الحكم بالجودة والرداءة في التراث الادبي والنقدي من الاحكام التي شغلت النقاد والادباء. فما من شاعر او كاتب الا وكان يسعى لجودة ما ينتجه. وما من ناقد وعالم لغة وأدب إلا وسعى للوقوف على مواطن الحسن والقبح في ذلك النتاج.
والجيد في تلك المساعي هو بالتأكيد ما نسبت له الاستقامة وبخلا فه الردىء، والجيد هو ما رشح للهيمنة بخلاف الودىء اما النص فيتخذ موقعه في فضاء الجودة بالقدر الذي يرى صاحبه او ناقده انه شغل لغة الجودة ولعبة قواعدها. ولغة الجودة هي إما اللغة المهيمنة المكرسة او تلك التي يراد لها ان تكون كذلك.
بيد أن الجودة والرداءة ليستا لهما احكام مطلقة ما دامتا نتاج تلق معين. فالتلقيان المتزامنان قد يتباعدان فيما يصدرانه من تقييمات لقواعد اللعبة المنتجة للجودة. ناهيك عن تغير التلقيات بتعاقب الاطوار والازمان. ولا ادل على ذلك، من تنافر تلقيات متزامنة لشاعرين هما البحتري وابو تمام او لشاعر هو المتنبي.
والقاضي الجرجاني يعرض في وساطته لتنافر تلقيات المتنبي بقوله:
"ومازلت أرى اهل الادب.. وفي ابي الحيب، فئتين: من مطنب في تقريظه منقطع اليه في جملته.. وعائب يوم ازالته عن رتبته (1). ولم يبتعد الجرجاني نفسه عن نقد الرداءة حين عممها على الاشعار الجاهلية والاسلامية مؤكدا أنه ما من قصيدة الا وحملت محمل العيب والقدح.
وموضوعات نقد الرداءة كثيرة، تبدأ من رداءة القصيدة جملة وتفصيلا كنقد الباقلاني لمعلقة امرىء القيس (2)وصولا الى رداءة القصيدة بسبب مخالفة جزئية لقاعدة نحوية كنقد ابن فارس في كتابه"دذم الخطأ في الشعر"(3) والذي لم يحكم بالرداءة على الشعر وحده بل ايضا على نقاد الشعر معن يجوزون للشاعر ان يضطر الى ما لا يضطر اليه غيره. وكما يدل على ذلك عنوان الكتاب، ليست الرداءة مردودة فقط، بل مذمومة تستوجب الاقصاء لفائدة الجودة الممثلة هنا بالانضباط للاوضاع اللغوية.
وبين رفض القصيدة كليا ورفضها جزئيا تندرج مواقف أخرى جعلت مرتع الرداءة في كل معيب ومذموم من اساليب البلاغة او من التفاعلات النصية. اضف الى ذلك رداءات، غير نصية يتم توريط النص فيها كالحكم عليه بالرداءة لمجرد انه ليس جاهليا.
ولكي ينظم التراث النقدي” شعرية” الرداءة والجودة وضع فرعا معرفيا هو النقد الادبي. وسيكون هذا الوليد الجديد مخلصا لاصوله اللغوية التي انحدر منها قبل ان يستوي كائنا اصطلاحيا يمارس وظائفه في موضوعه الخاص به. أما تلك الاصول اللغوية فنجدولها في الخانات التالية:
1- يتصل النقد بالشد: والقاهر والمريض والمعيب:
-النقد: جنس من الغنم قصار الارجل قباع الوجوه.
– النقد: تقشر في الحافر وتآكل في الاسنان.
-النقد: القميء من الصبيان الذي لا يكاد يشب.
2- النقد: اطالة النظر في الشيء.
3- ناقد فلانا: ناقشه في الامر.
4- النقد: اظهار الجودة والزيف في الدرهم.(4)
إذا ركبنا بين هذه المعطيات فسنجد ان فعل النقد يتجه نحو موضوعه لتبينه وفحصه مع اظهار جودته ورداء ته. وناقد الادب هو من يمعن النظر في موضوعه مناقشا اموره واضعا يده على ما يرده سويا مستقيما جيدا وعلى ما يرده شاذا معوجا رديئا. فهو وكيل سلطة الادب، يدافع عن السائد منها او عما يخطط لترشيحه لذلك دافعا كل ما شذ عن تصوره للسلطة، نحو الهوامش، ان لم نقل انه يخطط لعدم ولادة كل ما من شأنه مضايقة تلك السلطة. ولما كانت السلطة وشرعيتها موضع تقديرات متباينة، تباينت من ثمة الاعتبارات النقدية، فتجادلت كل من موقعها وكل حسب نوع السلطة المقترحة للاقامة، وحسب ما يراد اقصاؤه من تلك السلطة.
ترسيم النقد المالي في”سوق” النقد الادبي لم يحدث بالطفرة فقد بدأ بأقوال اقامت مشابهة بين النقدين، ولعل من اوائلها قولة مشهورة لخلف الاحمر ورد فيها:”قال قائل اذا سمعت انا بالشعر استحسنه فما ابالي ما قلت انت فيه واصحابك. قال: اذا اخذت درهما فاستحسنته فقال لك الصراف: انه ردىء فهل ينفعك، استحسانك اياه؟.(5)
يقوم ناقد الادب في هذه القولة مقام الصراف. ولما كان الناقد هو الصراف والصيرفي، فقد كان من المحتمل ان ينتقي التراث الادبي النقدي كلمة صراف او سيرفي لنعت فاحص الادب بدل كلمة ناقد، ولو حدث:لك لكنا نتحدث الأن من الصرف الادبي مكان النقد الادبي. فلماذا تم العدول عن هذا الانتقال ؟ أليس الصراف بمثابة الناقد يميز جيد الدرهم من رديئه ومزيفه ؟
لعل السبب في العدول المذكور هو كون كلمتي نقد وناقد اكثر دلالة على ما يفيد تمييز الجودة والرداءة على حد ما تقدمه المعاجم. كما ان نعت الفاحص المالي بالناقد كان يكسبه – فيما يبدو – مزيدا من الثقة مما لو نعت بالصراف والصيرفي – فاذا عدنا لمقابلات كلمات صرف وصراف وصيرفي في المعجم لتبين لنا احتمال ما رجحناه. فالصيرفي في المعجم وهو الصراف ايضا، يفيد:”المحتال في الامور". اما كلمة صرف فانها وان اقترنت مثل كلمة نقد بالمال والكلام، فانها لا تتجه نحو الرداءة بقدر اتجاهها نحو الجودة. في القاموس المحيط يقال:”صرف الحديث: ان يزاد فيه ويحسن، من الصرف في الدرهم. وهو أفضل بعضه على بعض في القيمة، وكذلك صرف الكلام”(6).
وسواء أعان الناظر في الادب ناقدا ام موافا el صيرفيا فانه في كل الاحوال، يقوم مقام نظيره الفاحص للدرهم. بيد ان السؤال المطروح ترتيبا على التوليدات المعجمية السالفة، سنختار له زاوية اخري. لماذا تم اختيار مرجعية مالية للناظر في الادب دون غيرها من المرجعيات كالمرجعية البدوية التي اسعفت النقاد الاوائل في وضع واغناء ذخيرة المصطلحات والمفاهيم النقدية ؟ هل لان الدرهم كان في ذلك الوقت عملة بالغة الصعوبة ام لان تزوير العملة كان فعلا سائدا مستفحلا اعطى للمراقبين الماليين مكانة رفيعة في هرمية المجتمع ؟ سؤالان ندعهما لمن يهتم بالاوضاع الاقتصادية والاجتماعية لذلك العصر.
النص المروي عن خلف يصمت صمتا تاما عن جواب السائل. ابن سلام الذي اورده لم يتسائل بدوره عن ذلك الجواب المحتمل، لقد اعتبر ان خلفا افحم سائله واقنعه وانتهى الامر. والسياق الذي اورد فيا ابن سلام النص يرجح هذا الاحتمال. فقد اورده خلال حديثه عن كون اهل العلم ادري بصناعة الشعر من غيرهم. ترى بماذا كان سيجيب خلف او ابن سلام لو ان السائل قدم اجوبة كهذه:
– ليس الشعر عملة تفحص باليد والعين.
– للعملات المزيفة والرديئة هواة يقتنونها.
– للدرهم الرديء اهل ملم به يصنعونه وقد يتفوتون في الحيلة والمهارة مل نقاد الدرهم.
– الشعر الذي يوصف بالرداءة قد يكون اغلى سعرا من الدرهم الجيد بل يوزن بالدنانير الذهبية. ولنا في ابي تمام مثال. فرغم ما نعت به شعره من عيوب ورغم انواع الرداءة التي استخرجها نقاذ وصرافو الاذب من شعره، فانه احتكر او كان ما وزن به الشعر من دواهم. يروي عنه الصولي خبرا يقول:،دما كان احد من الشعراء يقدر أن يأخذ درهما واحدا في ايام ابي تمام. فلما مات اقتسم الشعراء ما كان يأخذه”(7)
اهل العلم عند خلف والاصمعي هم الادري بالحق وبعا يجب ان يسود وبما يجب ان يقصى. وعلى المتلقين من العامة وحتى من الشعراء، الخضوع لما يتم تشريعه وفرضه، يقول ابن سلام عن الشعر”المصنوع” و"المفتعل” الذي”لا خير فيه”:”وليس لاحد –اذا اجمع اهل العلم والرواية الصحيحة على ابطال شيء هنه -ان يتبل من صحيفة ولا يروى عن صحفي"(8)
يلاحظ في هذه القو لة ان”الناقد" لا يقوم بدور الصراف وحده، بل بدور القاضي والمشرع والحاكم الذي لا يكتفي بإقصاء غير المرغوب فيه بل بمنعه منعا كليا والقضاء عليه. فكل ما اخترق السائد يعد متنكرا للشرعية التي يعززها ابن سلام بمفهوم الاجمايه وسنة الجماعة. وهو مفهوم لا تخفى مرجعيته الفقهية والدينية والسياسية.
بيد أن ابن سلام لا يكتفي بمماثلة ناقد الادب بناقد المال وحد.، فإضافة الى ذلك يماثله بمجموعة من الحرفيين واهل الاختصاص في الصناعة والتجارة. كاختصامي الاحجار الكريمة والنبات والحيوان والقراءة والغناء وتجارة الجواري.
ومن بين هؤلاء الحرفيين المهرة في صناعاتهم سيتم ترجيح كفة الصراف او الناقد المالي ليطلق على ناقد الادب. وسيمكننا ابن سلام من تفسير يبرر ذلك الترجيح. فاذا قارنا بين ما قيل عن العملة في ذلك الوقت وبين ما نعده نصا ادبيا، فسنجد بالتأكيد ان العملة كانت معدنية متميزة بعاديتها القابلة للفحص الدقيق باللمس والنظر. فهل طبيعتها هذه كانت كافية لتبين زيفها ورداءتها من جودتها؟ يرى ابن سلام خلاف ذلك، فيذهب الى ان حقيقتها متوارية خلف مظهرها المادي، فهي خادعة باتقانها الظاهر فيما تنطوي على خديعة او وهم. اي على وجود آخر وقيم اخري. انه وضع لن يصل لمعرفته سوى الحرفي وصاحب الاختصاص البصير بما يختفي خلف النسق السطحي. يقول ابن سلام: داومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم، لا تعرف جودتها بلون ولا مس ولا طراز ولا وسم ولا صفة، ويعرفه الناقد عند المعاينة، فيعرف بهرجها وزائفها وتسوقها ومفرغها"(9).
فهل النص الادبي تبعا لهذا التفسير، يشبه بالفعل النص العملي (نسبة الى العملة )؟ وهل لهذا السبب اقتنع باقي علماء الادب القداس باستعارة مصطلح النقد المالي للنقد الادبي؟ اما نتيجة هذه الاستعارة فستكرس لوظيفة النقد الادبي مهمة اظهار الجودة والرداءة في الادب. وسنبين:لك بعرض مركز نتتبع فيه رسوخ هذه الوظيفة عند بعض النقاد وما رتبوه عليها من محاولات لاقامة شرعية ما اعتقدوه حقا وصوابا وشرفا وخيرا وجوزة.
سيجعل قداسة بن جعفر النقد فرعا قائما بذاته بين فروع البحث / الادبي. ولم يكن قداسة ليقدم على عنونة كتابه -”نقد الشعر" لولا ان هذا المصطلح كان قد شاع واصبح من اصطلاحات اللغة الدارسة للادب. وسيكون قداسة ثاني ناقد – بعد الجاحظ (10) ينبه الى ان الشعر يستوعب تعدد الاختصاصات، والمقاربات او العلوم حسب تعبيره، فهو موضوع لعلم العروض وعلم القوافي وعلم الغريب وعلم المعاني. ولكن هذه العلوم ليست مما يسد فراغ نقد الرداءة والجودة. فلابد للجودة والرداءة من علم خاص بهما سيكون هو النقد الشعري وسيعرف عنده بكونه”علم جيد الشعر من رديئه”(11)
بيد ان قداسة لن يستطيع في كتابه المذكور ان يحصر لـ”علم جيد الشعر من رديئه” موضوعا معزولا عما حدده لباقي العلوم الدارسة للشعر. بحيث اضطر لاستعارة موضوعات تلك العلوم فأثار الرداءة والجودة (المحاسن والعيوب ) في الوزن والقافية والمعنى. وكانت محاولة قداسة ستحتفظ بانسجامها لو ان علومه كانت علوما وصفية لا تهدف الى نقد الجودة والرداءة. اما وانها كانت كذلك بمقولاتها عن الصواب والخطأ والسوي والشاذ، فانها بحكم اهدافها وطبيعتها، متداخلة مع النقد الشعري كما تصوره قداسة. فكلها ينطبق عليها مفهوم”علم جيد الشعر من رديئه” سواء أعان ذلك متصلا بالوزن ام بالقافية ام بالمعاني. انها علوم – ان صحت تسميتها كذلك – مماثلة للنقد”الجعفري" في تزكية شرعية التلقي الرسمي السائد. لكن هل نجحت محاولة قداسة الممثلة في اختياره عنوان”نقد الشعر"، في تكريس هذا المصطلح وتعميمه: نجد انه قبل قداسة وبعده لم يكتب لهذا المصطلح ان يهيمن بشكل على غيره من المصطلحات المقاربة، أليس أدل على ذلك من ندرة الكتب التي رامت مفزع العنونة”الجعفرية”.
لم يكتسب مصطلح”نقد،" في الكتب القديمة كفاية نقدية تمكنه من الهيمنة واكتساح العلوم المنافسة في دراسة الادب، بيد ان مرجعيته المالية ستبقى راسخة، ففي كتاب”اخبار ابي تمام” على سبيل المثال، يتحدث الصولي عن اعذار بعض العلماء المتقدمين”في قلة المعرفة بالشعر ونقده وتمييزه
"(12) فجعل للشعر معرفة ونقدا وتمييزا، احساسا منه ان كلمة”نقد" وحدهما غير كافية. وتفيد كلمتا نقد وانتقاد في رسالة”الكشف عن مساوىء شعر المتنبي" للصاحب بن عباد اظهار عيوب الشعر ومحاسنه (13)
ويعد كتاب”الموازنة بين ابي تمام والبحتري" من الكتب المتميزة في مجال النقد الادبي فصاحبه شاعر وكاتب وبصير بالمستجدات الادبية على عهده، وقد الف عدة كتب في النقد ضاع جلها. كما انه ناقد مجادل لم يكتف بجمع أراء غيره او نثر أرائه بين ما جمعه، بل عمد الى مناقشة غيره في مؤلفات وضعها لذلك الفرض كنقده لابن طباطبا وقداسة بن جعفر، مما يعني انه كان على دراية بما وصل اليه النقد في عصره، فهل لاجل مطلب علمي ام رغبة في التفرد والتميز وظف الآمدي مصطلح”موازنة” دون مصطلح”نقد" الذي سعى قداسة لتكريسه بصفة نهائية ؟
لو قارنا بين المصطلحين في السياق القديم لوجدنا انهما صادران عن فعلين هما فعلا وازن ونقد، بخلاف مصطلحات أخرى كتلك التي تعين ظواهر اسلوبية وادبية. وهما يتقاطعان في عدة اوجه ويمكن للواحد منهما ان يحتوي فعل الآخر، فالناقد مضطر دون شك لاستدعاء فعل الموازنة قبل ان يصدر حكمه النقدي، انه يوازن بين السابق واللاحق وبين المثال المنجز وبين الجيد والرديء سواء أكان الطرف الموازن به مجسدا حاضرا ام ضمنيا مغيبا. أما الموازن فيتحول الى ناقد بمجرد ان يجعل هدفه اظهار الجودة والرداءة. ولكنه قد لا يكون ناقدا بالمفهوم الذي حددناه سلفا، فاذا لم يرم تبيين الجودة والرداءة ورام مثلا تبيين خصائص الجودة في متن لا يحضر فيه الرديء، فانه ليس في هذه الحالة ناقدا ادبيا متقمصا دور ناقد مالي، بيد ان هذا استنتاج قد يرد بأيسر السبل. ذلك لان اختيار نصوص جيدة للموازنة بينها امر لا يمكن ان يقوم دون اقصاء أخرى اعتبرت رديئة، وكذلك العكس. هذا يفيد ان فعلي الموازنة والنقد فعلان لم يستقلا في السياق الثقافي القديم عما سماه قداسة بعلم الجيد والرديء. وربما الفارق بينهما هو لزوم الفعل المذكور للنقد لزوما مكشوفا وبينا، فيما ظل لزومه لفعل الموازنة لزوما مستورا وه بطنا بدلالات فعل الموازنة.
فالناقد يتحول الى موازن ليكسب احكامه مزيدا من الشرعية. الا يدعي في حالته هذه العدل والانصاف والحياد؟ وكأن كونه يوازن بين طرفين لا يتجاوز المعادلة والمقابلة بينهما. مع العلم انه حتى في الوضع اللغوي يفيد فعل الموازنة بين الشيئين ان تجعل احدهما على زنة الأخر او تجعله محاذيا له (14) الا يعني هذا، الايمان بأسبقية طرف على طرف ؟ ثم متى كان بالامكان معاملة الابداع كأي شيء مادي ووضعه في ميزان معين ؟ أليس الميزان المفترض لوزن الادب شيئا وهميا لا تقوم قائمته خارج الادراك والتلقي الخاصين بكل ناقد؟ ولكونه كذلك فالموازنة قد لا تعدو كونها فعلا تمويهيا الهدف الحقيقي منه تصفية حسابات معينة.
وفي حالة الأمدي لسنا مضطرين للبحث بين السطور لتبين انتصاره وليس”تعاطفه” فقط مع البحتري، ولن ينطلي علينا ادعاؤه انه لن يفصح بتفضيل احدهما على الأخر، ففي الصفحتين الأوليين من الكتاب يعرض الامدي لموضوع الموازنة بين أبي تمام والبحتري عرضا نستخلص منه ان صاحبه دبر في الحقيقة خطة ممنهجة للتنقيص من شعر ابي تمام مقابل شعر البحتري، وخطط لذلك بادعاء انه انما يبني حكمه على”المشاهدة” وتلقي الناس لشعر الشاعرين. ويبدأ خطته هذه بق له بأن رواة الاشعار المتأخرين يزعمون ان شعر ابي تمام”لا يتعلق بجيده جيد امثاله، ورديه مطروح ومرذول” اما البحتري فشعره في رأيهم”صحيح السبك، حسن الديباجة وليس فيه سفساف ولا رديء مطروح”. فلماذا حرص الامدي على ان يفتتح كلامه عن أبي تمام بتسجيل ما قيل في شعره من عيوب في حين تجنب ذلك في شعر البحتري بل لم يذكر سوى ما اعتبر محاسن في شعره؟ فهل الموازنة هي اذن موازنة العيوب بالمحاسن ؟!
بعد هذا يقسم الأمدي المتلقين الى فئتين تفضل كل واحدة احد الشاعرين. فمن فضل البحتري”نسبه الى حلاوة اللفظ، وحسن التخلص، ووضع الكلام في مواضعه، وصحة العبارة، وقرب المأتي، وانكشاف المعاني" اما من فضل ابا تمام فهو من”نسبه الى غموض المعاني ودقتها، وكثرة ما يورد، مما يحتاج الى استنباط وشرح واستخراج”.
فنلاحظ ان الآمدي حين يذكر البحتري يحرص دائما على ذكر محاسن شعره اما حين يتحدث عن أبي تمام فانه يتجاوز خصائص لغته الشعرية والتي لا يمكن ان ننفي عنها جل ما سجله الآمدي في شعر البحتري. وبدل ذلك يذكر ما من شأنه التنفير من شعر ابي تمام واراحة المتلقي منه. ويتضح هذا الموقف في تعيين الآمدي للفئتين المفضلتين لشعر الشاعرين، فالفئة الأولى عنده هي فئة”الاعراب والشعراء المطبوعون واهل البلاغة” اما الفئة الثانية فهي فئة”اهل المعاني والشعراء اصحاب الصنعة ومن يميل الى التدقيق وفلسفي الكلام”.
فلنتصور هذا القارىء القديم الذي اراد ان يهتدي الى احد الشاعرين بموازنة الامدي، سيجد ان الامدي يضع له حدودا صارمة بين الشاعرين، فلكل منهما فضاؤه. وللبختري بطبيعة الحال الشرعية الثقافية والشعرية معا. لان له ثلاثة اطراف تزكيه، هي الاعراب والشعراء المطبوعون واهل البلاغة. اما ابو تمام فليست له تلك التزكية، فشعره شاذ عن اهل البلاغة وليس نابعا من معاناة الطبع والفطرة ومخالف لما اقره الاعراب وهم حفظة اللغة وأوصياء التركة والذاكرة الشعريتين. ان ابا تمام من تلك الفئة التي يمثل الشعر عندها لعبة ذهنية لا مقام لها في شرعية السائد الاصيل.
لكن هل متداولو شعر الشاعرين كانوا جميعهم متخندقين في الفئتين المذكورتين ؟ يرى الامدي ان هناك فئة ثالثة جعلت الشاعرين طبقة واحدة وساوت بينهما. هذه الفئة لم تستحق عند الامدي سوى جملتين دون ذكر لحججها، لسبب واحد، هو ان الامدي لم يكن يريد لقارئه المفترض ذاك ان يدخل ضمن هذه الفئة. بل كان يريد له ان يدخل ضمن فئة البحتري. كيف ذلك ؟ ان الفئة الثالثة في رأي الامدي فئة غير خبيرة وعارفة وعالمة بالشعر، لا تدرك مدى الاختلاف القائم بين الشاعرين. اختلاف سيكرسه الامدي هذه المرة بوجهة نظره وليس فقط في ادعاء ان ذلك منسوب لغيره. فالبحتري في رأيه”اعرابي الشعر، مطبوع، وعلى مذهب الاوائل، وما فارق عمود الشعر المعروف، وكان يتجنب التعقيد ومستكره الالفاظ ووحشي الكلام”.
ما الذي يبقى ا:ن لابي تمام بعد ان:كر الامدي محاسن شعر البحتري؟. ان شعره بالتأكيد غير اعرابي وغير مطبوع ومخالف لمذهب الا وائل رشا: عن عموذ الشعر المعروف. واقع في التعقيد ومستكره الالفاظ ووحشي الكلام. انه باختصار شعر خارج عن الشرعية السائدة المزكاة بالتراث السابق لذلك العصر.
سيصف الامدي شعر ابي تمام بانا”لا يشبه اشعار الاوائل، ولا على طريقتهم” وهذا حكم لو نظرنا اليه في حد ذاته لما وجدنا فيه تنقيصا او طعنا في شعر ابي تمام. بل ربما اخذناه سأخذا يدل على اقرار الامدي بابداعية ابي تمام. أليس الابداع عند القدماء هو ما لم يأت على مثال ؟ بيد ان وضع ما وصف به الامدي ابا تمام في مقارنة مع ما وصف به البحتري يعطي لذلك الوصف محتوى سلبيا. ولماذا نتكلف مشقة المقارنة والتأويل والامدي نفسه يفسر مخالفة ابي تمام لشعر الا وائل ولطريقتهم بأنها جعلت شعره”شديد التكلف، صاحب صنعة ومستكره الالفاظ والمعاني.. لما فيه من الاستعارات البعيدة، والمعاني المولدة”.
انه موقف ضد التجديد المخترق للسائد، موقف يمارس ضمنيا الحجر والوصاية على كل ما خالف العرف القائم ولكنه يتخذ في الظاهر خطابا يدعي العدل والانصاف والحياد. ولننظر تجلي ذلك في هذه الفقرة التي يستعيد فيها الامدي ما ذكره سابقا، وخاصة انها فقرة يوجه فيها الامدي خطابه بالنصيحة لطالب العلم والحقيقة الباحث عن اقامة مطمئنة في فضاء احد الشاعرين، اقامة سيرتضيها مقتنعا او مخدوعا بنصيحة ناقد عالم في مكانة الامدي:”فان كنت _ ادام الله سلامتك _ ممن يفضل سهل الكلام وقريبه، ويؤثر صحة السبك وحسن العبارة وحلو اللفظ وكثرة الماء والرونق، فالبحتري اشعر عندك ضرورة. وان كنت تميل الى الصنعة والمعاني الغامضة التي تستخرج بالفرص والفكرة، ولا تلوي على غير ذلك فأبو تمام عندك اشعر لا محالة”.
فما الذي سيختاره هذا القارىء وخاصة اذا كان مبتدئا او اختلطت عنده السبل وانسدت امامه ابواب قراءة الشعر؟ ألن يختار البحتري؟ قد يقول قائل بأن الامدي لم يوجه قارئه لاحد الشاعرين وانما وضعه أمام اختيارين وخاصة ان الامدي قال مباشرة بعد ذلك”فأما انا فلست افصح بتفضيل احدهما على الآخر". ونحن نرى انه اعتراض صائب في ظاهره، ولكنه لا ينطبق في العمق على مقاصد الامدي بناء على ما سبق أن اوردناه وبررناه. ولا أدل على ذلك من كون هذه الحرية التي منحها الامدي لقارئه حرية مقيدة. يخاطب الامدي قارئه ويقول له”احكم انت حينئذ على جملة ما لكل واحد منهما اذا احطت علما بالجيد والرديء".
ليس لهذا القارى الحق اذن في الاختيار الا اذا كان عالما بالجيد والرديء، اما اذا لم يكن كذلك فما عليه سوى القبول بما يقترح عليه ضمنيا، اي الإنتصار للبحتري وتفضيله على ابي تمام.
وبهذا يتبين ان مدار”الموازنة” في آخر المطاف هو الحكم بالجودة والرداءة. اي انها الوجه الأخر للعملة النقدية السائدة. وهي العملة التي لا يملك احد الحق في ادعاء الانفراد بمعرفة مزيفها من صائبها. ألم يقل الامدي -”تباين الناس في العلم، واختلاف مذاهبهم في الشعر"(15) فاذا كان الامر كذلك فان لصاحب كل علم او مذهب ان يرى ما يرده في الشعر دون ادعاء امتلاك الحققة.
ولقد دخل الامدي مجال الموازنة فيما يبدو من باب القضاء فقد كان كاتبا لقاضيين. ومرد الحكم في القضاء الى موازنة القاضي بين حجج ومزاعم”المدعي والمدعى عليه”. حيث يرجح في الاخير كفة احد الطرفين بعد الرجوع الى السند الشرعي او التقدير الخاص. وان لم يحدث الترامي في القضاء فلابد من الحكم لفائدة احد الطرفين وربما الحكم ضدهما او لصالحهما معا اذا رأى القاضي في ذلك انصافا او عقابا لهما. فلابد من حكم في كل الحالات بعد موازنة. ويفترض في موازنة القضاء ايضا ان القاضي هو الادري وكلمته وحكمه لا يردان. والامدي في موازنته النقدية لم يكن عن هذا ببعيد. فهو يتصور كأن أنصار ابي تمام وانصار البحتري رفعوا دعوى ضد بعضهما مطالبين بتحكيم الامدي، العالم بالجيد والرديء والصحيح والمزيف وما طابق عمود الشعر ومذهب الا وائل وما خالف ذلك. ولكن الامدي لم يقم بدور القاضي وحده، بل قام ايضا بدور المدعي العام. قام بدور القاضي حين ترك الحكم مفتوحا في ظاهر؟. وقام بدور المدعي العام حين ألب الشهود والحاضرين والقضاة ضد ابي تمام.
فكيف تصور الامدي في ضوء هذا دور النقد والناقد؟ بالنسبة لدور النقد لم يخرج الامدي عن أفق النقد العملي. يقول متحدثا عن الموازنة بين شعر الشاعرين:”أنص على الجيد وأفضله على الرديء، وأبين الرديء وأرذله، واذكر من علل الجميع ما ينتهي اليه التلخيص، وتحيط به العبارة”.
اما بالنسبة لدور الناقد وماله على الناس من حقوق، فلم يخرج عن دور القاضي. يقول:”فمن سبيل من عرف بكثرة النظر في الشعر والارتياض فيه وطول الملابسة له ان يقضي له بالعلم بالشعر والمعرفة بأغراضه، وان يسلم له الحكم فيه، ويقبل ما يقوله، ويعمل على ما يمثله. ولا ينازع في شيء من ذلك”(17).
ان الامدي في هذا الرأي يقتفي اثر ابن سلام الجمحي وغيره ممن نادوا بالاختصاص في المعارف وحصر القول فيها لاهل العلم بأصولها وصناعاتها. وهو رأي لا يخرج بشكل عام عن التصور الذي قسم المتلقين الى عامة وخاصة. الفرق هنا هو ان العامة لا يوجه اليها خطاب مناسب لمداركها بل يوجه لها نفس خطاب الخاصة، لكن الخاصة في هذا السياق يجيز لها الامدي مخاصمة ومنازعة”أهل الصناعة” اما العامة فعليها الانقياد والخضوع لما يملي عليها من خطابات، بدعوى ان اهل العلم هم الادري بالصالح العام في المجال الثقافي والادبي والفكري.
لكن هل يستطيع العالم بالشعر ان يبرهن بالفعل على احكامه ام ان أمره في هذا قد يشبا احيانا أمر القاضي الذي تتعادل عنده حجج المدعي والمدعى عليه فيصدر حكما غيرمقنع ؟ او امر المخبر الذي يتبين الواقعة لكنه لا يستطير لم خيوطها؟
لقد كان ابن سلام من أوائل من نبهوا الى وجود نظام او علامات غير ظاهرة ون لك حين شبه الشعر بالدرهم ونص على ان الجودة في الدرهم قد تعود لامور غير ظاهرة في الشكل المادي، لكنه أوكل المعرفة بهذا السر للناقد دون تشكيك في قدرته على تلك المعرفة.
سيذهب اسحاق الموصلي مذهبا قريبا من مذهب ابن سلام، وذلك حين ارجع الحكم في بعض الاشعار الى ما تشهد به الطبيعة وليس الى ما يعبر عنه اللسان، مما يعني ان الناقد حتى في حالة افتقاره الى البرهنة وأدواتها، فان حكمه الصادر عن انطباعه الشخص يجب ان يحترم ويؤخذ به مع العلم انه في هذه الحالة يتساوى العالم بالصناعة مع مدعيها. يقول اسحاق الموصلي.”سألني محمد الامين عن شعرين متقاربين، وقال: اختر احدهما، فاخترت، فقال: من اين فضلت هذا على هذا وهما متقاربان ؟ فقلت: لو تفاوتا لامكنني التبيين، ولكنهما تقاربا وفضل هذا بشي ء تشهد به الطبيعة ولا يعبر عنه اللسان"(18).
الامدي سيكون اكثر جرأة وصراحة حين يعترف بأنه قد يعجز عن اقناع سائله بالحجة والعلة القاطعة. وكان اعترافه هذا سيعد سابقة منفلتة عن سياقها القديم وهو السياق الذي غلب عليه التعالم وادعاء الحقيقة وتقويم الأخوين. يقول الامدي:”ليس في وسع كل أحد أن يجعلك _أيها السائل المتعنت والمسترشد المتعلم _ في العلم بصناعته كنفسه، ولا يجد الى قذف ذلك في نفسك ولا في نفس ولده ومن هو اخص الناس به سبيلا. ولا ان يأتيك بعلة قاطعة، ولا حجة باهرة، وان كان ما اعترضت فيه اعتراضا صحيحا، وما سألت عنه سؤالا مستقيما، لان ما لا يدرك على طول الزمان ومرور الايام لا يجوز ان تحيط به في ساعة من نهار".
أليس المجيب متعنتا كسائله ؟ فلماذا لا يريد ان يقر بالعجز عن الجواب رغم اقراره بصحة اعتراض السائل ؟ الامدي يريد أن يضفي عن المجز حلة موضوعية، انه لا يؤمن بالتالي بنسبية المعرفة ومحدود يتها، فيرجع ذلك لمحدو دية الزمن، بل انه حتى في هذه الاجابة يحتفظ لنفسه بالتفوق على سائله، ان تفوقه هو في طول خبرته وتمرسه، اي ما ادركه على طول الزمن،وذلك مقابل السائل الذي يفترض انه في هذه الحالة اقل خبرة وتمرسا من الامدي، لكنه اكثر مشاكسة وربما أكثر علما ودراية بأمور لا تحتاج في معرفتها لطول الزمن بل لنفاذ العقل وحساسية التلقي.
لقد ذكرنا أن مصطلح”نقد" لم يستطع ان يفرض نفسه على علماء الشعر ممن ندرجهم نحن الأن في خانة النقاد سواء أكانوا نقادا بالمعنى الدقيق او علماء بالمعنى الواسع وضعوا كتبا في النقد او مارسوا النقد من زوايا اختصاصهم واهتمامهم باعتبارهم لغويين ونحاة وعلماء كلام وفلاسفة، ولكننا ندخل اعمالهم ضمن خانة النقد الادبي لمعالجتهم قضايا وظواهر ومتون اشتركوا فيها مع غيرهم من النقاد ذوي الاختصاص في النقد الادبي.
بيد ان مفهوم النقد الادبي ووظائفه ودور الناقد والرضع الرمزي الذي يختاره لنفسه وخطابه الموجه للمتلقين من تلاميذ وأهل اختصاص وعامة، من الامور التي كاد يتماثل في زاوية النظر اليها كل من مارس النقد الأدبي.
واذا كنا عرضنا لبعض الامثلة متوقفين بشكل خاص عند الامدي لتعميق صورة هذا الناقد كغيره داخل جدل السائد والمسود، فإن وقفتنا تلك لم تكن سوى من باب التمثيل لا الحصر، بل ان اختيارنا للاماي كان اختيارا عشوائيا، بعد ذلك تبين لنا صواب هذا الاختيار خاصة وأنه يخص ناقدا قيل الكثير عن نموذجيته في النقد الموضوعي الذي ارتضى مقياسا اعتبر عند بعض المعاصرين مفخرة في النقد القديم.
وفي نفس الاطار الذي ذكرناه يندرج كتاب”العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده” لابن رشيق. فصاحب الكتاب _ كما يظهر من العنوان _يجعل للشعر محاسن وأدأبا ونقدا. مما يفيد ان مصطلح”نقد" ليس شاملا للعملية النقدية. ومما يعزز هذا النظر أن موضوع”النقد" لم يحظ في الكتاب سوى بباب واحد من ابوابه، وهو الباب الذي قرن فيه ابن رشيق النقد بما سماه”التصرف”. والباب هو:”باب في التصرف ونقد الشعر". وليس نقد الشعر في هذا الباب سوى نقد التصوف، اما التصرف عنده فهو ان يتمكن الشاعر من ادا القول في مختلف اغراض الشعر. اما نقد هذا التصرف فهو اظهار جودته ورداءته.(20)
ولا يخرج مصطلح”نقد" عند حازم القرطا جني عما اسلفناه. ففي استقصائه لما سماه”طرق الكلام” و"القوانين المقنعة” المتصلة بالجد والهزل، يذهب حازم الى ان”صناعة النقدر و" وجوهه” يجب ان يخدما الشاعر والمتلقي لكي يكتسبا معرفة اشمل بموضوع الجودة والرداءة.(21)
ان التقابل بين الجيد والرديء ليس منحصرا في مفهوم مصطلح”نقد" ولا في الآراء المبثوثة في بطون الكتب وحد_، فهو تقابل قائم ايضا خلف جملة من عناوين تلك الكتب. عناوين استهدفت حمل المتلقي على الخضوع لخطابها متخذة صيفا اقصائية تقصي بموجبها غيرها موهمة انها هي الجامعة المانعة المبطلة لسواها والمنفردة في بابها. هكذا سعى عبدالقادر الجرجاني لاقناع قارئه بان ما سيقدمه هو الممثل ولـد"لائل الاعجاز" ولـ"اسرار البلاغة”. وغير عبدا لقاهر الجرجاني من النقاد _ أو جلهم _ ينطبق عليهم ما ينطبق عليه. بحكم صيغ الشمولية والتفرد التي اختاروها لعناوين كتبهم.(22)
في هذه الكتب لغة الاقصاء والالغاء هي اللغة الحاضرة، اقصاء الكتب الاخري واخضاع القارىء للخطاب المقترح. فتبعا لتلك العناوين، لا دلائل ولا أسرار خارج دلائل الاعجاز واسرار البلاغة للجوجاني ولا موازنة ولا وساطة خارج منهجية الامدي والقاضي الجرجاني ولا عيار للشعر دون ابن طباطبا ولا عمدة دون ابن رشيق، ولا منهاجا يتبع او سراجا ينير دون حازم القرطاجني.
كل كتاب من هذه الكتب ومن امثالها ينتج سلطة معينة تتمظهر في نسق من المقولات ذات المفزع الاقناعي والمولدة لانواع معينة من الوعي بالواقع الثقافي والفكري والاجتماعي، انه وعي إما يعيد انتاج نفس الوعي السائد او يناهضه هادفا لاختراقه وتغييره.
اما الوعي السائد فيدعي انتإج المعرفة الحقيقية والمثل العليا التي على النماذج ان تنضبط لها حتى لا تقوم – من وجهة نظره – بكبح او تحريف ما يعده بمثابة التاريخ الحقيقي للادب. دون نعته في حالة عقوقه، بنعوت اكثر قسوة كالخروج عن الجماعة وعن المذهب ومخالفة الطبيعة وتجاوز الحدود المرسومة لحرية كل واحد. وفي هذا الموضوع يقول المظفر العلوي في كتاب لا يخرج عنوانه عن”سرب” العناوين السالفة. وهو كتابه”نضرة الإغريض”:”ولكل قوم سنة بها يستنون، ووتيرة عليها يحومون واليها يرمون. فمن أضاع ذلك منهم كان خارجا عن مذهبه، مخالفا لطبيعته، ساقطا وراء حده”.(23)
الا يبرر رأي كهذا يدعي صاحبه الدفاع عن القول البلاغي الجيد، ارهاب الفكر وقمع الحريات وبالتالي احراق الكتب وجلد المبدعين ومحا كمتهم. كيف اذن للنقد أن يقوم بدوره حتى لو افترضنا أن دوره هو موضوع الجودة والرداءة، دون اقراره بحرية الفكر والابداع ؟
هوامش الدراسة:
1- الوساطة ص3.
2- اعجاز القرآن ص 160.
3 – ذم الخطأ في الشعر لابن فارس: تحقيق رمضان عبدا لتواب مكتبة الخانجي مصر 1980.
4- انظر لسان العرب ومعجم مقاييس اللغة لاحمد بن فارس والصحاح: تاج اللغة وصحاح العربية للجوهري.
5- طبقات فحول الشعراء 1/7 وخلف الاحمرت 180_.
6- القاموس المحيط. مادة: صرف.
7- اخبار ابي تمام ص 604. وهناك قولة في”لسان العرب” منسوبة للغوي عاصر خلف الاحمر وهو يونس بن حبيب (ت -18) وفي هذه القولة نلاحظ ان ناقد الادب يستعير اصطلاحات ولغة ناقد المال فيعامل النص الادبي معاملة الدينار:”قيل ليونس: بم تعرف اشر الجيد: قال: بالششقلة”والششقلة كلمة من القاموس اللغوي لصيارفة العراق في ذلك العهد، وكانت تفيد عندهم وزن الدنانير وتعييرها. انظر لسان العرب، مادة ششقل.
8- طبقات فحول الشعراء 1/ 4.
-_ نفس المصدر 6/ 5.
10-العمدة 2/ 105.
11- نقد الشعر ص 16.
12-1خبارابي تمام ص 174.
13-الكشف عن مساوي، شعر المتنبي ص (22_ 34).
14- لسان العرب: مادة وزن.
15-النصوص السابقة المقتبسة من كتاب الموازنة هي من الصفحات (10-12)
16- المصدر ص 372.
17 – نفسه ص(374-375).
18- نفسه ص 374.
19- نفسه ص 375
20- العمدة 2/ 104.
21- منهاج البلغاء ص 235.
22- نذكر للتمثيل لا للحصر عناوين مثل: البيان والتبيين للجاحظ، العمدة لابن رشيق، صبح الاعشي للقلقشندي، احكام صنعة الكلام للكلاعي، جوهر الكنز لابن الاثير الحلبي.
23- نضرة الاغريض ص 374.
رشيد يحياوي( ناقد واستاذ جامعي من المغرب)