«كنت في الصحراء وحيدا ، بين الوحوش والعقارب .. شبه ميت من الصوم والفاقة ، وعلى الرغم من ذلك بدا لي احيانا بأني اسمع ضجيج غناء ورقص فتيات روما المرحات !!»
«القديس يرونيم»
تذكر يا صديقي تلك المدينة وحياتنا فيها ، اذ أنك كنت الوحيد الذي يعرف ذلك جيدا ، وانت من يعرف أن لا معنى لأن اتحدث عن ذلك لأي انسان .
لم احب الجنوب ابدا ، وأنا ازدريه الآن . الطبيعة من تلقاء ذاتها عاقبت دول الجنوب وقاطنيها ، وحكمت عليهم بجوع أبدي ، وبأن يأكلوا طوال القرن السمك والسلطة بالزيت وحسب . ، وأحلت مكانهم ملمحا رماديا من السرو البائس الذي يحمل ثمارا صغيرة مرة ، أو البرتقال المفترض ، والازهار الجنوبية التي لارائحة لها ، ولا تنعش النفس .
وبالطبع فان العالم الذي يحيا في ذلك النظام الهشّ يمتلئ بالافكار المسبقة ، ومن السهولة بمكان أن يقع في زلل الفهم : بأن الحياة في جوهرها فيها مايعطى ويؤخذ ، ولذلك فان الكثيرين يمضون زمنهم في اعمال عقيمة ، ومعارك مريرة ، ويجري ذلك كله في فضاءات الخلود والابدية !
وما الذي يبقى مني أنا العائد من الشمال ، وهل اعود غريبا في موطني ؟ وأن اتذكر ، وأن اكتب لكم هذه الرسالة الطويلة ( الناس القانعون والسعداء لايكتبون على أي وجه ، او يكتبون باختصار !! )
اغمض عيني ، واتطلع الى المدينة المرحة ، الممتدة على طول السهل ، وتبدو لانهائية ، وتشمخ فيها الهضاب ، وتمتد الغابات في البعيد .
وهي من الأعلى لا تشبه المدن الصغيرة ، وانما هي تشبه الثمار الفاتنة ، والمروج المرحة . انها مدينة الفرح المغمورة بالثلج ، وفيها خطوط متعرجة ، تلتوي وتحلق !
بناءات مرحة ودافئة ، بدون نزوع للخلود ، ونهايات غير متوقعة ، مملوءة بالفطنة ، والممرات المفاجئة ، التي تبدو مثل ترديد ضحكات مجلجلة ، لاتتوقف ابدا عن الضجة .
كل شيء فيها يتحدث ، يغني ويضحك ، أو يصمت باسما !!
لا اعرف بدقة متى استولت عليّ تلك النشوة ، ولا اصدق بأنها سوف تغادرني تماما . وكل ذلك جراء ذلك اليوم الشتوي الاول الذي وصلت فيه .
قبل ستين كيلومترا من المدينة ، وفي احدى المحطات ، كان هناك صبية يرتدون حللا بيضاء ، يبيعون حلوى مدهنة ، وساخنة ، ولم يتبق عليهم سوى اهدائها للناس . أما ذلك النفس الدافىء ذو الرائحة ، الذي تشيعه هذه الحلوى في الصباح ، فهو الذي يذكر برحابة وفرح المدينة، ومن ثم الدخول اليها .
الشوارع والدكاكين تشع بالاضواء ، ولم تكن واحدة منها لتهدأ ، النظر يجذب الانسان من الهبوب . الحافلات ذات العين الواحدة تقطع وتتحشرج . وعلى عربات الخيول ينتصب الحوذيون الطوال المبتسمون ، المصاغون مثل الدمى بالمخمل والفراء . ثلج خفيف مثل الشرارات يفرقع تحت حوافر الخيل ، ويسيل ، ويطرطش الوجوه .
او .. او ,, او
الى اين تمضي ؟
سر الى اليسار
الى اليسار .. اليسار .. ارجوك
الى اليسار .. او .. او
واثناء ذلك كان الحوذيون يتهاترون ضاحكين مثل أي مكان في العالم .
وكانت تمتد على اليمين والشمال – كما في المعارض الامريكية – الدكاكين الموجهة ، والنوافذ اللامعة الكبيرة . تلتمع المجوهرات ، ومن ثم تتقاطر الدموع ، وتبسم الجواهر ، والساعات ، والذهب والكريستال ، ثم تتحول الى الاطايب من الموز ، والجبن ، والسمك المجفف بأحجام انجيلية ، وقوارير صغيرة ، وكل ذلك يعبر بك الى نوافذ يعرض فيها قماش بألوان زاهية ، من الرياش ، والمصاغ اللامعة التي تكتسب معناها وتفقده على الاجساد النسوية ، واخرى فيها كتب وخرائط لكل اصقاع العالم ، ويبدو ذلك في ثواني قليلة .
ويطل الفندق !!!
درجات مضيئة ومريحة ودافئة ، ويهرع فيها الخادم بأدب جمّ ، وابتسامة صغيرة طبيعية ومريحة . ويدخل الحقائب وحسب . مصعد واسع احمر يدل على غرف مريحة ، ويهم بالتحرك الى أن يوقفه الشاب فجأة ، وتدخل امرأة شابة محتضنة فراءها على صدرها مثلما تحتضن حبيب .
ويمضي المصعد بدون هسيس ، عبر الطوابق مثل سطح ضوء حليبي . الشباب واندفاعته المحمومة لايبحث عن مقدمات خاصة حتى يبدأ الحديث . المقدمة اعطاها الشاب ذو الوجنات السمينة والأنف الافطس في المصعد.
( اليس هذا – فكرت بعد ذلك – هو اله الحب الذي صوّره الأقدمين على هيئة شاب )
كانت غرفتانا في نفس الطابق ، وعندما افترقنا في الممر ، قلت لها : كم اثارني ظهورها ! حتى بدا لي الامر كغريب ،بأنه من الممكن أن يحدث وأن اخطىء في معرفة رقم الغرفة .
لايمكنني قول ذلك ، وبدا لي وأنا اتطلع اليك ،بأنك لايمكن أن تخطىء على أي حال من الاحوال .
تخفي المجاملات غير المبالغ بها أي فعل من افعال الحب ، ولها دائما دلالاتها مع أن محتواها غير ضروري .
اختفت هي وراء باب غرفتها ، وكانت تلف الفراء حول وجهها وهي باشّه .
وجلست في الغرفة نفسها بعد أقل من ساعة .
جلست هي على الديوان الغامق ، وكانت ترتدي فستانا بلون الحمام ، وتتحدث وهي تمضغ الشوكولاته . انها ابنة موظف بريد من الاقاليم ، على مبعدة اربع ساعات بالقطار السريع . تأتي الى هنا احيانا حيث مكان اقامة اقاربها . وقررت هذه المرة أن تقيم في اكبر الفنادق لترى ما يمكن أن يطرأ ، واذا ماكان سيحدث لها أي طارىء . وماذا ستفعل ؟ انها – والله يعلم – ، لا تتقن اللغة الفرنسية ، ولكن لديها موهبة تعلم اللغات الاجنبية . وتخاطر ينفسها من اجل السفر . وكانت تحب بشكل خاص أن تتمكن من رؤية جنوب ايطاليا وشمال افريقيا . وعمّها – الذي يملك في مدينتهم الصغيرة بنكا صغيرا – يحبها كثيرا ، وقد وعدها بأن يأخذها الى باريس ، اذا ما كان هناك امر يتعلق بالسفن أو سنحت سانحة اخرى .
الهي العزيز !! لتأتي مثل هذه الاعمال التي لاتعرف اسمها بسرعة ، ولتسنح الفرص اكثر !! لأن من فضائع الامور بالنسبة لها أن تعيش هكذا ، دون أن تتعرف على بلاد الله الواسعة .
كانت هذه من بين تلك الكنوز المخبأة ، التي يفكر بها علماء الاجتماع عندما يكتبون عن القدرات، والخيرات ، والقوى ، والجماليات الخفية ، التي يمكن للاقاليم أن تقدمها للمدن الكبيرة .
كانت تلك من بين لحظات العناد القليلة النادرة ، والجمال الريفي الذي تجلبه لنا مصادفة نادرة ونتذكرها بعد ذلك طويلا .
كانت تلك امرأة جاءت رأسا من مدينة صغيرة ، وقد تجاوزت تقاليدها الريفيه ، ولم تتعلم الجديد المتعلق بالمدن الكبيرة ، ولذلك تقدم بسهولة وسرعة اكثر من الريفيات ، واكثر وافضل من نساء العالم الكبير .
كانت تلك لحظة نادرة في حياة امرأة ، وتستمر لوقت قصير جدا . وظهرت تلك اللحظة امامي . جلست على كرسي غير لائق من المخمل المبقّع ، وجلست هي على الديوان ، واستجوبتني بذلك الهدوء الخاص ، الذي تملكة أي انسانة رزينة ، وحتى لو كانت وحشا في الغابة .
كيف هي الاجواء في المدن الكبيرة ؟ وهل أنني العب الورق ؟ أو اعزف ؟ أو أغني ؟ جميع اهل الجنوب يغنون ، هل قابلت الحكام والامراء ، والممثلات ، ومغنيات الاوبرا ؟ هل رأيت كيف يصنّعون الافلام ؟ مالفرق بين روما وباريس ولندن ؟
مدّت قدميها على الديوان ،وجلست ويديها معقودتين في حضنها ، وتطلعت اليّ كأني طفل جذاب .
رغبت بأن احدثها عن الاحداث الاحتفالية ، والشخصيات الكبيرة ، وكانت تقاطعني كلما وصلت في الحديث الى العمل والمعارك ، والفقر ، أو أي شكل من اشكال الفوضى .
– ماالذي يمكن أن تصارع من اجله ؟ لدينا في المدن الصغيرة منتديات مثل هذه . يذهب والدي مع بقية الموظفين والتجار ، ويقول بأنهم يتبادلون الاراء , أناسا بؤساء ، وعندما يكون لديهم حفلة رقص مرة أو مرتين في السنة ، فانهم لايقدرون أن يلمّعوا الارضية كما يجب ….
وتفقد فجأة وضع الطفل الذي يصغي بهوس ، ويرتدي وجهها تعابير غير متوقعة . يتحول شعرها الى اسواط نافرة ، وتضمر عيناها قليلا ، ويواتيها التماع مصمم ، وتتسع راحتاها ، وتبدو قسماتها اقوى .
رتبت كل ذلك بطريقة اخرى ….
وكنت وأنا اتطلع اليها ، وهي تتغير على هذا النحو ،قد راودني اعتقاد بأنها كانت في حالة ستتوقف فيها ، وسوف تروض كل الهموم والمشاكل الكونية ، وتفرض نظامها عليها .
ولا يمكن تحديد الوقت الذي امضيته في غرفتها ، لأن مثل هذا الوقت لايمكن تحديده بالساعات ، لأنها هكذا وبطريقة غريبة ، غيرت موقفها ومظهرها عدة مرات ، وعرضت على كل شيء بتعابير واشكال غير متوقعة .
هل كانت امرأة نبيلة آتية من حكايات الشرق ؟ أم انها فتاة بائسة قد تلتقيكم وقت الغروب ، وتسألكم بصوت مرتجف : أين ذلك ، أو ذلك الشارع ؟ لم استطع أن اقرر . لقد كان ذلك هو الدرس الاول ، الذي اعطتني اياه مدينة الفرح في بلاد الفرح .
ما اعرفه وحسب ، انها نهضت في عصر ما ، مثل ملكة تعطي الاشارة بأن المقابلة معها قد انتهت . وعندما بحثت عنها في اليوم التالي في غرفتها كانت قد رحلت .
وهاأنا أين ؟ اكتب الى النهاية وبخط صغير كل هذه الرسالة الضخمة ، ولا اقدر أن اصف حتى اليوم الاول ، وبصمت وبهوت . وأين هي السنة الكاملة التي قضيتها معكم يا اصدقائي في مدينة الفرح ؟
انها في داخلي . وبينما اعبر هذه الشوارع الضيقة ، والرطبة ، والمعتمة قليلا ، كما هي في العادة ، تلك التي لايحيا سكانها من اجل الحياة ، وانما من اجل أن يمرّ من تحتهم وقت عكر . انني اتذكر كل يوم وكل ليلة قضيتها في مدينة الفرح ، لأن السعادة من بين كل اشياء العالم تحمينا وقتا اطول ، وتقوي عزيمتنا على افضل شكل .هكذا كتب صديقنا من ايطاليا على الفور بعد رحيله ، وانتقلت الرسالة بيننا من يد ليد !!