ذات ربيع، يوم شاهدتها أول مرة، عندما رحلنا إلى «فناريولو»، وقد رست في مرسى «كالامش» تنتظر ركابها، كان اسمها «نوا أثر» وقد كتب على مقدمتها بالأحرف العربية. ومع أنني في ذلك الوقت، كنت أبلغ من العمر بضع سنوات، لكنني استطعت قراءة اسمها، وإن كنت لا أذكر إن كان قد كُتب ككلمة واحدة أو كلمتين منفصلتين. وقتئذ، بدت لي كما لو أنها تحمل اسماً شركسياً لجارية محظية صغيرة في السن.
كان صهرنا يسألنا كلما قدمنا لزيارته، وبعدما يقول «كيف حالكم؟ بخير إن شاء الله» : هل أتيتم من كالامش؟ كان يسأل بشكل مستتر إن كنا قد أتينا بتلك الباخرة ذات الدولاب الجانبي، التي تختلف عن بقية البواخر الأخرى ذوات التوربين، والتي تتنقل بين شواطئ مضيق البوسفور.
في ذلك اليوم، بدت «نوا أثر» بجسمها الممشوق الأسود شديد اللمعان، وغطاء دولابها بلونه الأبيض الناصع، يومض بفعل أشعة الشمس، وستائر صالتها وقمرتها الأرجوانية ذات الشرابات، والمظلة المشدودة على ظهر المركب، وعلمها الأحمر، وكل ركن وكل شيء فيها يشير إلى خروجها حديثاً من الصيانة. تنتظر ساكنة في مرسى المراكب في خليج يانع الخضار، ومدخنتها كنارية الصفار، بعد أن غسلتها أمطار وثلوج الشتاء المنقضي، تحبس دخانها، وكأنها لا تريد في هذا اليوم الربيعي أن تلوث زرقة السماء الصافية. بدت فراشات دولابها المطلية باللون الأحمر الزاهي، من خلال الفتحات في غطاء الدولاب، على شكل شمس مشرقة.
عند دخولي الصالة الوسطى، شد انتباهي زخارف ذهبية براقة، تزين السقف، وستائر بشرابات، تذكّر بفن ومهارة حقبة من الزمن مضت. أماكن الجلوس فيها، تختلف عن المقاعد الزوجية المتقابلة في البواخر الحالية، فهي مصاطب تمتد على محيط وفي وسط الصالة، ومغطاة بأغطية نظيفة جداً، مازلت أتذكرها جيداً، إذ أن أقدامي ما كانت تلامس الأرض عند جلوسي عليها.
هي ليست مثل بواخر هذه الأيام سرعان ما تنطلق حال وصولها، بل تأتي قبل موعد انطلاقها، لتنقل سكان المنازل المنتشرة على هذا الساحل الذين ينوون النزول إلى وسط البلد، إما بداعي العمل أو رغبة بالتنزه في حال كان الطقس جميلاً، تنتظرهم فرداً فرداً، وكأنها تعرفهم مسبقاً، لا تستعجل أحداً، ولا تفوّت أحداً.
هي ليست مثل تلك الحالية، تدعو الركاب للصعود بإطلاق جرس يبث الذعر حولها، بل يأتي أمر حركتها بصوت ناقوس رخيم، بعد أن يصفر موظف المرسى بصفارته، فيسحب الملاح حبل الإرساء والسقالات، ويدور دولابها الجانبي، لتبدأ فراشاته بالغطس في المياه ذات الخضرة اليانعة، ثم تخرج إلى سطح الماء، وهكذا دواليك، وكأنها تستعرض مهارتها. ومع حركة الدولاب تتحرك دفة القيادة، ويشق رأسها المدبب سطح الماء مشكلاً زبداً صدفياً، يطفو على السطح. وبعيد انطلاقها، يضع مأمور الرصيف صفارته في جيبه، وتغادر المرسى تحت نظرات المودعين، لتختفي بهدوء متجهة نحو «موضا». وبعدما تحمل ركابها الانجليز من موضا، تنطلق سواء كان ذلك الصباح ضبابياً أو صافياً، وكأنها تتلهف لرؤية استانبول، وتدور حول مرتفع رأس موضا بأشجاره المائلة نحو البحر، وكأن هذه الأشجار تريد رؤية البحر من علٍ، وتمر من رصيف منتجع منعزل، تشهد أسواره نصف المتهدمة، تاريخ مدينة قديمة ما زالت قائمة. عند عودتنا في المساء، أزواجٌ وأطفالٌ مع مربياتهم يتنزهون تحت تلك الأشجار المائلة التي لم تمل من متابعة البحر، فنتابعهم بنظراتنا ويتابعونا هم أيضاً بنظراتهم.
بالنسبة لي، فقد كنت أجد شيئاً ممتعاً جديداً في ثنايا نوا أثر في كل مرة أصعد فيها من وإلى استانبول. في صباح أحد الأيام، وبينما أكون جالساً في الصالة، وأشعة الشمس الساقطة على السقف المطلي باللون الأبيض تبدو كموجة بحر ترتعش، أحلق في أحلام طفولية، متخيلاً زجاج الكوات المغسولة بمياه البحر الخضراء، كأنها أحواض أسماك، فأبحر إلى أماكن بعيدة ندية. وفي صباح يوم آخر، وبينما أكون جالساً أمام النافذة في الصالة الوسطى المستطيلة الشكل، أسترق السمع لأحاديث الركاب الوقورين. وفي معظم الأوقات، أصعد إلى ظهر المركب، أستظل بمظلتها البيضاء المغسولة حديثاً والنظيفة دائماً، أصغي لهسيس تدفق الزبد المتشكل من دوران الدولاب، غوص وخروج فراشاته من الماء المصاحب لهدير المحرك، كتهويدة. ومن على شرفة ظهر المركب في الدرجة الأولى، أغرق متأملاً مقدمة المركب وهي تلامس مياه البحر فتشطرها إلى نصفين. مشهد لا أملّ من متابعته.
تشق نوا أثر طريقها في مياه بحر مرمرة، محدثة موجاً أزرق صافياً، يرافقه زبد أبيض صاخب ورذاذ منعش، ضمن حدود مرسومة حولها، وتمضي تاركة امتداد البحر ساكناً بدون تموجات، لتمر متبخترة أمام منازل «مهردار» ومحطة قطارات «حيدرباشا»، وثكنة «السليمية» و«الحرم» و«تلال سالاجاك» و«برج الفتاة» الأبيض وسارية علمه اللماعة.
ما كان مألوفاً لي من رؤية «حميدية» و»مجيدية» و«سطوة البرق» و«القمر المهيب»(2) عند الدوران حول رأس موضا، أصبحت أراها، ترسي أمام رصيف حيدرباشا، وقد تم إصلاحها بعد إعلان الجمهورية.
ما اختلط من ذاكرة طفولتي، تلك السفن الحربية عند عودتها من إحدى الحملات في البحر الأسود خلال الحرب العالمية الأولى، وأثناء مرورها من أمام قصر «دولما بهتشه»، ما زلت أذكر إطلاقها النار فجأة، تحية لسفينة طليت حوافها باللون الأسود الداكن، كانت لسلطان ذلك الزمان، وحديث باللغة الانجليزية، دار بين أفراد من الإنجليز يتابعون عن كثب أسطول سلاح البحرية.
وذات صباح آخر، واقعة جديدة حدثت، لكنها دخلت في عداد المألوف لدينا عند الدوران حول رأس موضا، ألا وهي، مقابلة بعض السفن الأجنبية التي تقوم بزيارات صديقة لميناء استانبول.
صباح آخر، مرايا الصالون الأوسط التي كنت أرى نفسي فيها، بدأت أرى فيها القبعة المدرسية الجديدة تعلو رأسي. كان ذلك بعيد إعلان قانون القبعة.
وتمر أشهر، لأرى في أحد الأيام، على مقدمة باخرتي، اسمها وقد كُتب بالأحرف اللاتينية. نوا أثر الجديدة، استمرت تنقلني كالأيام الماضية، من كلامش إلى الجسر(3)، ومن الجسر إلى كلامش، في كل صباح من أيام نيسان، تماماً مثل كل صباح من أيام أشهر نيسان الماضية، وفي كل ظهيرة من أيام حزيران، تماماً مثل كل ظهيرة من أيام أشهر حزيران الماضية، وفي أمسيات أيلول، تماماً مثل كل أمسيات أشهر أيلول الماضية بدون أي اختلاف وبنفس الهدوء.
أصبحت نوا أثر، أحياناً، باخرة عودتي من امتحان ناجح، مروراً بـ «سراي بورنو»، كأنها تبحر عائدة إلى بحر مرمرة بلهفة وشوق. كما كانت نوا أثر، أحياناً، الباخرة التي تقلّني إلى استانبول في أيام عطلتي المدرسية، لشراء كتاب صدر حديثاً، أو لاستعادة إحدى مجموعاتي من المجلات، التي أرسلتها لأحد مجلدي الكتب، بهدف تجليدها للحفاظ عليها.
في فترة ما بعد عصر يوم من أيام ذات شتاء، وبينما كانت الرياح جنوبية غربية شديدة، نزلت إلى الجسر، فتساءلت بشك إن كانت تلك الباخرة قادرة على الوصول إلى كالامش. صعدت على سطح المركب، وحيث أن مظلتها كانت تُرفع في الشتاء، فقد شاهدت مدخنتها بوضوح. وقفت وأنا ملتف بمعطفي، أتابع هبات شرسة من دخانها الكثيف المتلبد، تنطلق بدون حرص إلى السماء المتلبدة بالغيوم، فتتشتت بفعل الرياح كخصلة شعر كثيفة. كانت ترفع مدخنتها بخيلاء كلما انتصرت على الأمواج التي كانت تهاجمها بعنف. في مثل أجواء الرياح الجنوبية الغربية تلك، ما كنا نقترب من رصيف كالامش الجنوبي، بل إلى جانبه، ويقوم ملاح الإرساء بإمساكنا من أذرعنا لمساعدتنا على وضع أرجلنا على شاطئ السلامة.
أما في حال عصف الرياح الشمالية الشرقية التي تهب من اليابسة، فقد كان يحدث أن تقطع الأمواج الشديدة حبل الإرساء الذي يربطنا بدعامة الرصيف.
في أيام الشتاء الباردة، وعندما لا يكون الجو عاصفاً أو ماطراً، لا يدخل الإنجليز الذين يصعدون من موضا إلى الصالة، ويظلون يتجولون على السطح بخطوات عسكرية رتيبة متشددة. كان كبار السن بيننا والذين في الصالة، يحولقون بعصبية، مبدين انزعاجهم من أصوات وقع خطواتهم على السقف فوق رؤوسنا.
ذات يوم، وقع بيدي، حولية بحرية، ظهرت فيها صورة فوتوغرافية لباخرتنا في أيام شبابها، في الأيام الأولى لقدومها إلى استانبول. كانت تشبه بمقدمتها الدقيقة، ما كنت أرسمه من بواخر في طفولتي. كم كانت في ذلك الزمان بمظلتها فاتنة وجسورة!
لقد كان واضحاً من اسمها أنها كانت في ذلك الزمان جديدة! ولكن الآن، لقد مضت أيام وأشهر وسنوات منذ أن أُلتقطت لها تلك الصورة!
أيام وأشهر وسنوات أخرى مضت على أخوات «نوا أثر» اللواتي أعرف منهن «فناربهتشه» و«حيدرباشا». لقد خرجتا من الخدمة، لكن يبدو أن «نوا أثر» أكثرهن مقاومة، فنوا أثر مازالت تعمل، وعلمها مازال يرفرف في بحر مرمرة.
بواخر أخرى من ذلك الزمان، أُزيلت مظلاتها التي كانت تغطي طابق سطحها، واستعيظ عنها بأسقف خشبية، وذلك لازدياد أعداد الركاب، وعدم قدرة الصالة على استيعابهم في فصل الشتاء. أُغلق طابق ظهر المركب حول المدخنة، فاختنق بدخان السجائر. لكن أحد لم يزعج «نوا أثر»، وظلت وحدها تحتفظ بمظلتها، التي ظلت تصفق مع ريح مرمرة.
تبدل ركاب وملاحو وقاطعو تذاكر وقباطنة «نوا أثر». وهل الأزواج المتنزهون والأطفال المتجولون مع مربياتهم كل مساء في رأس موضا الذي نمر منه، ما زالوا هم أنفسهم الأزواج المتنزهون القدامى والأطفال القدامى والمربيات القديمات والعشاق القدامى؟ لست أدري!
ما كنت لألاحظ الاختلاف في الوجوه، لأنني كنت أتابعهم دائماً من بعيد. لكن ما كنت أراه على رصيف كالامش، فالقادمون لاستقبال الركاب يتغيرون، أطفال الأمس الذين كانوا يُصطحبون بعربات الأطفال، أصبحوا الآن فتية يافعين. ملاحو مراكب الصيد، يبدون كل صيف أكبر سناً، والمنازل التي تبنى حديثاً على ذلك الخليج، يقطنها ملاكون أو مستأجرون جدد، أو حديثو زواج.
أدركت متأخراً أن قدوم أعداد من البواخر الجديدة أكثر من المتنحية، سببه عجز غير معروف. ونوا أثر التي أصبحت تأخذني من وإلى عملي، بعدما كانت تنقلني خلال سنوات دراستي، لم تدخل ضمن أعداد المتنحيات. وظلت جدتي تناولني معطفي بإصرار خوفاً عليّ من الإصابة بالبرد، على ظهر ذلك المركب.
وعندما تحولت إلى التنقل بالدرجة الثانية بقصد التوفير، كنت أستمتع بالجلوس على سطح المركب في المقدمة والمخصص لركاب الدرجة الثانية.
وبعدما قطعت علاقتي بساحل الأناضول العائد للمدينة، وبينما أنا على رأس عملي، كنت أستعيد في مخيلتي نوا أثر وهي تلقي بحبل إرسائها، وأسمع صريره وهي تشده، ودخان السجائر الخانق في أيام الصيف الحارة. ليتني ألقي بنفسي في أحضانها لأتخلص من هذه الدائرة، وذلك العمل، وهؤلاء الأناس الأفظاظ، معتقداً أني سأكون في وضع أفضل لو حققت رغبتي هذه فألتقط الهاتف للسؤال قائلاً «في أي ساعة ومن أي رصيف ستنطلق نوا أثر هذا المساء؟» كم أتوق إلى تلك الباخرة التي تواسيني.
في نهاية الأمر، أصبحت نوا أثر واحدة من البواخر الأخريات التي أركب، إذا ما صادفتها في يوم عطلة لتقلني إلى الساحل الذي أصبح من الذكريات. لقد تغير ملاح إرسائها، في الواقع، تغير لأنه أصبح كبيراً في السن. تتركني على رصيف كالامش الذي تغير هو أيضاً، ثم تبتعد.
أصبحت نوا أثر تمضي معظم يومها في الميناء، وقد ربطت إلى عوامة. تمضي الصباح والمساء لتقوم برحلة واحدة، وأحياناً تقضي كل الشتاء طافية في الخليج4، وإذا ما دعت الحاجة، خلال الصيف، إلى عدد إضافي من البواخر في ساعات الذروة، تشرع بعملها من جديد.
في حين أن هناك موقعا مخصصا للدرجة الممتازة في مؤخرات البواخر الأخرى، فنوا أثر مازال طابقها العلوي مخصصا للدرجة الأولى، وطابقها السفلي وسطحها القديم مخصصين للدرجة الثانية، وقد يحدث في فصلي الربيع والخريف أن تقوم برحلات نقل إلى الجزر، مستخدمين طابق السطح لتحميل البضائع بعد أن يتم ركن المقاعد جانباً وقد رصت بعضها فوق بعض.
من جهة أخرى، يوصى على بواخر من أوروبا، ويطلق أسماء جديدة جداً على البواخر الجديدة التي تأتي من أوروبا، لكن نوا أثر مازالت تعمل.
في أحدث دفعة بواخر قدمت من هولندا، أطلق على واحدة منها اسم إحدى أخواتها القديمات «حيدرباشا».
في هذا الصيف، ظل علم نوا أثر يرفرف ومظلات سطحها تصفق مع ريح بحر مرمرة، وهي تفسح الطريق، أمام زميلاتها القديمات منهن والجديدات، عند كل التقاء.
هذا الصيف أيضاً، تمكنت من ركوب نوا أثر مرتين عند عودتي من العمل، كنا نخشى من خلال الحديث الذي كان يدور بيننا، أن يكون ذلك اللقاء الأخير مع مريضتنا الحبيبة، التي على وشك الموت. ذلك ما كنا نتداوله من حديث فيما بيننا.
أصبحت تغادر الجسر بهمة فاترة جداً، وبعدما تدور حول رأس «سراي»، وتتوارى في المساء خلف جزر «هايرسيز»، وكأنها تريد أن تختفي إلى الأبد بنهاية مريحة، فتدير مقدمتها نحو بحر مرمرة، لكن القبطان يوجهها من جديد نحو موضا. أصبحت تتكئ على الرصيف وكأنها تريد أن تقول «اتركوني لأرتاح هنا قليلاً». تبتعد عن الرصيف بصعوبة بالغة وكأنها تدفع دفعاً. هكذا أصبحت نوا أثر تعمل بوهن شديد. هذا الصيف شاهدت نوا أثر أثناء سفرها، بضع مرات من على بواخر أخرى، فانشطر قلبي حزناً عليها. بدت نوا أثر تبحر وقد مالت على جنبها، فانغمر غطاء دولابها بالماء وبدت المياه تنفر من فتحاته، وكاد الزبد أن يختفي عند مقدمتها.
الباخرة التي كانت تقلني أدركتها سريعاً، وخلال متابعتنا لها جنباً إلى جنب لبضع دقائق، سخر من عجزها بعض الركاب، بينما نوّه البعض الآخر إلى ضرورة إيقافها عن الخدمة ما دامت أعداد كافية من البواخر قد وصلت.
أفسحت نوا أثر الطريق لنا، وتابعتنا بعيون حزينة وهي تنظر إلينا بأسى شديد.
ثم أصبحت محوراً لمواضيع الرسوم الكاريكاتورية في المجلات الفكاهية. يرسمون لها رسومات لا تشبه أبداً صورتها في عز شبابها.
ما أن شاهدها، في ميناء استانبول، الأميريكيون الذين قدموا للبحث عن سفينة نوح في جبل «آرارات»، حتى فرحوا جداً، ظناً منهم أننا اكتشفنا سفينة نوح!
لقد أصبحت مدعاة للسخرية. فأطلقوا عليها «خفاقة بحرية».
ظهرت تحقيقات صحفية حولها في الصحف، ومن ما كتب عنها «نوا أثر ما زالت تعمل وهي تصارع الموت!» كما كان من جملة ما كتب عنها في أعمدة أخبار المدينة «مساء أمس، وبينما كانت معمرة الخطوط البحرية نوا أثر تقوم برحلتها قادمة من ساحل الأناضول، عطل فني أصاب محركاتها بينما كانت في آفاق كلامش، مما استدعى نقل ركابها إلى الجسر على متن باخرة أخرى».
ذات مساء، أردت العودة إلى المدينة من مرسى «بستانجي». حسب برنامج المواعيد، كان يجب في تلك الدقيقة وجود باخرة على الرصيف، لكن لم يكن هناك باخرة ولا حتى في الأفق.
سألت الموظف، فأجاب:
«الله وحده يعلم، يا سيدي، متى ستعود نوا أثر. في الواقع، عندما غادرت كان هناك تأخير بموعدها يزيد عن نصف ساعة. من الأفضل أن تستقلوا الترامواي».
تذمر الركاب المتواجدون هناك طويلاً، ثم توجهوا مكرهين نحو محطة الترامواي، وحتى أنا لم أنتظر نوا أثر. وهكذا أصبحت نوا أثر، الباخرة التي تربك مواعيد الرحلات البحرية.
بدا واضحاً أن نوا أثر ستعفى من القيام بالرحلات، بعدما أصبحت تربك مواعيد جدول الرحلات كمسن خرف شارد الذهن! …
ذات مساء، في إحدى آخر الرحلات الثقيلة الوطئة على نوا أثر والأكثر ازدحاماً بالركاب الغرباء المتغيرين، سأجدها وأنا في شوق إليها، وقد اقتربت من الجسر ثانية، كأنها تريد رؤيتي للمرة الأخيرة.
سأصل إلى جوار مدخنتها راكضاً من «أمينونو»، ستنظر إليّ، وسنتواجه للمرة الأخيرة، وستتقابل أعيننا للمرة الأخيرة، سأنزل درجات الجسر إلى الرصيف راكضاً، وعند صعودي سقالتها من رصيف الدرجة الثانية، يرتاح داخلها ويتحرر من القلق وتشعر بالطمأنينة.
كما أنني لم أنسها، هي أيضاً لم تنسني. نوا أثر باخرة العوالم الأخرى، باخرة طفولتي، وشبابي، في الأوقات التي كنا نسكن في «فناريولو»، بدون أن نبرد أو نصاب بالبرد، بحرص جدتي علينا عندما كانت على قيد الحياة، سأصعد على متنها لآخر مرة، باخرة العصور الأخرى.
حتماً، لن يقودها قبطانها القديم، وحتماً، لن يكون بداخلها ركابها القدامى الذين يحولقون بعصبية من وقع أقدام الانجليز المتجولين على سطحها، ستجعلني أفكر ثانية بحوض السمك في صالتها السفلى، هناك في ركني القديم في صالتها الوسطى، حيث كنت أجلس دون أن تلمس قدماي الأرض، وسأرى وجهي الذي شاب شعره في مرايا صالاتها، بقبعة المدرسة.
أصعد سطحها العلوي من الجانب حيث دولابها، وهي تنتظر في بحر مرمرة الذي لم يتغير، أسمع لطم فراشها للماء كبطبطة البط، وسأركض إلى مقدمتها المطلة على الماء كشرفة، وسأستأذن الجالسين هناك ليفسحوا لي مكاناً، وما أن أجلس لبضع دقائق، حتى يخطر على بالي سطحها في موقع الدرجة الثانية، فأترك موقعي تحت نظرات الدهشة للذين بجواري، وأهرول إلى أسفل، فيقوم الجالسون هناك وقد وضعوا رجلاً على رجل، بإنزال الأكياس التي بجانبهم ليفسحوا لي مكاناً إلى جانبهم. ينساب الماء الذي شطرته مقدمتها إلى شطرين، على جانبيها، ثانية، وأصغي للمرة الأخيرة إلى صفق مظلتها مع الرياح. سأكون بدون شك قد ركبت نوا أثر ذات يوم للمرة الأخيرة.
لو نسأل عن مواعيد نوا أثر المكتوبة في جدول المواعيد، وقد بدت ترتبك كمسن خرف، وتخل بدقة المواعيد، حتماً، ستمنع يوماً ما من القيام بهذه الرحلات.
لابد وأن باخرتي ستدخل يوماً ما إلى الخليج لإصلاح جديد في محركها بعد أن وقع ثانية عطل فني يؤمل إصلاحه، لكنها قد تدخل هذه المرة دون خروج.
ستعلن الصحف، في أعمدة أخبار المدينة، هذه المرة، خروج المعمرة المخضرمة «نوا أثر» من الخدمة، كالذين سبقوها في الدخول هناك، إلى الخليج، في زمان مضى. فمداخن الطراد «مجيدية» الآن قد ربط فمها، وفكت مدافعها التي أدت التحية في زمان مضى لسلطان بلحية بيضاء مقيم في قصر أبيض، وانتشرت الطحالب على سطحها المغمور بالمياه.
غُل، التي عبرت الأطلسي في زمان مضى، بمدخنتين وأربع سواري، ترقد الآن في مياه الخليج، مثبتة بالسلاسل الحديدية، بلا مداخن، وبلا علم، وبلا سواري، تنتظر، منذ سنوات، أن يسحبها زورق قَطْرٍٍ يرفع علم دولة أخرى، ليجري تقطيعها في ديار غريبة عن ديارها.
قد يعلن عن بيعها، كخردة بواخر، ويظهر اسمها في أعمدة الإعلانات في الصحف، وقد لا يظهر. على أية حال، ستظل خلف الجسر، ولن يعطى لها إذن بالعبور إلى الجهة الأخرى، إذ واضح أنها لن تعبر حتى إلى داخل أحواض الإصلاح الفولاذية، فقد بدأ طلاؤها بالتفسخ، وتساقطت أحرف اسمها واحد تلو الآخر، وهي تنتظر بلا طائل، فصوت رنين الناقوس كل صباح ومساء، معلناً أمر حركتها من كوخ المرساة، قد اختفى منذ زمن بعيد.
لن تستطيع نسيان كل تلك السواحل التي رددت صدى لطمها الأمواج لعدة سنوات، ودخولها من وقت لآخر رصيف «كالامش» في صباحات صيفية هادئة، أو رصيف «سعادية» في أمسيات ملبدة بغيوم غاضبة.
فمرايا صالاتها لا ترى الآن سوى مياه عكرة، بعد أن بدأت صور الأطياف القديمة بالتشوش.
سيستأصل منها، يوماً ما، جزء صالح، وفي يوم آخر، قطعة من محركها، فيتقطع نياط قلبها حزناً، وفي يوم آخر ستنزل ساريتها، وستؤخذ مدخنتها قبل أن تقلبها عاصفة محتملة.
نوا أثر التي كانت في زمان مضى، كما تشهد لها صورتها الفوتوغرافية في المجلة البحرية القديمة، شابة جسورة مفعمة بالحيوية، بمظلتها التي كانت تصفق الريح بمرح صاخب، ومقدمتها التي كانت تشطر الماء فيرتفع الزبد حتى يصل إلى محاذاة اسمها، ستظل تحدق بالمقبرة الكبيرة(5) حيث نهاية البشر، وبقدر مماثل لأقدار كل البشر، سيكون مصيرها هي أيضاً إلى التحلل والزوال.
ملاحظات المترجم:
1-مقام شرقي. اسمه مركب من «نو» الفارسية وتعني «الجديد» و»أثر» العربية. تعارف عليه الموسيقيون العرب بـ»نوا أثر» وقصدوا به «الأثر الجديد»، علماً أن «نوا» باللغة الفارسية تعني «نغمة»!؟
2-جميعها أسماء لبوارج حربية كانت عاملة في الأسطول البحري العثماني.
3-الجسر هو مركز انطلاق معظم بواخر الضواحي في استانبول.
4-المقصود خليج القرن الذهبي الذي يشق الجزء الأوروبي من استانبول ويضم أحواض صيانة السفن.
5-تشرف على الخليج مقبرة تاريخية وتضم فيها مسجد ورفات الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري.
j ضياء عثمان سابا:
– ولد عام 1910 في استانبول (تركيا). بدأ نظم الشعر وهو على مقاعد الدراسة الثانوية ونشرت له مجلة ثروة الفنون أولى قصائده عام 1927. أصدر عام 1928 وستة من زملائه في الثانوية ديوان شعر بعنوان «سبعة مشاعل». وبعد أن لاقى نجاحاً كبيراً، أصدر مجلة ثقافية باسم (سبعة مشاعل). أثناء دراسته للحقوق، كان يعمل في مجالات مختلفة، ويكتب الشعر وينشره في العديد من الصحف والمجلات الثقافية. عام 1943 جمع أشعاره التي نظمها حتى ذلك التاريخ بديوان أسماه «السبيل والحمائم». عام 1952 أصدر أول مجموعة قصصية له بعنوان «ستوديو الناس السعداء». صدر له العديد من الدواوين الشعرية مثل الزمان الماضي، ودعني أفكر، وطفولتي. وفي مجال القصة القصيرة صدر له أيضاً مجموعة بعنوان «استانبول المتغيرة». توفي عام 1957.
للكاتب: ضياء عثمان ساباj
ترجمها عن التركية صفوان الشلبي
كاتب ومترجم من الأردن