الشاعر كائن جبل من طين القلق فهو إبن الحيرة المطلقة في عالم محاط بالغموض لذا فإنه يحاول أن يعبر عن ذلك القلق وهذه الحيرة عن طريق طرح الأسئلة والأدب «هو ما يفتح العالم على فعل السؤال» كما يقول بلانشو
فعندما يتساءل شاعر كمظفر النواب:
«لماذا هذي اللوحة للخمر/ وتلك لصنع النعش
وأخرى للإعلان؟»
فإنه يصيغ رؤيا يعبر من خلالها عن حيرة الإنسان في هذا الوجود والشاعر يسأل لا ليجاب كما يصرح أنسي الحاج بل ليصرخ في»سجون المعرفة» , ويبدو إن هذه السجون أحكمت قبضتها على رؤى الشاعر ناصر البدري فنثرأسئلته ليلقي نفسه في تهلكة سجون أخرى , فكانت مجموعته «هل؟ «مكرسة لأسئلة تنفتح على أسئلة أخرى , ليدخلنا في مناخاته القلقة بدءأ من العنوان وصورة الغلاف التي اقتحمها العنوان فصارت خلفية له , ليتقدم السؤال المذيل بعلامة الإستفهام متصدرا المشهد هذا الغلاف يعطينا أهم مفتاح من مفاتيح المجموعة الصادرة في مسقط ضمن منشورات مجلة (نزوى) ويمكن لنا أن نختزل هذا المفتاح بالسؤال ,ذلك لأن السؤال هو بؤرة الإشتغال الشعري في هذه المجموعة , مثلما شكلت أداة الإستفهام (هل )بؤرة لنص جبران خليل جبران الجميل «أعطني الناي وغن» :
هل اتخذت الغاب مثلي منزلا دون القصور
فتتبعت السواقي وتسلقت الصخور
هل تحممت بعطر وتنشفت بنور
هل جلست العصر مثلي بين جفنات العنب
ولو تصفحنا مجموعة البدري ( هل) لوجدنا هيمنة أداة الاستفهام (هل) فهو يضع أول قصيدة في المجموعة تحمل عنوان (هل) ويبدا النص ب(هل) لتكون أول كلمة في المجموعة , وهذا دليل إشتغال واع ومقصود:
َهلْ نَخْلَةٌ تَكْفِي/ لِكَي أبْني عَرِيْشًا للصََّلاةِ
ولا أُغنِّي الحُبَّ / إلا مِنْ خِلالِ الرَّبِّ
هَلْ زَهْرٌ على نَهْدَيْكِ
يُغْنِيْنَا عَنِ الحَقْلِ المُجَاوِرِ لِلْحُقُولِ الخَائِفَةْ؟!
وتتعدد المقاطع وأساليب الأداء وإنثيالات الجمل الشعرية لكنه يجعل من صيغة المقطع الأول الإستفهامية نقطة إرتكاز يعود اليها بعد أن يقفل دائرة كل مقطع لتكون لازمة تمنح وفرة موسيقية تجعل احتمالات التواصل مع القاريء ممكنة بشكل أكبر , خصوصا عندما تقرأ على مسامع الجمهور:
هَلْ خَمْرُنَا التَّمْرِيُّ / يَسْطِيْعُ التَّعَايُشَ/ مَعْ خُمُورِ الآخرينْ؟/ هَلْ أَرْضُ مَاجَانَ/ اسْتَعَادَتْ سَطَوَةَ الإسْمِ القديمِ/ وَهَلْ نَوَارِسُ بَحْرِنَا/ ستعودُ تُبْحِرُ كَالنَّوَارِسْ؟!
هذه الوفرة الموسيقية تبدو واضحة في معظم قصائد المجموعة التي كتبت وفق نظام التفعيلة , فالشاعر يبدو حريصا , في بنائه النصي, على استخدام البحور الصافية ذات الايقاعات الواضحة , ويؤثث ذلك بالتكرار وهذا ياتي على عدة صيغ من بينها تكرار جملة شعرية كاملة كجملة «أين أنت الآن يا صحراء؟ « في نص «البدوي « :
أَيْنَ أَنْتِ الآنَ يا صَحْرَاءُ؟/ هَلْ وجهي الذي أَوْدَعْتُهُ رئتيكِ / ما زالتْ فَوَاصِلُهُ عنيدةْ؟
أَيْنَ أَنْتِ الآنَ يا صَحْرَاءُ؟/ هل أمي التي أَرْضَعْتِها وَجَعِي/ سَتَذْكُرُني/ وَقَدْ بَدَّلْتُ أثوابي بِأَثْوَابٍ جديدةْ؟
أَيْنَ أَنْتِ الآنَ يا صَحْرَاءُ؟
هَلْ حاديكِ ملعونٌ/ كَمَا قَدْ قِيْلَ/ أَمْ أَنَّ القَصِيْدَةْ
أَوْرَثَتْهُ الهَمَّ فَاعْتَادَتْ قَوَافِلُهُ التَّشَرُّدَ/ في موانيهِ البعيدةْ؟
أَيْنَ أَنْتِ الآنَ يا صَحْرَاءُ؟
وقد يعيد تكرار الجملة بعد تحوير بسيط كما في قوله:
على وَجْهِكَ الآنَ أَنْثُرُ صمتي
على وَجْهِكَ الآنَ أَفْقَأُ عَيْنَيَّ
وقد يورد المقطع كما هو سوى تغيير طفيف في حروف العطف أو وضع النقاط وعلامة الترقيم (التعجب) كقوله:
«فأهلاً بِمَنْ لا يعودُ/ وأهلاً بِمَنْ لا يعودُ / وأهلاً بِمَنْ لا يعودُ…!
أو يعمد الى تكرار مفردة واحدة :
سأبكي/ سأبكي كثيرًا على راحتيكِ/ سأبكي،
كَمَنْ يَسْتَلِذُّ،
فهنا تغدو وظيفة التكرار ايقاعية وليست معنوية ,وقد يخفت التوهج الشعري أحيانا فتصل الجملة الى الكلام النثري الذي لا يخدم الفكرة فتكون مقحمة ضمن السياق ويبدو الشاعر مسحورا بالإيقاع مأخوذا بغنائية رومانسية :
أبي/ يا أبي/ يا أبي/ وَدَاعًا.. وَدَاعَا
وَأَرْضُكَ.. كَالظِّلِّ/ تمشي مَعَكْ/ وَدَاعًا.. وَدَاعَا
وقد يكون التكرار من حرف واحد في تقنية أتاحها الضغط على حرف واحد في كيبورد الحاسب الآلي كما في :
يأأأأأأأوطني
وهنا يجتمع البصري والسمعي يقول نوفاليس «يبدو الشعر بالمعنى الدقيق للكلمة كأنه فن وسيط بين فنون الصورة وفنون الصوت»فالبدري هنا يجمع الشكل البصري مع الايقاع الصوتي المرسوم :
أنااااااااااا مُرْ.. هَقٌ/ عُدْ بي رويدا/ أياااااااا نَخْلُ
ويبدو ذلك في أكثر من نص :
خذوني بعيدًا/ إلى حيث لا أستطيعُ اقتفائي
خُذوووووونيْ!»
* هاااااااااااااااااااكُمْ
خذوووووني»
وحين يرخي الغريبِ الذي في السَّوَاحِلِ الشِّرَاعَ يتساءل لتتشظى الكلمة الأخيرة «خذوها « الى حروف كل حرف يحتل سطرا ويكون ترتيبا منسقا وفق تدرج تشكيلي :
َهَلْ يُدْرِكُ الرَّمْلُ ما في القلوبْ؟»
خذووووووووها بعيدًا
إلى حيثُ لا تَستطيعُ اقْتِفَاءَهْ
خُ
ذُ
وْ
هَـ
ا
وقد يلجأ الى التكرار اللفظي كما عند المتصوفة فيدخل في دائرة من الكلمات التي تشكل الغازا :
َلَعَلِّي .. وَلَعَلِّي/ وَلَعَلِّي/ يا طيورًا ضَلَّلَتْ وجهيْ
اسْتَظَلِّي.. وَأَظِلِّي
او كما في نص آخر :
َلمِ يَبْقَ منِّي غَيْرُ أَنْتَ/ فَهَلْ سَقَطْتُ أنا؟!
لَمْ تَبْكِ أنْتَ/ وَأَنْتَ أنتَ…/ فَهَلْ بَكيتُ أنا؟!
وكذلك قوله :
َدَانَتْ.. تَنَاءَتْ/ تَنَاءَتْ.. تَدَانَتْ/ وَلَمْ تَكُ يَوْمًا
، وأدرى بِهَا أَنْتَ، / عَنْ حَقْلِنَا عَازِفَةْ
ثمة استفادات من البناء القراني في بعض النصوص لكنه في تلك الإستفادة يسقط على البناء واللغة العالية من ذاته في سياق مختلف :
هُزِّي بِجِذْعِ الفَوَانيسِ / يَسَّاقَطِ الضَّوْءُ مَيْتَاً
لتجري الرِّيَاحُ إلى مُسْتَقَرٍّ لها هانئةْ
وهُزِّي بِجِذْعِ التَّوَاريخِ
هُزِّي بِجِذْعِ التَّبَارِيْحِ
يَسَّاقَطِ الحُزْنُ تَمْرًا جَنِيَّا
لنستدعي سورة مريم وقوله تعالى «هزي اليك بجذع النخلة تساقط رطبا جنيا « ويستل من قصة نبينا (يوسف)شظية تتمثل بالسبع السنين العجاف ليبني عليها مشهدا :
سَبْعٌ عِجَافٌ/ رَاوَدَتْ سَبْعًا سِمَانْ
عَنْ نَفْسِهَا/ وَالشَّمْسُ مَاتَتْ
سَبْعٌ عِجَافٌ/ لَمْ تَضَعْ أَوْزَارَهَا..
وَتَنَاسَلَتْ !!
و…. / تكاد تضيء/ ولم تمسسه نار
وأحيانا يقتبس آية كما هي :
(وأرسلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحْ)
و كل هذه الإشتغالات تعكس انبهار الشاعر ناصر البدري باللغة العالية التي يستمدها من ثقافته الأدبية وعنايته الفائقة بالموسيقى الشعرية وولعه بطرح الأسئلة المفتوحة .
عبدالرزاق الربيعي
شاعر من العراق يقيم في عُمان