آه زونتشكا! لَكَمْ عايشتُ آلاماً رهيبةً هنا!
عادةً ما كانت تتقاطر على الحديقة، التي يسمح لي بالتجول فيها كل يوم لمدة ساعة، عرباتُ الجند محملةً بالمِخال أو ببزات الجند المهترئة وقمصانهم، التي كثيراً ما يكون عليها بقع من دم. توضع هذه الأشياء هنا، توزع إلى الزنازن، تُخاط، ومن ثم تُحمل ثانية لتُسلّم للجند.
ومنذ وقت قريب جاءت إحدى تلك العربات تجرها جواميس ذات بنية أقوى وأضخم من أبقارنا. كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها عن قرب حيواناتٍ كتلك. لقد كان أصلها يعود إلى رومانيا، ولذا فهي هنا رمز الانتصار في الحرب.
يقول الجنود، الذين كانوا يقودون العربة، إن اصطياد هذا النوع من الحيوانات البرية أمر غاية في الصعوبة. غير أن الصعوبة الأكبر هي ترويض تلك الجواميس، التي اعتادت الحرية، على حمل الأثقال.
حين وصلت تلك الحيوانات كانت قد أوسعت ضرباً وبشكل همجي. وها هي ذي قد حصلت على عشب بائس وزهيد.
كانت تستغل بلا هوادة ولا رحمة، منْكبّةً على وجهها، حاملة أثقالها، وذاهبة معها حثيثاً نحو الهاوية.
قبل عدة أيام قدِمتْ واحدةٌ من تلك العربات محملة بالمخال ومتجهة نحو الداخل. كانت الحمولة متكدسة بشكل كبير نحو الأعلى، بحيث لم تتمكن الجواميس من اجتياز مدخل البوابة إلا بالكاد، فانهال عليها الجندي المناوب، وهو شخص ملؤه الدموية، ضرباً بالمؤخرة الغليظة لبندقيته، لدرجة أن المشرفة نهرته بكلام حانق، فرد عليها مبتسماً:
-النسبة لنا- بني البشر- ليس ثمة بيننا من يرحم.
وراح يضرب ويضرب بشكل أقوى، فتململت الحيوانات واستطاعت أخيراً أن تلج البوابة. غير أن واحداً منها كان يَدمي. آه زونتشكا! كان جلد الجاموس، بالرغم من جَلَده وسُمْكه بحسب المثل، قد تمزق.
وقفت تلك الحيوانات في مكان التفريغ، في جو ملؤه الصمت، منهكة القوى. وراح ذلك الحيوان المُدمى يتطلع إلى نفسه، وفي عينيه تعبير ما؛ تعبيرُ طفلٍ باكٍ عوقب عقاباً شديداً، لا يدري لماذا ولا في سبيل أي شيء.
كنت واقفة أمامه وهو يحنو علي بنظراته، فراحت الدموع تتساقط مني أنا، إنما لم تكن سوى دموعه هو.
ليس بوسع أحد أن يتألم لأخيه الأقرب إلى قلبه آلاماً أكبر من آلامي، وأنا عاجزة عن فعل أي شيء لهذا الحيوان.
لَكَمْ هي بعيدةٌ ومستحيلةُ المنال ومفقودةٌ شجرةُ الصفصاف الحرة المثمرة هناك، في رومانيا!
كم هي أخرى الشمسُ هناك حين تشرق، والرياحُ حين تهب! لكم هي أخرى ألوانُ ريش الطيور وأناشيدُ الرعاة!
أما هنا، في هذه المدينة الغريبة الراعبة، هذه الحظيرة الرطبة، هذا العشب الذاوي المتعفن الذي يثير التقزز والقرف، هؤلاء الغرباء عديمي الرحمة.
هنا: الضربات المنهالة، الدم الصاعد من آهٍ منبعثةٍ للتوّ، جاموسي المسكين، أخي الحبيب.
هنا، ها نحن، الاثنان معاً، نقف متبلدَيْن لا حول لنا! اثنان نعم؛ لكننا واحد في العذاب، في الغشيان وفي الشوق.
كان السجناء خلالها يجيئون ويروحون بحيوية تامة من وإلى العربة، يُنزلون الأكياس الثقيلة ويحملونها إلى مبنى السجن. بينما ذلك الجندي يتجول بخطى واسعة حول الحديقة، مخفياً يديه في جيبَيْ بنطاله، ومبتسماً يصْفِرُ بترنيمته الهادئة:
– وأتت على كل شيء هذه الحرب الشعواء!
اكتبي لي سريعاً
روزا لوكسمبرغ
..
زونيوتا حبيبتي:
كوني هادئة البال ومنشرحةً رغم كل شيء!
فبقدر ما تكون عليه الحياة، بقدر ما يتوجب على المرء أن يتلقاها ببسالة ورباطة جأش، وضاحكاً رغم كل شيء!