قاص من عُمان.
ثلاث صــــور
ثلاث صور يملؤها كائنان، الّلذان يملآن الهوة السحيقة بين معنى الأشياء واللامعنى، يحاولان سد الفجوة العصية على التوقف في الاتساع ؛ لطبيعة في الطين المطبوخ في فرن الإله،كل شيء جامد ما عدا العينين تتحركان في البحث عن زهرة الذنب الأولى التي اختفت بفعل فاعل!.
الصورة الأولى
على يمين الصورة تأتي العصفورة الأكبر، بؤبؤا عينيها مرتفعان، رغم أنها تنظر بارتفاع ساقط وكأنها من علو نتيجة أنها أنزلت رأسها قليلاً، قََصة شعرها بالكاد تلامس جفنيها الرقيقين، شفتها السفلى تَضغطها الشفة العليا لتخرج صورة فمها الذي يشبه الجرح ؛ كفعل استهزائي بما يحدث أو لماذا يحدث ؟، يدها اليمنى تتكئ عليها بظاهر الكف، وكأنها تخفي كفها المشوه الخطوط، الخطوط الشاذة على القاعدة الطينية وكأنها تدرك أن هناك خطأ ما حدث! اليد اليسرى تختفي بينها وبين العصفورة الأصغر فلا يبين منها سوى ثلاثة أصابع ونصف، الأذن اليمنى غابت عن سمع الصورة بينما اَرنبة أذنها اليسرى تختلس الظهور أسفل شعرها القصير.
وضع الجسد في الصورة غير متهيئ للمؤامرة التي تحاك لالتقاط للصورة، فيجئ الساقان ملتفين في أطرافهما بفعل علو الرِجل اليمنى على اليسرى، الرِِجلان اللتين يمتطيان حذاءً بلون البحر، تنحسر فردة السروال القطني على الرِجل اليسرى إلى ما بعد الركبة، ويصل إلى منتصف الساق في الرجل اليمنى وكأن الوردة الخماسية الأوراق تصر على المشاركة ببقعتها السحابية.
ينبسط القميص بلون البراعم الصغيرة بأذنيه على كتفيها ؛ المساوي لهما بداية الزر الأول، والذي يشاركه زران آخران في التبرك بالجسد العصفوري الأكبر.
على يسار العصفورة أو حتى على يسار العصفورة الأكبر تتوثب العصفورة الأصغر ويظهر توثبها من أرنبة أنفها الكرزي، شفتان بلون الكرز…
الصورة الثانية
في نفس المكان يقعيان لكنَّ بصريهما مفترقان، العصفورة التي على اليسار تتكئ بيدها اليسرى فخذها الأيمن.
على الكرسي التي اعتمرته الزرقة،وبنقش مرجاني.ضاغطة على أصابعها حتى منبتهما، ما عدا الإبهام فهي هاربة باتجاه الجسد. اليد اليمنى وضعت أعلى الركبة بقليل. الإبهام مرة أخرى منفصلة الإتجاه عن باقي الأصابع؛التي لا تبان منهما سوى السبابة والوسطى، والاثنتان الأخريان؛اختفتا بين فخذي العصفورتين.
الرِجل اليمنى لا تتساوى مع اليسرى في مستوى الارتفاع؛فاليمنى ممتدة إلى الأسفل بشكل بارز، ويبين ظاهر القدم بشكل عمودي.
العصفورة الأولى التي تقعي على يمين الصورة، سارحة ببصرها باتجاه أفقي، وكأن شيئاً ما يحدث هناك!.
تتداخل أصابع يديها؛متشابكة، ما عدا الإبهامين فهما غير متشابكين؛بشكل قاطع.
تضع ساقها اليمنى على اليسرى من الأسفل، من منبت القدم؛ لتظهر القدم اليسرى بشكل خجول، لا يكاد يظهر.
الصورة الثالثة
العصفورتان تكادان تتفقان على أن حدثاً ما؛ يستحق المتابعة؛ فنظرهما مصوب إلى أمام الصورة نحو الجهة اليمنى، ولكن النظرتين مختلفتان، فالعصفورة الأولى في اليمين، تضغط على شفتها العلوية بأسنانها؛ دون أن تظهر الأسنان.
بؤبؤ العين اليمنى ليس في وسط العين تماماً،فهو يميل إلى اليسار،عكس بؤبؤ العين اليسرى؛فهو في المنتصف،مائلٌ إلى الأعلى. الغريب في الأمر أن العصفورة الأولى في اليمين تتكئ بظاهر يدها اليمنى، وتخفي يدها اليسرى،فلا يبين سوى ظفر الإبهام.
العصفورة الأخرى في اليسار، قبيل أن تحاول وضع كفيها على ركبتيها؛ جمدت الصورة!، لتظهر كفها اليسرى نصف منبسطة أعلى الركبة. بينما كف اليمنى قد أمسكت جيداً بصابونة رجلها اليمنى.
نظرات العصفورة التي على اليسار توحي بحزن أقرب إلى البكاء،وذلك من خلال شفتيها المزمومتين وعينيها المبهورتين بفعل الحدث.
في هذه الصورة (الثالثة) شيء واحد اِتفقت عليه العصفورتان؛نظرتهما المرتابة،تجاه الحدث الحقيقي في الأمام.
الرجل صاحب الحلم
ما حصل بالضبط هو أن عامر رجع إلى البيت قبل صلاة الظهر بنصف ساعة، والذي عادة ما يرجع قبل الصلاة بربع ساعة. لاحظت زوجته ذلك فلم تشأ في البداية أن تسأله، إلا عندما لاحظت أن الساعة تعدت الواحدة بدقيقة وفي هذا الوقت كان لا بد أن يكون في المسجد. تعودت ذلك منه، منذ زواجهما قبل عشرين عاماً.سألته:
– ألن تصلي الظهر ؟
لم يجبها، ولكي يتجاهلها ويقنعها أنه لم يسمعها؛ أغمض عينيه، فأعادتْ عليه السؤال بصيغة أخرى :
– ألن تذهب للصلاة ؟
– متضايق..
غرق في ما رآه الليلة الفائتة في حلمه وأخذ يستعيده جيداً لعلّ تفكيره يوصله إلى معنى يفضي لتفسير الحلم، أخذ يتهجى الحلم بصوت خفيض: كنت أمشي في وادٍ وأضع بذوراً فيه وحين انتهي من نثرها تنبت وتنمو وتثمر في نفس اللحظة، ثم ينقطع الحلم..
أقلقت المرأة حالة زوجها، فقررت أن تخاطبه بعد الغداء قبل أخذ قيلولته، سوف تداعبه وتمسد على ظهره وتقبله ؛ وتضع رأسه على صدرها، وستسأله حينها عما يشغل باله.
تناول عامر الغداء دون أن ينبس ببنت شفة، حتى أنه لم يرفع بصره عن صحن الأرز الذي أمامه، وحاولت زوجته أن تخرجه من صمته الذي أصبح ينمو بداخلها على شكل بذرة مقلقة.
– ألن تتكلم؟. قالت.
بدا لها، وكأنه يهم أن يجيب ولكنه لم يستطع أن يجيبها، وهي بدورها لم تحاول أن تكرر له السؤال.
حاول أن يفتعل النوم. تململ في فراشه. ما يقلقه ليس الحلم بحد ذاته، بل أن ينام ويأتيه الحلم مرة أخرى، وفي نفس الوقت، أحس بإعياء نفسي يكبر في داخله.
بعد مكابدة ما يقارب ساعة؛ أحس عامر، أن النوم بدأ يتسلل إلى عينيه؛ حتى انطبق الجفنان.كان يمشي في وادٍ ويضع بذوراً فيه، وحين انتهى من نثرها،نبتت ونمت واينعت؛ رؤوس صغيرة لأجنةٍ لا تتحرك.
عواش
ها أنا الآن أقف بعد دورات الترنح الزمنية التي استمرت ثماني سنوات، وأنا أسعف ذاكرتي على حمل الإثم الفكري الذي يثقلها. ثماني سنوات وأنا أحاول صياغة الوجع المستمر في مفاصل ركبي، لكني لم أكن متخاذلاً أبداً…
عواش الملعونة– كما كنتُ أناديكِ؛ عندما يداهم الحزن روحكِ المرحة، كمزحة ثقيلة لا يعرف فك ألغازها سوانا. ما زلت أحمل تفاصيل جسدك، المبتهجة في الغياب، أيتها المارقة عن قطيعك المتعفن بالعادات المنتنة على مر التاريخ الجسدي.. يا للعرب الأشاوس، يا للذكورة المخـ….
عواش ها أنا أقف الآن ضد من سرقكِ مني ؛ ابن الكـ…..
سأخاطبكَ الآن، نعم الآن سأخاطبكَ علناً، على مرأى من العالم.. أعلم أنكَ من اللصوص الأشاوس الذين سرقوا الفرح، فلتهنأ أنت والزبانية؛ سرقت النار!؛ لكن أن تسرق عواش من قلبي فلا، سأجلدكَ الآن علانية كما جلدت قلبي سراً، وكما حملتُ نغصي الملتهب إكراهاً.
الحكاية المتبقية..
كانت هانئة ووديعة معي، لا تتشرط كثيراً، ولم تكن غبيةً أبداً، نعم لم تكن غبية، حتى وهي تعنكبني في قلبها، أعلم أنها لم تكن تعني فيالحقيقة ما قد فعلت، لكن ابن الكـ..
كنتُ اَشتري لها ما تحتاجه، رغم فاقتي، وقلة ما في اليد، ولكن لم تقترب يدي من الحرام، كما يفعلون بنا..
اِعلمي يا عواش أنه قد فات الأوان على كل ما حدث، ولكن حبي لكِ هو ما يلزمني أن أكتب إليكِ الآن.كم ذرفتُ الدمع بعد أن خرجتُ من المستشفى الذي ترقدين فيه، وسأعترف أني كابرتُ انهمار دموعي أمامك ليس خشية من أن تشاهدينها، ولكني قاومت حزني حتى أشد من عزيمتكِ المنهارة. أي عقل أعوج صنع من جمالكِ وإنسانيتكِ وأوصلكِ لحالتكِ.
حسناً.. عواش؛نائمة في إحدى مستشفيات مسقط، تعاني من مرض السرطان؛ لقد نهش جسدها نهشاً، فلقد قُطِع نهدها الأيمن، وحسب الصور والفحوصات الأخيرة بدأ ينتشر في خلايا النهد الأيسر. يا إلهي كيف كانت صبية تختال، عواش اِبنة حينا،يا اِبنة أكابر العرب؛ البيضاء الممتلئة التفاصيل. أتذكرين عندما قلتِ: فضحتني. كنتُ أحفر اسمكِ على جذع كل شجرة تصادفني!.
كيف أقنعكِ، بأن تدخلي قلبه؟
هي صفقة ما، أم ماذا؟
أخذ مُراده منكِ؛ وترككِ تواجهين مصيركِ، عزلاء. هل عرفتِ لماذا خرجتُ مسرعاً من غرفتكِ في المستشفى؟ بعد أن أجهشتِ بالبكاء، وأنت تخرجين جملتكِ؛ التي جعلت الدماء تنفر من جرحي الغائر، عندما قلتِ: أنت ما تبقى لي..وضحكاتك الغائرة؛ أحملها في صرة صغيرة داخل قلبي؛المتداعي بسببالمرض والحزن.
عواش التي كانت تقنع بكل شيء، عواش التي كانت تحمل نشاط عشرة رجال أشاوس، عواش التي تحمل من الجمال والأنوثة، عواش الرقيقة، عواش التي تحمل قدراً من الوعي، عواش التي تشبه نخلة بلادي؛ صابرة مثمرة شامخة تهتز بغنج كلما داعبتها طرفة عين، أو كلمة رقيقة.
لماذا جعلتِ السافل يعاملكِ كمتعة؟.
لماذا تركته يعبث بسواقيك،ليسقي سيوح لذاته العطشى؟.
لماذا أتحتِ له فرصة أن يحضنكِ؟.
لماذا تركته يسقي أرضكِ؟.
اعذريني على هذا الكلام المتداعي نحوكِ، هو في الأصل مصوب له هو.. نحوه تماماً حتى تندك قلعته الرملية التي يتمترس خلفها؛ بحقده وغضبه ونزقه وادعاءاته، والتي يخفي تحتها شخصية، المتطرف والعلماني والليبرالي واليميني واليساري والمتدين والملحد والمعتدل؛ يعيش كل تناقضاته القبيحة، وحياته المفتعلة،وأمراضه النفسية والجنسية!.
مزاجي لا يسعفني أبداً أن أذكر أيامنا التي رسمناها على نجوم قبة الكون؛ المتغامزة في الليل بتواطئها معنا، ممزوجة بضحكاتنا، ونكاتنا البذيئة تارة.
ما زلتُ احتفظُ برسالتكِ لي يوم السبت الموافق 5 أكتوبر عام 2002م في تمام الساعة 7:45 دقيقة مساءً..
كانت رسالتكِ قاسية لكأن عظامي دقت بين صخرتين على مهلٍ:
« حبيبي لم يخالجني شك في حبي لكَ، ولم أكن أشكُ في حبكَ لي، لكن حتى يعيش حبنا أكثر..وحتى لا نحترق.. سنفترق».
لم أناقشكِ فيما حدث..،لأني علمتُ بعد فوات الأوان؛ بمؤامرة المتسلق الذي سرقكِ، ورماك في إحدى مستشفيات مسقط، عزلاء ينهشك السرطان والحزن، وحيدة إلا من صرة صغيرة تحملينها في قلبكِ.
كائنات حانة اللؤلؤ
الطاولة الثانية..
نظر إليه بعينين شبه مطفأتين، كرع من علبته. دار وجه الرجل المقابل لهفي خلايا دماغه،وهو يتساءل من هذا؟!.
كرع الـ(جوديس) فشعر بمرارة مذاقها تنساب إلى جوفه،صعد الكحول من معدته إلى دماغه،قفز وجه الرجل المقابل له إلى وعيه مجدداً، محاولاً أن يتذكره. رفع العلبة ودلق ما تبقى فيها في جوفه، نظر إلى الرجل مرة أخرى. اِنتبه إلى أنه يختلس النظر إليه، ضغط على تقاسيم وجهه.. نعم أعرفه، لكن من يكون؟.
سنينه الثلاثون التي قضاها، في الضبط والربط؛ خرج منها ومعه ستة أطفال، ودين أثقل كاهله، ورغم أنه قنوع وبسيط، ومشى طوال سنينه هادئا ومطواعا، لم يتمرد حتى على نفسه..
شاهد نفس الرجل بعد أن غفل في التفكير أن نظره مصوب جهته؛ بتمعن. إنه الآن غاضب والكحول بدأت تشتعل في دمه، بشكل يجعله يتصرف بلا حسابات. جال في رأسه: لماذا أحسب لأحد هكذا حسابات؟ هو يضايقني.. نعم يضايقني، ويتلصص على شيء ما أمارسه، لا بد من إيقافه..لا بد من ذلك. نهض وأشار له بسبابته ومن ثم أشار إلى صدره: أنت، هل تعرفني؟
صمت الرجل. لماذا لا تجيب؟ إليك: أنت جبان وحقير، ماذا تريد؟. فجأة نهض الرجل، وهمس في أذن رجل أمن الحانة. أقتيد من يده، وسط شتائمه، المتلاحقة، وتوعدات متتالة، بحيث خرجت الجمل غير مترابطة، وغير واضحة في بعض الأحيان.
الطاولة الخامسة
رجلان متقابلان أحدهما يعتمر كمة ودشداشة؛ بعمر لا يقل عن الستين، أما الآخر فكان أصلع ويرتدي بنطلوناً وقميصاً رياضيين من النوع الرخيص، الذي لا يتعدى سعره الثلاثة ريالات، عمره حوالي في منتصف الخمسين. دون أن يكون هناك حديث متواصل وبعد صمت ربع ساعة، قال الرجل الخمسيني:
– صدقني أنا أحترمك، وأعزك..
– أحسنت. لم يردف غير تلك الكلمة، وكأن هناك اتفاقاً ليواصل الآخر كلامه.
– والله واجد احترمك.. أنا أخوك الصغير، أو أنت مثل أبوي، ليش لا.
– سمع نته..
– كيف اسمع أنا.. أنا اقولك أنا احترمك، وانت تقول سمع نته؟!.
– مو أقولك؟ عادلك ساعة وأنت تردد هذا الكلام..
– يعني نته ما تحترمني؟
– يا أبوي احترمك.
– كيف يا أبوي.. أنا مثل أخوك الصغير،كيف تستهزابي؟
– أعوذ بالله..
– كيف أعوذ بالله، كيف؟ إنته شايف شيطان؟ الحق علي أنا اللي جالس احترمك.
– أصلا أنا عارف أنك تحترمني، بس فتح سالفة ثانية..
– خلاص زين ما تزعل.. تذكر أول مره خبرتك عن ذا المكان؟
– ايوا عارف وجينا مع بعض..
– وايش بعد؟
– كيف ايش بعد؟
– قايلك ما تذكر.. يوم دخلنا ما صدقت أنه القوطي بثمان ميه، تراه أنا قديم في ذي المنطقة، شايف خلف هذا المكان يوم أنا ساكن كان ما حد هنا، الحين كلهن الأراضي سلطوهن..
قاطعه.
– يا مراد قايلك ما تذكر حد وإلا أروح..
– كيف تهددني؟ أنا ما أخاف إلا من رب العالمين.
– كلنا نخاف من رب العالمين
– لا ما كلنا، هاذلا ما يخافو رب العالمين.. وإلا كيف يأخذوا..
قاطعه مهدداَ بالمغادرة.
– يا أخي قايلك، بسك ما تشرب واجد، لأنك دور تهذي.
– أنا أهذي لما أقول الحق، أهذي..
– يا الله مع السلامة. غادر بعد أن رمى على الطاولة قيمة ما شربه.
أدار مراد رأسه، بعد أن شاهد نديمه يغادر، وأوصله بنظره حتى خرج من الباب. عب من العلبة التي في يده، وقال:
– روح..لا،.. أنا صحيح فقير ما عندي شيء، بس ما أخاف إلا من رب العالمين.