أحمد المديني
روائي وناقد مغربي
1
لم أكن أعوّل عليها. ولا خطرَ ببالٍي رؤيتُها ولا تذكُّرها. سواءٌ جاءت مرتعشةً أو أقبلت نحوي متجسّدةً. الأعجبُ منه أن تتخلّق أمامي نازلةً من ضباب الغيب. بينا حدودُ لقائنا هو افتراقُنا البعيد. سطعت بُرهةً، برقًا صَعقت، إثرها شطّت في الغياب. وجلستُ أنا أرقبه، وأرعى خفائي الناظر إليها تُمعِنُه. أراها تُسرع الخطوَ. تتريّث تلتفت إلى ما سيصبح الذكرى. عبثًا ترصّدتُ لفتتها. لا أعوّل عليها لأَقفِل راجعًا إلى ذهابي الأول. أنا سيزيف الأزل.
2
تركتْ في لساني طعم ارتعاشها. حفرتْ على الجبين تجاعيد ابتلائي بها. لم أكفَّ عن الرحيل بين الأزمنة، كذا التقاطِ أنفاس الأمكنة. مِكَرٍّ مِفَرٍّ بين صيّادٍ وطريدة. ما هو إلا لأنشَق شميمَ عَرار عُرب من نخوتها: النظرةُ لها ترشُف نخبَ المغيب على إيقاع قلبي واجفًا عند صدرها. ما بك؟ تمكُر بالسّؤال. أم تُراها راحةُ يدي تمسِد السَّحابَ يكلّل شعرَها. إن أمسكتُ بها هنيهةً شردتُ عنها عمرًا. أقبّل راحتها وهي ماضيةٌ في هُنيهاتها، حتى أفلتت يدي منها في الزّحام.
3
لم يكن قريبًا ولا بعيدًا ما حدث، أو ما لم يحدث، قطّ. سوى حين استطالت قدّامي قامتُها. والسماءُ، غيّرت عادتَها، اهتبلت قُربَها. نزلتْ إلى الأرض تمشي [ب] جوارَها، كتفًا إلى كتفٍ يتساندان، يتحاوران، يتنهّدان كي تُوَقّع نبضها. لعله خطوها، والتمّ حولهما، حولنا، فينا، خلقٌ كثير. ليرى ما أبدًا لا يُرى؛ كيف بينهما التحمنا وفاض غَمْرًا، شعْشَع ضوءا، وشِعرًا انهمر!
4
نزلتْ من (شامِ) ها، هو لثغتُها. أم غُنَّة صوتها به فاح طيبُها. وما ذاع سرُّها. شممتُها فحدستُ الشام . انفرجت أساريرُها. عَطِر الوردُ لمرآها، فعرفتُ أن ليس لي غير هذي البلاد ما يفترِش كلّ هذا البهاء. والطريقُ حيث تمضي حفيفُ هواها. تُطلّ هنيهةً ممعنةً في الخفاء. مُطرقةً في حسير النظرة، من عوّلتْ أن تغزوَ الأرض بعينين فقط، فيما الأرض هما عيناها.
5
أهوَ زعْمٌ منّي، منها؟ لست أدري بأيّ مقياس؛ كيف لي أن أتذكّر؟ ألاّ تحسب أن بيروت هي الزّهو ومضمارُ الحنين؟ بلى وهي مثوى الذاكرة. سواء لوقع سنابك خيلٍ مرّت، أم لرمادِ الشرق، صداه، في رسائل الغرباء. رذاذُ بيروت وحده التحامٌ، وليلُها نهار المدن. يكفي أن تنشرح مرةً في خاطر الزمان ليُسرج الشعراءُ نحوها خيالهم والأزمنة. في مدى نظرتها وجدتْنا فضمّتنا ثلاثتَنا. هي والشّام، قالت: هذان اثنان في واحدٍ لي. وانتَثرنا في حقول الوله.
6
بدت الجغرافيا امتدادًا لها. السهولُ الجبالُ لها. خطوط الطول كذلك دَفْق السيول. زد عليها دورةَ الفصول. زهورٌ تفتحت بأرض بَتول. خَلقٌ كثيرٌ حتى يشيخ ويموت. الأوانُ لونٌ جامدٌ. المباني مكدسةٌ تتكرّر. الكلام راكدٌ كالنّعاس. الوقت يباس. ولدتُ أنا في بلدة اسمها برشيد، في مطلق الجنون. أما الدار البيضاء، فتطريزُ عماراتٍ على جِلد البداوة. بيروتُ عصفٌ على أهبَة. الشام ـ كانت ـ توًّا يظهر لي وجه الفارق كي تَسبيني. أقول الآن فقط، ستبدأ الجغرافيا.
7
لمّا ظهر وجهُكِ انتفى التشابه. وُلدت أرضٌ من الأرض. أنجبت ففاحَ الأقاح. طلع الغرسُ في باريس. وحدها بين كل مدن الدنيا أينعت في صدرك. تولّعَ الحسانُ والولدان، فاستجاروا من لظى عينيها بأهدابك. لم أميّز أنّي في شراع وقفتك. حسِب الفِرنجةُ أن رئيسَهم قادمٌ فازّيّنتِ الطرقات. الأشجار بأيدينا أكاليلُ ضحك. أبهى منها أناملُك ترقُص بإيقاع الخطوة القادمة.
8
قبلكِ لم توجد باريس. بعدكِ كيف تبقى؟! طاف المنادي ينبّه الطّلَّ والعشبَ والورقَ القرنفليَّ الفاتكَ بتباشير الخريف. وأخضرُ الربيع إذ تراه أنتَ تُجنّ. لم يجد أحدًا، منها بُدًّا. كلُّ من يمشي ويهمس سينادى عليك غدًا. غدَوا باكرًا. يقطِفون الزعفران سيصبغ خدّيك، يُحنّي يديك. نهر السين غادر سريره دَهِشًا يسأل من جنّن الفِرِنجَةَ فأشاحوا عنه. إنما استبدلوه، بمن؟ طبعًا لم نرَها، ما أدركناها، هي إشاراتٌ تُحدَس، تتراءى لك، تتلألأ. موكبها يميس كصوتٍ رخيم.
9
بلى. لها طراوةُ الصباح. في سوربون Censier حيث تنزل أستاذًا. أُمسك بأصبعٍ خفقَها لاهثًا فوق خدّها. ناعمًا تحت يدها مترنّحة. بين الفراغ وخُصلةِ شعرٍ مُتأرجِحة. رفرف الطلابُ بجانبي سربَ حَمام. عبروا خِفافًا نحو أحلام فرِحَة. لم يحفَلوا بالسّاعين إلى الدكتوراه بقلوب واجفة. في منتصف الطريق بينكم توقفتْ. فهل جمد الشعراء؟ جلّلتها نظرتي من فوق، ثم هبطت عند القدمين، قبل أن يستأنف الهواء سيره جاءني منها النذير:» البلاء بلاءُ من رآني».
10
في طراوةِ ابنِ الثلاثين، كان. عنفوانُه صاهلٌ في جسدٍ يزحف طوفانًا يتحدّى باريس وهو لهان. لم ينس أنها غولٌ يزدرد الأجيال. منهم عرب يَرْشَحون بفحولة فائضة. الأشقرُ عندهم الرِّهان. ربّما الأرض، برغم غالبية السود والصّفر، شقراء. وأمّي، خالاتي، جاراتي، أيضًا، كلُّهنّ قمْحيّات، ولذا جئت لأكتشف، لا، كالفاتح، الأرض الشقراءَ. ها أنا في مدخل السوربون السماءُ فوقي بيضاء، والورقُ أمامي أبيضُ لأكتبه، وأنتِ، من أتى بك إليّ أيتها السّمراء؟!
11
في زاوية من محفل الصّمت يجلس الكلام. أراه مدثّرًا بكواكبه. صانعًا من حروف، كالهاءِ عينًا، الحاءِ حاجبًا، النونِ فمًا، والأنفِ قامةً وقلمًا. كلُّ ما سأسعى لكتابته عنها عنّي لا يُكتب. فما ترسمُه الحروف افتراضُ لغة، سيقودنا إلى منعطف السراب. كأن نستلقي فوق أريكة الإحساس. هُراء! وأنا أُملي المحاضرة على الطلاب مررت بطاولتها فهالني أرى قلمها تحته الورقة بيضاء، وهي تكتب. خمّنت أنها إماّ تريد أن تُروّض الكلام، أو تروّضني، حتمًا غدًا!
12
كنا في أكتوبر. الخريف مثل استنفارنا جسدينا على أشدّه. حيثما تمرُّ ينتفضُ الشجر. هي ريحٌ خفيفةٌ تتجسّد بالهيئة والمعنى. شَعرُها ما انفكّ مشدودًا إلى الغوطة الشامية. وأنفاسُها، ما بها؟ يا وَيلي، ضوءٌ سَكوبٌ من رذاذ المساء. شَهْدُ الليل بعدها سيتلمّظ مع اختلاج أول وهم. في سماء بعينيها تضيء. أراها طارت شعاعًا سهمًا رمت ومضت. كانت تعرف أن نظرةً واحدة إليها تلقفتْها وطوتها أبدًا. منذئذ لا أبغي سوى ذلك. أشدّ ما أخشاه ينقطع أمسها، فكيف لو بغَد.
13
رآني مغاربةٌ عند ناصية شارع يؤدي صوب المشرق فتعجّبوا: لماذا جئتَ إلى الغرب، إذن؟ أم برَدَت في مهجتك وحشةٌ لأمك؟ أردت أن أجيب: لا يفهم ضلالي إلا من عاش بليّتي، أو جرّب ابتلائي. إنما أبطأ الكلام لا يأتي إلى لساني. انتزعته مني في سطوتِها الفاتكة. دهشِين تسمّرت نظراتُ الطلاب عليّ. أحملِق في وجوههم ولا أقول. ما أنا بقائل. فجأةً تطايرت الحروف. انسربت من بين الشفتين. رفرفت كاليمام. أردت أن أركَب اسمَها، لكنها أبدًا تطير!
14
في مدخل الجامعة ثانيةً، رأتني واقفًا شبه مهلهَل. لا أتقدم ولا أتأخر. عبَرت وحيّت بخفة وابتسامة كعادتِها، هكذا هي Julia، جوليا كريستيفا**: Bonjour» أهـ[ح]مد» ثم رجعت صائحةً بعجب: Tu es splendide aujourd’hui [إنك اليوم فاتن]. حاولت أن أفهم، طبعًا، فأنت لا تراك، وإلا انظر عشبَ رأسك، موجَ الأصفر الساّبح مع الأخضرِ في مُحيّاك. لكن قل لي -سألتْ بمكر- لمن أعرتَ عينيك؟ تعرف أني أنتظر مذ عشرين حَولًا أن تُعيد أخرى لي نظرتي. نابت جوليا Kristeva عن الجواب بين تنبيه وعتاب: أوَلم أحذّرك من السّلوان، إنه مثل السيميولوجيا، علامُة وسراب؟!
الهوامش
* سيميولوجيا، أو السيميائيات: علم يدرس العلامات ويحدد نظمها (في اللغة ونُظم أخرى).
** فرنسية بلغارية الأصل (1941) باحثة رائدة في السيميولوجيا، بمؤلفات، وأستاذة جامعية مرموقة.