بطن الذهب
عمتي الصغرى فاطمة تركض بعد أن سقطت حلقة الذهب من أذنها. كان ركضها جهة أمها خائفا ومترددا. بدت في نظرنا مسرعة وبطيئة في آن. ثم أطلقت الأم صرخة قصيرة (في الحقيقة، لم تكن سوى شهقة ذات صوت عال، دخلت إلى جوفها ولم تخرج). بعد ذلك، شرع كل من تصادف وجودهم في المكان، من أطفال وصبية، يبحثون عن حلقة الأذن المفقودة.
عيوننا في اتجاه الأرض وظهورنا محنية وأرجلنا الحافية تنبش. قلبنا أشياء كانت تهجع منذ زمن طويل في الأرض؛ مساند نخيل جافة وأخشاباً وسخاما باردا وبعرا يابسا وأوتادا سوداء قديمة مركوزة منذ زمن في الأرض ولم تعد تستخدم في ربط الماشية. وجدنا كذلك فردة نعل نتأ جزء من سيرها الأخضر، فسحبناها لتخرج معها قبيلة من ديدان صغيرة كانت تعيش بصمت في بطن الأرض.
كل مكان وطأته قدما عمتي فاطمة ذلك النهار كان محط فحصنا ونبشنا، دون أن نعثر على شيء من الذهب.
وفجأة.. هتفت جدتي التي كانت تراقبنا من ضفة ساقية الفلج وهي تنسج خيوط الصوف وتخيط خرقها في الهواء الطلق تحت جذع نخلة تفرش تحتها ظلا قصيرا مرتعشا: «لقد بلعها الضفدع!»..
أطلقت عبارتها ثم واصلت الانشغال بعالم خيوطها. حسبنا ما قالت الجدّة طرفة فتحلقنا حولها، ولكنها قابلتنا بنظرة جادة وهي تؤكد استنتاجها: «لن تجدوها في الأرض ولو بقيتم تبحثون إلى يوم الدين! أحد هذه الضفادع بلعها. اِبحثوا عن الضفدع اللص قبل أن يحلّ الظلام».
جدتي الأخرى -أم عمتي فاطمة- كانت تعرف جيدا معاني كلمات حماتها، لذلك طلبت منا، بدل البحث في الأرض، تأمّل حركة الضفادع.
تغيرت خطتنا في البحث عن حلقة الذهب. اعتمدنا على أسلحة جديدة؛ أعيننا وحدوسنا واختبار مدى قوة ملاحظتنا. لجأنا أيضا إلى ما لم نعهده من قبل أثناء لعبنا: الصمت والتأمل. كانت أحداقنا تمسح جلود وبطون الضفادع وحلوقها الخافقة. أنصتنا إلى نقيقها ومدى حدته وتتبعنا سرعة حركاتها أثناء القفز. تطلّب منا الأمر وقتا طويلا، فقد كانت بعض الضفادع تكتفي بالمكوث مكانها والتحفز دون أن تقفز. فنضطر، لكي نعرف طبيعتها، إلى استفزازها. تنط نطتين ثم تقف مكانها متسمرة. وهكذا ظللنا نتابعها، الواحدة تلو الأخرى، إلى أن تختفي بين الأحراش.
بعد أن أخضعنا عشرات الضفادع لاختباراتنا ومجساتنا، وجدنا الضفدع آكلَ الذهب. كان ساكنا ويرفض الحركة وهو ينظر إلينا بعينين مذعورتين. جثمت حلقة الذهب على بطنه وأثقلت حركته. نخسناه بأصابعنا في أكثر من مكان في جسده ولكنه أبى أن يتحرك.
وأمام اندهاشنا، تكفلت جدتي -أم فاطمة- بشق بطنه. أخرجت حلقة الذهب الملطخة بلزوجة الأمعاء. اكتفت الجدة الأخرى، صاحبة الفكرة، بنظرة حكيمة نحوها، ثم أكملت عملها.
كانت تحرّك أصابعها بخفة بين خيوط آلتها، التي لم تكن سوى صندوق معدني تعلوه مخدة صغيرة تهبط منها البكرات والخيوط الملونة التي تميل مع ميلان يديها. بدت في هيئتها تلك وكأنها تسحج رأس فتاة تُجهَّز للعرس. كانت تدندن بمقاطع من أغانيها وهي ساهمة. عالم خيوطها يستحوذ على تفكيرها.
بدت الجدة مثلنا تماماً: تلعب بطريقتها.
احتباس أحرُف
كنت كثير الثرثرة في سنتي الثالثة، تلك السنة التي ينطلق فيها اللسان من كل عقال. كل ما يدور في الأذن والرأس والعين عليه أن يخرج حرا دون ضوابط.
كانت ثرثرتي تثير غبطة أبي الذي رأى في الكلمات الجريئة دلالة على نبوغ مبكر وتجاوز لعمر الثالثة، لذلك كان يقول لي «حين تكبر سيكون لك شأن، ستصير قاضيا أو شرطيا!»..
كادت جملته تلك، حسب تفسير أمي في ما بعد، أن تقودني إلى الخرس، فلا يحسد المال إلا أصحابه. وهذا ما حدث، تعطلت الحروف في حلقي ولم أستطع إخراجها. غدت الكلمات المكونة من أربعة أحرف تقتصر على حرف واحد، والجمل الطوال تصطدم، فجأة، بالفراغ في أول خروج لها إلى العلن، ناهيك عن الحروف القليلة التي غدت بلا صوت. أطنطن بحرفَي الباء والفاء، الشفهيين، بينما اختفى نهائيا حرفَا الألف والعين، العميقان.
لم يستمر الحال طويلا. ذات يوم زارنا ضيف، وأثناء اجتماعنا به على سفرة الغداء، لاحظ صراعي مع إخراج الحروف، فطلب أن تُحضَر سُميكة من ساقية الفلج. هرع الصبية لمحاصرة الأسماك الصغيرة بأيديهم، فكانت تهرب منزلقة حتى قبل أن تلمسها الأصابع. ولكن أمي قذفت بردائها في صفحة الماء، فاجتمعت لها ثلاث سميكات شرعت تتلبط وتتقافز.
رفع الغريب أصغر السميكات من رأسها وحصرها في قبضته، ثم أحنى رأسي كي لا أبلعها وأدخلها في فمي وأغلقه بكفه.
كان الخوف يهزّ أعماقي، والسمكة الصغيرة تتراقص مختنقة في محيط فكي ولساني، إلى أن أطلقت صرخة محتجّة انحلّت على إثرها عقدة لساني..
شرعتُ، بعد ذلك، أثرثر بلا حدود، ساردا كل ما رأيتُ وسمعت خلال أيام من الصّمت المضطرب.
أمواج الليل
إلى أبي دائما .
المقاعد الخلفية لسيارة أبي تظل فارغة حين يكون الراكب وحيدا، فبعض زبائنه يقصدون أماكنَ وعرة وبعيدة لا يمكن حملهم إليها دون أن يستأجروا مقاعد سيارة أبي كاملة.
ولكن أبي اعتاد أن يستأذن راكبه الوحيد في حمل ابنه معه لكي يشغل الفراغ الذي خلفه، وليسليه في طريق العودة الطويل، الذي يكون عادة بعد حلول الظلام. ورغم أننا نكون حينذاك صامتين أو أكون مستسلما للنوم ولا أشعر بهول المسافة، فإن إحساسا غامضا بالغبطة يجتاح أبي ما أن يحس بأني قريب منه في وحدته. في تلك الأيام، وبسبب وعورة الطرق ووحشتها، كان كل مكان يقصده أبي خارج مطرح بمثابة سفر طويل؛ إذ لا يبقى من اليوم في ساعات العودة سوى نصفه المظلم الذي تتكثف عزلته بخلو جوانبه من الأضواء، ناهيك عن فراغه من الحياة، فيما البيوت تستلقي بعيدة متوارية عن الطريق السيار، ما يلبث الظلام – حين يحل- أن يخفيها عن الأعين في طوايا عباءته الشاسعة، وكأنها جزء من أملاكه الخاصة.
كان وقت الغروب قد بدأ في الزحف. ولم يعتد أبي إخباري عن مقصده، ربما لأنه لا يرى فائدة في إخبار طفل تتشابه في رأسه الأمكنة والاتجاهات. كما لم يعتد -ربما بسبب العجلة- إخبار أمي، التي ستبحث عني قلقة في كل مكان. تبدأ بالجيران المقربين، فساحات اللعب المفترَضة، ثم بالمقبرة، آخر مرامي عينيها. وبعد أن يحلّ الظلام ستظل ساهرة تنتظر أبي، والظنون تلعب برأسها. حين نظهر لها وقد هدّنا تعب المسافة، يشرعان، هي وأبي، في النقار. ثم تُقرّب لنا العشاء وهي واجمة. أكون حينها بين النوم واليقظة، أزدرد اللقيمات وكأني أحلم.
الطرق الفرعية لم تكن معبّدة يومئذ. دخلنا طريقا متربا طويلا وقد أطبق الظلام الدامس على حدود الرؤية. لا أظن أن المكان كان بعيدا بمقاييس اليوم، فهو أحد أحياء العاصمة مسقط، ربما كان العذيبة أو الغبرة، اللذَين كل قطعة أرض سكنية فيهما تباع بسعر الذهب حاليا.
أشار الراكب إلى جهة بيته قبل مسافة من وصوله، وكأنما كان يعتمد على حدسه وعلى الضوء الشحيح الذي ترسله مقدمة السيارة. نزل بعد أن نقد أبي أجرته، فطلب أبي مني أن أترك مكاني في الخلف وأجلس بجانبه.
شعرت بالحيرة في سحنة أبي وهو يبحث عن مخرج. شرع يشق طريقا في الظلام ثم يعود أدراجه منه. وما يلبث أن يسلك طريقا آخر، عشوائيا، ويعود منه، إلى أن سقطنا في حفرة رملية.
أبت السيارة أن تبارح مكانها، لقد علقت إطاراتها. جاهد أبي في زحزحتها عبر الضغط على الفرامل أماما ووراء، فعصف الرمل بالسيارة. أشعل الإنارة إلى أقصاها عله يتبين طيف إنسان أو مسكن، ولكن الضوء الباهر كان يصطدم بأمواج الظلام المطبقة التي كانت تتدفق أمامنا في صمت مخيف وبلا شاطئ يحدها.
ضغط على زمارة المقود طويلا علّ أحدا يسمع النداء، وحين يئس من الرد أسكت المحرك والأضواء وأغلق نوافذ السيارة وطلب مني النزول، ثم دار حول السيارة ليتأكد من إغلاق جميع الأبواب.
تركني أبكي ولم يتدخل. أمسكني من إحدى يدي وشق طريقا أفقيا. نظر إلى السماء، ثم عاد أدراجه وشق طريقا آخر. كان الظلام مطبقا على مجالات الرؤية، حتى أن ملامح أبي اختفت. ثم، فجأة، طلب مني أن أتوقف عن البكاء وأشرع في تقليده. جلا حلقه بحمحمة قوية، ثم طفق ينبح…
-هوو. هههههو. هوهو هههههههو.
في البداية، ظننتُه يعبث أو أن مسّا من اليأس أصابه؛ ولكني فطنت إلى أنه كان جادا حين طلب مني تقليده، وهو يلهث، بعد أن أعياه النباح.
كان صوت أبي خشنا وثقيلا مقارنة بصوتي الذي يتنزه خفيفا في الأرجاء، فبدوت كجرو خائف:
-هو هو. هو هو. هو هو هو.
تناوبنا على النباح، بين الجرو وأبيه، كي لا ينقطع تسلسل النداء. ثم زاد أبي في قوة صوته، أدخل أنفاسا غليظة إلى رئتيه وأطلقها في دفعات حادة:
-ههههو هو هو ههههو هو هو ههههو هو ههههو.
في لحظات استراحته ولهاثه، كنت بدوري أقوم بإطلاق نباحي المختلط بالكباء وارتعاشات الخوف.
وفجأة، سمعنا نباح كلاب حقيقية يُسمع من بعيد. توقف أبي عن النباح وهز يدي دلالةَ أن أصمت، مصيخا السمع إلى مصدر الصوت.
-الحمد لله.
أطلق أبي كلمة النصر أخيرا، بعد ساعات من التخبط في الظلام.
غدا نباح أبي، بعد ذلك، مشوبا بالفرح وهو يتقدم ناحية صوت الكلاب، بينما زاد خوفي وتعثرت خطواتي، فرفعني فوق ظهره ودفع قدميه وهو يهتف:
-الغيث، الغيث.. نحن ضائعون في الظلام، أغيثونا.
ثم تراءت لنا بقع ضوء تتقدم ناحيتنا وصوت كلاب غاضبة يزداد اقترابا ووضوحا…
أكلنا تلك الليلة حتى شبعنا ونمت، بينما ظل أبي يتسامر مع صاحب البيت.
في الصباح انكشفت لي لعبة أبي مع الظلام، حين رأيت كلبين نائمين عند باب البيت وامرأة وابنتها تسقيان قطيعا من الغنم، وثغاءٌ متقطع يخترق الصمت.
بعد أن تناولنا فطورنا، شق أبي وصاحب البيت وابنيه طريقهم إلى حيث تعطلت سيارتنا، بينما تركني تحت أنظار الراعية، التي قرّبت مني ماعزا صغيرا لإلهائي وكبح بكائي، الذي ازدادت حدته باختفاء أبي.
غناء النخيل
صوت سميرة توفيق يحلّق من خصر نخلة تهزّ فروعَ رأسها رياح خفيفة.
«دوّرو لي عن حبيب يقدر يحل بمحله/ يمكن يكون الطبيب إلي يداوي بِطلّة/ دوّرو لي عن حبيبْ/ دَورو لي عن حبيب/ دور لي عن حبيب/ دوّرو لي عن حَبيبْ»…
يلتقط سالمين اسم جاره وينشره في الأرجاء.
سالمين، الذي لم يبق له من ماضيه سوى قوة صوته، كان، في ما خلا من سنوات، يقوم بأصعب المهن بيديه ورجليه وظهره: يذبح أعند العجول وأسمنها ويحمل جذوع البناء فوق ظهره ويتسلق أطول النخلات بخفة مَن يركض حافيا. ولكن العمر امتدّ به حتى طعن وفقدَ القدرة على العمل. صار يتبع ولده عبدالله حيثما ذهب. يكتفي بالجلوس إلى جانبه وهو يعمل والإنصات إلى الأغاني التي لا يتوقف الابن عن تشغيلها أثناء عمله. في ذلك الصباح أدخل عبدالله في جوف مسجله المعلق على جذع نخلة آخر الأشرطة التسجيلية التي وصلته من مطرح للمطربة سميرة توفيق.
كانت هذه الأشرطة تصل إلى عبدالله عن طريق خالته التي تقوم بجولات أسبوعية في سوقَي فنجاء ومطرح لشراء حاجيات تبيعها لتعتاش من فوائدها، ويوصيها ابن أختها بشراء جديد أغاني سميرة توفيق من المحل العتيد «تسجيلات غالب الإلكترونية»، الذي يبيع الأشرطة التسجيلية. كما يقوم بعض الفنانين ومنشدو الأشعار بتسجيل أغانيهم وقصائدهم مباشرة فيه ونسخها وبيعها في عين المكان.
وفي صرة بين ملابس وحناء وصابون وكحل ومرايا صغيرة وأمشاط ومبيدات حشرية لقتل القمل وما شابه من سلع متنافرة، ينتقل شريط سميرة توفيق، في علبته البلاستيكية المزينة بصورتها وهالة الشامة المعلقة على خدها الأيسر وغمزة جذابة من عينها اليمنى اعتادت أن تهديها في ختام كل وصلة من وصلات أغانيها.
أنهت المغنية وصلتها الأولى، التي كان يتكرر فيها اسم حبيب، فهتف العجوز منتشيا يستخفه الطرب:
-أوووه! حبيب، تعال يدوروك. حبيييب، تعال يدوروك!
التقطت زوجة حبيب اسم زوجها وهو يتردد في الأرجاء، حين كانت تملأ جبة سعفية بما تلتقط من سقط العراجين؛ ولم تكن قد تفطنت بعد إلى الأغنية الجديدة، فهرعت إلى بيتها القريب وشرعت تنادي زوجها.
جفل حبيب من قيلولة الضحى واتجه مسرعا صوب جاره، فرآه جالسا بجانب ولده الذي كان يحرث الأرض ويقلبها بمسحاة.
-هل أرسلت في طلبي يا عمي سالمين؟
ضحك سالمين وتبادل النظرات مع ولده، الذي توقف عن العمل ورفع وجها معروقا ما لبث أن أضاءه الضحك.
أردف العجوز، بعد أن هدأ سعاله:
-سميرة بنت توفيق تبحث عنك منذ الصباح يا حبيب وأنت لا تهتمّ.
قام عبدالله، متحمسا، جهة المسجل وصعد عدة كربات من جذع النخلة وضغط على زر الإعادة، إذ كانت الأغنية المقصودة قد انتهت وحلت مكانها أغنية أخرى جديدة ليس فيها ذكر لحبيب.
وحين شرعت المطربة في ترديد وصلتها «دوّرو لي عن حبيبْ/ دَورو لي عن حبيب/ دور لي عن حبيب/ دوّرو لي عن حَبيبْ»، ضحك الجميع، وضحكت الأشجار والطيور المحلقة في الأفق؛ وسحب خفيفة تتقدّم في السماء.
محمود الرحبي *