-1-
وعدتكِ أن أعود و في عينيّ شمس
و ها أنا أمامكِ فماذا ترين فيّ ؟
عاد « الخارجيّ» الداخليّ» المتوحد
بعد أن غادر قافلة أجداده
وهامت به ناقته في هجير الصحارى
وها هو أمامك
ماثلاً في بلاط عينيك
توهّمك مجدًا ، صولجانًا ، عرينًا
فماذا كنت؟
-2-
توهّمك سريرًا
نافذة تعانق شطآن «جبيل»
فيشرب نبيذ العشق
ينصت لموسيقى البحر
ويلوّح بيده لمسافر غابت سفينته
-3-
ها هي أطلالك متناثرة
كيف أجمعها إليّ ؟
هل كل ما مرّ بنا رحل عنّا ؟
أسمع بقايا ضحكات اختزنتها الصخور
وأتذكر أعيادًا انغمرنا في طقوسها البيضاء
كانت الدنيا لنا ، و كنا للدنيا نداء
أما الآن فها أنا هنا
أستجدي الشواطئ الحبلى
علّها تلد ضوءًا و نشيدًا
فأنا عييّ ، يسوّرني قيد غريب
أتوسلك لتطلقيني نورسًا
أو أغنية .
-4-
وعدتكِ أن أعود و في عينيّ شمس
ها أنا هنا
فهل أخذ الكسوف وجهي ؟
ذات يوم كنت هنا
و كانوا هنا جميلين مثل الغزلان
ثم ذهبوا ، لكنهم ماكثون في هذه الذاكرة الولهى
كانت هنا «ليلي عضم»
بأناقتها المترفة
تعيش انتظار شاعرها الغائب
متوهمة عودته فتضاء ذوق «مكايل»
لكن شاعرها لن يأتي
ذات يوم كان هنا توفيق يوسف عواد
يبحث عن جواب لتلك الفاتنة و هي تسأله :
«على فين يا ختيار ؟»
لم تعرف ان الخضرة تسكنه
و أنه ماضٍ إلى امرأة
ماضٍ إلى موعد صافٍ بعيدًا عن «بحر صاف» .
ذات يوم كان هنا يوسف الخال
عباءته تدثر كتفيه
يحتسي كأسه بأناة أمام الموقد
كانت « غزير» تنبض فيه
و كانت لحزنه أجنحة من غبار
-5-
وعدتكِ أن أعود
و لكن يا «تلك» هل نفثتِ في وداعة آهة ؟
تأملي هذه القامة المعاندة
و اسألي : أي تاج تباهت به ؟
شعر غزاه البياض بشماتة رعناء
إلا القلب وحده من أفلت من مكيدة العمر
ها أنا هنا بكل هزائمي
و لا نياشين أتباهى بها
أختال بها أمامكِ
-6-
ذات يوم هناك في بغداد الجرح
تأملني صاحبي «الديري» بعينيه الماكرتين
ثم نطق : يا هذا أنت تلاحق ما كنته
نحو ما ستكونه
تستبدل «جبيل» بـ«قرطاج»
وستكتب نشيد «أليسار» الملكة
قل لي : أي هوى أصابك ؟
أي هوى غرسك في هذا الزفاف ؟
« أليسار» إلى قرطاج
صور إلى فسحة المتوسط السمحاء
قرطاج إلى جبيل
و أنت إلى أين ؟
أسكرني يا «ديري» عشقي المشبوب
سل ابن رعد و ابن موسى و ابن زغيب
سل «صربا» و«بكفيّا»
سل «جبيل» .
-7-
في هذا البلد-البستان
تزهو الرؤوس بأحلامها
من هنا تغادر بعيدًا
تذلل البحر و توقف عناده
هنا بشر لا يخشون الجغرافيا
لكنهم يهابون التاريخ
كانت «جبيل» و مازالت كما كانت
لم يسلبها أحد اسمها
كلهم مروا بها و ذهبوا و بقيت هي
جبيل…جبيل…جبيل
اشوريون و بابليون و فرس
اجتياحات و أوهام بفتوحات
اغريق و رومان و بيزنطيون
صليبيون و أيوبيون و عثمانيون و مماليك
ذهبت الأبجدية بحرًا و برًا
إلى هناك حيث الأقاصي
من هيروغلوفية مصر ومسمارية وادي الرافدين
ومن عبقرية هذا «الجبيلي» اللبناني الأرزي
سطعت الأبجدية الفينيقية
هبة للدنيا .
هي المعجزة
هي الشروق
-8-
من يراكِ تُمتشق فحولته
أنا رأيتك فتموسقتُ
أقول سلامًا
فيأتيني جيش فراشات
أشمّ رائحة المسك و البخور
كأنني في «عنّايا»
حيث يرفرف الصمت المهيب
وعصافير الله تزقزق حبورًا
أمرّ برهبان هادئين يسقون الكروم العامرة بالعناقيد
كنت مشرقاً بزهوي
أنقل خطوي على « نوطة» رسمها صوت راهبة بهية .
ناديتُ: ها هو السومري يا «عنّايا «
حفيد جلجامش العظيم الباحث عن خشبة الخلود
لم يأت غازيا بل أتى عاشقًا
فافتحي أبواب حدائقك
لنتجمع نحن المتيّمون
لنصوغ قاموسًا جديدًا
به نجدد اللغة ونثري الشعر منثوره وموزونه.
تعلمنا من لبنان
ان البحر بساط أحمر
هو طريقنا نحو التوسيم
و ها نحن في هذا الكرنفال
-9-
يا «تلك»
ها أنا هنا ، عودي لنعيد ألقنا القديم
لا تأبهي لبياض شعري فالجسد حيّ نابض
لنشبك الأيدي
لندبك جذلين كما كنا نفعل في «مارولا»
ارفعوا صوت وديع الصافي بالموال
و ليترنم نصري شمس الدين بالنغم الرحباني
لتشرق «الميجانا»
واتركوا لـ«الصبوحة» مسافة
فالغناء كله لنا
لتتناسل مواويل الفرح
مثل الينابيع
يا ميجانا يا ميجانا
أعيدوا لنا أحبابنا
لم يتبدد نشيدنا و يذهب سدى
ها هي حروفه ناضجة كالعناقيد
يا ميجانا يا ميجانا
هل ضعنا ؟ أم ضاع منا أحبابنا ؟
هذا النهار لنا
لندبك «جذلين»
كعشاق قرطاجيين يأخذهم مدّ الإيقاع
على «مِزْوَد» مغن مجنون
-10-
تلعثمت بأبجدية الحب الفينيقية
تعاندني و أتوسلها
أنا السومري البابلي
الاشوري الكلداني
المشرقي المغربي
أنا المضمخ بعطور مجد متواصل
لم تسلبه الهزائم و الردات
إرث جدي نبوخذ نصر يثريني
و كذا ابن عمي جلجامش
و مرشدي حمورابي
و حارسي اشور بانيبال
أعدت حروف أبجدية هذه الأرض مليون مرة
فاستقام لساني
حفظتها عن ظهر قلب
حملت ربابتي ومضيت
مثل مغنّ غجري جوال
و صرت أغنيها فينضم
إلي المهمومون
أطوف بها القرى و النجوع
وانتهى مطافي هناك في قرطاج
فلتطمئن « أليسار»
فانا لم أمض إلا في إثرها .
لم أبحث إلا عن ظلها…
عبد الرحمن مجيد الربيعي