خالد الضنكي
في ستينيات القرن الماضي، حين كنت في الثامنة أو التاسعة من عمري، في ذلك الزمن لم تكن هناك شهادات ميلاد تُصْدَرُ في مدينة صور، ولا أي شكل من أشكال الرعاية الصحية، فتحديد الأعمار كان يستند غالبا إلى التخمينات وتواريخ الأحداث الطبيعية أو الأوبئة التي كانت تنتشر في المدينة من وقت لآخر، والتي كان بعضها سببا مباشرا في وفاة كثير من الناس.
في تلك الفترة، عاشت في المدينة شخصية فاضلة ذات طابع إنساني وقور وصفات أخلاقية عظيمة. قبل تقديم هذه الشخصية كما يبدو لي، لا سيَّما أنني أعتقد أنه لا توجد مادة مكتوبة في سيرة كاملة مدونة عنها، وقبل أن أمضي في الكتابة عنها، من المناسب أن أذكر شيئا عن الظروف العامة التي أحاطت بتلك الحقبة من الزمن، لأن ذلك، إلى حدٍّ ما، أمرٌ لا غنى عنه من أجل فهم هذه الشخصية.
في الفترة ذاتها، كانت مدينة صور تغلي مثل مرجل، سفن كثيرة ترسو وأخرى تبحر، سفن عملاقة، يكاد المَصَرّ -أي عمامة الرائي- يسقط من الرأس عند النظر إلى علوِّها. كانت هناك بضائع مكدسة على طول “ميناء البطح” وعرضه، وكثير من الإبل والحمير كانت تنهب المكان حاملةً البضائع من الميناء إلى مخازن السوق.
آنذاك، كنت أحيانا أقضي أوقات النهار على ساحل الميناء، مجيلًا نظري في الأشياء التي كانت حولي، إلاَّ أن القسط الأكبر من وقتي كنت أقضيه في “ساحة البانيان”، وكان ذلك أمرا باعثا على البهجة والشعور بالحرية، حيث كنا نلهو ونمرح في رقعة من هذه الساحة التي كانت تتوسط المدينة، والتي كانت قد سميت بهذا الاسم لكثرة محالِّ “البانيان” التجارية، وهم طائفة من الهنود الهندوس الذين استوطنوا مدينة صور العمانية منذ زمن بعيد وطفقوا يمارسون أنشطة تجارية متنوعة، بل أصبحوا يتحكمون في كل ما كان يرد من مواد غذائية وغيرها. كذلك كان البانيان يقومون بجميع العمليات التجارية المتعلقة بالتسويق والتوزيع والتصدير، إلى الولايات والمحافظات العُمانية كافَّة، وأيضًا إلى بعض الدول الخليجية المجاورة، ناهيك عن أنهم كانوا يتعاملون بالربا ويدخلون سراديبه من أوسع أبوابه، وذلك على نحوٍ خفي وواضح في الوقت ذاته. في هذا السياق، كانوا قد تعلموا كيف يكونون صيادين ماهرين، موظِّفين في هذا الشأن ما انطوت عليه خبرتهم المستفحلة في الرِّبا، ضاربين بأسس التجارة التقليدية عُرض الحائط، متنقلين من موضع إلى موضع آخر، باحثين عما هو ذو أهمية في مجتمع تسوده علاقات العمل القائمة على الود والاحترام وأنماط الإقطاع الخاصة بذلك الزمن. بمرور الوقت نمت “أعمالهم”، وأصبحوا يمسكون بزمام الأمور بهدوءٍ ورويَّة، وغدوا يشكلون روابط عميقة، قوية، وأسسًا جديدة.
هناك الكثير مما يمكن أن يقال في هذا الأمر من هدم أسر وتخريبها وتجريدها من ممتلكاتها النفيسة، وذلك بفعل الرِّبا المتضخم، وهو ما يصعب استقصاء آثاره في هذه المقالة.
كانت قوافل الإبل تأتي من “ميناء البطح” الواقع بمحاذاة جبل بلدة “العيجة”، والذي تمتع بتكوين طبيعي مدهش حيث مدخله شبيه بعنق زجاجة، وعمقه بين امتداد الجبل واليابسة، في مساحة قصيرة. وبهذا الشكل يوفر “ميناء البطح” حماية مثالية للسفن من الأعاصير والأمواج الهائجة، وهو ما سمح للسفن الكبيرة بالرُّسو في سلام وهدوء. فضلا عن أعمال الصيانة والصناعة أكان هذا على شاطئ الميناء، أم على “مَيْحَبْ” حارة الرَّشَّة.
كانت القوافل تمضي محملة بمواد شتَّى أنزلتها السفن القادمة من الهند، وشرق أفريقيا، واليمن الذي كان مصدر استيراد بعض المواد العطرية وزيت الزيتون بالأخص الذي يطلق عليه الأهالي اسم “السّليط”، وكان يستخدم غالبا في طهي الفطائر (اللّقيمات)، وكانت النساء يستخدمنه في تمليس شعورهن.
كانت القوافل تمر عبر طريق ضيقة تسمى “سكة البوش” بطول كيلومترين وعرض مترٍ واحد تقريبا. في أثناء تقدُّم القوافل ببطء عبر السكة كان رأس ناقةٍ يُربط بحبل قصير في ذيل ناقة أخرى، على نحوٍ يتيح لها السير في خط شبه مستقيم على مد البصر، وهي تئن بحملها الثقيل، ترغو وتزبد، وبسبب وزنها الزائد تحتك أحيانا بالجدران فتكشفها وتُقشِّر طلاءها، وأحيانًا كان ذلك الاحتكاك يثقب بعض أكياس الحمولة مسقطًا حبوب البن أو الأرز أو السكر طوال خط سيرها، وكنا نحن الأطفال نقوم بجمع تلك المواد المتساقطة من ثقوب الأكياس الكبيرة في أثوابنا لتكون زادا وفيرا لأسرنا وللأسر المحتاجة. لهذا السبب ولأسباب أخرى، كانت شقاوة الطفولة تدفعنا أحيانًا إلى ثقب الأكياس الليفية بمسامير كبيرة محلية الصنع ذات رؤوس محدبة، وهي التي تستخدم في صنع الأبواب الخشبية وتزيينها آنئذ. بفضل تلك المسامير، كان يتسنى لنا جمع ما تيسر من المواد الغذائية الساقطة من ظهور إبل القوافل. لم يكن ثمَّة رقيب وسط القوافل، لأن السكة كانت ضيقة جدًّا بحيث إن أي فرد يافع لم يكن يمكنه الاندساس وسط قافلة. كان الصغار وحدهم قادرين على القيام بذلك. المراقبة كانت فردية عند مقدمة القافلة، وجماعية عند نهايتها.
عبر تلك السكة الضيقة جدا كانت قوافل الإبل تواصل سيرها الوئيد شاقة طريقها بصعوبة بالغة، إلى أن تصل إلى الساحة الواقعة وسط المدينة والتي كانت تبدو على شكل بيضة، وكانت تحيط بها دكاكين “البانيان” حيث يجري العمل على تنزيل الأحمال على مهل. أما الأكياس التي تضررت أثناء احتكاكها بالجدران، أو بفعل فاعل، والتي كانت تحتوي على أنواع شتَّى من البضائع فكان إنزالها يجري بسرعة لتُخزَّن في مخازن “البانيان” الفائضة بأصناف مختلفة من بينها الحرير الهندي بألوانه الزاهية ونقوشه الجذابة. كان البانيان يعرضون هذه البضائع في دكاكينهم ببراعة ومهارة، لا سيما الحرير واللفائف القطنية، فتبدو جاذبة للانتباه خصوصًا بسبب التنسيق الرائع الذي كانت عليه، مرتبة على نحو مدروس، بطريقة متقنة، وذلك ليتمكن الناس من معاينتها بطرق فعالة مختلفة، إلى جانب المواد الضرورية للحياة والمواد الكمالية بأنواعها وأشكالها المتعددة. أما الجوهر والمشغولات الفضية فلا تعرض في دكاكين البانيان، فهي بصفة عامة كانت تُنَفّذ حسب الطلب، شأنها شأن الفضيات والمنسوجات العمانية.
كان الشيخ علي بن عيسى الزدجالي (1894-1967) يجلس عادة بصمت على دكة دكانه، ينظر إلى القوافل الآتية من ميناء البطح، أو يقرأ كتابًا، وأحيانا ينقل جلسته إلى داخل الدكان على نحو يمكنه من النظر عبر النافذة إلى تدفق حركة القوافل المارَّة بمحاذاة الدكة التي يجلس عليها.
دكانه لم يكن يحتوي على بضائع كثيرة مقارنةً بدكاكين البانيان. كل ما كان
يحتويه على ما أذكر شيءٌ من الأعشاب الطبية، فقد كان يمارس الطب الشعبي، إن
صح التصنيف، إضافة إلى بيعه بعض البهارات والقليل من المواد الغذائية.
كان لا يفارق مكانه إلاَّ عندما يحين موعد الصلاة، وكان ينادي علينا نحن الأطفال العابرين ليسألنا أسئلة بسيطة عن الحال وعن الأهل، ثم يمد يده إلى جيب سترته التي كان يرتديها عادة على دشداشته، ليمنحنا بعضًا من النقود كانت كافية لأن نشتري بها قبضة حلوى وشيئًا من المكسرات. ما إن تراه حتى تصاب بالانبهار وتشعر بأنه يخاطبك بصمت إن لم يخاطبك بصوت مسموع. حديثه ينطق بالوقار والرزانة. حضوره يبعث الرهبة. كان ذا تقوى وبصيرة، قدوة حسنة لأهالي المدينة بمن فيهم التجار الذين كانوا يأتون إليه لفض المنازعات التي تنشأ بينهم. في بعض الحالات كان يضطر إلى أن يتدخل لحسم المناوشات التي كانت تحدث بين القبائل وقتها لأسباب بانت تافهة. مثلًا، أذكر معركةً بالعصي والهراوات نشبت بين قبيلتين لأن أحدهم كان قد ترك سمكة دامية على دكة دكان، الأمر الذي أغضب صاحب الدكان وأدى إلى أحداث قاسية، دامية، مؤلمة!
ألف الشيخ علي بن عيسى الزدجالي عددًا من الكتب نذكر من بينها كتاب “الحاوي” الذي دون فيه مذكراته وملاحظاته في موضوعات مختلفة كالأحداث التاريخية والمواعظ الدينية، وكتاب آخر في تاريخ صور، فضلًا عن رسائل ومخطوطات معظمها وا أسفاه فُقِد، ولم يبق منها إلا بعض الرسائل. كان يقيم جلسات أسبوعية لمناقشة مسائل متعلقة بالمعرفة الإنسانية، وهو، من ثَمَّ، يعد واحدا ممن ساهموا في تطوير وعي أفراد زمنه.
كان كريما وكان باب بيته مفتوحًا على مصراعيه طيلة النهار حتى الغروب، وكان بطبعه يكره الأرستقراطية الثقيلة، والتحيز القبلي المقيت. قبضة يده كانت ملأى بروح طيِّبة بالرغم من تقدمه في العمر. كان متوسط الطول، بشرته البيضاء تطبع محياه. أستطيع القول: عينان مستديرتان خلف نظارة سميكة، تنظران إليك كأنهما تحادثانك. بدنه كان يظهر خفيفًا تحت سترته. رأسه وذقنه خَطَّهما الشيب.
ذات يوم صيفي شديد الحرارة تُوفِّي الشيخ علي بن عيسى الزدجالي. كان الخبر فاجعا لكل أهالي مدينة صور بمن فيهم الأطفال. لم يُمهَل أبناؤه وقتًا كافيًا لإعداد الجنازة كما ينبغي، وعلى وجه السرعة حمل النعش، ربما تنفيذا لوصيته، أخذاً بمبدأ “إكرام الميت دفنه”. بالرغم من التحفظ، انتشر الخبر كالنار في الهشيم، ولكن تسنى لعدد قليل من أقاربه ومحبيه تشييع الجثمان إلى مثواه الأخير. حالما تلقيت الخبر حملت نفسي تلقائيًا مهرولًا في حدود مسافة لا تبعد كثيرا من بيته، دخلت من الباب الواسع وإذا بي أرى كل من في البيت يلوذ بالصمت. الصمت وحده غلَّف المكان، فلا عويل، ولا نحيب.
تلك كانت الجنازة الوحيدة التي سرت فيها في طفولتي. كيف لا وهو الذي كان ينظر إلينا بعطف وحنان. تعلمنا منه الكثير دون أن نجالسه، ودون أن نحادثه.
ما إن خرج النعش من الباب حتى حدث شيء مختلف تماما أقرب إلى الحلم منه إلى الواقع، سحابة ممطرة، متحركة، ظهرت من العدم ورافقت النعش، ظللته، وظلَّلت من حوله، متتبِّعة النعش حيثما اتجه وانعطف، مع هبوب نسمات باردة. الجميع كانوا يشدون النظر تارة إلى السحابة وتارة إلى النعش وهم مدهوشون، يهللون ويكبرون حتى وصلنا إلى مسجد المقبرة للصلاة على الميت. تلك السحابة الماطرة التي رافقت النعش كانت حالة يصعب تصديقها لمن لم يشاهدها بأم عينيه، أما كيف حدث ذلك ولماذا فلست عرافا ولا ساحرا لأجيب. الله وحده عليم بذلك.
بعد عملية الدفن استقرت السحابة الممطرة على القبر ولم تغادره، في حين غادر الجميع المكان وهم في حالة ذهول مما رأوا.