نلتف حول كانون الفحم في ليالي الشتاء، مدثرين بالبطانيات الخشنة ذات اللون العسكري يتوسطنا الوالد – رحمه الله- ويبدأ يسرد ذكريات عن فلسطين.
الطيرة وبيادرها والبيت ذو البوابة العريضة الضخمة المؤدية الى حوش واسع ليستوعب العربات والدواب، البارودة العصملية والمعارك والشهداء، الزيتون والحقول والخير العميم أرضنا في العزيزية على شاطئ حيفا الجنوبي، الكرمل والهادار ومعسكر الانجليز والمقهى الذي تلامس جدرانه أمواج البحر..
ننام الخمسة ملتصقين من قسوة البرد في شيء يشبه الحجرة، جدرانها من الطين الممزوج بالتبن وسقفها من القصب المحزوم بخيطان (المصيص) تعلوها طبقة من بقايا أكياس التمر المجدولة من الخوص، والمغطاة بطبقة طينية سميكة لمنع الدلف في الشتاء أو لنقل تخفيفه ما أمكن. لكن المياه تعرف طريقها من الشقوق فلا تلبث حين يبدأ المطر بالتسرب والنزول، فتسارع الوالدة بوضع صحون التوتياء تحت الشقوق، لتسقط قطرات الدلف في المواعين المختلفة الأحجام والأشكال، وبدون تراتب زمني، فتحدث أصواتاً رنانة أصبحت مع الأيام عادة مستحبة قبيل النوم تماماً كهدير (بابور الكاز).
قضى الوالد وحسرة الوطن تدمي قلبه وكيانه، يستلقي بعد صلاة الظهر وينفث دخان سيجارة (الهيشي)، ويطلق لحنجرته العنان بالميجانا والأروف، تخال وأنت تسمعه انه يلقي خطاباً سياسياً مع زفرات تحرق الأخضر واليابس. اختلس النظر إليه فأرى دمعة تسقط رغماً عنه، لا يلبث أن يمسحها وهو يردد:
ريتك يا خمسطاش أيار() ما كنت هلَّيت
لأنا فيك فارقنا الحباب
ثم تتملكه سورة غضب مفاجئة فيصرخ بملء حنجرته بعد الأوف:
يا قلبي البولاد حدك
بحر ما يلحق الغطاس حدك
أيا جسر المجامع مين هدك
خون ولا من البنَّا عياب
ثم ينظر إلينا ويشير الى الوالدة ويقسم بالطلاق ثلاثاً ان البنَّاء بريء من هدم جسر المجامع براءة الذئب من دم يوسف.
ثلاثون عاماً مرت بالتمام والكمال على خروجي من بيتنا في المخيم، وها أنا أعود إليه في طريقي الى الوطن. لم يتغير المخيم بسكانه وطيبتهم، لكن ملامحه تبدلت بفعل الاسمنت المسلح وفرش طرقاته الترابية بالاسمنت أيضاً، وتغذيته بالتيار الكهربائي، والمياه التي نادراً ما تتوفر في الأنابيب. أجلس واسترجع الذكريات مع أصدقاء سقطوا على الدرب وآخرين طواهم الزمن ومتطلبات الحياة، ويبدا الشريط بالدوران الى ثلاثين سنة خلت.
بقيت الوالدة في بيتنا بالمخيم ورفضت الخروج الى بيوت أبنائها في المدينة، فالمخيم وطنها بالمنفى وبشكل خاص الحي الذي تقيم فيه منذ النكبة، حيث الأقارب والمعارف من القرى المحيطة بالطيرة، وما زالت الجلسات المسائية تلتئم أمام البيوت تجتر ذكريات الوطن الذي بات حلماً قد يتحقق – حسب اعتقادهم- بعد قرار الدخول.
أنظر إليها ملياً، كم تغيرت وكم طالت منها السنون، أخاديد عميقة وظهر مقوس وعكازة وزهد عجيب في كل شيء حتى في الحياة. تمسح عينيها بظاهر كفها لا شك إنها الدموع، لكنها تنظر إليّ فجأة وتبتسم، وتسألني عن إمكانية ذهابي لزيارة الطيرة() مخزن الذكريات، والدمع الدائم والحلم الأبدي، أجبتها انني لم أقرر بعد ولا فكرة عندي حول الإمكانية فبدأت تصف الطريق الموصلة الى الطيرة والدرب الذي يقود الى بيتنا. قلت لها إن الجغرافيا تغيرت، فهذا الوصف ينطبق قبل خمسين عاماً، فأجابت والدهشة تعقد لساني بأن التاريخ لم يتغير؟
كان أحد الزملاء في الرحلة قد سألني عن مسقط رأسي، وما ان اقتربت الحافلة من مدينة حيفا حتى أعلن الزميل عن ذلك بمكبر الصوت الداخلي وطلب مني أن أوجه كلمة بهذه المناسبة!
تناولت الميكروفون وتكلمت ربما كثيراً لكني لا أدري ما قلت، كل ما أذكره هو ان الكلمات كانت تتسابق الى شفتي مندفعة كسيل هادر، واختلط الحلم بالواقع، بل وتحول خلال تلك اللحظات الى مزيج من الفرح والوجع والحزن والاشتياق، في تلك اللحظة كان الكرمل يعانق البحر، والشبق يطفح من غابة السرو فينزّ الصنوبر سائله الصمغي على الأرض التي ما زالت بكراً منذ عهد كنعان.
وصلت الى حيفا ولم أجرؤ على الذهاب الى الطيرة. كنت أخشى أن يخونني القلب وأنا أتحسس الحشائش التي تطل من شقوق الجدران العتيقة. ماذا سيحدث لي عندما أفتح البوابة الضخمة وأسمع صريرها يتكرر بعد خمسين عاماً؟
ماذا سيكون رد فعل الأحاسيس اذا ما تطابقت الصورة التي كنت أرسمها بمخيلة الطفولة عندما أضع رأسي على وسادة القش في المخيم، بعد سهرة مع ذكريات الوالد مع الصورة على الأرض والتضاريس المفعمة بأشجار التوت والزيتون ونبات الصبار؟
لا أيتها العجوز، لا أعتقد أنني سأذهب الى الطيرة، فقد يتزاوج الحلم مع الواقع وعندها لا أدري ماذا سيحدث. فقد أتحول الى ذكرى تفقد حاسة النطق لتتحول الى هديل الحمام الذي بنى عشه في شقوق جدار بيتنا الغربي المطل على شاطئ البحر..
بلغني من (عارف ذكرى قديمة) ان بيتنا ما زال واقفاً كالطود يناجي أمواج البحر، وانه بالإضافة الى ذلك مسكون من عائلة يهودية عراقية.
جمعت (الكواشين)، وجمعت عائلتي وقررت الذهاب الى هناك. (أم حسين) التي تجاوزت السبعين من العمر، الفلسطينية الوحيدة التي بقيت في الطيرة بين خمسة وعشرين ألفاً من (السفارديم).
أفادني السائق انه يعرفها ويعرف منزلها الذي تقيم فيه مع أولادها الأربعة، ناضلوا على مدار ربع قرن حتى تمكنوا من تثبيت ملكيتهم لقطعة أرض في الطيرة التي يصرخ فيها الماضي من قسوة الحاضر. بيوت قديمة ما زالت ماثلة أمام المباني العالية المغطاة بالقرميد. تستضيفنا الحاجة أم حسين وبعد رشفات سريعة من كأس الشاي الساخن، نتوجه برفقتها الى حيث بيتنا.
نصل الى الحي فتختلط الأمور على أم حسين ولا تسعفها الذاكرة، فتقف حائرة تنظر يميناً ويساراً، ولمّ هذا التيه؟. أليست تلك هي الصبارة الضخمة الساكنة في تلافيف الذاكرة، وهذه شجرة التوت التي تقع خلف البيت مباشرة، وتلك شجرة التين التي أصبحت بحجم خرافي والتي أطلق سراحها جدي لتكون (سبيلاً) للغادي والقادم يتذوق من حباتها تحت ظلالها الواسع؟ بدأت أجري والأولاد وأم حسين يسرعون خلفي، وعند شجرة التوت انعطفت يميناً، كانت بوابة بيتنا الضخمة تقف هناك شامخة بانتظار الأحبة وراء البحر ووراء الليل وخلف الضباب. انه هو البيت الساكن أبداً في تجاويف القلب وصحوة العقل وتلافيف الذاكرة، فبوصلة الذاكرة لا تخطئ.
رميت بالصور أمامها، قرَّبتها من النظر أكثر فأكثر وتمعنت بكل التفاصيل، خشيت عليها من هيجان الذاكرة.. بدأت تلثمها فابتلت الألوان بالدموع وأخذت تغني بصوت متهدج يقطع نياط القلوب.
احتفظي بالصور كما احتفظت بالكواشين، لم أعد أنا بحاجة لها بعد الذي رأيته بأم عيني، ورآه ابني الذي لم يبلغ السادسة من العمر، والذي استفسر عن السبب في إقامتنا بمدينة رام الله إذا كان هذا البيت بيتنا. فهل تستطيعين الإجابة عن السؤال؟
وهل رضيتِ الآن أيتها العجوز؟
ذكرى النكبة عام 1948.
قريتنا على سفوح الكرمل جنوب حيفا.