تقديم يمكن الإستئناس به
نجاة الهاشمي اسم فرض نفسه في الأشهر الأخيرة بإسبانيا عموما وبمنطقة كطالونيا خاصة. هي ابنة مدينة الناضور المغربية وقد انتقلت، وعمرها ثماني سنوات، للعيش رفقة أسرتها ببلدة صغيرة مجاورة لبرشلونة اسمها «بيك» حيث كان يشتغل أبوها كعامل بناء.
أثارت نجاة الهاشمي الانتباه بعملها الأول «أنا أيضا كطلانية» ثم بروايتها «البطريرك الأخير» التي نالت سنة 2008 جائزة «رامون يول» التي تعتبر أهم الجوائز الأدبية بكطالونيا. هي كاتبة إسبانية ذات أصول مغربية رغبت في أن تنسج جسرا من الكلمات بين ثقافتين، كما أنها جعلت من الإبداع والخيال مجالين لتصادم وتلاقح اللغات والذهنيات والأجيال دون أن تتخلى عن دهشتها الأولى، ودون أن تهادن البلد الذي رأى مولدها والمجتمع الذي استضافها، بالإضافة إلى أنها ابانت عن قدر لا بأس به من القسوة ومن الحنق في تصوير الوقائع والشخصيات. إنها نموذج جذاب ويستحق التأمل لأنها تجعلنا نراجع العديد من مسلماتنا حول مفهومي الهوية والانتماء وتحثنا على ان نكون أكثر انفتاحا وتفهما لانشغالات الآخرين.
أ- تفيد بعض القواميس الأوروبية أن نعت «بطريرك» هو ذو حمولة دينية وأخلاقية ومعرفية وقد تكون له إيحاءات قدحية، وهو يشير إلى أن حامله يتمتع، ضرورة، بسلطات معنوية وفعلية على سلالته وعلى من يعيشون في محيطه، ومن هنا توقعه الدائم لأن يتلقى الولاء من طرف من يتعاملون معه ويتقربون منه. وقد اختارت الكاتبة نجاة الهاشمي، شخصية البطريرك محورا لروايتها «البطريرك الأخير» * التي حظيت باهتمام القراء والنقاد ووسائل الإعلام بإسبانيا. عمل جريء، سلس، ومثير لأكثر من سؤال وحيرة، ووقائعه يتوزعها جزءان وعالمان متقابلان: جزء مخصص لمرحلة العيش بإحدى قرى الريف بالمغرب، وجزء ثان متصل بتجربة الهجرة والتأقلم ببلدة صغيرة بإقليم كطالونيا الإسباني. ولم تبرم الكاتبة أي تعاقد مع قرائها ولم تشر إن كان عملها ينتمي إلى النوع الروائي أو غيره، لكن من الصعب تجنب عقد مقارنات بين مسارها الشخصي ومسار شخصيتها الرئيسية التي تقوم بعملية استرجاع طويل وبزيارة لمواقع الماضي واستحضار لتفاصيله المؤلمة والمتعبة عبر سرد يتوخى التواصل وتتخلله حوارات تضيء الأحداث وطبيعة الشخصيات مشكلة محكيا يسهل وصفه بأنه محكي تعلم وانعتاق.
ب- إن الساردة/ الشخصية الرئيسية، التي لا تخبرنا ما اسمها، تحكي قصة تبلور شخصية البطريرك ميمون، أبيها المتسلط والمتعنت ذي النفسية المعقدة والذي استقبل عند ولادته بالزغاريد، وإن كان هذا لم يمنع من أنه قد مر منذ طفولته بتجارب صعبة ومؤلمة، وحينما اشتد عوده أصبح تعنيف النساء وغوايتهن في نفس الوقت هوايته الأولى وانشغاله الأثير. وكان ما يحكم علاقاته بزوجته وأسرته وعشيقاته ومحيطه هو حب التملك والتوتر والتوجس حتى أنه أعلن شكه في أبوته للساردة. ولم تتردد الساردة في جعلنا نعتقد أنه، وهو طفل، قد قتل خنقا أخاه الأصغر وجعلت منه بذلك مجرما بالفطرة ، وكان قبل ذلك قد وجه لأبيه، ذات خلاف، لكمة مؤلمة خارقا بذلك نظاما قيميا واجتماعيا توارثته الأجيال لقد رغب هذا الأب دوما في تطويع القدر لمشيئته، كما كان يريد أيضا تطويع الآخرين، وخاصة النساء، ليستجيبوا لانتظاراته ونزواته، وقد اعترف في لحظات صفاء بأنه يحلم بخلق الألفة وإيجاد الروابط بينه وبين العالم كما كان ذلك حلم الأمير في رواية « الأمير الصغير» لسانت أوكسيبيري. لقد تم تقديم الأب تارة على أنه وحش وأحيانا على أنه ضحية، مما جعل مشاعر الآخرين نحوه مشاعر كراهية واحتراس وشفقة . وعملت الساردة على فضح أنانيته وبعض تفاهاته، بل إنها تزعم أنها «اختارت» أن تظل على قيد الحياة لكي تواجهه ولكي تحكي لنا قصتها، وهي ولم تتردد في أن تجعل عمه يغتصبه وكأنها تصفي معه حسابا خاصا وتريد التخلص منه رمزيا لتسجل نجاة الهاشمي بذلك انتماءها إلى سلسلة مبدعين مغاربة معروفين كمحمد شكري وإدريس الشرايبي وعبد الحق سرحان، مبدعين أعلنوا الحرب دونما مواربة على صورة الأب العنيف والعدواني وقرروا «قتله».
ج- لقد وجدت الساردة نفسها، وقد استقرت بكطالونيا، مطالبة بالتفاوض مع حقائق عنيدة وبتدبير أكثر من التباس، ومطالبة بتأمل تصورها عن ذاتها وهويتها، هي التي أقرت ذات زيارة إلى المغرب: «هذا ليس عالمي ولن يكون كذلك»، كما اعترفت أن انتماءها إلى «لا مكان» يتعبها ويشعرها بالوحدة. والرواية، بذلك، تطرح إشكال الهوية وكيفية تشكلها، وتقدم في هذا الصدد نموذجين مترابطين : نموذج الأب الذي عاش تجربة الهجرة بمرارتها وضغوطها إلى درجة جعلته يغير اسمه من ميمون إلى «مانيل» ويشهر فحولته ليتكيف مع ما يطلبه سوق العمل من الغرباء. أما النموذج الثاني فتمثله الساردة نفسها، هي الشابة العنيدة والجريئة، وجرأتها هي التي كانت السبب، على ما يبدو، في انتقال الأسرة للعيش بإسبانيا اي لمواجهة منظومة قيمية جديدة. هي شهرزاد من نوع مغاير، تستمد قوتها من قدرتها على الحكي، والكتابة لاحقا، وتخبرنا بلغة كطلانية سلسلة كيف نسجت علاقة من نوع خاص مع أبيها، علاقة انجذاب ونفور، وتحكي كيف سعت إلى أن تكون شابة عادية لا تثير انتباه الآخرين لمجرد أن ملامحها تجعل منها كائنا غرائبيا قد يذكر بعض الإسبان بمجازرعرفها بلدهم وشارك فيها مغاربة مسلوبو الإرادة في عهد ديكتاتور إسمه فرانكو. كما أنها كانت تساعد أمها في التبضع واكتشاف العالم الخارجي وكانت تسعد بمرافقة أبيها، في مناسبات نادرة، إلى بعض المقاهي والحانات، هذا الأب نفسه الذي بدأ يبتزها ويعنفها لكي تضع الحجاب وترتدي ثيابا محتشمة ولكي لا تتحدث مع أي رجل مهما كانت علاقتها به لأن جميع الرجال، في تقديره الذي لا يقبل أي مراجعة والمستند إلى تجربته الشخصية، ينظرون إليها بوصفها موضوعا جنسيا يهيج استيهاماتهم . إن الجنس كان الإشكال الرئيس في حياة هذا البطريك المهزوم وفي بناء هذه الرواية، كما أن الساردة هي الأخرى حكت لنا كيف بدأت تشعر بنداءات الرغبة وكيف اختارت أو اضطرت أن تختار اختراق الممنوعات ومن ذلك قرارها فقد العذرية الذي اعتبرته «خطوة نحو الهزيمة النهائية للبطريرك». لقد قررت معانقة الفضيحة والمراهنة على عنادها. ومقابل العنف الجسدي والرمزي المهيمن في أغلب فصول الرواية وكذا طغيان الشعور بالخوف وانعدام الثقة، كانت الساردة تجد ضالتها في اكتشاف دلالات الكلمات وسحرها، وكانت في لحظات الإنقباض والتيه تلجأ إلى القاموس لتتعرف على معان جديدة وتحس بالحرية وبشعور بالانطلاق وبما يشبه التملك للعالم في حين شكل ذلك للقارئ ما يشبه اللازمة الموسيقية وجرعة هواء تضع بينه وبين الوقائع بعض المسافة وتمكنه من تحمل المرارة والعبث الثاويين بين السطور.
ومن سوء حظ الساردة أن علاقتها مع زوجها، بائع المخدرات القادم هو الآخر من المغرب والذي فرضته على أسرتها، كانت صيغة تكاد تكون مطابقة لعلاقتها مع أبيها، إذ طالبها بعد الزواج أن تكون أقل تحررا وأكثر خنوعا وانصياعا وأن تنسى أنها تعيش ببلد أوروبي. وفي النهاية قررت الإنتقام بشكل رهيب من أبيها المتواطئ مع زوجها، وجعلته يشهد مشهدا ما كان بإمكانه تصوره حتى في أحلك الكوابيس، مشهد عمها وهو يأتيها من الخلف وعلامات الاستمتاع بادية عليها.
د- إن رواية «البطريرك الأخير» تستثمر بعض أساليب الحكايات الشعبية، وهي تتقدم نحو القراء بوصفها رواية فطرية تعرض التجارب كما تلقتها الشخصيات باندهاش وعفوية، كما أنها تندرج ضمن ما يعرف بـ«أدب الهروب» بما أنها مبنية بشكل جيد ومريح وتقدم شخصيات تكرس صورا نمطية رائجة وتقترح وقائع يسعد بها الجمهور الغربي لأنها تحيله على زمن ليس بزمنه وعلى غرائبية يحتاجها لتكسير رتابة تلف نهايات أسابيعه. ومن المؤكد أن القراءات والتأويلات الغربية لهذه الرواية ستميل إلى التذكير بأن المرأة العربية هي الحلقة الأضعف في سلسلة الاستغلال والقهر التي تعرفها مجتمعاتنا وأن هذه الرواية هي إعلان صارخ لانتصار إمرأة عربية على عقلية تقليدية مطمئنة لانغلاقها وتحجرها. ويبقى أن هذا الانتصار، إن كان كذلك، له طعم مر ويشبه، إلى حد بعيد، طعنة أو رصاصة تأتي من جهة غير متوقعة، وقد كلف ذلك الساردة، أو الكاتبة، أكثر من تنازل وكرس إحساسها بالحيرة والتمزق والتأرجح بين عالمين وخيارين.
هامش:
* Najat El Hachmi, El ultimo patriarca, (traduccion del catalan Rosa Maria Prats), Planeta, 2008
عبد اللطيف البازي
كاتب من المغرب