفي هذا السياق يكرر الشاعر عبارة العزلة والغربة في صور مختلفة: الملك المعزول، الشاعر الأعزل، الأيام جثة تنهبها العزلة، غربة نزقة، عزلتي المكتهلة.. الخ.
وفي حصار العزلة هذا، يستنجد شخص القصيدة بوالده، شعورا بالفراغ والعبث «ليت لي شيئا أفزع إليه يا أبي/ كما تفزع أنت إلى صلاتك آخر الليل»؟ ومع كونه مستعدا لمقايضة أي شيء بدمعة من دموع والده في الصلاة، وما لهذه الدموع من دلالات إنسانية ودينية ضاربة في أعماق المؤمن، فهو سيبدو بعد قليل فقط مندفعا نحو اختيار مصير أقرب إلى شخصيته الشعرية والعزلوية، وذلك حين يودع كل شيء وكل بشر حوله، يودع السفينة الضائعة والربان وكبرياء المتنبي ووسوسة ابن الرومي وجنون نيتشة وأحلام جيفارا والوحول، يودع ذلك كله ليمضي إلى عالمه المفضل «وداعا.. سأغرق في الصحراء/ سأتشبث بهذا الصمت المقدس..». حيث صمت الصحراء يقابل غناء العشاق العذريين لحبيباتهم حتى الموت.
وبشفافية عالية يهتف الشاعر من حصاره وغربته «ضميني بلا هوادة أيتها الغفلة/ واحتضني أيها الشرود الأبدي»؟
فهو ابتداء يريد من يضمه حتى لو كانت الغفلة، ويحتاج إلى من يحتضنه حتى لو كان الحاضن هو الشرود. فالشرود والغفلة هما من ملازمات العزلة والاغتراب التي تلاحق الشاعر وتلازم أيامه. وكذلك الأمر في ما يخص الليل، فهو في النص الذي تحمل المجموعة عنوانه لا يرى في الليل سوى «زفير، حرمان، صلاة، تجديف..»؟ وما بين لحظة ضعف يحاول فيها «الاعتصام بالحزن»؟ ولحظة التمرد التي يقرر فيها الشاعر أنه لن يرحل عن بلده رغم السمرة والرمل والعذاب متمسكا بالجبال «لن أرحل حتى/ تسيل عظامي على جبالك/ واحدا تلو الآخر».
وعلى محور الطفولة أيضا نجد ما يشبه الرثاء لها ولغيابها، ولذلك تتكاثر مفردات التشظي والغرق في الدموع وأحلام اليقظة، الإنسان الوحش، وبرودة الموت. لكنه في المقابل يستحضر الوطن الطفل، ونرى تحولاته بين وتردده بين المعبد والمشرب، يعاني انفصامه المؤلم واغترابه الكثيف، فتكون نهاية من نهاياته استسلاما للقرية، وتكون الكتابة فعل موت آخر لأنها كما يعلن الشاعر لا يمكن أن تنتج إلا في سجن العزلة التي هي شكل من أشكال الموت. ولكنه يلجأ أخيرا إلى القوة والحب، في واحدة من قصائد التفعيلة القليلة في الكتاب «
عمـــر شبانــــة شاعر وناقد من الأردن