اخذ- فاك ذا المرقة، اخذت عينيك السوداوين، أخذ- حرك ذا الثنية .
( من تعويذة أكدية )
لا يعرف حتى الآن ما اذا كانت "سافاثا" مدينة نهرية ام مدينة صحراوية، موطن أمة واحدة أم موطن أمم متعددة، لا يعرف هل تحدث سكانها لغة واحدة أم تعددت بينهم اللهجات واللغات . شيء واحد معروف . هو أن شظايا ألواحها الحجرية المكتشفة بين أنقاضها لا تحمل نقوشها أبجدية من أي نوح كان، بل تحمل صور الكائنات، بعضها مما نعرف ونألف، وبعضها مما لم تقع عليه عين ولا وعته ذاكرة، ولا صادفه مسافر. او تخيله فنان . صور منقوشة بأزاميل حادة، ملونة في احيان كثيرة بألوان نباتية او معدنية مصدرها مجهول . حكايات أناس تحدث ما ان تظهر الشظية امام اعيننا، وتختفي حالما نبعد انظارنا. أزمنة تحولت الى أمكنة، صور في فراغ مأهول، نصف معنى او لا معنى اطلاقا، أحداث محتملة أكثر هما هي أحداث مكتملة . كل هذا بفضل غياب الابجدية، مولودة الزمن، وشاغلة الفراغ حتى الحافة في كل بيت تقيمه، خالقة الوهم بالحدوث والفوات والغياب . الصورة مشاعر تتورق، خطوط ازميل او ضربات فرشاة، او أعلم في جدار الأيام، تحدث دائما، الآن،في كل آن.
يدور الامر حول نقوش لوح حجري مكتشف بين انقاض معبد "سافاثا "الكبير،معبد يقع شمالا بين بستانين النخيل، على حافة الصحراء،إنها آخذة أو تميمة عقلها عراف ليسجن أو يقيد أو يخلد روح امرأة محبوبة .او يقال انها تأبيد لحدث تم او يحدث الآن في فردوس غامض، اطلق عليه بعض من تأمل النقوش اسم فردوس الجسد، بدليل الحضور العميق لشخصين متعانقين بين اشجار آس ورمان . او يقال ان النقوش ترميز لزواج سماوي بين الكائنات، بما فيها من نبات وحيوان، كانت الشعوب القديمة تعتقد انه يحدث حين يكتشف الرجل المرأة فيعرفها وتعرفه، بدليل كثرة الطيور المحلقة والاغصان المتشابكة، والكواكب التي بدت مثل انهار من الرمال . الا ان هذه التأويلات رغم جمالها تحول السر الى معرفة فتفصلنا عن رجفته الأولى . انها تستخدم الزمن دائما: حدث هذا الامر او ذاك، لتصل الى معنى ربما لم يكن موجودا او ربما لن يكون له وجود. تقليد حديث تمارسه ثقافة شغوفة بالساعات الرملية المزاول، ثقافة لا تدرك ان هناك ليلا دائما لا فوات فيه، هو ليل الروح بشمسه القاتمة .
اللوح او ما تبقى منه لم يكن الا شظايا، ربما كان هكذا في الاصل .. من يدري. لا احد يهتدي الى صورته الاصلية الا تخيلا، فيمنحه الخيال آلاف الصور المحتملة . ويظل ترتيب الشظايا بحيث تكون نصا ذا معنى او نصف معنى محالا.
هنأ بخور مر يتصاعد، قوارير طيب وعطور، شفاه، كرم او بقايا كرم، عينان، فخذا امرأة عارية .. هنا شجرة أرز، قوائم سرير خشبي، وهناك يواقيت زرقاء تحلي يدا طويلة الاصابع ونهدين قاتمين .
النقوش نفسها ليست اصوات لغة يكون فيها الماضي والحاضر والمستقبل، ليست ألفاظا تروي اخبارا، انها اوعية من طين أحمر او فخار او مرمر معرق نحدق في فراغها، في هذا الفراغ وحده الذي تحيط به وتمسكه، الفراغ الذي صنعت من اجله، وليست هذه هي الصعوبة الوحيدة، فالنقوش رغم انها محفورة بالازاميل لا تماثل النقوش المسمارية، ورغم انها تعرض صورا الا انها ليست هيروغليفية، انها احداث ممتعة بذاتها لا تكشف عن غير ذاتها، لا تمنح فكرة بل احساسا قويا بالوجود، انها فن صاف تعود فيه القصيدة الى بياضها والوردة الى عرائها والمرأة الى موجتها التي كانت عليها.
ربما كانت هذه النقوش اقدم بكثير من فجر المنطق الانساني الذي بدأ يسمي ويصنف تحت شمس نهاره المرتفعة، متهما الليل بانه نهار غامض، او عالم غابت شمسه الى حين . فالكائنات التي تظهر فيها لا يبدو انها عاشت في مكان محدد، او زمن معروف، لا يبدو انها اتخذت لو أسماء، أو اعتنت بأن تكون لها اسماء، كذلك يمكن القول عن الاشجار والكواكب والمقاعد، او ما يبدو هكذا امام انظارنا.
الاكثر، وضوحا نقوش شظية مميزة بين بقايا ما نفترض انه كان لوحا: جسد امرأة عارية، يجللها شعر حالك السواد، تحتضن جسدا يبدو جسد رجل نحيل يحمل ملامح عراف او كاهن او قارع طبول في معبد، وتحيط بهما عتمة حديقة يلتمع فيها بياض الياسمين وضباب ازهار المرمان الحمراء. معبودة وعابد؟ ربما.
اثنان من الالهة؟ ربما.
لا احد يعرف ما يحدث بين الاثنين، واية همسة مبحوحة ترددت، او ارتجافة سرت، في اللحظة التي ارتسم فيها المشهد، تهمس المرأة : "سأجعلك كاهني الوحيد.. متاهتي الوحيدة ". يهمس الرجل : اخذت فاك ذا الرقة، اخذت نهديك العاريين .." لا احد يعرف الا تأويلاء لان الشظايا الاخري تحمل صورا مختلفة، كؤوسا فارغة على حافة طاولة صغيرة، ومقعدين صغيرين، والكثير الكثير من الطيور، الطيور المحلقة، مرة في الجزء الأعلى من هذه الشظية، ومرة في الجزء الادني من تلك الشظية كأن من نقشها رأي السماء في كل زاوية من زوايا المشهد او حدس بوجودها.
تأويل اول : حين نقترب اكثر ونركز نظرنا نلمح على شفتي المرأة ابتسامة مطمئنة يلمسها ضوء قاتم، ابتسامة نشوة ولذة، ونلمح جفنين مسبلين، وكأنها همست لتوها بشيء ما ارتجف له جسد العراف واضطرب، فتمتم بكلمات اصابها الصمت وهو يدير وجهه جانبا.
الطيور تبعث البهجة، فهي منتشرة فوقهما وتحتهما ويحتمل ان طاولة الكؤوس كانت قريبة منهما حين نهض العراف عند اقتراب الفجر، ففتحت المرأة ذراعيها وطوقت رقبته وضمته الى صدرها. ويحتمل انهما كانا قريبين من شجرتي الآس والرمان، ولابد ان تكون الزهرتان الواضحتان جزءا من شجيرة رمان مزهرة ذات ظل اخضر، وكذلك اوراق الآس الذي كان يزرع بكثرة في العصور القديمة . لحظة بهجة ربما… مفاجئة .
تأويل ثان : حين نحدق في جسد العراف اكثر، او نلمسه ونمر بأصابعنا على خطوطه الحادة، نكتشف فجأة انه جسد متحجر، تمثال في حقيقة الامر وليس جسدا حيا، وان من نقشه ود بالحاح ايصال هذه الرؤيا، فأعضاؤه ذاهلة فيها من الحجر سكونه، ومن الرغبة قلقها، وليس كذلك المرأة الالهية التي تضج بالحيوية والطمأنينة وهي تشد اليها جسد الرجل . هل كانت تعانق تمثالا. ام انها عانقت جسدا حيا فتحول الى حجر في اللحظة التي همت به وهم بها؟
تأويل ثالث : في العتمة الواضحة، العتمة التي لا نعرف هل كأنت في الاصل ام هبطت على النقش بسبب آلاف الليالي التي مرت على المشهد، نلمح طرفا حلميا في الصورة كلها، حلم يهيمن على الكائنات، من الذي كان يحلم بالآخر، هل المرأة هي حلم الرجل ام ان الرجل حلم المرأة . ام ان الحديقة، او ما يبدو كذلك، حلم مشترك على حافة الفجر قبل ان تبزغ الكائنات؟
في روايات «سافاثأ» المتداولة شفاهة ان عاشقا آرأميا حاول في احد احلامه معانقة المرأة المحبوبة، عرافة المعبد الممتلئة التي لم يكن يبصر منها سوى هالة الشعر الاسود وهي تجلس بثوبها الاخضر الطويل وسط دخان المجامر. ولم يكن يسمع منها سوى وسوسة الحلي حين تغادر الى غرفتها المطلة على البحر في اواخر الليل، ولم يكن يشم منها الا رائحة المر واللبان حين تتهيأ لملاستحمام في حوضها المرمري الازرق، وفي الصباح صحا من حلمه ليجد انه تحول الى حجر.
وفي رواية أخرى أن عرافا تنبأ له منذ الطفولة، بان روحه مقيدة في تميمة وضعتها امرأة في ثنايا شعرها الاسود الطويل، وانه سيظل تائها الى ان يجد المرأة، في فرجة بين اشجار غابة، او في اعماق معبد مجهول . التميمة تقيده وتجذبه اليها، فى تسحبه سواء أكان في سريره أم في حديقته ام على شاطىء البحر ام في عتمة بار في مدينة تتعدد لغات أهلها،ام كان بين احضان امرأة اخري، ام اختفى في شهاب رواية يحكيها لمستمعين في زاوية من زوايا مسجد يظلل باحته النخيل .
وفي رواية اخري، ان العرافة، وهي ترقد عارية في سريرها او حديقتها المحاطة بالمشاعل الخافتة، راودها حلم العاشق عن نفسها، فتقلبت في سريرها منتشية قبل أن تنتبه الى صوت البحر وهبوب يشبه هبوب الجسد، فتفزع الى نفسها،وتنكمش وهي تشعر بجسد يطوقها وشفتين تلمسان شفتيها، وتطلق لعنتها على هذا المجهول الذي لم تكن تسمع منه سوى ما نسمعه من امواج البحر وحفيف اوراق الشجر، فتبعده بيديها مرتجفة بين الحلم واليقظة .
أعود الى الشظايا، واتخيل صورة للوح أصلية او حكاية : هذه هي حديقة التحولات، حيث يعترش الآس والياسمين، ويتناثر زهر الرمان في ضباب الفجر الخفيف، ويترقرق صوت النبع، وتسكن الايائل صدغية، وتتمايل الاعشاب، وتتملك الجسدين ذاكرة نجم وارتعاشة نهر يتدفق، وحفيف اوراق تتساقط في وقت واحد معا. هذه هي حديقة الشهوة، حيث يهرع "آساف " و"نائلة » احدهما الى الآخر فيتحولان الى تمثالين حجريين، تحوله يسبق تحولها لان لمستها تسبق لمسته، ويتحجر ما ان يعرفها وتتحجر ما ان تعرفه، وتنقلهما قافلة عابرة الى واجهة معبد مقدس في واد حفرته سيول قديمة، حيث تقدم لهما القبائل الهمجية ذبائحها ونذورها. هذه هي حديقة العاشق الذي يتحول الى حجر حين يغلبه الالم، والحجر الذي يتحول الى عاشق حين تغلبه البهجة .
الطيور ربما كانت نسأء في الماضي، وكذلك الاشجار والندى، هكذا تقول روايات «سافأثأ». فنجد كاهنة تحاول ان تستيقظ ذات صباح وتنظر الى جسدها فتتحول الى سدرة تزحمها العصافير، ونجد امرأة أجنبية تحاول التقاط شعاع هارب على المرتفعات، فتتحول الى شجرة بوكنفيليا مثقلة بازهارها الحمراء. ونجد صاحبة حانة ساخرة تحاول الاهتداء بالموج، فتتحول الى معبد لذائذ في مدينة مطلة على البحر، ونجد مغنية تحاول ان تتناسق مثل سيمفونية هائلة فتتحول الى ندى يتساقط في اماكن متباعدة .
الطيور ربما كانت نساء في الماضي، لهذا تكثر صور الطيور في كل مكان على شظايا اللوع الآرامي، تحت الماء وفوق التراب وبين الغيوم والاشجار، حتى فوق المرأة الالهية والعراف المرتجف، وهو ما انتبهت اليه اخيرا. هنالك طيور بيضاء تحلق عاليا تجعلني أفكر بالابتسامة الطمئنة على شفتي المرأة المضاءة بنور قاتم .
نص الأمكنة
6
ميناء الأشباح
سترى كم هي جميلة الغابة القلقة في أرق ليالي يونيو(د.ل.مليوش)
انا ناج من قبيلة مفقودة ، الناجي الوحيد ربما، لان لغتي لم يعد يفهمها احد، وحقيبتي ممتلئة بأشياء لم يعد يتذكرها احد، ولأنني ، وهو الاكثر اهمية ، أنادم أناسا وهميين من عصور غابرة ، ادعوهم الى مائدتي، او يدعونني الى منازلهم . وما ان ترتفع شمس النهار حتى تختفي الموائد والمنازل ، ولا تظهر علامة تقودني اليهم او تقودهم الي .
انتطر الليل لاتخذ طريقي الى هذا البار الذي تسكنا رائحة البحر، وتغني فيه امرأة آسيوية لصوتها رنين ولعينيها نشوة غابة تحت ضياء القمر، وتحتضن فيه غجرية كأسها كأنما تحتضن أيامها الاخيرة على هذه الارض ، الى ان ينسرب شيء من روحها، فتندفع بعنف وتنشب اظافرها في صدر صاحب البار العجوز.
انتظر الليل لأري عابرين يلصقون وجوههم بزجاج نوافذه ، ويتركون وسما من ضباب قبل ان يغيبوا، لأرى رجالا ونساء قلقين يتوافدون في منتصف الليل كأن سفينة أشباح تركتهم على الشاطىء فجأة فانسربوا في اي مكان يلمحون فيه نافذة مضاءة ، او يسمعون فيه نغمة ماندولين متوحد، اويرتفع فيه غناء عن الأيام الخالية .
هنا التقيت بالمرأة التي نسيت أسماءها العديدة ، او تناستها، ان كان علي ان احكم من طريقة استخدامها للافعال . انها تتحدث عما يحدث دائما، ولا تشير الى ما حدث أبدا مهما كان نوع الحديث . لكلماتها اقمار لامعة ونسيم يهب ,من اماكن لم يسكنها احد بعد. ربما لهذا السبب تمنحها اللغة مظهر امرأة بلا ماض ولا طرقات ولا منازل تعود اليها. تتقدم دائما وهي تجيل عينيها في وجوه الساهرين ، أو تجلس مثل غابة ضاحكة ، وتلقي بيديها على المائدة أمامي تتلمس يدي وهي تنظر في عيني، وتطلب مني أن اروي حكاياتي او حكاياتها اواي حدث لا تتذكره .
على رصيف الميناء يتجهل غرباء فقدوا سفائنهم ، ومنحهم القلق والشرود مظهر نوارس أثقلها الليل ، فلم تعد تستطير التحليق اوالصياح في حضرة البحر القاتم ، ألبحر الذي ينام الآن بلا فجر قريب . وفي الأزقة الداخلية ، حيث يتكاثف شجر ألكافور ويملأ الحدائق البيتية الصغيرة ، ويسمع خلف العتمة رنين الاقداح وموسيقى عازفين لا مرئيين ، تتحدث أشباح عن مدائن بحرية لا يردها الا الغرقي والقواقع والاسماك ، ومن نساء هيبيات جئن من بلاد مجهولة ، تطفو أجسأدهن العارية فوق الامواج والزبد المضاء تحت قمر لامع في الهزيع الاخير من الليل . اذا ابتعدت قليلا، وخلفت وراءك الميناء والبيوت الحجرية باتجاه التلال الصخرية وغابات الزيتون والتين ، واوغلت في الخضرة وحدها، والهواء وحده ، ستكتشف نيرانا متفرقة امأم الكهوف ، وهدير غناء وحشي يتصاعد من كهف واسع تخالطه اصوات دمدمة وعواء وصراخ اوعال لا تلبث ان تهدأ.. شيئا فشيئا، ويتحول الكون الى تنفس هادىء ونشيج يسمع بين آونة وأخرى.
في زمن لا أتذكره كان لقاؤنا الاول . ولانها لا تصدق ما لا تتذكر، تندفع الي مثل سفينة خرجت الى البحر الواسع من موانيء مفقودة ، او تتظاهر بعدم التصديق ، فترتسم على جبينها وعلى سواد عينيها العميقتين وعلى شفتيها المملئتين ، حيرة طفلة اختطفها قراصنة او تجار رقيق وباعوها في عواصم اجنبية .
لا تتذكر لقاءنا في مدينة العقود العباسية وعصافير الدوري، ولا شجيرة الدفلى عند بوابة شقتها ذأت صيف ، ولا مرسى القوارب حين احتضنتني ، والتمعت وراءها مياه القناة الكبرى بأضواء القصور الفينيسية . انها لا تتذكر حديقة العاشق حيث تصل الشهوة حد جنون الحجر وتتبادل الكائنات احلامها، ولا الطائر الذي سقط في احضانها وهي تجلس وحيدة تحت مسقط الضوء في المقهى، ولا أول ضربات أصابعها على مفاتيح البيانو، حين تموجت ودومت اصوات احاطت بكل شيء، وظلت تتساقط في اماكن نائية . احيانا يذكرني وجهها بوجه قديسة على ايقونة روسية مذهبة انطفأت امامها الشموع منذ زمن طويل ، وأحيانا بوجه الآهة أرمنية نحته عراة في ضوء مشاعل ملتهبة .
حين يتوقف الغناء، ترفع المغنية يديها وتعلق صوتها مثل خيط رنان في فضاء البار الى امد طويل ، وتعود العيون الى كؤوسها او تحدق في ظلام المرسى وراء النوافذ، وتعود الغجرية التي تفقد روحها احيانا الى مائدتها باحثة بعيونها عن شيء ما، بقية نهار او بقية ليل ، تبتسم المرأة مشفقة علي من خواء ذاكرة باتساع البحر، تقول انني اتلبس ذاكرتها عبثا، فهي بلا ذاكرة ، وأنتمي الى ليلها عبثا، فهي بلا ليل ، وأتجول في بساتينها عبثا، فهي بلا بساتين .. "ربما كنت وهما».. وتسحب يديها بلطف ويصيبها شرود مفاجىء.. "متىانني لم ألمس يديك ، لم ألتق بك ، ولا كان شيء مما يحيط بنا، هذا البار وهذه الوجوه والاصوات فراغ تصنعه الكلمات ، منازل نلجأ الى فراغها ان احببنا، أنا تأويل من آلاف التأويل الممكنة ، مثلما أنت متوحد من آلاف المتوحدين ».
في الايام الاخيرة تحدثت عن نهر غامض يوقظها هدوؤه ، وبرية شاسعة تجمع فيها نورا من كل الالوان ، برية لا تتوقف من الامتداد كلما اوغلت فيها، واخيرا تحدثت عن ميناء محدد تزحمه سفائن تجيء من امكنة بعيدة ، ويهبط منها تجار وشعراء وفنانون ومتشردون ، الا انها لاتهبط ، وتظل تتطلع من نافذة غرفتها الضيقة الى الميناء، سجينة مقيدة في سفينة غامضة حمولتها الخمر والطيوب والعبيد والهيبيين .
أتوقف عند هذا المشهد، أحاول تأويله بتفاصيل صغيرة : اسماء المدن وألوان جلود البحارة والزمن الذي يحدث فيه ، وأنواع الاشجار، ولون غيوم ذلك الصباح ، والازهار التي كأن يهب اريجها على امتداد رصيف الميناء آنذاك ، فتتغير ملامحها مثل صفحة بحيرة غادرتها اشعة الشمس ، ألغاربة ، تخلو عيناها من الظلال ، تنسحب ابتسامتها، وتتشاغل بالنظر الى اظافر يديها كأنها لا تراها، وتبدأ بالتلاشي شيئا فشيئا كلما اوغلت
في التفاصيل.
حين يحدث الفجر فجأة ، وتتراءى ظلال المغادرين وراء النوافذ الزجابية ، وتصحو الغجرية الغافية على مائدتها وترفع رأسها ذاهلة ، وتدندن المغنية وهي تسحب ثوبها الطويل وتغيب في عتمة الشارع ألشفافة ، يلم بالمراة خدر لذيذ يسري .في اطرافها، ويتثاقل عند شفتيها، ويغمر خديها وينسرب الى ظلال عينيها، فتصدق في عيني وتنهض وعيناها لا تغادرأن عيني، وقبل ان ادرك ما سيحدث ، تطوقني بذراعيها وتشدني الى صدرها، كأنها تعتذر عن آسمائها المنسية ومن الموانىء المفقودة التي غادرتها.
حدث هذا منذ زمن بعيد، او لم يحدث في الحتيقة ، ومازلت انتظر حدوثه كلما اقترب الليل ، واتخذت طريقي الى البأر الذي تسكنه رائحة البحر، انا الناجي الوحيد من قبيلة مفقودة ، ربما كانت قبيلة من القواقع او النوارس او عصافير الدوري او ازهار النرجس التي اغرقتها وحول الشتاء، ربما كانت قبيلة من رمال لا يتذكرها احد.
لم تعد المرأة تتحدث، لم تعد تلقي بيديها ضاحكة وتتلمس يدي، لم تعد تنظر الي او تسالني حتى حين توقفت عن رواية الحكايات ، لم تعد تضيء وجهها شمعة من اي نوع كان .وجهها الذهبي يزداد نأيا في أعماق الايقونة الروسية كلما اوغلت في التفاصيل ، تزداد نأيا في اعماق معبد مجهول ، وتتحول الى غابة متوحدة كلما اقتربت من حافة مينائها المفقود.
* الفصلان المنشوران من نص طويل يحمل نفس الاسم
محمد الأسعد(كاتب ومترجم فلسطيني يقيم في الكويت)