كانت آخر كلماته لي، وأنا أودّعه في المطار، من مقعده المتحرّك: الّلقمة المغمّسة بالدم والإذلال لا أريدها. أستطيع أن أعيش من كتابتي بلا إذلال، ولو متقشّفا. يجب أن أنْهي هذا الوضع، لقد جئت بطلب منهم، معزّزا مكرّما، وسأخرج من هنا كما جئت. لم أمدّ يدي لأحد، لم أمدح ولن أمدح شيخا أو ملكا أو أميرا. هذه قاعدة في حياتي لا تتغيّر مهما جار الزمان.
نعم، لقد «نجا» بصعوبة. بأعجوبة. كما «نجوتُ» أنا بضربة حظ. كان على وشك الانهيار، وظلّ يذوي بتسارع ويعمق شديدين. وحسب نصائح الأطباء، كان عليه أن يفعل الكثير لوقف هذا «الصعود نحو الهاوية»، كما قال لي. كان يمكن أن يستمرّ هنا، كان يمكنه ذلك، لكن شرط أن يوقف أسباب دماره. غير أنه كان يوغل في هذا الطريق دونما اعتبار للمصير. حتى جاءت اللحظة الحاسمة في حياته.
قال له الطبيب الهنديّ، بعد فحص المنظار للأمعاء كلها، إن الكبد عنده بلغ حدود التشمّع المُزمن. وأكد له أنه بكبد كهذا لن يعيش سوى شهور، وسيعيش عاجزا أيضا. ويبدو أن كلمات الطبيب أخذت تضرب في دماغه بقوة. لقد دُقّت نواقيس الخطر، قال. جاء يومها إلى العمل محبطا ويائسا. ويومها مساء زرته في شقّته، ووجدته يشرب بعنف. في الواقع هو لم يكن يشرب، كان يلفّ حبل النهاية حول عنقه. كان ينتحر.
هو قال إنه قد تعب، وإن الحياة لم تعد تعنيه، يريد أن ينهي حياته بلا ضجيج، بلا مزيد من الإحباطات والكوارث، سينهيها ببطء. لكنه يعود ليتذكّر العجز، يقول إنه فعلا عقد اتفاقية مصالحة مع الموت، ولم يعد هذا «الكائن» يخيفه، ما يخيفه هو العجز، أن يرتمي في السرير أو في مقعد متنقل كما حذّره الطبيب.
أقول له إن الحلّ هو في التوقف عن المشروب والتدخين، هما سبب البلاء الماحق، بدلا من الهروب إليهما، فيردّ بأنه قد انتهى فعليا، ولم يبقَ سوى أن يأخذ الجرعة الأخيرة. أكرّر النصيحة، أقول له إنك لم تعد قادرا على المشي لعشرين مترا، فيصرخ بي أنه حر بما سيؤول إليه، وأنه بات بلا مسؤوليات، وليس ثمة من يُعنى بنهايته.
– وأولادك وزوجتك؟
= يمكنهم أن يعيشوا من دوني، بل سيعيشون أفضل، سيتخلّصون من هذا الأب الكحوليّ، الّلامسؤول، الذي يشوّه سمعتهم، كما يزعمون. لم أعد قادرا على التعايش مع أسرة وبيت، سأنهي هذا الفصل من حياتي كما أريد.
أقول لك أكثر؟ لن أعود إلى عمّان، هذه المدينة الكئيبة الطاردة، سأنهي حياتي هنا، بعيدا عن البيت والأصدقاء.
هذا ما ظلّ يردّده، حتّى حدث له ما حدث. كان قد مشى إلى المركز التجاريّ الذي يضمّ مكتب الصرافة، ليرسل لابنته في غزّة مبلغا من المال اعتاد إرساله شهريّا، فسقط مُغمىً عليه، وجرى نقله إلى المستشفى، بحثوا في هاتفه عن آخر الأرقام التي استخدمها، وكنتُ آخر من اتصل به. فاتصلوا بي لأحضر وأقوم بالإجراءات اللازمة. أخبرتهم أنه يملك بطاقة تأمين صحيّ من الدرجة الممتازة. بطاقة دولية. وعليه جرت معالجته، وأمضى في المستشفى ثلاثة أيام، فحوصات وتحاليل وصور أشعة، أثبتت جميعُها أنه يعاني من مشاكل صحية خطيرة. قدّموا له العلاج، وطالبوه بالتوقف عن التدخين والكحول، وخرج.
يومها فقط، شعر بأن مصيره قد اقترب، وأن الموت بات على بعد خطوات منه، وبعد جلسة عاصفة معه، ونقاشات مطوّلة، قال إنه بصراحة قد تعب من هذه البلاد، ومن العمل فيها. وراح يتحدث عن متاعبه في العمل، وما يواجهه من مشكلات مع المسؤولين ووو. وأن مؤامرة حِيكتْ لدفعه إلى هذا الوضع، ليستقيل ربّما. وصرخ: وجدتُها. سأقدّم استقالتي وأنجو بنفسي. طُزّ في المال، أصلا لم أعش في حياتي مشكلات صحية كهذه التي عشتُها هنا. هذه بلاد موبوءة، ليس فيها سوى المال. ولولا مسؤولية تعليم أبنائي لما جئت هنا. وقد تعلّموا واشتغلوا أيضا، فما مبرّر بقائي هنا بعد ذلك إذن.
قلتُ له إننا جميعا جئنا للسبب نفسه، وغرقنا، لكنه أخذ يتحدث عن تاريخه النضاليّ، وكيف ظل لفترة طويلة يرفض عروض العمل في أيّ من الدول النفطية «الرجعية» كما قال. ولهذا سأقدّم استقالتي بلا أي تردد.
في ذلك اللقاء، قال لي إنه سيُملي عليّ آخر فصول كتابه، وإن عليّ أن أنتهي من تفريغ التسجيلات كلّها، وتسليمها له قبل موعد سفره. وقد فرغتُ من تفريغها فعلا، وقمت بتنضيدها على كمبيوتري، ولكنّني كنت أضيف أمورا صغيرة، لعله لا يشعر بها وهو في حالته تلك، وسلّمتُها له في مغلّف أنيق قبل يومين من رحيله. وفوجئتُ أنّه أحضر لي مجموعة من الهدايا، وقدّم لي مبلغا من المال يكفيني شهرين أو أكثر.
يومها، بدأت أفكر في نفسي، في ما سيؤول إليه وضعي في غيابه، وانقطاع الدعم الذي كان لا يبخل به عليّ. كيف سأتدبّر أموري بعده؟ سؤال أقلقني وسبّب لي التعاسة أياما. لم أكن أعرف النوم. وإن نمتُ فنوم قصير متقطع، أصحو منه على كوابيس، هل سأعود إلى سيف، كارثة، سيدوسني بحذائه، خصوصا أنني كنت سببا في خراب علاقته بعامر. هل أقبل دعوة سعيد أبو البصل إلى العشاء؟ نعم، سعيد زميلي السابق الذي انتقل إلى مؤسسة أخرى، وارتفع راتبه أضعافا كثيرة، وقد دعاني في آخر لقاء لنا، ضمن حفل للنادي الثقافي الفلسطيني- العربي، إلى فنجان قهوة، وفي ذلك اللقاء القصير، بدا شديد الاهتمام بي، بل دعاني إلى عشاء بعيدا عن العيون، فتلقّيت دعوته بشيء من الصدّ، لكنني وعدته أن نلتقي حسب الظروف. فلا بدّ من النظر إلى المستقبل المجهول دائما.
بعد محاولات لثَنْيه عن الاستقالة، من قبل إدارة المؤسسة، وإصراره عليها، وافقتْ الإدارة على استقالته، وطلبتْ منه المداومة شهرا، ثم أعطوه مستحقّاته. خلال الشهر كان قد عاد بالتدريج إلى الكحول والتدخين، وساءت حالته، فنُقل إلى المستشفى مجدّدا، ليخرج على كرسيّ متحرّك بعجلات. وما أن تسلّم مستحقّاته، وقام بتحويلها إلى عمّان، حتّى حجز تذكرة العودة، وطلب منّي مرافقته إلى المطار. ودّعتُه هناك بعد أن أوصيتُه بالاهتمام بروحه، ولوّح لي مبتعدا بكرسيّه يدفعه رجل من رجال المطار، وعيناه تحبسان دموعا تأبى الانسكاب.
ودّعتُه وغامت عيناي، غامت الدّنيا كلّها أمامي. فقدت القدرة على التفكير، وعلى السير أيضا. لم أتخيّل مثل هذه اللحظة. فجلست في كافتيريا المطار، وأشعلت سيجارة. ولم أجد نفسي إلا وقد طلبتُ كأس ويسكي. كان ذلك الحل هو المنقذ لي من الفراغ. وشربت وشربتُ حتى لم أعد أرى ما حولي. كانت الدنيا تدور بي. لكنني لم أشعر بأيّ ثقل في الرأس أو الجسد، كما كان يحدث مع عامر وأصدقائه عندما يشربون. فجأة رنّ هاتفي، كان هو، عامر. همس بكلمتين، بصوت فيه الكثير من العمق والبكاء: انتبهي لروحك، قال. لم أستطع أن أردّ، فنهضتُ وغادرتُ.
خرجتُ من المطار، وقفتُ أتأمّل الفراغ القادم. كانت لحظات صعبة، لكنّ عليّ أن أتصرّف. لقد علّمتني العلاقة معه الكثير. كان يردّد «الحياةُ جميلة يا صاحبي»، ويقول إنّ هذه حكمة الشاعر التركي ناظم حكمت، وأنا الآن أقول «الحياة صعبة، أو خدعة كبيرة يا صاحبي». كان يمكن لعلاقتنا أن تكون أجمل، لولا جموحُه الفائض عن الحد، ولولا حاجتي إليه الفائضة عن الحدّ أيضا. وقبل أن أتوجّه إلى سيّارتي، أخرجت الموبايل الذي أهداني إياه قبل رحيله مع مجموعة الهدايا من عطور ومواد تجميل وسجائر، واتّصلتُ مع سعيد أسأله عن أحواله، وما إذا كان ما يزال عند دعوته تلك، فوجئ بالاتّصال، سألني ما الذي حدث حتى أتصل، فقلت إنني أقبل دعوته، فأبدى ارتياحا جعله يحدد موعدا للقائنا بعد ساعة لو أردتْ. طلبت منه أن يحدد المكان، وأن علينا أن نلتقي بعيدا عن العيون، لنتحدّث عن أمور كثيرة.
في طريقي إلى المطعم الذي حدّده سعيد، كنت أقود بسرعة خيالية، كنت أشعر أنني أطير، لا أعرف إن كان ذلك بتأثير الخمر، أم بتأثير الرغبة الجامحة في اللقاء المصيريّ. لم أكن أرى من الشارع سوى خيالات وأشباح سيارات. لكن ضوءا ساطعا جعلني أدخل في اتجاه معاكس من الطريق، وإذ بشاحنة نفط عملاقة تأتي مندفعة بسرعة الريح من الاتجاه الذي دخلته خطأ، لم يبق بيني وبين الشاحنة سوى بضعة أمتار، فوجدتني أنطق الشهادتين «أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمّدا رسول الله»، وانحرفت بالسيارة لأبتعد عن الشاحنة، لكنها ضربت سيّارتي من طرفها، فانقلبت دورات عدة قبل أن تستقرّ على الرّصيف، فيما واصلت الشاحنة اندفاعها، ولم أعرف بعدها ما حدث، فقد دخلتُ تحت الشاحنة، أو أنّ الشاحنة هي التي صعدت فوق سيارتي، وصحوتُ في المستشفى فرأيتُ زوجي بجانبي مع عدد من الأطباء والممرّضين والممرّضات، وسمعتُ حديثا عن فقدان الساقين، وكسر في العمود الفقريّ لا يمكن علاحه، وجلطة في الدماغ لا حلّ لها. وبعد أيام، اكتشفت أنّني فعلا بلا ساقين، فنقلوني إلى البيت على كرسيّ متحرّك، لأعيش بقيّة حياتي مُقعدة عاجزة، في ظلّ زوجي البغل. زوجي العرص والنذل الذي دفعني في هذه الطرقات القاتلة.
والآن، بعد هذه الرحلة مع المعاناة والألم، أقول لنفسي: يبدو أنّنا جميعا ضحايا!
وبسؤالي عنه لاحقا، قيل لي إنه في عمّان، انتهى، بعد عودته، في غرفة بائسة، بناها أبناؤه له في موقف السيارة، وباتتْ له حياته الخاصّة، بعيدا عن زوجته وأسرته، قالوا له اذهب واسكر كما تريد، لكن لا تقترب منّا، نحن لنا عالم محترم لا يتقبّل هذا النوع من السّلوك. نريد أن نعيش حياتنا الطبيعية، وأنت شخص خارج على المجتمع ولا أحد يتقبّلك. حتّى أصدقاؤك تخلّوا عنك. ونحن لا نتحمّلك إلا على مضض. فلا تضطرّنا أن نطردك من البيت، أو نسلمك إلى مستشفى المجانين. هذا آخر ما نتمنّاه. أو هناك حلّ آخر، أن توافق على دخول مشفى للعلاج من حالتك الكحوليّة هذه؟ فماذا تريد؟
حالته الكحوليّة هذه كانت حالة مسالمة، لا يؤذي أحدا، ولا يريد أن يؤذيه أحد، لكن لا أحد يستوعب هذه الحالة، الكلّ يريدك طوع إرادته ورغبته هو. زوجته تريد أن توجّهه، وحتّى ابنه الصغير يحتجّ على رائحة غرفته التي يقول إنّها عابقة بالكحول. يقول له: يا ابني، لا تعمل شُرَطيّا عليّ. فنحن أصدقاء. وأنا لا أريد أن أنتحر، ولا أرغب في نهاية كما انتهى جدّي، لن أنتهي مُخرّفا أبول في ثيابي. فلستُ ذلك الدرويش الذي يتلطّى تحت عمامة وجبّة ومِسْبحة بتسع وتسعين حبّة، ويعيش بين الله والشيطان. لستُ مع …. ولكنني لا أعرف الشيطان. أنا مع نفْسي وروحي.
نَفْسي ورُوحي.
* فصل من رواية تُنشر قريبا.
—————–
عمر شبانة