تقديم: بيري خيمفيرير
ترجمه عن الإسبانية: عبدالسلام مصباح
أتذكر -وكأن ذلك حدث اليوم بالذات- صوتَ بيثنتي أليكسندري الدقيق والعنيف في الوقتِ نفسه، ونظرته الحازمة النافذة في ذاك الصباح المدريدي من ديسمبر 1967، استثنائيًا، فقد استقبلني حتى قبل أن ينهض ليبدأ عمله اليومي المألوف. كانت الساعة حوالي الحادية عشرة أو الثانية عشرة صباحًا، منتصبًا على فراشه المواجه للمقعد حيث أجلس. كان بيثنتي يحدثني عن قصائد كان يكتبها آنذاك، خاصة عن محاورة أطرها زمنيا في روسيا التشيخوفية، تدور بين سيدة ارستقراطية وطالب ثوري كان يطوف في حديقة البيت…
في كلمة بيثنتي فإن القصيدة تأخذ حيوية كتابية لا تقاوم. عن طريق الافتراض فقط استطعتُ أن أستنتجَ المضمون المحسوس للكلمة الغنائية حيث يمكن بلورة ذاك الطرح، غير أن ذكرى ذاك العرض الشفوي المتحمس والعاطفي كان كافيًا لكي لا تنمحي تلك القصيدة من ذاكرتي إلى حد أنني تساءلتُ عن مصير ذلك النص الذي ينشر في ديوانه الأخير «محاورات المعرفة» سنة 1974، وتساءلتُ عنه حين أتيتُ على ذكر بيثنتي أليكسندري وعمله في خطاب بمناسبة التحاقي بالأكاديمية الملكية الإسبانية في ديسمبر 1985، وقد مرت سنة كاملة على وفاة الشاعر.
هذه القصيدة التي تُعرف اليوم بأنها كانت تحمل عنوان «الأغنية الليلية» وقصائد أخرى زامنتها، أو كُتبتْ بعدها، على حد ما نعلم، أي بين 1966 و1976، تقدم اليوم إلى القارئ في ديوان «في الليلة الكبرى»، ليس الأمر يتعلق بقصائد غير منشورة، تعود إلى المرحلة الأخيرة من حياة بيثنتي أليكسندري، ولا من أجل قيمتها الجوهرية، بل كذلك من أجل سبب شخصي، وآخر أكثر بعدا، قراءتها، وبالتالي عملية نشرها بالذات، كانت بالنسبة لي تجربة مؤثرة ومفيدة في الوقت ذاته. فعلًا، لقد كُتبتْ تلك القصائد كاملة خلال فترة علاقتي الودية بالشاعر، ومراسلتي له، وأكثر من ذلك، حتى خلال الفترة التي توقف فيها بيثنتي أليكسندري -لأسباب صحية- عن نشر قصائده. حين فقد بصره توقف فقط عن الكتابة، من جهة نجد أنفسنا تجاه منطقة بقيت إلى الآن غير مرئية من الاستقصاء الغنائي لأليكسندري، سوى قليل من الأفكار والهموم، وحالات القلق التي كانت تشف عن معاملته ومراسلته لتلك السنوات تتمظهر هنا كاملة. من جهة أخرى -لابد قوله، ومن المهم عدم نسيانه- بكيفية تعبيرية أو تكتيكية، تنم هذه القصائد عن جواب بيثنتي أليكسندري عن تطورات الأدب والمجتمع الإسبانيين في سنواتِ حاسمة، ابتداءً من الأزمنة الأخيرة للفرانكوية حتى السنة الأولى التي كانت بداية الانتقال. بهذه المناسبة نقول ليس فقط مَدنِيّة التعليم التي تَمدُّنا به قراءتها، بل العكس، يمكن أن نستقي منها نتائج أدبية حول منطقة الاهتمامات حيث يتموقع بيثنتي أليكسندري في سنوات حاسمة أيضا بالنسبة للتجديد الأدبي بشبه الجزيرة.
إن ديوان «في الليلة الكبرى» يبنى على أساس كتلتين متكاملتين، تتألف الأولى من قصائد قصيرة وجد مكثفة، تلخص التجربة الحياتية من منظور الشيخوخة، متضمنةً الهرم الفيزيائي، والإحساس المسبق باقتراب الموت، وعلى غرار القصائد المندرجة ضمن ديوانه الماقبل الأخير «قصائد الاستهلال» الصادر 1968، هنا ترتكز العبارة في مجموعة صور رمزية للحب والشهوة، ولخيبة الأمل ولمجاورة اللاشيء. لسنا في الحقيقة بعيدين، في هذا الشعر المحمول إلى حده الأقصى للتركيز التعبيري، لروح «سونيتات»غونغورا Gongora» الأكثر صرامة، بينما تتشكل الكتلة الثانية من قصائد مسهبة، على شكل محاورات حول هيكل ذي عقدة بسيطة لموضوع تاريخي، أسطورية أو استعارية.
كما في القصائد السابقة، فإن التعبير «الإليكسندري» قد وصل هنا إلى أقصى حده عمقًا في إمكانياته الخاصة والوسائل الأسلوبية، لكن دون أي إهمال للغاية الميتافيزيقية، يسود هنا، تناقض مع العنف الشديد للقصائد القصيرة، تَرفٌ شعري، تخيلي ولغوي مجسد ببريق شديد، كما في مرحلة ديوانه «ظل الفردوس»، قبل أن يتلاشى أمام عيني الشاعر يشعل هذا العالم المرئي للمرة الأخيرة أرجوحته بالكلمات المضيئة التي تكشف عن ظهر التجربة الظاهرية في رقية الشعر الآنية. هكذا نصل عبر طُرقٍ تفضي، سريًا، إلى الجدار الأخير الذي يحمل القمة التامة لكل شعر عظيم، القمة التي يمدنا بها صائد «أوثغاريطي» في شيخوخته، سان جون بريس، أو خوان رامون خيمينيث أو إليوت، أو والاس ستيفانسن…في هذه المنطقة قد تجاوزنا تأكيد عظمة أدبية سامقة، أبعد من الأدب. هنا تُعد القصائد مهمة معرفة الكائن. في القصائد الأخيرة لبيثنتي تتضمن، مع درسه السامي، حقيقته السامية.
الأغنية الليلية
السيدة: (فوق، في البهو)
أَليكْسا
أسدلي الستائِر،
ألقي الحَطبَ في النار،
من يَأتي نائمًا يكون.
أسمعُ خَشخَةَ النيرانِ
في الوُجوه.
عبثاَ تحاولينَ إقناعي.
إني وحيدة.
الطالب:(تحت، في الحديقة)
أيتها الحديقةُ، من يناديني؟
تُوحدُ هذه الساعاتُ
بُستانَ الكرز.
رآها أحدٌ لمْ تَجدْه أبدًا،
من يَنتَظرُني؟
ظل.
هل أحببتُه؟
لستُ مالكَ نفسي.
لأصلَ إلى شَفتيكِ
هذي الحديقةُ تُزهرُ حزنًا
آه، أعرفُ ما أحسستُ
حين مررتِ وعدتِ…
أشجارُ الكرزِ مُزهرةٌ.
الأغصانُ نائمةٌ
ريحٌ تكنسُ الغبارَ
وتُثيرُ الرمال.
لكن أحببتُ حيواتٍ أُخرى.
السيدة: (في البهو)
سأقول له :
آه، أهلا، أنتَ منقذي،
الحياةُ ليستْ جسدًا مشدودًا
بالأقمِشةِ اللامِعة،
ولا هذي اليدُ التطريزية
المُلوحةُ بوهَن،
إنها أنا، أنا العاريةُ لأَفهمَك.
حبيبي، إني أحبُّ فكرتَك،
حضوركَ الدافئ
لكن هنا أتنزهُ
كريح على الحافاتِ،
اقتلعني
واحملني إلى صحاريكَ الجليديةِ الفسيحة.
الطالب:(في الحديقة)
لا يهم من ينتَظرني،
غدًا سيكونُ الشمالُ ببريقٍ غامضٍ،
حقيقة الرجال الجسمانيين،
من يتألق؟
الحقيقةُ الملموسة
الثمرةُ لحمها.
بريقها في العيونِ يهجسُ بسعادة.
النورُ فضة،
السماء فضة،
حين لا يكون اللحمُ نفسه
حقيقة،
حقيقة ليسَ دخانًا
بخدعةٍ يحلُّ محلَّ الأصوات.
السيدة: (في البهو)
قريبًا أسمعُ النارَ تطقطق
لكنني وحيدة.
أبعد…
لا يوجدُ أحَد
أو بين جدرانٍ باردة
يصمتون.
إنه القصرُ حيث ينامون،
لكنهم يكوون العيون.
الأميرُ حجر،
يُدحرجُ مزيدًا من الحجر
كل شيء بالجدرانِ حجر
والتمثالُ ساكنٌ
وحدة… وحدة
ولو نَفعَ اللحم،
كانتْ صرخةً واحدة،
صرخةَ التي استيقظَ هناك،
لكن اللحم ماتَ بالقَصرِ القاسي
ولم يوجد أحد،
بل هكذا يحلم
لكن، هل الحجر يحلم؟
فلتكسرهُ العاصفة،
إنه الأحشاء الفجة.
افتحوا،
افتحوا الأبواب،
الرعدُ يَحرقُها.
الطالب:(في الحديقة)
إذا تَحرَّكتُ هنا في الليلِ مُنفَردًا
عَمنْ أبحث؟
آه، كيف أرى القَمحَ الناضجَ بَعيدًا،
أخضرَ،
يَتألمُ في الحقولِ وحيدًا
قرونٌ من أَغصانِ السنابل
تُعاقِبها الريح،
كجباهٍ بَنفسَجية
مُنحَنيةً تحت السياط،
اشربي،
اشربي مياهًا تُمطِرُها السماء،
وحدها السماءُ ونيرانُها
أو ثُلوجُها تَسهرُ عليك.
نَسيمٌ رخوُ
يَهبُّ على السنابلِ الحية
وهنا تَنبثقُ سِيقان،
وأُخرى تَستمرُّ
وتُعمّرُ،
لكنها تحت المنجلِ وحده
تُصبحُ ظلًا،
تُصبحُ الخبزَ الفطيرَ واليابسَ
لأسنانٍ فاسدة.
السيدة: (في البهو)
لكنهُ قال لي ذات يومٍ:سآتي
ولمْ أرهُ بعد.
أُغنيةٌ ليليةٍ وجميلة
تُمزقُ الظلال
وإلى حضني تَصل.
إلى من أنتمي،
لكن ليس إليك أيها المُلتَحي،
يا راهب أقمارٍ مزيَّفًا،
أنت الـ«إِسْطارِيطْز» الغازي،
والخريف الأكثر ضعفًا
إني أنفي ولا أثبتُ.
لكن أُقبلُ ثيابك الرهبانية
آه، من الرائحة الجبلية لأعضائك الوحشية،
أقبّلُ هذي اليدَ
وأعاني سلطته الكهفية
«إِسْطارِيطْز»
عمن تبحث حين تتألقُ عيناك؟
بريحٍ،
أو مادة ترتعش لحيتك القذرة،
لكنني أجهل قداستك المختلفة،
هل انتظرت؟
لمَ تنتظر
لا ينبغي أن أنتظر،
إني أحلم،
علمتُ أنكَ أنقَذتَ الأمةَ المُتعَفنَة،
وفي حلمي كرهتك،
غير أني أعرف أنك ميت.
الطالب:(في الحديقة)
لا يوجدُ أحد،
لكن الوقتَ متأخر،
أرى حديقة فسيحة،
في العمقِ نيرانٌ وأحصنةٌ،
هذي الخوذات،
والثلجُ
وقصرُ الشتاء…
شبحٌ أو ضبابٌ يشطرهُ سَيفٌ،
فوق النهرِ المتجمدِ
تَتقاطعُ النيرانُ المُقدسة.
أهي الصليب؟
إنها شوارعُ كُبرى تَتقاطع،
لتنامَ الليلة، ماذا أنتظر؟
ليس هناك همسات.
السيدة: (في البهو)
لا، الانتظارُ مرعِب،
ومن يَستطيعُ الانتظار؟
المرايا تدينُ هذه المرأة
التي أراها
أو أبصقها،
تَسريحاتُها المُتعَجرِفة،
أشياؤُها المُستَعارة؟
أشرطتُها،
هذا الرأسُ المقطوعُ على كتفٍ نائمة،
قامتُها مُتغَطرسَة،
ضفيرتُها تُحفٌ
أو حديد،
كم وجهًا ضربتُ بها دون أن ألتَفت،
هذا الجسد المشدود بأقواسٍ،
وأمتلكُ خاصرة حزينةً مختَلفة،
تَخنقُها بيدٍ
لكن لا،
إنها أربطةٌ تشدُّ الذراع،
وبِلسانٍ بنفسجي أتنفسُ
وأموت،
هكذا تقولُ المرأة،
لكن الشفةَ تَبتسم،
الفَخذان أسفل،
النهدان أعلى،
الكلُّ واقف،
ومن حجر،
وفي البهو تستقبلُ.
الطالب: (يبتعد)
أَسمعُ
أو أحلمُ بالطلقات،
أُماه، عيناك حزينتان.
والدي ميت،
أحبك،
إذ من أجلي عانيتِ،
من أجلي أنا كل ما انحدرَ منك،
والدي،
نهرُ «باتشوكا» يتلاشى في البحر،
انسابَ عبر جسدي،
وفي تيارك يحمِلُني،
مُدمرًا في حياتك ينبوعَ غنائي،
ينبوع غنائي.
السيدة: (في البهو)
النوافذُ مفتوحة،
لمْ يأتِ،
لمِ يَرد المجيء،
إني مُقيّدة،
لا أستطيعُ كأسًا،
أو زجاجًا خالصًا،
لا أشرب،
لكن أهذي في صدغي،
أعرف انتهاء يوم
وقد تُوقد نار.
بداخلي يموتُ الرجل
لكن يولد الغد.
الطالب:
إنها غائبة،
لم توجد،
حلمتُ بها،
لكن عبثًا.
إنها نهاية.
إني أنطلق مع انتهاء يوم،
معه متُّ وبعثتُ.
وفي الأمواج تمر النار.