كانت حركة لسانك رسالتك الواضحة، وهي رسول جوعك بينما أتحاشى سماع لسانك وهو يصدر صوت مضغه..تكرر الصوت ذاك وبدأ معه بكاء متقطع ..
أفتح قنينة الحليب وأستجدي قعرها عله حفظ بعض ذرات حليبك المجفف غير أن قعرها الأستيلي كان يلمع وبشدة..
آخذها بيدي بدون غطاء كبرهان استجداء عند بقال الحي، أغادر مأوانا وقد تركتك مع أخيك الذي يكبرك بثلاث سنوات ونصف.. كان يصرخ كي يشعرني برهبة مكوثكما بدون رفيق في البيت..شددت على الصوت في أذني كي لا ينفذ إلى مسامات الأبوة ؛ ولكي آتيك بعلبة حليب جديدة..
أوصدت باب الشقة قاطعا صراخ أخيك , وهرعت أقطع أضواء الشارع العام ورجائي تتناثر أفكاره سابقة أقدامي، أقف باسما أمام « كاونتر» البقال.
كنت أقطع شكوكي بعدم إعطائه لي بأن رفضه الدائم لإدانتي آتية من كون طلباتي كانت لاحتياجات الكبار من بقوليات وسمن وبيض، وأدت شكوكي في الطريق وعلبة الحليب الفارغة تصرخ بصدى صوت طفل جائع..
أشرت لصاحب البقالة الممتلئ من آثار حليب النيدو الذي كان يأتيه بالكراتين وحشرت عبارات الاستجداء والعطف بما فحواه (طفلي جائع..علبة حليب واحدة وحالما أنزل شهادتي المحنطة في جدار غرفتي سأضع بين يديك ثمنها).
كان لسانه الذي ما زال بياض الحليب يصبغ سطحه قد صد رجائي باستهتار رفضه :
– قل لما يكبر الولد ويخالف طريق أبيه سوف يسدد.
ابتسمت بالعاً سخريته هازا برأسي:
– إن شاء الله..
ورفعت قنينة الحليب باتجاهه لأخبره بنوعية الحليب وأردفت قائلا:
– هي نوعية رخيصة سعرها فقط (900) ريال يمني .
رد يدي وعلبة الحليب مشيرا:
– اذهب احلب الكلبة، أو جيب ثمن علبة الحليب
بلعت عبارة كانت تنحصر بالوعد، وحشرت جسدي بين أيادي المبتاعين متاعهم لسمر ليلة الجمعة البئيسة تلك، هششت كلبة البقّال وأنا أنظر إلى أثدائها الممتلئة وإلى ما رمى لها البقال من مخلفات..
أقصد البقالة تلو الأخرى مرددا توسلاتي, وصراخك يطاردني وصوت أخيك يشاطرك البكاء مذعورا،كان ردهم بعدم المقدرة تارة كون ما يخرج من المحل يسجل آليا, وآخرين كانوا أكثر لباقة أن أخبروني بعدم وجود هذا الصنف من الحليب لديهم كونه رخيصا لا يطلبه أهل حيهم الفارهون.
أضغط وأنا أتنقل من محل إلى آخر على ذاكرتي لأستحضر ما تفعلونه الآن.
كنت أخال لهب الشمعة يهتز فؤاده فيرقص كي يلاعبكم فتصمتون..يحرق جوعك سهوي الخاطر فأعاود التوسل.
كان البعض من بقالي المدينة لا يصدق كلامي ويقوم بمقارنة سريعة بين هندامي ورجائي، فيخالني محتالا ويردني دونما نظر لجوف علبة الحليب الفارغ كبطنك.
صار يفصلني عنكم أكثر من بضعة عشر بيتا.. ومع كل بقالة كنت أدخلها تكثر خيباتي, ويزداد قنوطي ولكن بأي وجه أعود لك، وكيف أشبع جوعك الصارخ..كم دمعة من عينيك كافية لذبحي .
أعود لاهثا وقد أغلق بقال الحي متجرة، حتى كلبته السمينة غطت بعد عشائها في نوم عميق .
هدوء عم الحي إلا من إضاءات السُمّار الخافتة، شخير المتخمين يعلو حينا على تقطعات بكائك المرهقة. غير أن صوت أخيك الأشد عودا كونه قد سبقك في امتحان الأيام يفوز على ذاك الشخير الغليظ..
يائسا رميت علبة الحليب الفارغة بحنق فأصدرت صوتا أحدث في مسمعك أمانا أني قد استبدلتها بأخرى..وفعلا هذا ما صنعت..
كان رحيما جدا أنه لم يجعل استجدائي يطول, ولا بادل رجائي بسخرية كالبقالين. على محياه سنابل صفراء تنتظر حصادها، هززت راجيا عنق السنابل, وطلبته علبة أصغر حجما غير أني رجوته أن تكون عالية المفعول والأداء. كون رحمتي الأبوية لا ترتضي لكم عذابا أكثر في استقبال ملاك الراحة والنوم الأبدي..
هاهي في يدي، قنينة عبوة 45 مل عالية السمية.
كنت أودع وأنا عائد سخريات كثيرة وخيبات أكثر، أبتسم حانقا في وجه أبوة فاشلة،وأفرح بأني سأقطع دابرها بعد هنيهة، أنفخ بأعلى مقدرة أمتلكها وأطفئ شموع السماء الحمراء وأصرخ في أزقة الشخير حتى أفزع هناءهم ولو للمرة الأخيرة . حتى الكلبة السمينة أفزعت منامها بوعدي لها أنها حتما سترى آخرين يرسلهم سيدها ليحلبوها ولن يتأففوا كما فعلت، بل سيشكرون صنيعه ويرحمون امتلاء أثدائها التي ازداد ألمها يوم أن تخلصت من صغارها ..
قبل أن أطأ عتبة البيت الممتلئ بالصراخ هززت القنينة الجديدة حتى تختلط سميتها المركزة في قعرها.
كانت خمس قطرات كافية لإطفاء صراخ شهورك الخمسة ولسانك تضع مضغتها الأخيرة التي حفرت لي قبرا من عذاب..
بسلام أغمضت عينيك اللتين كانتا تحفران في وجعي بعمق عن سر هذا الحليب الذي قطع أمعاءك الرطبة . وبالتفاتة سريعة مسحت من عيني أخيك دمعهما وضممت فزعه إلى صدري، فتحت فاه ووضعت فيه بضع قطرات أكثر من قطراتك قليلا مع احتفاظي بالوتر طبعا « فالله وتر يحب الوتر»، وختامها كان في جوفي، أفرغت ما تبقى من قنينة الوتر تلك وعضضت بأسناني على فمها كي أفرغ رحمات صاحب المتجر..
مر كان طعمها…. كيف لم ترفضوا ابتلاعها صغاري؟.. أوما كنتم ترفضون بلع الدواء المر من قبل؟.
هل كنتم تنشدون الرحمة كما أبيكم؟ أو كنتم ببلعكم الهادئ ذاك تصلون لنشيد الخلاص، وترجون فجره.
كان أخوك قد أصدر صوتا موجوعا لم تصدره أنت جعلني أستعجل خلاصي قبل سماع أنات أكثر من أخيك قد تجعلني أجبن عن الولوج في محراب الخلاص ذاك..فجأة شعرت بارتطام كتلة دافئة من الضوء بي قطعت شياطين ملهاة الألم تلك.
صوت وجعي قطع نحيبي وشل حركة حثيثي إليكم . تجمع جمهور السائقين من حولي وهم يهمون بلم حطامي من على الإسفلت، وأنا أتابع بنظري دحرجة علبة الحليب وأخشى أن يكون غشاء أمانها قد انفتح فيتبعثر حليبك المجفف.
لساني تعلقت به جنود باردة وشل نطقه، أهم بيدي لأشير للمتجمهرين باحثا عن علبة الحليب المتدحرجة فما عادت عالقة بي ولا أدري أي واحد منهم قد حملها.
لا يزال صراخكم يحفر في وجعي مجددا ويستحث عودتي . يحملني المسعفون شمالا وأهم بمخالفتهم الوجهة فأنتم يميني وصراخكم دليلي.
أحسست بدفعات دافئة تخنق أنفاسي وخيطها يعبر شفتي؛ فيجهرون بحتفي وعدم الجدوى من حملي شمالا للمستشفى. فأسعد باستنتاجهم , وأتمنى أن يؤمنوا به ويعودوا بي إليكما؛ لأسكت صراخكما.
أهم ببلع ريقي فتمنعه كتل حمراء دافئة تقفز بشراهة من فمي، من زجاج سيارة الإسعاف تتعلق عيناي – آخر ما تبقى لي القدرة على حراكهما – بعلبة الحليب المتدحرجة وكلي رجاء أن تدرك طريقها إليكما؛ لأغمض عينيّ بسلام.
حامد الفقيه