أحمد المديني *
هذه رواية جديدة لليماني أحمد زين( دار المتوسط، ميلانو ـ 2020). سبقتها أعمال أولى تحكي وتحاكي كلّها فضاءاتٍ وعوالمَ ومصائر في بلاد اليمن(السعيد)، هي أربعة:” تصحيح وضع” (2004)؛ ” قهوة أمريكية”(2007)؛” حرب تحت الجلد”(2010)و” ستيمر بوينت” (2015). تُظهر تواريخ الصدور انتظاماً يفيد انشغالاً جديًّا بكتابة الرواية، ومن قرأها بالتتابع لن يفوته التقاط سمات تطور منتظم في الرؤية والخط البياني لرصد بانورامي ومفرد للمجتمع والإنسان ولبنى أنتربولوجية، في منعرجات التاريخ اليماني وتشابكاته بين ماض وحاضر؛ وسيقف في آن واحد على إعادة صبِّ الرؤية بتبديل وتنويع تشكلها في قوالب فنيّة وبأدوات تكسو كل عمل لباسا يعطيه خصوصية تناسب الحكاية والتجربة المرصودتين. هذا يعني مسبقا أننا إزاء نصوص تمثل، أولاً، متنا متصلاً، يُنسج على ثوب تشفّ من ورائه مرجعياتٌ تاريخية متراكمة وهي معتمَدةٌ فيه إما مباشرة أو ضمنا، لذلك تجده يتعيّن روايةً قوامها التاريخ لا مناص من ولوج بابه إلى عالمها وبغية فهمه، وليست تاريخية، بمعنى أن موضوعها ومنزعها وسردها ومرماها آخر، إذ يُطرز فوقه، وتُحفر التجاعيد، يُبنى عالم التجربة الخصوصية، كما سنرى لاحقا. ثانيا، تقوم بينه ممرات ومعابر، لا بالتتابع تفضي إلى بعضها حتما، وإنما بالتقاطع والتداخل، حيث تتفاعل السرديات المصنفة (تاريخ، وثائق، محكيات عامة الخ..) مع السرد التخييلي، هما مادتان وسِجِلاّن مختلفان، في التمييز بينهما وامتلاك ناصية الأخير بفرض فرادته وتأهيل خصوصيته، تحوز الروايةُ أحقيتِها بامتلاك صلاحيتها الأدبية، وينتزع الروائي جدارتَه التي ليست معطاةً سلفا بتاتا، نحن نعُدّ الانتظامَ جزءاً من هذا المسعى، خاصة إذا كان ولادا لدينامية التجديد النوعية لا ينخدع صاحبه وقراؤه بكمه وحده. ثالثا، وليس أخيرا، فإن أحمد زين، وهو ما يؤكده وينزع للبرهنة عليه بقوة في عمله الجديد، إذ نهل في أعماله السابقة من مصادر فنية مختلفة في كتابة الرواية وانتمت نصوصه إلى تجاربها العربية المتنوعة، فإنه كان حريصا دائما على نهج طريق يصنع فيه هو خطوته أكثر مما يقتفي خطوات الآباء والسابقين، وأبعد من أن نزعق بتلك التسميات والتقليعات الصاخبة، فإن سرده نشأ يتسلق جبل المغايرة العالي بحذر، تراه وهو يلتمس بأناة وحرص وبجهد المتعلم، تجديدا يناسب تاريخا تختزنه الذاكرة ومحفورا في الجدران والسحنات، يلتمع في عيون الصغار نجوما في حكايات الجدات، ومعيشا عرفه بل كابده، مشروعا يتصوره مستثمرا رصيد أوضاع ومحن عركت بلاده، ثم وهي تسكن في المخيال الجمعي لشعبه طفقت تتشكل بالتخييل الشخصي لروائي أثبتت الأعمال المذكورة أعلاه أنها تضع سرده ضمن مدونة الرواية العربية المجددة، التي تكفلت بنقل أزمات فردية إشكالية وأوضاع اجتماعية وسياسية مركبة في منعطف تحولات كبرى، بهيئة ونكهة محلية وبطموح تطلعات إنسانية، ما استوجب صيغ التحديث المنقلب على مقتضيات الرواية الواقعية (البلزاكية) وباجتهاد البدائل.
انطلاقا من قراءة أزعم أنها متلقية بإشباع وأريد أن أبلورها منتجة، أرى أن أحمد زين يصل في روايته الأخيرة” فاكهة للغربان” إلى كرشندو العزف السردي الذي استهله بـ” تصحيح وضع”(2004). لإنجاز هذه القراءة وإبراز تجلياتها وقطف ثمارها، وجدت من المناسب تبعا لتصميم سيتبين للقارئ متدرجا البدء بالوصف، بمثابة تقديم خطاطي فيه بعض الشكل الفني، سنطرقه مستقلا، نعني أنه سيشمل مجمل مكوّنات العمل الروائي القائمة مفاصل وأركانا له، على أن يتم استنبات وجوه وعناصر الرؤية التي ينهض بتوليفها وتخطيبها، ترسمها بنيات محددة وأحداث وترفدها مدونة إيديولوجية وثقافية وخزان تجارب منها المتاح مجسدا ومتلفظا به، وكثيرها منعرجات وشعاب متخللة. نقرأ العمل أيضا من خلال الشخصيات الفاعلة، مركزية ومحيطية، لرسم صورة بنائية نقدية فيها ما قد يطابق الأصل، على مستوى الوصف، وأكثرها سيكون محاولة فهم وإعادة هيكلة ونظرات تأويل.
أضع هذا تصورا نظريا قابلا للتعديل في الطريق ولا أستسهل المهمة، كما يحلو لقارئ عابر للنصوص، أي من موقع متلقٍّ يجدّ في طلب هذا الكتاب بقوة، لا يجد كفايته في التلخيص والانطباعات عن الموضوع مرور الكرام، ولن يسعفك لو شئت، فليس لديك معه ما يلخص ويقبل التقليص في كلمات وبمصطلحات اعتاد النقاد المعلقون بالذات استخدامها لاختزال الشكل والمضمون بكذا وكيت، وهكذا نفض اليد من النص وإحالته إلى النسيان، بعد الحسم بتصنيفه تصنيفا؛ إن هذا المتلقي مع هذه الرواية هو كالداخل عينا إلى غابة، شاسعة وكثيفة الأدغال، أو من يؤتى به في لعبة التنقل في متاهة، لا يمكن أن يمضي في أيّهما بغير وعي بما سيفعل، أي بأن يعقِل فعله، من معانيه الإدراكُ والتمييز والضّمّ والتّحصن وما يحصل به التفكير. هي إذن دعوة كي نفكر في كيفية المشي في الغابة، لمن يملك تواضع الإقرار بجهله بأحراش الغابة، وهذه بالذات، والتمس الحذر ليسأل كيف سيمشي ويتنقل في منعرجات المتاهة، فلا ينسحب من البداية، كثيرا ما يحدث مع الروايات الصعبة(المركبة) نقيض الرواج والسهولة، أو أنه ييأس أو ربما يُجن، ليس انتفاء ونفي السرد الخطي هو العقبة الأولى، المنفّرة أحيانا، وهي خطة باتت متداولة، يعبث بها حتى ناشئة القص، بل اطراحه ونقضه وتبديده وتحويله مرة خيطا وأخرى هلاما، كائنا ومنعدما، ولا يعرف من سارده وأين موقعه، كما هو منصوص عليه في نحو السرد. بمعنى أنك من الصفحات الأولى تواجه نصّا يستفزك بتجاهل أدوات مقروئيتك السابقة عليه، وهذه الورقة الأولى في ملف إثبات هويته، ومن تم يحرض على ردود فعل، ويستنفر ما يفترض في مسلسل التلقي(العاقل) الفاعل، أن تستبدل أدواتك ومنظورك ومعاييرك. شيئا فشيئا إن ثبتت في هذه المواجهة، إذ النص الجديد خصم عنيد للقارئ القديم، المستريح لنظامه والمحافظ على تراثه، فتمسي القراءة حلبة صراع بين حديث وقديم، جديد ومحافظ، هنا يقع رهان القراءة والتحدي الذي تجابهه بين حدين وطرفين(مدونتين)تمتلكان كلتاهما معقوليتهما وسلطتهما على تاريخ الأدب، في ملتقى تلاقٍ وافتراق، صمود واختراق، داخل نظام الجنس الأدبي عندما تراعى الأصول، وخارج حدوده حسب نوع التجديد ونزوع التجريب، وهو الغالب هنا. إن القراءة الصائبة لا تكون منحازة أو تسقط في التبسيط واللا أدبية، والحال أن الرهان كله هو كيفية ترقية النص بتأسيس والتماس أدبيته لا ابتزاز مضمون مبذول، ما يستدعي الاحتكام إلى المعايير أولاً، ولا بأس بعد ذلك أن تغامر القراءة بدورها بتجريبيتها.
الوصف
الحكاية في الرواية: لكل رواية مهما بلغت من التعقيد، وأمعنت في التجريب، واختار لها مؤلفها/ مؤلفوها طرائق متباينة في سردها، بتبديدها، أو بقلب مراحل ومسارات الإخبار والفعل فيها؛ لا بد لها من حكاية ترويها ومدارُها قصة حدثت، تحدث، يسوقها راو، سارد، بالكيفية التي يرتئيها الكاتب، من موقع ومن منظور، زاوية نظر، وضمير صرفي. التيار السيكولوجي في الرواية(بروست) وتيار اللاوعي(جيمس جويس وفرجينا وولف) وتيار التحول( نسميه هكذا بناء على الميتامورفوز)، وأخيرا مدرسة الرواية الجديدة الفرنسية (ألان روب غريي ونتالي ساروت)، هذه التيارات العلامات خصوصا ذات الحجة الدامغة في السرد التخييلي للقرن العشرين تلاعبت بالقصة، من حيث بدت كأنها تلغيها، أو لا تتخذها عمودا فقريا، شأن وضعها في الرواية الكلاسيكية، نجم عنه تفكيك بناء الوحدات الثلاث ما دام الكاتب قد همّش العنصر الخبري، حيث لا يُتوقع تطور لحدث بالمعنى التقليدي، ولا حافز لتشويق القارئ كي يتتبع وهو مأخوذ النفس ليصل إلى النهاية المأمولة، لحظة التنوير تلك؛ رغم ذلك فكل رواية في طيِّها حكايتها ولها محكيّها متصلا أو منفصلا، وحتى خطيا أحيانا(“المماحي”لروب غريي، و”التحول”، لكافكا) ودائما من منطلق شخصية واستقصاء أزمتها ومصيرها. خلافا لما تمتلئ به بعض الروايات العربية الحديثة من إنشائيات ومناجاة وانثيالات وجدانية بدعوى التحرر من العقدة والحبكة والقواعد كافة، ضرب من اللغو والاستسهال، فالرواية الحديثة سرد محكم له نواميس تحديثه تختلف حتما عن الكلاسيكية إلا أنها موجودة ومتوارية ومخاتلة ولا مستقرة، باعتبار التجديد صيرورة لا نظاما ثابتا، دوغما مقدسة تعبد.
كذلك القصة التي يروي أحمد زين في”فاكهة للغربان” أو يوهم بها، فالإيهام والإيحاء بالخبر والحقيقة من مقومات رواية العصر، تتماهى مع زوال خطاب اليقين والشك ومساءلة المقدس والمطلق، في عالم اختلت فيه المقاييس وما ينفك يتعدد صوراً وعلاماتٍ وتهتز فيه الهويات تحت عنف التغيرات. نرى زين يخوض غمار التغيرات كما عاشها وطنه اليمن منذ نهاية الستينيات من جميع النواحي، السياسية إما مصورة في مركزها أو ترتسم إطارا لها، فالجنس الروائي فن الواقع قبل الموهبة وابتكار واقع بديل بأداة التخييل. كذلك اقتطع زين قسما من تاريخه ليضعه تحت المجهر ويخضعه للتحليل والتأمل حسب ما يسمح به النوع الأدبي الذي اختار، وكما نراه يطوّعه ليخدم الرؤية المعبرة عن مرحلة والممثلة لها. مهمة الرواية أن تُجسِّدها برسم صورة العالم الذي توجد فيه أناساً وعلاقاتٍ ومشاعرَ وأفكاراً وأحلاماً ومطامحَ، وخصوصا فجائع وانكسارات، ترسم، تشخص الرؤية المأساوية لبلد في مرحلة تاريخية ممتدة، لا بد لها في الرواية أن تتمثل في مصائر شخصية وبؤر فردية حتى وهي تتحرك في محيط اجتماعي ذي خطابات قبلية وشمولية واقتحمته ثقافة وإيديولوجيات وافدة . الرواية الحديثة هي فن الفرد لذلك خلفت الملحمة، وفن الواقع، فخلفت السماء ونفتها، ولغة الباطن يستوعب الخارج ويخترقه، ليست مرآة ستاندال التي تجوب فتعكس فقط، مرآتها مكسورة، لذلك يأتي ما ينعكس فيها مشوّها ومتناثرا شظايا. هي بلا فرسان ولا شطار، وإنما أفراد عاديون واستثنائيون، أيضا، لأنهم مأزومون وعصابيون وكلهم يراهنون على مصير من قلب الأزمة والمجهول وفي صراع غالبا يستحيل ربحه لأنهم في قاع الفاجعة ويصارعون آلهة مالية واجتماعية وطبقية، ومنها الإيديولوجيات الثورية المزعومة، نكلت بهم وتضرب الأحلام في الصميم، وأخرجت غيلان العصر الجديد، الرأسمالية الطاحنة، والفاشية والشموليات الساحقة(كل من يتنطع باسمها نخرج له” 1884″ أورويل ليهزأ به)، لا غرو هي بلا نهايات، لنقل نهايات مفتوحة بنت فن المحتمل.
وما لنا لا نأخذ ما قدمه لنا الروائي اليماني تحديا لأولئك الذين رآهم وصوّرهم وقد عبثوا بمصير وطموح بلاده، وجلبوا الدمار، من ظهروا محررين مقاومين عتاة للمستعمر، وثوارا بناة للغد، والأمر كذلك وإدانة لمرحلة كاملة ببطانتها المركبة، فالتصوير موقف كيف إذا عززه الخطاب. يقتطع زين، كما ذكرت، مرحلة يمكن التكهن بأنها تمتد من نهاية السبعينيات إلى منتصف الثمانينيات، منذ الإطاحة بحكم الرئيس سالم الربيع، الملقب (سالمين) سنة 1978، والسلطة التي قامت بعده وتسمّت ثورة تصحيحية للحزب الاشتراكي والجبهة القومية، فيرصدها من خلال شخصيات محددة ومواقع متصادمة وقوى داخل العائلة السياسية الواحدة متصارعة. يعاينها ويتابع أوضاعها في الإطار السياسي الشامل الذي تتحرك فيه وتخضع لفروضه الشمولية باسم شيوعية أممية متغوِّلة، يفترض أن تنقذ البلاد أعلى من إمامية رجعية وقبلية محافزة متأصّلة، ودولة احتلال أجنبية(الإنجليز سياسة وقوة ومدنية) في مسرح أفعال حي فاعلون، وإواليات مشاعر وحافز هذه الشخصيات المنشطرة على نفسها التضارب بين العاطفة والعقيدة، تنازع الولاء بين الذات(كالنزوات)والواجب (الامتثال للحزب، كذا) ، وتُبنى الرواية وهي تروى، على طريقتها، بمسطرة تراوح مستمر بين هذه الأطراف مثل أرجوحة، وبدون معابر ميسرة وحتى ممكنة، فتنعدم الانتقالات، اللهم تصنعها عين قارئ بصير، المتبصر، المتريّث، الصبور الراغب، بعبارة المعري، في ازدياد.
إذا جاز لي أن ألخّص القصة باختزال شديد لأساعد القارئ معي كي يتابع تحليلي فسأتعسف وأكتب مدرسيا أن” فاكهة للغربان”: تروي ما جرى لـ(نورا) سليلة أسرة يمانية عريقة من عهد ما قبل الاستقلال والثورة، تحولت في العهد الجديد إلى راقصة، أيقونة لنظام طوطمي حديث، تقع في غرام قائد مناضل (ثوري) صاحب حل وعقد، سيختفي ويتآمر عليه الرفاق الكبار ضمن جو احتراباتهم وخططهم الانقلابية المضادة من أجل مجد الجمهورية اليمنية الديمقراطية الشعبية؛ يأفل نجمها ممثلة لهذا المجد بعد سقوط القائد، وتعرضها لحادث هجومي يعطب بفداحة قدميها بعد أن أعطبت(الثورة) غرامها؛ وحولها وفي محيط دائرة السلطة(بعبع هلامي) وطيف من الشخصيات قريبة جدا هي امتداد لها ومحاورة، وأخرى بمثابة الطوطم النضالي والصورة البارودية لثورة تأكل أبناءها وتشوِّههم فيما تعضّ ذيلها، كل واحد منهم له حكايته الصغرى ويذهب إلى مصيره الشخصي، راكبا سفينة الغرق المشترك وآيلاً إلى الخسران المبين، سنأتي إليه لاحقا. أما فضاء الرواية المركزي المادي فمدينة عدن بين أجوائها الإنجليزية وما بعدها مما لحق بها من أهوال، حسب العمل، في زمن الجمهورية اليمنية الديمقراطية. ثم هناك فضاءات نووية قابلة لأن تقرأ معبرة بذاتها ومتواشجة، مكمّلة. قلت إنه اختزال، ويبقى صميم القصة في مكان آخر، لأنها من طراز غير تقليدي، ولحاجتها كذلك، وهذا رأي لا بد من تسجيله في هذا السياق، إلى تأطير تاريخي وإشارات وهوامش تساعد القارئ على المشي في( الغابة) والتنقل في (المتاهة).
قلنا ونكرر أن هذه الرواية ليست تاريخية، لكن تخييلها مطروز على نسيجه ومبصوم بوقائع وأحداث أساس تجري فوق أرضيتها وعليها أقيم بنيان العالم الروائي بشخصياته وأفعاله ومحافله. قد يكون ميسرا لابن البلد تتبع البصمات، والنفوذ إلى خلفيات الحكي في فضاءات مغلقة،وحده الكاتب، في ما يبدو يتحرك بيقين حيازته، قل احتكاره للأخبار والمعلومات داخلها تحتاج إلى تصريف، عوض الإعتام، وبلا عناوين اللهم العام منها، بالإضافة إلى ما يسود النص السردي من سحابة إبهام تتكاثف أحيانا إلى درجة الالتباس، هو غير الغموض الفني المستحب بُعدا للأدب يحفز على الحدس وينشط فاعلية التلقي. هي عملية تحتاج إلى وسائط لتتم، من داخل النص، بالتأكيد، ومن خارجه إذ يتعلق الأمر بإحالات ضرورية، ضمنية أو على هامشه لا ضير في هذا لتوفير الإبلاغ، فلا كتابة من جانب واحد، والإبهام يقطع طريق التواصل ويحكم على النص بالعزلة. في هذه الرواية يشغل المكان وأحداثه في سياق تاريخي محدد دورا مركزيا وهو ما يتطلب إضاءات وخرائطية وصفية دقيقة تتخلله تغرس المحكي في قلب المكان الدلالي، وتجعل التصوير المجازي والإيحاءات واللغة الاستعارية المعتمدة بكثافة مسنودة بعلامات تعيينية ملائمة. بدون هذا تسبح في التعميم، بالأحرى التجريد، وهو الغالب وإن تناثرت بعض عناوين الشوارع والأحياء هنا، هناك (التواهي، معاشيق، شارع مدرم، جولد مور، ساحة العروض، شارع أروى، المعلا، خور مكسر، فندق الروك هوتيل)لا وظيفة لها سوى التأكيد أننا في عدن، التي لا يفلح وصفها في الإقناع بوجودها روائيا، تكاد تعادل، مع الفارق، وجود المدن المشار إليها، ضمن كوكبة العواصم الاشتراكية(موسكو، براغ، هافانا، ظفار، يونس أباد، وحتى بيروت والجزائر وطشقند). دأب على هذا التجريد الروايات التي كتبت في بلدان تسود فيها الأنظمة الاستبدادية وتنعدم فيها حرية التعبير، فتعتمد(التقية) والترميز، وتصنف أليغورية، أشرنا إلى رواية أوريل، و(أوتوـ دافي) لألياس كانتي، مثلا، وكثير من روايات أمريكا الجنوبية المكتوبة في عهد الدكتاتوريات العسكرية. وفي” شرق المتوسط” لعبد الرحمن منيف، بل أغلب أعماله مطبوعة بتجريد يخفي المكان الجغرافي وأسماء الحكام(المستبدين)، لا يعابها هذا إن فهمنا أنها معنية أساسا وسلفا وهي تستخدم الوسيط السردي التخييلي باعتناق (رسالة) وحمل خطاب التنديد بواقع عندها مدان. إن عناية هذه الروايات بالواقع والمكان الروائي مسرحه ومضمار أفعاله ليست مقصودة به، ولا ينصرف إليه بذاته إلا تعميما لوظيفته الأليغورية حيث يستخدم الواقع، العالم المادي محافل السرد للدلالة على مجرد3 لذلك فعدن هي مدينة مقابل ريف، والمدينة عمارات ومكاتب وبار وشوارع هكذا بتعميم.
لذلك سنعمد إلى عرض الشخصيات لنرسم المعالم الكبرى التي تبنى من خلالها، وعبرها يمكن أن نتعرف على مزيد من محكي الرواية، وأكثر من هذا القيم والمعاني التي تستبطن مادتها ومسارات شخصياتها، وهي الممثلة لرؤيتها، ومن خلالها سلوكا وأفكارا ومشاعر تنتج خطابها الدلالي. سنعرضها أولا، ثم نتناول الأكثر تمثيلية بينها بما يكون محفلا أساسا.
1ـ نورا، الشخصية المحور، منها ينطلق الحكي، هي مدار القصة، وإليها يعود كخيط حول مغزل. ولدت في عدن من أسرة ثرية، كانت ذات جاه في عهد الاحتلال الإنجليزي، ابنة إقطاعي كبير، سليل سلاطين وربيب الإنجليز. تربت عند أسرة إنجليزية في عدن، وبعد مصادرة أملاك أبيها ستحترف الرقص: ” هي امرأة تخطت الأربعين بقليل، وخبرت رفاقا كثيرين، وطافت العالم تلفّ جسدها بعلم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وهي تؤدي بلا هوادة ضمن الفرقة الوطنية لوحات راقصة فولكلورية، إنما بها الكثير من شغفها بالحياة وتوقها للتحرر”(64)4. يجمعها لقاء صدفة بالقيادي الثوري الملقب(جياب) يتطور ليصبح عشيقها، ويحدث إخبارا أن يختفي، وبعد اختفائه اللغز تتعرض لاعتداء من مجهولين، أو مجهولين بقرينة معلومين، ينجم عنه توقف مسيرتها الفنية، وتنقلب حياتها رأسا على عقب، لتبدأ مأساتها في قلب الرؤية المأساوية للرواية.
2ـ أبو نورا، هو امتداد وظل لها. لا نعرف عنه إلا نتفا، كونه ينتمي إلى عهد الإنجليز الذي رحل، تبوأ خلاله عضوية المجلس التشريعي بتوصية من المندوب السامي، وأنعمت عليه الملكة بوسام في الخمسينيات. صاحب أملاك كثيرة، وتاجر في المواشي، وحين جاءت الثورة أممت أملاكه، وتركته صفر اليدين، لا عجب أن بادل أعضاءها الكراهية والاحتقار. هو عمليا ظل وامتداد لشخصية ابنته، وجزء من العالم الماضي المنهار الذي قامت على حطامه ثورة الرفاق، يحضر كذكرى متمثلا في حنق نورا على هؤلاء، وتأكيد لانفصالها عن المحيط الذي تعيش فيه، وأحيانا في صورة حية لكنها أقرب إلى شبح أو رؤيا متخيلة وحضور منتكس ومبهم، ما أبصر فيه الناظر إليه سوى:” كبرياء مجروحة، ولمح مجدا غابرا” وهذه صورة معنوية مجازية، لا كائن من لحم دم، لذلك رغم رغبة إنعاش السرد بحيوية الحوار، أفترضها نية الكاتب، فإنه يأتي في خطاب من جنس الصورة، معدنه ومبتغاه المعنى، يكيل فيه الأب الصاع صاعين لمن دمروا مجده يندد بهم من خلال شخص شخصية صلاح الريفي ابن الثورة:” هل لا تزالون تعيشون مع أغنامكم في الشقق التي نهبتموها منا؟”(170) يزيد تنديدا بمثابة تعريف بهوية الطرفين:” تغلبتم علينا نحن الذين نعتموهم بالرجعيين وعملاء الانجليز، بقوة الشعارات وبغضب جماهير أمية”( م س).
3ـ صلاح، الشخصية المحورية الثانية، وأولى، أيضا، بحكم أنه طرف سارد في الرواية، وطرف صنو لشخصية نورا، مهمته كتابة مذكرات عشيقة الرئيس السابق لدائرته الحزبية وذلك بعد شهور من اختفائه. صلاح، ريفي سيلتحق بعدن بعد الثورة ويترقّى في الحزب ليبلغ مرتبة العمل في موقع التنسيق مع الأحزاب والمنظمات الثورية في “جنة الشيوعيين”، وفي الأخير يعرف مصير رفاق يزحف عليهم انقلاب جديد، ويمسي من الخاسرين.
4ـ جياب، اللقب المعطى لأحد القادة في الحزب الاشتراكي للجمهورية اليمنية، لا يتسمى، وأخذ لقبه من القائد الفيتنامي الجنرال فون نجوين جياب. الحاضر الغائب، حافز وأيقونة.
5ـ نضال(الإسم علامة) فلسطيني ملتحق بالثورة اليمنية بعد خروج الفلسطينيين من بيروت. تنقل بين عديد مهن وممارسات قبل أن يستقر به الحال في عدن بين فصيل شتات الشيوعيين العرب. شخصية عصابية موزعة بين تنفيذ الخدمات المطلوبة منه وبين نزواته ونرجسيته المفرطة. سنرى أنه واجهة للتشهير بقيم وسلوك ثورة أخرى قادها الغربان.
6ـ سناء، فلسطينية من الفوج الخارج من بيروت. بدورها، موزعة بين ضياع الوطن، بين انتمائها وخدمتها في ظل الجبهة القومية مع فريق المناضلين الحزبيين، هم في ولائهم للعقيدة كجيش من العبيد، وكذا علاقتها المعقدة مع نضال، واضح أنه تعبير عن ضياع إضافي وتشوش هو غمز من هوية المناضل لا يعرف أين المصير، ذاك المرتقب.
7ـ عباس(العراقي)الشيوعي الهارب من نظام بلاده(من سلطة البعث) يا للمفارقة، إلى عدن الحزب الاشتراكي الذي ينظم الصفوف ويدرب الرفاق لينقضا على الحكم مستقبلا في بلدانهم، وهو ما ينفك يعاني صراعا ممضّا غير مقتنع بإمكانية إسقاط النظام، فلم ضحّى إذن، تاركا الحبيبة، والأم الطاعنة في السن المتروكتين هناك، الخسارة إذن في القلب وعلى كف اليد، الويل الأخير إذ ينقلب عليه بلد ثورة الميعاد تريد أن تضحّي به بمكيدة، الرفاق سينقلبون عليه يتهمونه في جو الوشاية والتآمر بالخيانة، فيسقط المثال، والمراد هو السقوط.
8ـ بقطاش(الشيوعي الجزائري) في فصامه بين معتقده الإيديولوجي، وتديّن أبيه، لم تشف الإيديولوجيا الثورية المزعومة غليله ويبقى نادما، حنينه أن يلبي للوالد قراءة سورة يوسف، كأنه الحنين للعودة إلى الدين والبيئة الأصل، وقد رأى المثال يتفسخ والسقوط وشيكا.
8ـ الفرد من زمرة القادة في الحزب الاشتراكي اليمني، ذي الجبروت، لا نعرف له اسما غير اللقب الذي يحمل( جياب) تيمنا بالجنرال فو نغويان جياب، القائد الفيتنامي الشهير الذي هزم الفرنسيين في معركة ديان بيان فو(1954) وهزم بعدهم القوات الأمريكية. المعلومات الشخصية عنه شحيحة، تحتاج إلى لمِّها من شتات الخصال والصفات الملصقة به، والظلال المنسدلة عليه، ومن إحالات السارد واسترجاعات نورا العشيقة أو القرينة، بلا تحديد. ربما جاز القول إن خفاءه في السرد، وعملية إخفائه من طرف رفاقه، أي إزاحته، هي الشخصية الفعلية له، هذا البياض الشاسع على امتداد الرواية بين الغياب الفعلي والاستحضار عاطفيا وسياسيا، حسب الجهة والموقف. هو كذلك، الشخصية الرمز لكيف تأكل الثورة أبناءها. من له جماع هذه السمات كلها ليس واحداً، إنه تركيب من المتناقضات، وتجريده هو الإمكانية المتاحة للروائي ليجسد فيه تناقضات الثورة نفسها، وليعمل بفعالية شخصية نورا المركزية.
9ـ يمكن اعتبار مدينة عدن مع جياب تاريخا وسياقا سياسيّا ومسرح أحداث وملتقى قوميا للمعارضات الشيوعية وحقل تجربة جديد للثورية، ومنفىً وملاذاً لهم ومقبرة أيضاً للأحلام. (سنعود إليها باعتبارها الفضاء الأوسع للرواية) الشخصية الرمز، والحضن الجامع لهؤلاء الثوار المناضلين قادة وتابعين، أبناء اليمن والملتحقين بالثورة، ذات الأسماء والشعارت..
10ـ لا يفوتنا الإشارة إلى شخصية هلامية غولية(نسبة إلى الغول من صفاته الضخامة البشاعة والوحشية، كائن مجهول ومخيف) وهي القوة العليا المهيمنة لا تتسمى ويشار إليها بضمير الغائب للجمع(هم). تكتفي الرواية بإشارات خاطفة، وإحالات عابرة(من نورا) لأسماء القيادات اليمنية في عدن(حقبة التحولات والانقلابات):” تارة هو صاحب قرار التأميم(سالمين)، وتارة الممسك بكل المواقع(على ناصر) طورا، الذي يقتل في اشتباك مع الحراس(عبد الفتاح إسماعيل)” لتبتعد عن خطة الرواية التاريخية، تاركة حبلها على غارب القارئ، أو كأن معرفتها تحصيل حاصل، وهو تقدير خطأ، فالتوثيق يعد أيضا من أدوات الرواية أيّا كان التيار الذي تنضوي فيه. إن ذكر اسم حاكم ومرحلة حكم هو تعيين لتاريخ لا التاريخ، وكم من الروايات تستعين على هذا بالهامش، أو بملحق، إذا لم يرد كاتبها أن يثقل المتن، ولو وضع للمعلومة التاريخية غرزة مناسبة في سياق طرزه السردي لكان أفضل.
إن من يتأمل في” فاكهة للغربان” سيجد أن شخصيات الرواية لا تتوفر على وضع فردي، فإذا كان وضع ومفهوم الشخصية البطل قد أصبحا من ماضي الرواية الكلاسيكية والواقعية، إذ جاءت هذه بإبدال البطل الضد، أو الهامشي، وما في معناهما، أضف تعدد زوايا النظر (ج. جنيت) والأصوات( باختين) التي تسود في الرواية الحديثة؛ زيادة على هذا نلحظ أن أحمد زين يسند أدواره وتمثيل رؤية عمله ونقل خطابه إلى شخصية ثالثة، يصنعها ـ بمعية القارئ ـ من تركيبٍ بين وضع وهواجس وصوت اثنتين. هكذا، إن كيانية وتمثيلية الواحدة يمسي رهنا بوجود الثانية، لا بل يكاد يكون شرط وجود، إما فعلاً أو ردّ فعل، وإما صورةً تنعكس في مرآة، بل العمل كله ما هو إلا سلسلة الربط المحكم بين جملة وشائج وتقابلات، وصدامات، ولعبة مرايا، يسهم بكل تأكيد في التوتر الدرامي المطلوب تتضافر عوامل عدة داخل الرواية لصنعه داخل الرواية؛ سنسميه بنية الثنائيات، ويمكن استخدامها وحدها مادة دراسة وتحليل. سنكتفي هنا برسم هذه الثنائيات على الشكل التالي:
1ـ نوراـ صلاح: لكل منهما وضعه، وعلاقتهما تتألف من مجموعة عناصر تتعالق في ما بينها ولا يمكن أن تؤخذ منفصلة: المرسل ـ المرسل إليه؛ الدعوة( لكتابة المذكرات)ـ تلبيتها؛ العطاء ـ الأخذ؛ سرد المرسل ـ وظيفة الكتابة( للمذكرات)؛ حضور نورا الجسدي ـ حضور صلاح الجسدي؛ استيهامات نوراـ إيحاءات وتأويلات صلاح؛ محكي نوراـ من صميم عالم صلاح؛ بقاء نورا ـ بقاء صلاح؛ فناء نورا ـ زوال صلاح.
2ـ نقلب العلاقة ونقول كذلك: صلاح ـ نورا: ” ستعهد إليه بدفاتر ورسائل وصور، الكثير من الصور، وأيضا أشرطة. كل ذلك أريد أن تصنع منه مذكراتي”(94).
3ـ نوراـ جياب: حضور الأولى مشترط بغياب الثاني؛ ذاكرة نورا تتغذى وتتقاطع مع وبذاكرة جياب؛ عطب نورا ناجم عن اختفاء جياب؛ نهاية نوراـ مقتل جياب. صورة جياب تتشكل وترسم متشظيةً من مرويات نورا عنه، وتأسيس شخصيتها(الروائية) بصيرورتها إلى سقوطها المريع هو قادح زناده.
4ـ نوراـ عدن: تتكون رؤية العالم عند نورا من التوتر بين ثنائيات متناقضة عدن في قلبها، تمثل في السطح نموذج الحياة التي عاشتها وانتهت إليها وكذلك ما حولها؛ وفي الداخل (عمق)، (السيكولوجي والعاطفي) الميلادـ الزوال؛ الماضي( تليد) ـ الحاضر” طارئ ؛ مجد ـ انحطاط 5ـ تمدن ـ بداوة وترييف؛ بالإمكان التوسع وقراءة (نورا) بخاتمتها المأساوية بالتماهي مع عدن بين ماضيها والحاضر الدموي الذي آلت إليه وذهابها نحو المجهول.
6ـ على الرغم من أنها شخصيات نمطية(نضال، سناء، عباس، بقطاش) طباعُها وأفعالُها متواترةٌ نرصدها مستنسخةً في السرود العربية ذات التيمة النضالية، كأنها لا تتميز بشيء يخصها ، فإنها هنا قابلة لأن تدرج في الرواية ضمن بنية الثتائيات، ومعنى وجودها وقيمتها محدد بهذه العلاقة، أرى فيها طريقة ممكنة لتقليص خصائص النمطية عنها وإخصاب روح الفردية، تلقيحها بالذاتية، ليمكن تقبلها شخصية روائية ما أمكن، وهو ما تحقق جزئيا.
من يسرد ماذا في هذه الرواية؟
ـ هذه الشخصيات مفردةً ومجتمعة، منفردةً ومضامنة، تدين بوجودها لما يسميه نحو السرد بالسارد، لا الراوي، كما يتمحّل البعض، لأنه ينجز عملية كتابية بإواليات خاصة بها، غير ما يحدث مع الحكاية(الشفاهية، متلقيها مستمع لا قارئ) وهي غير الرواية العصرية التي اقترحت هذا الكائن من ورق وأوكلت إليه مهامّ محددة، فوظفها الكاتب في بداياتها برقابة صارمة على عمله(سرده) وارتبطت غالبا باختبائه وراء ضمير الغائب تقصِّيا للموضوعية والحياد، بنفي ذات الكاتب، واستقصاء عالم خارجي حاضر ومنفصل ويتمثل بالتعيين؛ ثم طفقت مواقعه تدريجيا تتبدل بين الضمائر وتتلوّن خلف الأقنعة والهويات وإن بقيت الهيمنة لما/ لمن يكنى بـ(السارد العليم)، القصد، العارف بكل أحد، وفعل، وشيء، يعلن الظاهر ويشي بالباطن، يحبك ويشبك، ولا ينبغي ـ وهذا من مهارة الكاتب ـ أن يشتبك معه أو يتكلم من حنجرته أو يتنفس من مسامه حتى لو بدا كذلك لقارئ يُغلِّب التماهي على التباعد. نستدعي هذه الملاحظات العامة عن مفهوم ووضع السارد للموقع الهام الذي يشغله في” فاكهة للغربان”، من حيث أنه يمثل اختيارا فنيا أكثر من مجرد قيامه بالدور التقليدي لنقْلِ الخبر وتسريد القصة ومتابعة جريان الأحداث وأفعال الشخصيات في خط أفقي غالبا لدى اعتماد الخطية، أو بطرق أخرى إذا تنكّبها عمدا، وهذا ما انتهجه أحمد زين، نراه قد بنى روايته وفق مخطط يتحكم فيه السارد في منظومة الحكي والتمثيل والفعل والتداعي والكسر المنتظم لأي خطية حادثة أو محتملة، ذلك كله من غير أن نجزم في شأن هويته، ولا أين يقع، وهي مسألة تتطلب أولا التحديد التالي:
ـ تعتمد الرواية عادة ساردا واحدا، يبدو أحيانا أو يوهم الكاتب بأنه يتعدد وينتقل بين الشخصيات وزوايا النظر، وهنا نحن مع ثلاثة سرّاد: نورا، صلاح، والسارد الثالث(العليم ـ سنرمز له بـ” سع”). تستهل نورا السرد بوضع ووصف حالتها في موقع وسياق مكاني وزماني شعوري:” صرخت بكل ما تذخره حنجرتي من قوة. كنت أسمع صوتا صاخبا، يغطي على ما سواه من ضوضاء، وتخيلت أناسا يتركون مشاغلهم ويهرعون للنجدة، مفتشين عن امرأة تصرخ في هذا الليل(…)كان صراخي يرتدّ إلى أعماقي ويتلاشى هناك” (11). بعد نهاية الفقرة، يتولى(سع)السرد: “كانت للتو هبطت من بار الروك هوتيل، سارت بخطوات متمهلة، يُثقلها تأثير الأغنية السوداء، وذلك الالتماع في عيني النادل الأسمر..” (م س). مباشرة، تلتقط نورا سرد حالتها، ما حدث لها، تقدم لنا الخبر دفعة واحدة، وهو ما سنتعرف عليه لاحقا بتفصيل، تهيئنا لاستقباله في مدخل الرواية:”مثل كابوس بدأت الحادثة، حتى قدماي ما طاوعتاني على الفرار كأنما هناك يدٌ خفية امتدت وقيدتهما في مكانهما” (12). يتدخل(سع) ليقدم لنا شخصية صلاح، فقط، غير معنيٍّ في هذه المرحلة بتعريف:” يخطر لصلاح أنه بات يحب الطريقة التي تنظر بها إلى صورها معتبرا ذلك انزلاقا في التساهل معها، هو الذي لا يزال يتوخّى الحذر معها حتى تخبره بما تريده منه”(م س). فما يلبث أن يجمعهما معا تحت دائرة ضوء واحد:” تلاشى المساء سريعا، وهبط الليل في الغرفة، وبقي[نورا وصلاح] مغمورين بالصمت والظلام ورائحة عطر ممزوجة بأدخنة السجائر”(13). بينما يأتي موقع صلاح متنقلا بين عين راصدة لمن وما حوله(كاميرا واصفة)؛وإما انعكاساً لشعور الشخصية أمامه(نورا، بالذات)في الوضع والفضاء المغلق الذي سيصبح مضمار الحكي، ويمكن اعتباره أيضا حالاًّ في السارد العليم، ومتماهياً معه، وهذا من ذاك.
يفيدنا وصفُ تعدّدِ السرّاد وتنوّعهم في رسم شبكة العلاقات بين الشخصيات في نسيج السرد، هي التي تصنع لعبة السرد الخاصة في هذه الرواية، بدونها يكون إخبارا عاما، والرواية إخبارٌ خاص، بطريقة فنية، تُصنع هنا من حركة التنقل المستمر بين الشخصيات، ساردةً وفاعلة، في آن، وبالإمكان رسم هذه الشبكة بدقة متناهية في لوحات مستقلة تظهر الانتقالات، مرة تحافظ على التسلسل(الخطية)، مرة أخرى تكسره، بالاسترجاع أو الاستباق وما بينهما في بؤرة ثلاثية جامعة للماضي والحاضر والمستشرَف، وتسمح رغم هذا التفكك بصنع دوائر عبارة عن أقراط يشبك الواحد الآخر، وباب يؤدي إلى أبواب، الحركة بينهما سرد البحث عن طريق، وتيه يطيل ويعمِّق المكابدة المأساوية لضحية الغربان وهي تَنهش قطعة، قطعة، على نص يُعطينا قِطعا مفككةً وينبغي للتلقي أن يضمّها بوتيرة منتظمة ليركب ذلك ال(Puzzle)، يعتبر الوصول إليه امتحانا للكاتب قبل القارئ، إذ الرواية تركيب مهما تمادت في التفكيك، يتم بعُرى ظاهرة وخفية، وليست إنشاء ومناجاة، البتة، كما سنفصل لاحقا. تمكن أوضاع السارد المرسومة، من جهة أخرى، من إحداث الفجوات المطلوبة من لدن الكاتب، مع عناصر أخرى، ركنا أساسا ممثلا لرؤية الانهيار والشتات، فيظهر الفراغ، والبياض، واللاّ شيء، وانقطاع المعابر، وهي مساحات وأفضية في فضاء النص العام، هذه الجزر المتباعدة في أرخبيل الحكي، شكلا لأشكال منسجما مع مضمون العمل ومعبرا عنه. بعبارة أخرى، إن طرائق السرد هنا ماهية، بما يؤهل للسؤال: يسرد ماذا؟ يؤكد التجانس. فنخلُص إلى أن لعبة السرد في هذه الرواية مكوِّن لرؤيتها وأداةٌ أساس لبنائها وتوسيع مفاصلها وتوزيعها في وحدات خبرية يتخللها الخيط الخبري لسردية وشخصية نورا، خيط أحمر بين الخيوط الباقية المتشابهة تؤالف بينها الروح الرفاقية الثورية وإخفاقاتها الارتدادية. ونخلص إلى السارد/ السراد مقتضى مهمتهم غير المعهود تقليديا، بما هو موقع نقل الخبر ومتابعته وهو ينمو ليس خارج الحكي محايدا، هو في داخله ومندغم فيه، إلى درجة يمكن القول معها أن هذا الموقع غير موجود أو افتراضي، فكل شخصية تحكي نفسها وحالها أو تكاد، وكل شخصية هي سارد للأخرى بوصفها مرآة خارجية تعكس صورتها، لا محاكاة واقعية، لكن بالشظايا، تأكيدا للانفصال عن الرواية الواقعية التقليدية، لأننا لا نبتعد بتاتا عن الواقع في” فاكهة للغربان”، هي دائمة الالتفات إليه، والانسراد والتشكل ضمن أطره الموضوعية؛ وبوصفها كذلك صوتها الداخلي وبمواجدها وأسرارها تبوح.
بوسعنا في هذا السياق أن نعدّ خطاب وبوح المونولوج الداخلي، وضعا ساردا، هو منها وينفرد بوضع خاص، كثير وشبه لازمة عند نورا، الشخصية قطب رحى الرواية، وإذ ذكرنا أن من سمات هذا العمل تعدد أصواته، فمن شأنها أن تحمل تكاثرا لملفوظاته وبراديغماته الخطابية، تفتقر للنسق، ويطغى عليها التنافر، لك أن تعتبره عنصر تكوين فيها بحكم مُهيمنة تشتت البناء، لا عيبا أو تقصيرا بالضرورة، وإن كان، كما أشرنا في بداية القراءة، مشوشا لما يحدثه من بلبلة وعسر هما أقرب إلى الإبهام والالتباس، منه إلى ذلك الغموض الساحر الشفاف. إن هناك فرقا بين تعديد وتنويع الأوضاع والمواقع السردية، وبين هذه إذ تتحول إلى ضجيج ناجم عن خليط أصوات cacophonie بينما الصوت الحقيقي المميز للرواية الحديثة والجديدة هو الإيقاع الداخلي، قد يكون نبراً، أو صورةً، مشهداً خلفيا، أطيافا مرسومة بعبارات هاربة موحية، الفاكهة معنى مضمراً، والغربان طيوراً محلقة وصائتة ومجازية، لغة، وحتى اصطلاحا أحب أن أسميها المياه الجوفية للسرد. كأني بأحمد زين كان موسوسا بهذه الورطة، يتوقف في نوع من الاستدراك في النهايات بمناسبة تساؤل مضمر لصلاح المكلف بتدوين مذكرات نورا، حسب طلبها، فيلاحظ عليها: “(…) أمس، تحكي عن شخصيات عديدة، كما لو أنها شخصية واحدة، دون اعتبار لاختلاف شخصية عن أخرى(…) في حالته ككاتب لمذكراتها، أيّ طريق يتعيّن عليه، هو الذي لم يسبق له أن جرّب كتابة صفحة واحدة لمذكرات أو يوميات، أن يسلكه وسط تشابك هذه الشخصيات وتداخلها؟”(205). لنتساءل، أولا يمكن أن نعد المذكرات المفترضة محفلا سرديا، غائبا وحاضرا، ذريعة خدعة اصطنعها الكاتب ذاته، ها هو ذا السارد الجامع؟ ولن أصل إلى صلاحية أن يختار كاتب شخصية لتنفيذ دور تجهل حرفته!
الرواية داخل الرواية، أو الطيّ
يمكن قراءة ” فاكهة للغربان” متنا يحوي روايتين تجتمعان في فضاء مدينة عدن ومناخها السياسي في فترة تاريخية تبقى عائمة، لأن الزمن ليس من برادغمات الرواية إلا كعلامة (سيميائية) فاصلة بين عهدين ودلالتين. هذا التأويل قابل تماما للتشخيص والتحليل، لا سيما أننا إزاء عمل البنيةُ الثابتة فيه هي التفكيك، فيما أخرى بصدد التكوين عناصرها قيد التعالق أقربُها بنية التشظي؛ بمعنى أنه يتيح تنشيط التلقي بعمليات تركيب مختلفة، هذا يُحسَب له، بالطبع، لو وجد من يتحمس لهذا اللعب، ويقبل بسرد التخييل لعبةً فنية أكثر منها للتصدي لإدانة واقع فاضح لثورات خائبة ومناضلين خاسرين ورفاق انتهازيين وقادة يتحولون إلى جبابرة يقتلون بكاتم الصوت لأقل خلاف، بالاستقرار في نص راقٍ لا في منفستو احتجاج. سنساير رغبتنا ونرتقي معه ونستعيد بنية الثنائيات، المشار إليها أعلاه، فنؤكدها بثنائية محكيّين: قصة نورا الشخصية (مع جياب) والكلية(بعد العطب واختفائه، وقبالة قصة عدن)، وقصة الثورة اليمنية الاشتراكية من خلال مسارات ومحكيات الرفاق، ماض وحاضر، حتى النهايات.
عوض الحديث عن روايتين متجاورتين أو متوازيتين، تعتبر تقنية la mise en abyme الأنسب لـ(فاكهة..). وتعريفها في نحو السرد الفرنسي، وقد التُقطت بداية عند أندري جيد، جربها في قصته”Paludes”(1895) إضمار محكي أو قصة داخل الثانية، أو دمج أخبار وحكايات في صلبها(عند دون كيخوته)، هي إذن عملية طيّ وتراسل بين محكيين في آن. نقطة انطلاق عمل أحمد زين وضع نورا وهي في أزمة، وإدخال الطرف الذي سيتولى معها إخبارنا بالتفاصيل تأتي متفرقة بل مبعثرة، نعيد تلخيصها في أنها تنتمي إلى عائلة عريقة ثرية، وتربت في أحضان الإنجليز، حيث تعلمت حصص الموسيقى والتحقت بدروس لتعلم الباليه والأكروبات، وبعد جلاء الإنجليز عن عدن أمّمت الثورة أملاك والدها: ” والتقت معلما روسيا للرقص قدر أن يقنعها أن بعض الرقصات الشعبية يمكن العثور فيها على ترابط مع الباليه، ومن هنا بدأت الحكاية”(99)، القصد الصدفة التي تعرفت بها على قائد كبير(جياب) وأصبحت خليلة له، أهّلها لتقديم العروض الراقصة باسم اليمن في محافل أجنبية ورافقته في مهامّ كبرى إلى موسكو الحليفة الأولى لاشتراكيّي الجنوب في عدن؛ ثم يتم إسقاط القائد ويختفي، معه يأفل نجم نورا بعد أن تعرضت لهجوم من مجهولين سيعطب قدميها لتنكفئ إلى بيتها تندب حظها وتجتر ذكريات تريد أن تمليها على صلاح في مذكرات الخ..والقصة الثانية ترصد أوضاع مدينة عدن وهي تحتضن تجربة حكم الحزب الاشتراكي اليمني، يخوضها الرفاق الثوار في خططهم وصراعاتهم، والمتحزبين، أبناء البلد من القبائل ، واليساريين، خليط مناضلين وضائعين، وفدوا إلى اليمن منجذبين إلى تجربتها الفريدة، ليتهيأوا ويتدربوا للانقضاض على الحكم في بلدانهم، وهم يتخبطون في عيش مضطرب ومتوتر مشدود بين عقيدتهم الثورية ونزواتهم وتطلعات مجهضة، في ظل قيادة تزعم التغيير الجذري بما فيه اجتثات بعضها وتبعيتها للمعسكر الاشتراكي(السوفييتي، خاصة) خبراؤه وتقنيوه رديف وغطاء للثورة. الرابط بين القصتين هو صلاح بحكم المهمة المطلوبة منه:” ذهب إليها[ نورا] لأنه عد ذلك نوعا من الوفاء لرئيسه السابق[جياب] في الدائرة التي يعمل بها، وكانت مرت شهور على اختفائه” (21)، ولانتمائه لمجتمع الحزب الذي تنبذه نورا وتحمل له ضغينة دفينة لما ألحق بحبيبها، وبوالدها، انتهاءً بالمأساة الشخصية بعطب قدميها، أي الإجهاز عليها بإنهاء مسيرتها الفنية.
تتناوب القصتان في إيقاع سردي متقطع لا ناظم له، من مقطع إلى الذي يليه، أحيانا في المقطع الواحد، مما يربك القراءة، حيث يختلط أكثر من سارد وشخصية، ويبدو الحكي وكأنه مكتوب في رأسها يصدر مونولوجا داخليا ليرتد لصاحبها كأنما هو انسجام مع قصتها كوحدة(بؤرة)مغلقة، ويتواتر الانتقال، هكذا بلا تهيؤ أو معبر، حتى تصبح الرواية جزيئات وتثنية مسترسلة عليك أن تنتبه مَن يتولى المرسل مِن المرسل إليه، من صاحب الخطاب، من ينفعل ويعي ويفعل، عمليا لا فعلا، وإنما ما يمور في النفس( نورا) من انفعالات في وضع الثبات، صنو رؤية الانكسار والخيبة للرواية. إنها، مرة أخرى، بنية الثنائيات حتى ضمن نسق الطيّ، الذي يجد له الكاتب طريقة للتراسل بين المنفتح والمنغلق، عدن الخارج، وشقة نورا الداخل، عبر الوسيط (كاتب المذكرات المفترضة)صلاح. هي طريقة فضائية، وكرونوتوبة، تتحدد بالانتقال من المدينة ومجتمع الرفاق وركوب الحافلة للوصول إلى شقة نورا في وقت محدد تغمرها العتمة بينما في الخارج الضوء، ويتعين معنى المكان والزمان بالتضافر يشيران إلى تقابل عالمين منفصلين ومتجاورين، ورسم حركة ذهاب وإياب وإن في حلقة مفرغة، بمعنى أنها غير منتجة سرديا(لا فعل ولا خبر يترتب عنها) ولا سيكولوجيا(نورا لا تني تأكل نفسها تراوح ذاتها وفي مكانها) بينما صلاح يراقب ويتلقى وهو في وضع سلبي، فهو وهي تارة واحدة متزامنة(كرونوتوب) وأخرى في انفصال:” يحقد عليها كبورجوازية متغطرسة، تعيش في ترف وتحيا وسط أثاثها الفيكتوري، ولا تعترف سوى بالزمن الإنجليزي” (52). يبقى الثبات ذاته في ثنائية سالبة بتعارض انتماء الطرفين (الشخصيتين والمعتقدين) ولن يحدث الطلاق إلا في النهاية وشكليا فقط، حين انفصالهما عندما يتم طرد نورا من شقتها على يده، وطرده هو بدوره من موقعه الحزبي جرّاء انقلاب أطاح بقيادة أمس، وجلب أخرى جديدة ستصفي، كالعادة، أبناء الثورة.
تحدثنا عن قصتين في تقنية الإضمار والطي، وسكتنا عن القصة الثالثة، المضمرة في الأولى، والتي ظلت على امتداد الرواية قيد التكوين، هذه التي تخص محكيا واحدا يخبر بعلاقة نورا مع العشير الخليل الملقب جياب، تحكيها مبعثرة تبعثر وضعها ومزاجها ومدى استعدادها للقول كثيرا ما يتعثر ويتعذّر بسبب قسوة التذكر، أو انجرافها مع خطاب اللاوعي يقف عقبة أمام جامع حكايتها المكلف بتدوينها في شكل مذكرات. المذكرات في هذه الرواية هي النص الحاضر الغائب، المكتوب بحبر سري( فرعوني) وبالحبر الأسود، المتخلل بين السطور بمخاتلة وإشارات وأوصاف تتهادى، تترنح بين الحقيقة والحلم، من جنس راويها راقصة الباليه الأكروبات، فيها العنصر المادي من عشرتها مع جياب:” كان جسدي يستشعر جبروت جسمه. كل جزء منه يئن تحته. وتفر عيناي بينما يهصرني بين ذراعيه (…) كيف يكون حين يستولي علي، وكيف يجتاحني، ثم يتركني كالذبيحة، يبقى جسدي يختلج ليس بسبب الرعشة المزلزلة، إنما من نجاتي مما أعتقد أنه سيقدم عليه في كل مرة يدخلني”(147)؛ “وذكرت أنها تحشى أحيانا يده، التي وقعت قرارات بالنفي وإقامات جبرية ومرة مقترحا بالإعدام”(151)، لا بل إنها هي، تحت وابل التذكر وفي سياقه، هي والسارد العليم، يشخّصانه كامل الحضور، ناطقا باسمه معبرا عن مخاوفه ومشاعره تجاهها:” إنهم يراقبونني. قال جياب في زمن أضحى بعيدا(…) لكنهم لن يستطيعوا فعل شيء لي. أضاف جياب”(167). ولتبديد الخفاء الذي يلفّه كالعدم تحضر الذكرى بكثافة حاملةً كمّها من الخبر اليقين:” وتتذكر أنها لم تلحظ يومئذ أي ارتياح في نبرة صوته. كان ذلك بُعيد عودتهم من الكويت، أواخر مارس1978، حين تم الاتفاق على الوحدة اليمنية عقب انتهاء حرب صنعاء” (م س)، والحُلم يرفرف بأجنحة الاستيهامات، ستُجهد صلاح(المدوّن) في كيفية القبض عليها، أي على ذكرياتها، يحار كيف يلمُّها، لتشتتها، ولأنها بعد حرقتها الممضة، إذ تروي عن جياب ومحيطه، تطعن في عقيدته السياسية فيرى المدوّن كأنه يخون قضيته، علاوة على أن مشغّلته تقف في منتصف الطريق من مسعاها، ما تفتأ تسأله:” أين وصلت في المذكرات؟” التي لم يكتب منها حرفا يبرر بطأه بحاجته إلى وثائق وصور، في وقت هي نفسها:” تفكر أن المذكرات، كما بدت لها مرة فكرة غير مثالية لامرأة بالكاد تستطيع أن تحرك جسدها من مكان إلى آخر.”(158) فنخلص إلى القول بعد حصر المحكي الثالث، إلى أنه إضافة إلى وجوده مطويا يخضع لتقنية الانكتاب التدريجي للقصة من ضمنها وفي سياق تبلورها، مجسَّدةً في عمل جيد المشار إليه، ونهجه المسنن يقرره الدرس الروائي عند فرجينيا وولف بما يصطلح عليه بـWOORK IN PROGRESS خصوصا في روايتها Mrs.Dalloway (1925).
وما لنا لا نذهب إلى حصر قصة رابعة، مطوية، تخص سيرة صلاح، نحسبه في البداية مجرد وسيط بين عامين وقصتين، وفي أحسن حال عضوا منتمياً إلى مجتمع الرفاق موظفا في مصلحة سياسية؛ وإذ بقصته تُسرد عناصرها الحكائية، مجزأةً ومتناثرةً بدورها، محكومةً بنسق التشظي العام، ومندرجة في بنيتى التفكيك والثنائية تُمددانها وتغنيانها بما يمنحها الدلالة في التقابل والتعارض والتناقض بين انتماءين(ريف/ مدينة) وتاريخي(احتلالي،رجعي/ اشتراكي، ثوري)،ومذهبي ملفوظه(إيمانه الصادق بمبادئ الحزب والتشكيك بتخليه عنها)، حتى في وضعه الوسيطي بين نورا ومجتمع الخارج يتثبت براديغم الضدية يعمق معنى ومناخ أن لا شيء على ما يرام:” كان قد لاحظ مؤخرا أنه لم تنشأ بينهما، حتى الآن، علاقة تميزها الألفة أو حميمية ما، كالتي تنمو بين شخصين مماثلين أي شخص لديه ما يرويه، وشخص يتلقف مروياته، لتحويلها إلى مذكرات”(94).وللتعارض عديد أسماء وصفات منها النفاق والانتهازية، والثورية مصطبغة بالتطلعات البورجوازية(نضال، مثالها الساطع) والنقاء الثوري مصحوبا بالارتشاء والفساد ومظاهر البذخ(سيرة النضال والتقشف تقابلها حياة البذخ للوفود التي تزور عدن وتقيم في فيلا فخمة وتستهلم أجود الخمور والسيجار.. والرشوة المنظمة بتقاسم عوائد النادي الليلي لعدن بين إدارة المعسكر والقادة السياسين(46)) . عطب التناقض الذي يسري في جسد جميع الفاعلين والأفعال، تمثيلها الأقوى في جياب الموصوف بـ”الذي كان يعيش حيوات كثيرة في حياة واحدة” (168) ولا استطاع صلاح بإيمانه الثوري الساذج لشخص قادم من الريف ومتشبع بأخلاق القبيلة:” أن يتفهّم كيف للرفيق جياب أن تكون له علاقة بامرأة، ملوثة بالعادات الأمبريالية”(83)؛ هي علاقة عجز بسبب براءته الأولى عن فهم كنهها:” بين نورا ابنة شيخ قبيلة وتاجر وعميل وأخيها ضابط كبير، علّمه جيش الاستعمار ودرّبه، وبين جياب الثائر والماركسي، ومن كان في طليعة من سلبوا شيوخ القبائل وأحفاد السلاطين ألقابهم، وهو من صفّى مع آخرين، كبار الضباط في الجيش، واستبدل بهم الريفيين والفدائيين، قصد تأمينه من القوى ىالرجعية”(84)، جياب دائما الذي، لننتبه إلى مزيد المفارقة:” كان شديد الإيمان بأحلامه، وكافرا برفاقه، عدد منهم شِبه أمِّي ومتديّن بصورة تدعو للرثاء”(م س). تقابله نورا من جنس سلوكه تزعم:” أنا أيضا اشتراكية، اشتراكية صميم، لكن على طريقتي”(ن).
نخلص إلى القول بأن سيرة جياب هي القصة الخامسة المطوية في متن الرواية، بما يسمح في الاستنتاج الأخير بتمثيلين للخطة السردية المتبعة في”فاكهة للغربان”: تمثيل matryochka الدمى الروسية، الواحدة الكبرى دونها صغرى فأصغر ثم أصغر منها؛ الثاني، في صورة المرايا المتقابلة، في لعبة انعكاس متبادلة، كل شخصية مرآةٌ تتحدد، تنهكس فيها ملامح الشخصية: نورا في مرآة صلاح؛ صلاح في مرآة نورا؛ جياب في مرآة نورا؛ جياب في مرآة صلاح؛ نضال وسناء وبقطاش وعباس في مرآة صلاح؛ الثورة بما لها وعليها في مرآة الرفاق؛ عدن في مرآة تاريخين…نورا ـ صلاح ـ نورا مرآة بعضهما وللجميع، إليكم هذا المقطع يأتي في النهايات كأنه بمثابة تركيب وتبيان كيف تتناسل قصة من ثانية، وكيف تلقح شخصية غيرها فتزحزح بعض ثبات الصورة في المرآة، يعطى صلاح مثالاً:” كانت[ نورا] تأخذه بكلامها وحكاياتها(…) وكانا يلجان دواخل شخصيات، ويفضّان صناديق أسرار مغلقة على نفسها. وهي تحكي له أسرارها، وتبوح بشظايا من أزمنة عاشتها وحيدة، وبرفقة الآخرين، كان رويداً يتعرف على نفسه، ويتلمّس خطواته فوق أرض الواقع، بعد أن عاش طويلا في كنف الشعارات والوعود التي لم تتحقق..”(234). قلت تتزحزح بعض الصورة لا كلها أو جلها، فالمرآة منصوبة لتعكس ما وقع إذ تحاكيه في كمال تفككه وخريطة تشظيه، عبر أوضاع، وأنماط سلوك ومشاهد يومية لمعيش مناضلين منخرطين ومضحّى بهم في خضم أجواء ثورية موصومة، مصطبغة بخضاب إيديولوجية تفضحها نقائضها يأتي السرد الروائي كأنما ينصب لها محاكمة فيدينها وينفض اليد منها في الآن عينه، بما يدين به الثوريون أعداءهم حين يعلنون أنهم ألقي بهم في” مزبلة التاريخ”. ونورا في حاضرها المرير، وبينما يوهمنا الكاتب أنها ونحن معها تنتظر انفراجا وأملا، يباغتها صلاح بخبر مقتل جياب، إنما خلافا لتوقعه:” خيبت ظنه، فلم تنكب في البكاء، لم تصرخ وتشد شعرها أو تقطع ثيابها حرقة على خسارته. كأنما كانت تدرك سلفا أن جياب سينتهي إلى ذلك المصير، وسيتلاشى من حياتها بالسرعة نفسها التي دخل بها.”(235). بقيت ثابتة الجنان مكابرة، محافظة على كبريائها فيما هو يتوقع لها السقوط، مجد الماضي!
فضاء العطب والانشطار
أعلن الكاتب النعي من البداية، وطفق بعد ذلك يركب البوزل، أو بالأحرى يفككه، وحريّ بالقارئ أن يلتقط الصورة الأولى والإيقاع الافتتاحي واللون الداكن للغربان من فضاء بار الروك هوتيل وعلاماته السيميائية من عتمة ونادل أسمر ولحن هو بؤرة الرواية. استهلال وتهيؤ لـ”حفلة العطب” التي تعد هذه الرواية بمجموع محافلها ومشاهدها ومعتركاتها وممثليها الكبار والصغار في مختلف الأدوار مسرحها، بطلها وموضوعها وإشكاليتها المزمنة فيها والأوجاع والرهانات كلها فيها عنوانها وتجسيدها فيما نسميه ” تيمة العطب” نستمده من تكرارها في المتن مفردة حرفا، وتلفظا وبوحا ومشاعرَ وصوراً ورائحةً وحركةً وإشارةً وظلالاً، الوجوه المختصرة لعلامتها(السيميائية). منذ أعماله الأولى بدا أحمد زين معنيا ببناء عالم وفضاء روائيين خصوصيين مستمدين ومعبرين عن رؤية كلية تاريخية وسياسية لبلاده، بجذورها الإناسية ومسارات الجماعات والأفراد في مدار تحولاتها الفاجعة مصابة كلها بالعطب، وسروده مرآة لسلسلة الأعطاب وتشخيص لها تفاوتت بين تمثيل واقعي عارضة فيه صور الشهادة وعبارات الإدانة، وبين تخييل يشير إلى الداء بعلامات الألم تطفو فوق جلد وروح الفرد الموزع فاقد الاختيار، من يعيش مصيرا مأساويا بالرغم منه وفوق طاقته.
إنه التصعيد الأدبي لمقاربة العطب تيمةً مركزيةً لا موضوعا من بين مواضيع، كما يفعل كثير من كتاب الرواية العربية في السنوات الأخيرة، تراهم من إصدار لآخر كأنما يفتحون معجما وينتقون، ويلفقون له وحوله قصة تتجاوب مع مناسبة، ويقمّطونه بإنشائيات تلائمه ويرتاح له جمهور المناسبات ويصفق، يوهمون كاتبها أنه روائي فيما هو مرقّص قردة شاخت وباتت طوع اليمين.
الروائي بحق من يصل بعد دأب ومثابرة إلى القبض على الوجود إنسانا وكينونة وحياة وحبكها بخيوط تنسج شبكة وحدتها الكلية، إما استبطنها بالحدس أو عثر عليها بالوعي وفهم حركة التاريخ، وهذا ما يصنع التيمة، تتمتع بوجود مبتكر وقد انتقلت إلى صعيد التخييل، الذي يبني أطرافها ويسفر عن وجهها، ويحفر، يهبط إلى قاع فيجده، ويعطيه عنوان العطب، منذئذ تبدأ مغامرة التأسيس لمشروع روائي، وسواه مستنسخات وحكايات مكرورة وكتب منفوخة بشخصيات وأوصاف وتباريح معلبة.
منذ استهلال” فاكهة للغربان” تتوزع إشارات الحديث عن العطب بعلامات محددة، تخص نورا أولا، ثم تتعدد وتعمم فتشمل شخصيات غيرها ومجالا أوسع أفقيا وعموديا، ليصبح مرضا متفشيا كالجائحة. تعتبر الحادثة التي تعرضت لها نورا الحافز الأول لتصور نشأة قصة قابلة للحكي وتناسل الشخصيات وانطلاق الأفعال وتأثيث الفضاء، هي صناعة طولية، بدهية، لعرض أولي للحكايةـ القصة تدريجيا، وحسب الخطة الفنية للكاتب، المنوه بها سابقا،
بيد أن الأهم هو أثر العدوى الذي تقوم به الحادثة، فتظهر في صورة حصى ترمى في بركة وما يرتد عنها من دوائر. نتوفر على محضر يسجلها تتعدد فيه الصياغات حسب المعاينات وزاوية النظر، إنما كلها تفيد فعلا مخصوصا(الاعتداء)، ومعنى واحدا (الإصابة)، ودلالة مركزية (الإعاقة). يمكن تقديم الأمثلة التالية، من البدايات:
ـ “(…) اعتادت، منذ اختفاء جياب، ثم حادثة قدميها، الذهاب إلى سريرها باكرا(…) لكن بلا نعاس، فالألم لا يطيل ليلها.”(14)؛
ـ ” لفترة طويلة لا تقوى على النظر إلى قدميها”(25)؛
ـ كانت تحتاج ربما إلى قدر أسطوري من الجرأة(…) لتستطيع أن تنظر إلى قدميها اللتين بقيتا، منذ ذلك الحين[الاعتداء] تختفيان في أربطة ناعمة”(26)؛
ـ ” مبهورا يبقى[صلاح] بتلك المرأة التي أضحت هاجعة في مكانها، غير قادرة على الحركة”(41)؛
ـ ” يوما بعد يوم أرى جسدي، كما يرى المرء عدوا له.”(67)؛
ـ هي” تعيش اليوم عذابا يقهرها بسبب قدميها المعطوبين”.
يرافقها بالتوازي أو ملتحقة صور تجسيد الاعتداء،، تُعطى خلفيةً ونسبيةً وشبحية، كأنها قوة خفية قامت بها ولا ينبغي أن تُعلم. هكذا، تلغى الصيغةُ الخبرية التي يتطلع إليها القارئ عادة تتحدد بفعل وعامل وحافز، ما دام الأمر يتعلق باعتداء، لفائدة بؤر العتمات والإيماءات الموحية للكتابة، من شأنها أن تضخم الوضع المأساوي للشخصية، يجعلها في موقع فوق ما يحدث لأفراد عاديين، وتتكثف ظلال الخفاء وحيّز البياض يتسع بهما المعنى وتنشط فاعلية التأويل في التلقي، لاسيما وهي موضع تبئير للسرد، تبدأ منه، والمحكيات الأخرى تتخلله، ومعها نبلغ الختام لو جاز أن هناك ختاما، إذ هذا النوع من القص بصفاته يبقى مفتوحا. وإذن، يعمل الوصف بأداة تقوم به العين(الخرائطية) أي ترسم خريطة تطلق مسلسلا يولد نظاما بنائيا، فتظهر معه مسارات لا محدودة يمكن المضي فيها، وتبني معه الخريطة فضاء تؤخذ فيه بعين الاعتبار الاتجاهات وحدها، حسب نظرية (الريزومrhizome ) للفيلسوفين دولوز وغتاري، أو المسلسل( الريزومي) يتمظهر في بنية ما تنفك تتطور وتتلبس بأشكال ووجوه مختلفة من غير أن يكون لها مركز، ويحدث اللقاء بين الأدب والخرائطية في تفرع المعنيين إلى حرفي أصلي، ومجازي ثم يتكاملان في دينامية فضاء أدبي مركب. هو المسلسل الذي ينطلق لوصف فعل الاعتداء حادثا وكأنه سيحدث وربما حدث استيهاما (مناما) وتبعاته ما يوجده. لننظر في المقاطع التالية:
ـ سيتناهى إليها صوتها وهي تقول: قبل تلك الليلة التي انقضّوا فيها على قدمي، خالجني إحساس مبهم، وشعرت بالذعر، حالما استيقظت من منام رهيب”(93)؛
ـ ” أول ما ستراه في ذلك المنام(…) أيدٍ غليظة، تمسك بسلاح أبيض، وتهوي به على قوائم دابة مسكينة، فتروح تسقط غير دارية، على أي جهة يمكن لجسدها أن يهوي(…) بينما جسد الدابة يتهاوى(…) هو كل ما يعود إليها حين تستعيد تدريجيا ما حصل لقدميها”(م س)؛
ـ ” لا، ليست سخونة ما شعرته يمسك بقدميها. ربما قطعة من جحيم أو سائل بركاني ما هوت بقدميها فيه، قبل أن تترنح بخطى عرجاء في اتجاهات شتى…”(180)؛
ـ ” قدماها ملفوفتان في أربطة، رغم الظلام الخفيف قدر أن يبصر أنها ما عادت بيضاء، تنتشر فيها بقع داكنة وأوساخ، يدوِّم فيها ذباب(..) محطمة بصورة فظيعة.” (230).
أن يتم رصد العطب وهو التيمة الكبرى في هذا السرد بالكيفية الموصوفة معاينات مجزأة، وإشارات مبهمة، وحركات وأوصاف كناية عنه وأنواع من التروية البلاغية مجردة ومبينة؛ وأن يموّه الفعل بالإيماء، وتنوب الصورة جزئية وإيهامية عن الحدث، فهذا علاوة عن انضمامه إلى بنية التفكيك، تلك، يشترك في الوظائف التي يقوم بها الفضاء في هذه الرواية ويعد جزءا لا يتجزأ منها وتبنيه على طريقتها بمعنى أننا لا نكتفي بمفهوم الفضاء صيغة جغرافية أو هندسية، أي نتوخاه مفهوما أوسع وأشمل من مساحة ذات مقاس، ويغدو مناطه هو تمثيله الخرائطي، مثلا، شبكة من عديد معان وتعدد في الأبعاد.
تحفل” فاكهة للغربان” بتعدد محافلها الفضائية وأنواعها، بوسعها أكبر من عدد صفحاتها، ويعنينا فيها أساسا أنها جميعها تتضافر وتتضامن لتمثيل وتجسيد تيمة العطب، ببنائها ماديا، وكسوتها مجازيا بتفاعل مع مكونات الرواية وأبنيتها الأخرى، ابتداء من الخبرة الدقيقة بالمكان، وصولاً إلى رسم جغرافية الجسد، واللون والصوت والرائحة، وتجاعيد الروح. سننظر فيها باختصار، بادئين بالمحفل المكاني، مدينة عدن، هي فضاء مادي عام تجري فيه القصة، ويحضن فاعليها، ونمشي فيه شوارع وأحياء وعناوين نراه بنايات ومطاعم ومكاتب لمؤسسات إدارة وحكم ومرابع أنس ومواضع عيش لعامة الناس. ثم هي فضاء تاريخي شكلها العمراني ووضعها البشري الاجتماعي السياسي يلتفت حاضره(سلطة اشتراكية، منابر ماركسية لينينية، ملاذ معارضات، هتفت لهم و” راحت تستدرجهم بوعودها وتستقبل بلا كلل الحالمين والثوار”(61)، ترييف الخ..) إلى الماضي( إنجليز، تمدن، كوسموبوليتية الخ..) يتميز هذا بذاك، زوج يندرج في بنية الثنائيات، حيث صورة التضاد متعددة الأشكال في هذه المدينة تنعب بخطاب العطب وتعمم دلالته، عبارة وواحدة تجمله على لسان أبي نورا ضحية نظامها الجديد:” ليست هذه عدن التي أعرفها أكثر من معرفتي الخطوط التي في يدي(…) أرى مدينة أخرى، غارقة في الفقر والشعارات” (175).
لن ندخل في تفاصيل اتّساع الفضاء المكاني بصوره وعناوينه المحلية والأجنبية، ورسومه (الكرونوتوبية)التي تُنمي فعل التعطيب بتساوق مع إعاقة نورا واستفحال الأذى الذي اصاب قدميها العرجاوين قد بدأت رائحتهما تزكم، ونشير باختصار دائما إلى محفل الفضاء في صيغه الباشلارية، ينقلنا من الأفقي الممتد في مدينة عدن إلى العمودي في رحابها الخلفية وسراديبها وسلوك العوامل الدائرة في محيطها، أي من خارج إلى الداخل، من الخبر إلى المونولوج وتيار الوعي…وحده فضاء نورا أقوى تمثيل له، شقتها، أدوات زينتها، أثاث غرفتها، عتمتها، نوافذها المطلة على الغربان، قدماها، فساتينها، عطرها، ذاكرتها المتشظية مع ذكرياتها المنسابة، انشطارها بين ماضيها وحاضرها، قوتها أنس وانهيارها حاضرا، النظرات التي تلقيها على صلاح بشعور الأسى والمقت للرفاق، هذا وسواه كثير، إذ يعمق هوية الشخصية وماهية بحثها المنهار، يعيدنا إلى(النظرة الخرائطية) توزع الفضاء إلى منحيين: جغرافي، ومجازي، على هذا الأخير يعوِّل الكاتب بقوة لتعميق دلالة التيمة وتنويع علاماتها، ذهب فيه شوطا مهما. ففي الأول، يتأكد كيف تغطي عدن وقد تحولت إلى” بؤرة ثورية” و”جنة للشيوعيين” تفكير وسلوك الشخصيات غيمة كبيرة وثقيلة، هويتهم وأفعالهم مستمدة منها، وأي حدث يطرأ عليها تأثيره مباشر عليهم، لحد إفنائهم، كل شيء فيها” كل شيء هنا بدا له يستجيب للقانون الغامض، المكتوب بالدم”(232). وأفعال العاملين، هؤلاء الثوار الذين جذبتهم المدينة الجنوبية بماركسيتها اللينينية ووعودها،عربا وأجانب، قادة ومناضلين عاديين بإيديولوجيتهم وخططهم وانقلاباتهم المتتابعة يطيحون ببعضهم البعض، كانوا يعيدون تشكيل الفضاء، والخراب الذي انتهت إليه المدينة، من منظور وبملفوظ السرد، جلبوها لها وتحت أنقاضها حطمت مشاريعهم وأحلامهم. من هذا التأثير المتبادل بين الشخصيات والفضاء يمتد المنحى المجازي مبنياً على صور تهتّك وفساد الرفاق، وتقلبات نفسياتهم واهتزازهم العقيدي، أبرزهم (نضال) الفلسطيني الذي تنقل بين حرف ومواقع وأعطى البرهان النضالي لرؤسائه، وتحول إلى عصابي ومتغطرس ومدمن حتى إلى جلاد. وأقوى تمثيلا صلاح الذي يظهر في هذه الرواية بمثابة نقيض أطروحة مسخ الثورة دمويتها، الطهراني، الحزبي المنظم إلى الجبهة القومية: ” تمر الأوقات وهو ممزق بين ذلك الريفي الذي كان. لا يطلب الكثير، فقط أن يكون كامل الإيمان بالثورة والحزب” ( 118). لا بد من الانتباه إلى تراسل وتقاطع المنحيين بكيفية مستمرة، حاملين معانيهما في حركتي الذهاب والإياب(كلما انتقل صلاح من شوارع عدن إلى شقة نورا وغادرها)، وفي الجو الداخلي للشقة لها خارج وداخل معا، يتنافذان بالصور والحوار والمونولوج والصمت وخصوصا بعين لا تني تنتقل بين الجسدين وأركان الغرفة وترصد كل جُزيء وشيء، بما يذكر بتقنية الرواية الجديدة الفرنسية لغريي ومشيل بوتور؛ هي كاميرا(عين سارد متعدد):
” في وسعه الآن[صلاح]أن يستنشق رائحة جسد نظيف، تندفع من فتحة جاكيتة الكتان الذي ترتديه[ نورا]، له لون بني غامق، وبلوزة بيج بفتحة مثلثة. يراقبها[ كاميرا] وهي تبدو له كومة من الأسرار. ترفع يدها وبإصبعين تزيح، بحركة رشيقة، خصلات من شعر ذهني كثيف، تتدلى فوق عينها اليمنى”(45). ثمة عديد صور للتنافذ الفضائي بمحتوياته، نلفت في الأخير إلى أهمها، نسق التوازي بين صيرورة عطب قدمي الراقصة في شقتها وبمكابداتها؛ وما يحدث في عدن في انحدارها الحثيث نحو الخراب وانقشاع الأحلام. هكذا، هما منحيان لفضاء ثنائي هو شكل، عنصر يتعالق مبناه ومعناه بعناصر بنية لا بدّ أن يدخلها لتغلق.
فضاء البنية الكلية
لا تنتهي تشكيلات الفضاء وتراسلاته بوجود الشخصيات داخله وتنفيذ الأفعال ضمنه مع حدوث التأثيرات المتبادلة بينهما، هي ما ينتج المعاني التي تؤسس التيمة المركزية وتبنيها وهي تملأها بالدلالات بوسائط شتى، رأينا جلها، تصريحا أو إلماعا، وبقي لنا الوقوف عند تشكيل خلفي، دلالي بقوة، وغير سردي، أي ليس محكيا ولا فعلا ولا زمنيا بالتحديد، وإن جاء متناغما إلى حد مع الزمنية الفضفاضة في الرواية، أي يتسم بطابع التجريد، لذلك يؤتى به مرسلا شعريا واستعاريا بالدرجة الأولى، وإن وقف على مداميك إحالية مادية، ينوب عنها صورة، وتفيده خطابا. قصدنا العنوان ذاته:” فاكهة للغربان”، يكون العنوان أحيانا اعتباطيا، ويفترض عموما أن يكون بمثابة خطاب جامع، وتحصيل حاصل دال ومدلول، وبعد قراءة العمل والمعاودة، وتقشير النص والغوص إلى نواته، تبين لنا أن المؤلف وُفق في اختياره، وأعطى من البداية لمتلقيه أحد مفاتيح أبواب روايته الغابة، المتاهة، ذات الطوابق العليا والدهاليز السفلى، والمعطيان الاثنان فيهما وبينهما ثاويان. بيد أن هذين الملفوظين ليسا عنوانا حسب، هما كذلك وقصة سادسة نلحقها بالخمس المحكية تجاورا وتوازيا ومحايثة وتضمينا وطيّا، تبعا لمنهجنا ومقاربتنا، نعود إلى رصد خطة الطيّ المنوّه بها أعلاه في مسلسل الحكايات الكبرى للرواية ، وإن خرقت ميثاق قواعد السرد، تشتغل بلاغيا وتمثل استعاريا وترسم علامة(سيميائية) وتتجسد أيقونة( في مسرحية هاملت، حين يمثل هذا الأخير أمام الملك مشهد القتل، يكون الممثلون يلعبون دور ممثلين يلعبون دورا آخر، وهذا فوق ركح واحد، كما في الرواية نفسها). تحضر المادتان(فاكهة) و(غربان) في خلفية الشاشة الروائية لا زمتان مرئيتان وخفيتان، معزوفة مهموسة، نوتاتها تصاعدية مع تصاعد لحن الخراب في فضاء عدن، ظهورهما متقطع، ثلاثي الأبعاد، عياني انعكاسي، وشبحي مبهم، وإيحائي. الغربان، تُرى في فضائها الخاص، بما أنها طيور حية ذات صوت وريش ولون، وهي هاجس تطير وشؤم ونذير بالكارثة؛ إنها السرد الناطق لوصلات الصمت في الحوار المتذبذب بين صلاح ونورا لكتابة مذكراتها ترويها في مخاض عسير، كما هي عدن في مخاض ثورتها المجهضة. وبما أنها في كل مكان، ومنذ العنوان إحدى المهيمنات السردية الكبرى(على طريقتها)،فإننا نرى فيها مع طرفها المكمل للزوج(فاكهة) الفضاء الأكبر الذي تنضوي فيه باقي الأفضية، وهذا تأويل له عديد مسوغات تمثيلات، نحتاج إلى تقديم بعضها، إشارات وصورا في خارج مقترنة في الغالب بوضع في الداخل:
من البدايات تحضر الغربان، يمشي صلاح نحو النافذة، ” يفتحها فتندفع غربان”(27)؛
ـ بينما” جعلت نورا تراقب خلال الستائر غرابا على حافة النافذة له ريش متسخ بدوره أخذ يبادلها التحديق(…) وتفكر أنه للمرة الأولى على كثرة الغربان في عدن، تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع واحد منها”(42)؛
ـ مبرر أصلي لوجود الغربان، أن الإنجليز من جلبها ” لهدف واحد هو الفتك بالزواحف وتنظيف المكان، وهي تتعارك وتتشقلب وتنقض على فرائس صغيرة”( م س)؛
ـ وفيما هي تحول بصرها إلى النافذة، وترى الغراب نفسه دائب الحركة مع وليفته”(116)؛
ـ ورآها[ صلاح] تحدق[ نورا] من خلال الستائر في الغرابين يتعاركان، ويصدران نداءات لم يستطيعا تجاهلها “(151)؛
ـ و”نظر صلاح حوله ونذكر نومه السيئ البارحة، لم يدر ماذا دها الغربان، لتنعق طوال الليل، كان النعيق حادا كمن يندب ميتا أو ينذر بشر”(159)
ليس ثمة من دلالة عن الغربان أقوى من عبارة التطيّر والنّذير هذه، فإن أضفنا إليها كنايتها عن الفئة الحاكمة المستبدة بالمدينة أصبح المعنى عاريا وأسفرت الغربان بما هي دال عن وجه بشري فظ، عن مدلول تنطوي عليه الصورة التي التقطها صلاح من البدايات بوصفه ساردا وعينا واصفة وهو ما ورد في إشارة متقدمة:” سيرى الغربان في صورة لطخ سوداء وهي تطير من نافذة إلى أخرى، في مبنى لأحد مكاتب لجان الدفاع عن الثورة” رؤية مقرونة بمرسل إليه ثاو في الخلف يضعه في الواجهة بقوة الإلحاح عليه والتكرار:” وسيقرأ ثانية وثالثة ورابعة الشعار فوق الجدران وعلى طول بنايات شاهقة(لا صوت يعلو فوق صوت الحزب)”(78) شعار يتجسّد سلوكا ويتردد حرفا أو معنى أشبه بلازمة لينبهنا بكثافة حضور هذه القوة الطاغية، يوازيها الظهور والخفاء المتناوب للغربان، لتصبح الغرابية نزعة أليغورية وقد اكتسحت الداخل(شقة نورا ووجودها اللا مرئي والمنهار) والخارج، عدن المكان والفضاء السياسي والإيديولوجي الثوري بجبروت من يحكمه(غول/zombie ) بمحيط حيوات الرفاق النضالية والشخصية والمناضلين الاشتراكيين من كل حدب وصوب، الحدود بينهما هشة وقابلة للاختراق: باب ونافذة، والنقر عليهما نذير اقتحام ونشر الرعب حالة غرابية أخرى تسود العالم المرصود روائيا :” قطع ترقبه نقر[صلاح برفقة نورا داخل الشقة] تلاحق حادٌّ على الباب(…) لم يكن القرع سوى نقر الغرابين معا لزجاج النافذة بصورة حادة. فاجأ نورا كل هذا العنف من مجرد طائرين وخشيت من تهشم الزجاج. ثم خطر لها أنها ستتأذى فيما لو كانت ضحية غربان في يوم ما”(182). حالة تلتقطها عين صلاح فتنتج النظرة تفضية للإحساس وتصعيدا له، ونشرا كثيفا للونها: كان من السهل على صلاح أن يلاحظ، وهي تحدق في الغرابين بعينين يملؤهما الهلع، كم أنها تحولت إلى امرأة نهب لهواجس سوداء”(183). وما كان لهذه الحالة ذاتها أن تنفصل عن بينة الثنائيات بحسب سياقها ومعناها والعلاقة الجدلية القائمة بين طرفيها مقترنة بعناصر سابقة مؤسسة.
بنية الانشطار
سيكون من تحصيل الحاصل، والحالة هذه، استنتاج أن نورا رمز للفاكهة التي تسللت إليها أكثر من دودة، وأنها هي كذلك مدينة عدن مرصودة في هذه الرواية في منعطف تحول تاريخي، ومن منظور إيديولوجي، وفي تشكلها المادي، وقد أخلفت موعدها مع ثورتها حولها الرفاق إلى طغيان واقتتال بينهم وفساد. سيكون أيضا بداهة وصف المتسلطين والعتاة ممن أتلفوا الحلم(الاشتراكي، العيش الكريم والرفاه، العدالة والمساواة الخ..) وعفنوا الفاكهة بطرق شتى بأنهم الغربان، فالكاتب نفسه، رغم تفادي اقتفاء التاريخ والتوثيق، ومزجه الوقائع بصور التخييل تجنبا لواقعية نقيض لنهجه الروائي، واكتفائه بالإيماء والإيحاء؛ رغم هذا كله فقد نصب لهم محاكمة ضمنية وفي خاتمة السرد صك اتهام مباشر، كم كان في غنى عنه، بعبارات تقريرية لا لبس فيها، تبدو كطلقات نارية طائشة لكنها تصيب في مقتل: ـ بالاستشراف لمصير مهول، بقطاش الرفيق الجزائري وقد أرسل في مهمة تمر بمدن شيوعية بمناسبة مؤتمر اتحاد الباب العالمي، يصدر كتقرير إدانة لا هوادة فيها:” شعر لأول مرة بأنها مدن تتآكل من الداخل، انطفأت فيها جذوة الثورات، وأنها لن تعرف التجدد ثانية (…) وعاد بقطاش ليتكلّم عن خشيته من مصير مشابه لعدن”(225)
ـ بقطاش الذي سيعبر الكاتب بلسانه ووراء قناع شخصيته، فأغلب الشخصيات أقنعة، لذلك قلنا نمطية وإن بنسب، يعلن جهارا سقوط المثال الذي ارتاد الثورة في هؤلاء:” الذين يأتون إلى عدن مثل الفاتحين، يدخنون السيجار الغليظ وسجائر المالبورو، ويحتسون الويسكي، وتغطي عريهم ملابس فاخرة بماركات أمبريالية، لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا لعدن”(227).
ـ يؤكد عباس العراقي تشاؤم رفيقه يفصح عن شعوره ” كان إيمانه بعدن ووعودها كعاصمة للشيوعيين قد بدأ يتداعى، وفي طريقه لأن يتحول إلى ذكرى خلابة”(226). هو نفسه من يخبر زملاء قلقين مثله بأن” شعور اللاجدوى أخذ ينمو ويتغذى على جملة ما يحدث من صراعات هنا” (م س) ومن شعور بـ” الإحباط”.
ـ لا تفوت الكاتب فرصة توسيع خريطة وجود الغربان، وتفشّي حالتهم، بعد إدانة المعسكر الاشتراكي برمته من خلال علامات استهلاكية بسيطة، مبسّطة، لا من عمقه، يشهر بسلوك آخرين من التابعين العرب، برمز الفلسطينيين يراهم غربانا أخرى عفنت بيروت الفاكهة، هكذا لم يكتف برسم الصورة البارودية للنضال الفلسطيني عبر شخصية نضال في سلوك تهتك وغطرسة وسادية واستخفاف بالمثل العليا لرفاقه، فيظهره في لحظة تطهر ووعي شقي، بإقامة محفل استرجاعات عن سلوك” تنمر المجموعات الفلسطينية في بيروت، يصفهم في ما هو يوجه لهم صك اتهام وإدانة قطعية:” كانوا أبه بالعصابات، يبثون الرعب في كل شبر يتواجدون فيه، بمظاهرهم المسلحة، وبسلوكهم الفظ. طالما عبر عن كرهه لـ” غابة البنادق” التي تمثلها الفصائل الفلسطينية”(163)ليطفح المقت، والاتهام بالانحراف، وعلة نبرة التهتك لا نعرف حقا مصدرها، وإن نسب شكلا إلى شخصية الرفيق الفلسطيني الذي يوضع على لسانه أن أخطر ما يقلقه هو أن ينسى أن هناك” وظيفة جوهرية لعضوه التناسلي”(165) ليعقب هذا التصريح استهتار في نبرة زمجرة تسخر من مقطع شهير عن القدس في أغنية لفيروز، وعن شعار فلسطيني يتوهج بالحماس، يبتذلان جزافا:” ولأرضك يا قد مني سلام، وستبقى العاصفة شعلة الكفاح المسلح”!
عوض أن يتسمر السارد، بلسان وناضور صلاح في التقاط مشاهد التدهور، وتسجيل أقوال الشهود والضحايا، تظهر مزيدا من تفشي الحالة الغرابية، كالوباء، يوجز استتبابها، اعتمادا على عناصر ما ينبغي أن نستحضره مما علمناه محكيات وإشارات وأمثلة متناثرة، ومتداخلة، متعددة المصادر والأصوات، متنافرة الوجوه، بوصفها بنية قارة ساهم كل ذلك التعدد والثنائيات في بنائها، ويصر الروائي على إعطائها الأسماء والصفات، هل أقول يستهين بذكاء قارئه الذي اشترط ذكاءه في التعاقد الضمني معه على أنه يقدم له رواية مفككة ومتشظية هو المسؤول عن تركيبها ، وإلا هل كان من الضروري أن يدون بخطابية لا تنتمي إلى نسق التخييل الروائي، بأن كل ما يجري فوق هذه الأرض(عدن، الاشتراكية)” يستجيب للقانون الغامض، المكتوب بالدم”(232)؛ وإلى التصريح بيقين:” أن نيل الرفاق من بعضهم البعض بوحشية، هو المبدأ الوحيد الذي لا يسعهم تغييره، تغذيه ثارات قبائل وضغائن مناطقية أكثر من أي خلاف إيديولوجي”، وإمعانا في الشرح، ميتا روائي، وإن أدرج في السرد عنوة، يُعرض علينا شرح مختزل لموضوع الرواية ومثنى العاملين المكونين لعنوانها بإشهار فج وتفجع جنائزي أن الرفاق:”افترست جثامينهم الكلاب والغربان التي اعتادت التغذي على الزواحف، كيف سيكون طعم الرفاق في أفواه الغربان وبين مخالبها مقارنة مع تلك الزواحف الصغيرة؟مثل الفاكهة؟ ربما”(237). نُعطى هذا الخطاب مثل خلاصات مدرسية لتجربة حكم فاشلة ادعت الاشتراكية وأكلت أبناءها شأن كثير ثورات، كانت الرواية وهي في صفحاتها الأخيرة في غنى عنه، أليس بناؤها لا خطيا؟ أو لم تُسرد بنقض نظام الوحداث الثلاث التقليدي للسرد؟ ألم تعتمد الصورة والعلامة تعبيرا والمجاز لغةً وبُعداً؟ وغيره، وهل كان مؤلفها مدعوا صنيعه ليصالح بعسر بين الواقعية الكلاسيكية وسنن التجديد الروائي، والحال أن لكل منهما نسق وبناء وأسلوب ومنظور ولغة وطرق تمثيل؟ هي حالة ارتباك على الأغلب، وربما محاولة لمصاحبة القارئ كي يخرج من الغابة، من المتاهة بأقل الخسائر من الوحشة والضياع، وبحصيلة ممكنة من المغامرة. هذا ما نحصل عليه بمعرفة المصير المجهول لجياب، سليل قادة الثورة المغدورة وعشيق نورا، في لحظة قصاصة تنوير ختامية تردّ عن قتله وهو يحاول الهرب(كذا)، كأن الكشف عن مصير المخفي من البداية سيغير في مجرى الأحداث معاناة المهموم الأول باختفائه، اللهم إعلان خاتمة، كما في أي قصة تقليدية، بمثل ما عرفنا أحد السراد بخاتمة مصير الرفاق العرب الخائبين في التجربة الفاشلة: عباس العراقي الذي نصب له الغربان فخ تهمة التآمر بإحدى طرقهم القذرة المعهودة(الوشاية وكتابة التقارير)؛الفلسطيني نضال ذو السيرة، تلك؛ سناء الفلسطينية التي تشبثت طويلا بمفتاح حق العدة ورست بها أحلامها في عدن وانتهت بإعلان يأسها من عدن؛ وبقطاش الجزائري الذي تعلم الشيوعية من خاله حسب أنها الحل ـ هؤلاء جميعا المتشبعون أمس حتى العظم بالماركسية اللينينية، وبأن عدن هي “جنة الشيوعيين العرب” قد يئسوا والخراب والشكوك ونهر دماء الرفاق حول غنيمة الحكم يسيح يركبون باخرة تغادرها ويرحلون. فيما صلاح الضمير الجمعي للثوار الأصفياء تخلت عنه سلطة الانقلاب الجديدة بات همه أن يسترد نفسه”(236) قد “يندفع عائد إلى ريفه البعيد”. وماذا عن نورا الدائرة لتغلق الدائرة وتكمل بنية الانشطار يطوي معها المؤلف آخر
أوراق الرواية. كنا علمنا أن( الغربان) قرروا طردها من سكنها، هكذا تُطرد من الماضي ولا مأوى لها في الحاضر، مثل مدينتها فاكهة قضمتها الغربان، أو كما يجمل التلخيص المدرسي خاتمتها :” ستتراءى لها مشطورة لها حياتها مشطورة إلى نصفين، لا سبيل إلى أن يلتئما، تتقاسمها برهتان، عاشتهما في عدن، قبل الاستقلال وبعده، وتخاصم واحدتهما الأخرى” (238) والباقي فيض خاطر واستيهام عن امرأة تتصور أنها ترقص فوق الحطام. ذلك المعلن من البداية في خطاب العتبات، عن تجربة سمتها وصمة “العنف والتصفيات”.
الاستعارة الكبرى الحاضنة
قلنا في مدخل هذه الدراسة إن الرواية المجددة من شروطها أنها حمّالة أوجه وتفاسير، تسمح بأكثر من تأويل، بتعدد قرائها، إمكانية تنشيط التلقي، ما يدفعني شخصيا إلى إعادة ترتيب فصول فقرات العمل، محافظا على الفصل(1) مكتفيا هنا بالمقطع الآتي:” كانت[ نورا]هبطت للتو من بار الروك هوتيل، سارت بخطوات متمهلة، يثقلها تأثير الأغنية السوداء…”(11)، والفصل(11) كذلك، مع تشغيل استهلاله لازمة بين الفصول لأنه بؤرة:” لسبب ما خطر لها في تلك الليلة المشؤومة الذهاب إلى النادي الليلي في الروك هوتيل” (115)؛ وأجعل الخاتمة الفقرة الأولى من الفصل(17) أبدأها من:” لم تتصور أنهم سيهجمون عليها بوحشية، بمجرد خروجها من الروك هوتيل” (179). ثم أسترسل، وصولا إلى الفقرة الثانية التي تبدأ بملفوظات:” هبطت عبطت[نورا] ليلتها من البار، وكان صوت بيلي يطاردها: “هنا فاكهة تركت للغربان””(م س). سأستحضر للتو من قاع الذاكرة، من السجل الباذخ لموسيقى الجاز حقبة دموية ومفجعة من التاريخ الأفرو أمريكي في الولايات المتحدة الأمريكية بالولايات الجنوبية خاصة حيث ساد التمييز العنصري واضطهاد السود بفظاعة كان أعتاها زيادة على الحرمان من كل الحقوق الخضوع لنير العبودية تعرضهم للتعذيب الجسدي أقسى من تعذيب الدواب، وملاقاتهم للموت لأقل سبب بالشنق والسحل. وتكشف إحدى جمعيات حقوق الانسان الأمريكية(EJI)المتخصصة في هذه المرحلة، وبدأت تحقيقها ابتداء من سنة 1877أن قرابة 4000أسود أعدموا إلى حدود سنة1950 كان تنفيذ الإعدام يتم بتعليق بشنق الضحايا معلقين بالحبال في أعالي الأشجار. كانت هذه الجريمة العنصرية عند البيض تجري في جو احتفالي يتداعون إليها رجالا ونساء أطفالا يحضرونها في كامل قيافتهم وتسمى (pendaison)Necktie Party . هذه الفظاعات هذه الفظاعات هزت الشاعر الأمريكي Abel Meeropol فكتب في سنة1937 قصيدة يدين فيها جرائم الإعدام للسود عُرفت للمرة الأولى بعنوان:”Bitter Fruit” ثم تحولت إلى العنوان التالي” Strange Fruit” لحنها بنفسه وأصبحت تتردد في أقبية وحانات نيويورك قبل أن تذاع حين تؤديها مغنية الجاز Billie Holiday ويذيع صيتها. إنها القصة التي تتناص إضمارا مع استدعاء نورا للأغنية وهي تقطر في سمعها في بار الروك هوتيل، مثلما تتناص القصيدة الأصلية التي تغنيها بيلي، مثوى القصة، كنت سأضع كلماتها مسك الختام، نقدم مقطعها الأساس يحمل الصيغة المناصّية بوضوح (بترجمتنا):
” أشجار الجنوب تحمل فاكهةً غريبة
دمٌ في أوراقها ودمٌ في الجذور
أجسادٌ سوداءُ تتأرجح في الجنوب
فاكهة معلقةٌ في شجر الحور
(……………………………….)
هي ذي فاكهةٌ تنقُرها الغِربان
ينميها المطر والريح يُيَبّسُها
إنه لحصادٌ غريبٌ ومرّ”.
سبق لنا أن تحدثنا عن أن ” فاكهة للغربان” تنبني حكائيا على تضمين وتضام لعديد محكيات وسرود، قدمناها بكيفية مجملة، وغفلنا عن أخرى، وقلنا إنها عملية تتم بطريقة(تكنيك) الطي أو الشيء في جوف الشيء، وهو ما عدنا شبهناه بمُجسّم الماتريوشكا الروسي، الدمية الكبرى تحتها دمية وهذه ثالثة فرابعة، وهكذا.. أغنية بيلي هوليداي هي ماتريوشكا، الأم الحاضنة، وهي استهلال الجناز ومسار التشييع(فهذه الرواية جنازة)، وهي كلها جسداً لغوياً استعارةٌ مكنية ونص أليغوري كل الأخبار والشخصيات والتمثيلات وعلائق الحبكة فيه موجهة للتعبير عن فكرة أصلية، جرى تشخيصها ورسمها خرائطيا وماديا ووجدانيا وإيديولوجيا في مكان وزمن محددين، هي العطب، تيمة وأزمة ودلالة وكناية، ومن اللافت للنظر أن هذه الرواية بدورها معطوبة حسب بنائها تشظيها وانشطارها ولغتها الناطقة والحابسة، بخطابها العاري المكتسي كذلك بالغموض، وخصوصا استعصائها على التلقي السوي، المقنن سلفا؛ لذا يتوافق شكلها مع مضمونها، وتفكك بنيتها السردية عطب فادح فيها مطلوب، لو كتبت وسردت بنسق واقعي ووفق نظام كلاسيكي لخسرت الرهان؛ فهل ربحته؟ ليس هذا موضوع قراءتنا، وإن جاز لنا القول بأن هذا العمل فاكهة حقيقية في مائدة الرواية العربية قليلا ما نظفر بها، طازجة وناضجة وريانة ثمرة أرض غير مطروقة السير في جنباتها مثل تذوقها مغامرة. ماذا بعد، كثير،، وهي فتنة للناظرين!
لا أريد أن يفوتني في الختام القول بأن قيمة وأهمية رواية ما، خاصة إذا كان يُعتدّ بها، ينبغي أن يُقرنا بسياق إبداعي وثقافي شامل، بالأدب، بالآداب التي تنتمي إليها وبالوضع المجتمعي والإنساني. نعم،إن الإبداع أعطية فردية وقول فني يصدر عن موهبة خصوصية، لكنها في العمق تنتسب وينبغي إلى روح عصرها متفاعلة معه ومعبرة عنه، ومتقاطعة مع شبكة من النصوص الأخرى، موجودة أو قيد الولادة. إن رواية أحمد زين قطعة في الفسيفساء الكبرى لرواية عربية أخرى تظهر الآن، وتحتاج إلى معيارية ومقاربات من خصوص تجاربها، ومنسجمة مع فرادة منظوراتها. وما أراه جديراً بالانتباه أكثر من غيره، هو أن البنية التي وصفناها بالانشطار هي التي نجدها تتخلل الروايات العربية المعنية بسرد تخييل خلاق، متحرر من القوالب والصيغ المعلبة، والإنشائية الرثة المطربة، والمطابقات والاستنساخات الساذجة؛ تلك المعنية حقا بالرواية كتابة، والتخييل وعيا وصنعة ورؤية، والتحديث اختراقا واستشرافا يذهب أبعد من التيمات والمعاني المتداولة. إن الرواية جنس أدبي يصنع بالتركيب، فأي تركيب ممكن لعالم عربي وأبعد منه، يتشظى بعنف مذهل؟ بل لنا أن ندفع السؤال إلى حده الأقصى فنسأل، هل الرواية ما تزال ممكنة، أم كل هذا الخراب وانقلاب القيم وانسداد الآفاق في عالمنا، بات يستدعي أجناسا تعبيرات مغايرة؟ ليس للإبداع من حدود، وهذا جوهر تسميته، والنصوص القوية هي التي تدفع لطرح أسئلة غير مفكر فيها، وتقتلعنا من كسل الكتابة والقراءة المنسجمة الباحثة عن التصفيق والهتاف. مرّ قرن ونحن العرب نكتب الرواية وغالبا بصنعة وأساليب الآخرين، ألم يحن الوقت لنراجع ما كتبنا حتى الآن؟ أحسب أن” فاكهة للغربان” تنخرط في السؤال وبعض الجواب.