وقفتُ على باب الحجرة وفي يدي طبق الطماطم المسلوقة، كنا في أواخر تشرين الأول، منتصف الخريف الماضي، كانت ترتجف على سجادة الصلاة بوجه زاده شحوب الضوء نحولاً، وقفتُ حتى أتمتْ الركعة الثالثة وجلستْ للتشهّد، تلفتتْ للتسليم 6 مرات متتالية، اتكأتُ على الجدار المجاور الباب كمن يعرف أنه سينتظر طويلاً.
أعترف بأنني مازلت عالقةً في اليوم الذي سبقتِني للصلاة حين كنت في السادسة، كنتِ قد علمتني الصلاة في ذلك الأسبوع، طلبت منكِ أن تنتظريني حتى أتوضأ وأصلي معكِ، أذكر جيداً أنكِ أومأتِ موافِقةً برأسكِ المغطى بالرداء الأبيض المشجّر، ولم أنسَ أني حين عدت كنتِ في الركعة الثانية من صلاة المغرب، أختي جمانة بجواركِ وأنتِ تسبّحين في الركوع. كنت أنتحب بصوتٍ عالٍ بينما كنت ترفعين نظرك للسماء امتعاضاً وتتابعين الصلاة. يومها رفضت أن أصلي لوحدي، وأوسعتني ضرباً لذلك.
لعلّي كنت سأنسى ألم كتفيّ وظهري في ذلك اليوم، ووجع العضلات الذي استمر لأيام، حتى البقع الحمراء التي تركتها قبضتكِ على ذراعي كانت ستتبدد سريعاً، لو أن صدى عتابي لكِ لاقى ردة فعل أخرى، غير عبارتكِ: «تستحقين ذلك»! ولو أن أختي جمانة لم تغطِّ نصف وجهها الصغير المتغضن بيديها، لو أن نظرتها الهلعة المشفقة لم تشطر قلبي.
كانت دموعي وقتئذٍ أشبه بمطر الصيف، نوباتٍ قصيرةً من وابلٍ غزير يجف سريعاً، لا أدري إن كان ذلك لأن وعيي بالألم كان لا يزال محدوداً، أو لأنني كنت أقدَرَ على كبح جِماح ثورته. كل ما أعرفه هو أن دموعي صارت بمرور المواسم أشبه بمطر الخريف، طويلة، بطيئة، تخلّف بللاً لزجاً في عتمة تكاد لا تنجلي. في الحالين كنتِ حالما ترينني أبكي تستشيطين غاضبة، وتسألينني «لمَ تبكين؟» بنبرة استنكار مزعجة كما لو كان بكائي نوعاً من العقوق وقلة التقدير.
نبّهني هذا الخاطر المفاجئ على أنني لم أتمكن بعد من تجاوز أشياء كثيرة على الرغم من ضآلتها، لعلّ أصعبها تجاهلكِ لبكائي. ما زلت أتساءل مثلاً: كيف كان بوسعكِ تركي يوماً وأنا أضرب الجدار بقبضتي المتهالكة، لتعودي إلى طيّ الثياب بهدوء؟
لم يكن صعباً عليكِ أن تديري لي ظهركِ حين عدت باكية من المدرسة في اليوم الذي احتفلت فيه بعيد ميلادي السابع، بحجة أنه ينبغي لي أن أشكركِ على ما فعلتِ عوضاً عن عتابك. يومها احتفلت معي زميلة تشاركني يوم الميلاد ذاته، كانت ترتدي ثوباً زهرياً مذيلاً بالدانتيل، تحتضنها أمها وهي تطفئ الشموع الست، وتوزع حلويات مثبتة على قواعد ورقية أنيقة، في حين كنت من دونك، أرتدي مريلة المدرسة، أوزع على الحاضرين حلويات رخيصة، بملامح واجمةٍ وعينين تهربان من أعين الجميع. عرفت منذئذٍ أن عينيّ ستفضحانني دوماً، وأنني لن أنجح يوماً في إخفاء الدم الذي يسحبه الخذلان من وجهي، ويضخه في عينيّ المتورمتين على الدوام.
لم أكن أخفي شيئاً حين كنت أغلق باب حجرتي على نفسي، كنت أنأى عن حفلة الزعيق التي تقيمها أخواتي في أوقات مختلفة من اليوم. أعرف أنهن لم يكنّ مثاليات في نظرك، لكنني كنت أقلهن حُظوة لديكِ. أنا لا أقلُّ جمالاً عن ريم، ولطالما كانت علاماتي الدراسية أعلى من علامات جمانة، إلا أن شيئاً من هذا كله لم يشفع لي. في الليل كنت أغلق باب الحجرة لأتأمل النجوم الفسفورية الملصقة على السقف، أو لأقرأ كتاباً بلا مقاطعة، ومع أنني أخبرتك بهذه الأسباب إلا أنها لم تبد مقنعة يوماً.
كان لانطوائي فقرة ثابتة ضمن حديث العائلة على الغداء. تتناولينها بالنقد، وأصبح موضع سخرية أخواتي، بينما يوجه إلي أبي نظرة طويلة لا أفهم مغزاها. فيما بعد صار كل نقد يوجه إليّ بمثابة وصمة تستثير وجداني كله. كما لو أن ذهني لم يعد قابلاً لتفسير المديح إلا على أنه سخرية. تدفعني السخرية لليأس أو القلق أحياناً بينما توجهني لبذل مزيد من الجهد في أحيان أخرى.
عندما يُطري ابني عامرٌ على ذوقي في اختيار قطعة أثاثٍ جديدةٍ مثلاً، أجدني أتفرّسُ في وجهه بحثاً عن أمارةٍ أميّز بها صدقه من كذبه، فأسأله: حقاً؟ ما هي القطعة التي أعجبتك على وجه التحديد؟ أو مهلاً.. إذا كانت جميلة فعلاً فلماذا انتبهت لوجودها الآن فقط وليس منذ شهر حين وضعتها على الطاولة لأول مرة؟
أنجبت عامراً على مَضَض، بعد تردد دام سنوات حول مسألة الإنجاب، إذ لم تستهوني فكرة العناية بكائنٍ يستمد مني عيوبي الوراثية، ويتكئ علي في طعامه ونومه وتعلّمه للنطق والمشي، وتصبح حياته الصغيرة محور حياتي.
كم كان يشبهني حين كان في الرابعة من عمره، كان يبكي كلما تركته في الروضة، كنت أضطر للبقاء معه لساعة على الأقل ريثما تتولى المعلمة إلهاءه فيما أنسحب أنا ببطء من قاعة الدرس. فطن لهربي قبل تمامه ذات مرة، فشرع يصرخ باكياً بصوتٍ عالٍ وينطح الهواء برأسه وقدميه. تكهنت بأنه يبكي ظناً بأنني سأتركه في المدرسة إلى الأبد. حاولت إقناعه بأنني سأعود لأخذه من الروضة كل يوم، وأنه ليس بوسعي التخلي عنه، فتبدل صراخه اليومي إلى نشيجٍ هادئ.
ظننتُ أن عنايتي الفائقة به ستؤهله لاجتياز سياج الحياة الطويل بأقل قدر ممكن من التشظي، وأنه سيكون مغتبطاً على الدوام بأم تحبّه بإحساسٍ عالٍ بالمسؤولية، لكن عامراً تغير منذ ذلك الحين، بات ينزعج مني حين أصرّ على أن يأكل، وحين أضع رأسه في حجري بينما هو يتابع التلفاز، صار يتهرب من الجلوس معي أحياناً بلا سببٍ واضح.
لا أعرف ما الخطأ الذي ارتكبته في حقه ليعاملني بهذه الطريقة، لعلّي غفلت عن أمرٍ ما. أعرف أن الكلام عبءٌ بالنسبة إليه، وأنه لا يجيد الإفصاح عما يدور بذهنه في كثير من الأحيان، لكنني أحاول مساعدته حتى في ذلك. هو غريب الأطوار أيضاً، في بعض الأحيان يغضب لمجرد أنّي ألححت في الاتصال به هاتفياً للاطمئنان عليه، وعندما نختلف على مسألة ما، ينزعج حتى حين أقول اجلس لنتحدث في الأمر، أو افعل ما تشاء. تقلقني فكرة أن يقوم بأي شيء من دون علمي، أو أن يحتاج إلي ولا يجدني، لكنني لا أعرف حقاً كيف أتصرف.
لطالما تمنيت أن أكون امرأة قويّة وحازمة مثلك، بضمير أكثر يقظة وقسوةٍ أقل. لو كنتِ في محلّي لعرفتِ كيف تتصرفين حتماً. أحكي لعامر عنكِ باستمرار، ولا أعجب من استغرابه من الاختلاف الشاسع بين شخصيتي وشخصيتك، أفهم من بعض تلميحاته أنه يتمنى لو كانت له أم تشبهك، يحدث ذلك في المرات القليلة التي نجلس فيها للحديث معاً.
منذ بضع سنوات، حين تجاوز عمركِ التسعين، ولم يعد وجودكِ معنا في البيت ممكناً، لأن أدنى صوتٍ في المنزل كان يوقظكِ من سباتك الخفيف، وتبدئين بعدها بالدندنة، والضحك، وسرد قصص الموتى بصوتٍ عالٍ، بتُّ أشكر الربّ لأنه أمدّ في عمركِ إلى الآن. لم يكن ذلك من فرط الحب ولا من شدة النّقمة. ربما كنت أود مقايضة مشاعر الذنب التي تتراكم تجاهكِ في صدري بشعورٍ أكثر خِفة وحسب.
رأيت أن تثبيت مقابض معدنية على امتداد الجدران سيعينك على الحركة في الحجرة، بينما اقترح عامر أن نركب ماسورة ضخمة في منتصف الحجرة لتتمسكي بها للوصول إلى دورة المياه. ثمّة ماءٌ في الحجرة، وجرسٌ صغير يمكنك استخدامه للنداء إذا ما أسعفتكِ حواسّك لذلك.
***
هل فرغت من الصّلاة أخيراً؟ لم أترك لكِ الطّبق وأمضي، هل يضيف لي ذلك نجمة جديدة في سجل عملي الجيد؟ هل قلتِ شيئاً أمي؟ أنا لا أكاد أفهمكِ. أتبكين أم أنني هرمتُ أنا أيضاً؟ لا تبكِي أرجوكِ، ربما علينا أن ندعس على ذلك كله، علينا أن نفعل ذلك حقاً متى ما استطعنا.
فاطمة إحسان