(1) المشط
حظ ذلك الشارع من السيارات قليل.
لم ينزل مطر في ذلك اليوم، ولم تمطر السماء نقودا.
هو يوم الجمعة.. فضاء أبيض، تطير فيه الأرواح وتنفض عنها غبار عمل اسبوع، يوم يتأهب في جوفه الهندي الأسمر للغوص في سوق روي المنقط بأقرانه، هناك سوف يقابلهم، سوف يطبعون البصاق واعقاب السجائر في الشوارع، سوف يذوبون في سينما النجوم الحالمة، وبعدها يسهرون بضحكاتهم المغلفة بالحنين في مطعم جيسترام.
يلبس أفضل ملابسه، يدهن رأسه بزيت النارجيل على نغمات أغان هندية كان قد شاهدها في فيلم لاميتاب باتشان، يرقص معها ويدندن، يأتي بالمشط ويسرح شعر رأسه، يخرج من البيت تاركا عفونة الاسبوع تمتطي رائحتها، يمشي مستحضرا طفليه وأمه وأباه ومبلغ آخر الشهر، يقطع الشارع بقدمين قصيرتين وفي نفس الوقت يواصل تسريح شعره. تمر سيارة صاروخية يسبقها صوت رخيم يطير المشط.. ويسقط في أقرب قمامة لكن، حظ ذلك الشارع من السيارات قليل.. قليل
(2) تشبه
قبل ان تصل السيارة كان الجبل يلد خرافا.
قبل أن ينزل المطر حاولت الخراف قطع الشارع بأجسادها الحادة، ضغط السائق بقدمه المغطاة بنعال اسود لامع على فرامل سيارته، خففت السيارة سرعتها مجبرة، تكسر صوت الفرامل وأربك اجهاض الجبل، غضب السائق بشدة ووجه كلامه للراكب بجانبه: (تبا لهذه الخراف.. تريد ان تفعل مثل الهنود).
(3) امتحان
تحت شمس ضاحكة لصباح مرتجف، تراود خالد آمال في اجتياز امتحان السواقة بعد ان سقط في حفر ستة امتحانات، تمضغه الرسوم التي يدفعها أبوه في كل مرة يمتحن فيها، ذاكرته تطارد معلمه الهندي الذي كان يجلده بقواعد اللغة الانجليزية، ظل المعلم يمتحن طوال العشر سنوات من وجوده في عمان ولم يحصل على رخصة القيادة، استحضر ايضا صوت الصفعة التي وجهها مدرب السواقة العماني لخد احد أقرانه، بذاءة صوته مازالت تتردد في اذنيه حينما قال موجها كلامه للهندي المحمر الخد: (كلب.. عشرة اختبارات.. ما قادر تنجح.. وبعدك تكسر منظرة السيارة.. تعبتني).
خالد يتمنى ان ينجح هذه المرة ويأخذ سيارة أبيه ويمتطيها كحصان أبيض، سوف يحولها الى مغناطيس يجذب البنات، سوف يملأها عن آخرها، سوف يمر على أصدقائه كي يتسكعوا في المجمعات التجارية حتى تشفط عرقهم ببرودتها، هذه المرة سوف ينجح ويركب الحصان، خصوصا ان أباه توسط له عند أحد الضباط كي يساعده في اجتياز الامتحان، استجمع كل قواه الذهنية وطرد كل المخاوف، عليه الآن ان يركز في قوانين السير.
لم يحاول ان يقف عند خطوط معبر المشاة، نهره الشرطي الراكب الى جانبه وقال له: (لماذا لم تقف عند خطوط المشاة.. الا ترى شخصا يريد أن يعبر)، رد عليا خالد وعلامات البرود تدب في وجهه: (لكنه هندي).
4- ذو الشعر الناعم
ذلك الطائر الكبير الابيض القادم من الهند لم يضيع طريقه، وقف فوق سحابة ولاية سمائل وقذف بالوسيم ذي الشعر الناعم، وسقطت ضحكته قبل سقوط جسده في السوق الصغير. تراقصت الجبال البنية اللون واشجار النخيل والوديان في عينيه، وتذكر العشرين سنة الشاقة التي دفنها في حفرة بمنزلهم الخشبي والتي مازال المطر يبللها.. غاص في سمائل واصبح يتنهد بعمق وشوق كلما رأى رقصات العيد، وبنادق مشهرة ناحية ناحية السماء، ورجال اشداء يرقصون ويضربون الطبول ويتقاطر منهم العرق فيملأون الجو بحموضته، ونساء بملاس ملونة تغني وترقص، يهوى الموسيقى والعزف على الجيتار، غير انه لا يملك واحدا، جاء الى عمان بعد أن شحنته الأيام بآلامها، يريد ان يقاتل الفقر، كما انه يحلم بشراء جيتار والالتحاق بفرقة موسيقية، ومن يدري ربما سوف يشارك فيما بعد في أحد الأفلام الهندية، ليكون نجما ساطعا يدغدغ خيال المراهقين.
ابن عمه بحث له عن كفيل كي يمارس صنعة خياطة ملابس نسائية، قاده الى بيت بغرفتين، كل غرفة تحتضن سبعة أشخاص، وكل شخص يحاول ان يمسك بأكبر قدر من الاحلام بيديه وعقله. اعد ابن عمه احتفالا مصغرا بمناسبة انضمامه لقافلة العمال، طبخ مع زملاء آخرين عشاء يتكون من الدال والشباتي والمصالة، لا يهم البذخ هذه الليلة، المهم هو الاحتفاء بأي عامل جديد قادم من الهند.
اجتاز التدريب على الخياطة بسرعة ومهارة اندهش لها معلمه، خصوصا التطريز واستعمال الماكينة، ونجح في مهنته وبدأت النقود تصل شهريا الى والديه، وكثيرا ما يذكرهما لرفاقه بأنهما دائما ما كانا يغذيانه مع الحليب موسيقى منذ ولادته، حيث كان أبوه عضوا في فرقة شعبية تشارك في الاعراس. البعض من زملائه يستهزىء منه بينما الآخرون يعرضون أسنانا نخرة ويهزون رؤوسهم اعجابا به، مرة صرح له أحدهم
انه راه في حلم يراقص ممثلة مشهورة ويدافع عنها ضد عصابة لصوص. وسامته تشعل الحسد بين زملائه، خصوصا اذا ما شاهدوا الاعجاب ينطلق من عيون النساء اللواتي يحضرن لخياطة ملابسهن.
وفورا دخل قلب عائشة بمجرد رؤيتها لشفتيه الحمراوين، وصرحت لصديقاتها بذلك وانها بصدد ان تضمه الى صندوق أسوارها، وان الهنود لا يفتحون صناديق الأسرار لأي كان او انهم لا يجيدون فتحه. اصرت في ذلك اليوم ان يأخذ لها المقاسات بنفسه، افتضحت عيون زملائه غضبا وغيرة. اهتاج قلبه واحضر شريط القياس ومرره على جسدها الناعم الذي لم يلامس مثله من قبل، وحينما وصل منطقة الصدر فاح دمه، وفاح دمها، ولكنه كان حذرا جدا حتى لا يقع في خطأ ويسقط في غياهب السجون. ثم دعته الى بيتها بصوت منخفض محاولة توصيل الرسالة له بعربية مكسرة، وخرجت تاركة بخورها وعطرها يتوغل في كل نقطة بالدكان.
دب القلق في أوصاله واستشار ا بن عمه الذي هنأه على هذا الكنز وطمأنه بأن عائشة امرأة مطلقة، وانها تعيش وحدها بالبيت.
×××
طرق الباب بخوف كأن أحدا يطارده، ظهرت له بملابس النوم، تطاير منها عطر الياسمين، دخل، وسحبته، الا ان القلق يغلي دمه، أجلسته على كرسي جلدي، ركبت في حضنه، حاولت معه كثيرا، كان قلبه يشتعل ويهتاج، الا انه لم يعرف سببا لفشله، غضبت بشدة، بينما هو متسمر في مكانه غارق في ذهول لم يألفه أبدا. هدأت من روعه، ثم حضرت له العشاء، ورويدا رويدا بدأ يشتعل من جديد، لكن هذه المرة غاصا معا في ليلة نارية لم يحلم بها هو، ولم ير مثلها في أي فيلم شاهده.
صار يراودها مرتين في الاسبوع، حتى انه بدأ ينتفخ وكرشه يتكور، ووسامته بدأت تتحلل شيئا فشيئا، بعض زملائه سخروا منه بسبب الغيرة التي كانت تنخر فيهم، نشب نزاع حاد بينهم، تدخل ابن عمه ونقله الى بيت آخر، غرفة جمعته مع خمسة آخرين، العدد اقل من ذلك السكن، ولا توجد سخريات كالتي يواجهها هناك، وتلقى ترحيبا لا يوصف من زملائه الجدد، ودار حديث عن عائشة وقصص الحريم وما يحدث من مواقف داخل دكان الخياطة، وعند منتصف الليل، بينما كان يغص في النوم، أحس بوخز في مؤخرته، نهض مفزوعا وكأن كابوس نهشه، امتصه الخوف حينما رأى خمسة اشخاص حوله يتغامزون ويحدقون فيه، لعاب يتساقط من أفواههم، أحس انه في كابوس وسوف يستيقظ منه في الصباح ويذهب الى عمله الذي أحبه، ومن ثم يتجه الى موعده الاسبوعي حيث المتعة والحب، وقد قرر عند نهاية هذا الشهر ان يأخذ اجازة ويزور بلاده وأهله ويشتري الجيتار من هناك لأنه أرخص بكثير. ولكنه لم يكن كابوسا حيث أمسكوا به، وتناوبوا في اغتصابه طوال الليل. جاء الصباح وهب كل منهم الى عمله بعد أن عب كل واحد منهم شايا مع الحليب، أما هو فلم يستطع ان ينهض من على الفراش الذي كان لزجا، كان البيت خاليا، أخذ يحبو بصعوبة ناحية المطبخ.
بعد دقيقتين فقط.
سيارات اطفاء غاضبة تصرخ في وجوه الجميع.
طائر كبير أسود.. يطير.. يطير بعيدا حاملا معه الحنين ناحية بلاد واسعة.
(5) لهاث باتجاه السماء
1- يا للذة السريعة.
2- هرب من المزرعة وركض باتجاه الجبال التي استقبلت لهاثه، جلس تحت أقرب ظلال ليهديه من روعه.
3- كانت تنحني صباح مساء امامه، تتكور مؤخرتها في خياله عند الليل، ويبدأ في مداعبة سريره.
4- واصل الركض باتجاه السماء، سقط مذعورا في حفرة، انغرزت صخرة مدببة في قدمه، الا انه واصل الركض بقدم ونصف.
5- كانت تكشف عن جزء من صدرها خلف اللحاف، وتضحك مع اخوانها الصغار ضحكات غنج، ذات مرة.. سقطت، طار ثوبها، انكشفت ساقان بيضاوان لمعتا تحت ضوء الشمس، بينما كان هو معتليا نخلة شاهقة الطول، اشتعل دمه وكاد أن يسقط، وحصيلة تك الليلة ساقان يمتص منهما رحيقا مالحا حتى يصل الى فوهة البحر، مسرحية كل ليلة.
6- رأى أفعى تعصر نفسها بين الصخور، زاده الفزع وهرب من ذلك المكان واصطدم بغصن شجرة، شج رأسه، سالت دماؤه التي ذكرته بتلك الدماء الحارة.
7- المزرعة ساكنة، وكان يغفو تحت شجرة ليمون، فتح باب المزرعة، استيقظ وراها تدخل، وسألته بصوت ناعم عن أبيها، رد بهزة من رأسه: (ما فيه معلوم.. اليوم.. ما في جاي)، كأن الخبر أراحها، توجهت ناحية ساقية الماء المواجهة له تماما، جلست بعد أن رفعت ثوبها، غرزت ساقيها في ماء الساقية، قدماها طرطشت الماء، فاح الدم في كل انحاء جسمه، اتسعت حدقتا عينيه، انتصبت الأغصان، امسك احدها بقبضة يده وكانت لشجرة ليمون وكسرها، نهضت هي واتجهت تتمايل ناحية النخيل، تنحني لتلتقط غصنا أو حجرا لتقذفه ناحية الاشجار، تسقط لحافها فترجعه.
8- رأى عقربا تدخل في جحر احد الجبال الساخنة، الشمس تحرق جروحه، يزداد لهاثه، يعرف انهم يطاردونه، سوف يسجن لا محالة، سوف يجلد ويقتل، هده التعب وسقط في ظل شجرة جبلية.
9- لم يستطع ان يهدئ من ثورته، لم يكن في المزرعة أحد غيره وغيرها، كل يوم ترسم له مشهدا ينفذه في دماغه وقت الليل، اليوم ربما مشهد من نوع آخر، مشهد غير خيالي، ودون دراية تنفلت قدميه ناحية جسدها الطري، يحضنها من الخلف، يضغط على صدرها، يرقدها على العشب، ذابت تحته مثل قطعة سكر، اشتعلت التأوهات، اهتزت المزرعة.
10- ها هي قدماه تنفلت من جديد.
11- يا لقمة الجبل الشاهق، صخور تحطمت بعيدا عن قلب الجبل.
يحيى سلام المنذري (قاص من سلطنة عمان)