خالد عزت *
ناصر خمير(1) فنان تونسي متعدد المواهب بحكم دراسته لفنون ومناح شتى: من العمارة والرسم والنحت وفنون السينما والمسرح، الى الفلسفة والتاريخ، بالإضافة الى إلمامه بالتراث الصوفي والحكائي في الحضارة الاسلامية.وهو ينتقل في يسر بحكم خبراته المهنية، ونزوعه الروحي بين ممارسة الكتابة الأدبية وبين صناعة الأفلام السينمائية، وفي كلا النوعين “مع الاختلافات الإجرومية بينهما”فإنه يتخفي في ثوب الحكواتى العابر والناكر لهويته الشخصية، والذي لايعتبر نفسه الاَمجرد “وعاء جسدي”ممتلئ الى حد الهذيان بحكايات ومصائر وحيوات اناس غير مرئيين، مستعيرا لنفسه صوت الغياب، حيث مصيره وحدوده الزمانية، والمكانية مقيدة في توحده مع إرادة انهاء الحكاية ذاتها.
في كتابه “شهرزاد” الصادر عام1987عن دار نشر “لوماسكاريه” الفرنسية والمزين برسوماته التعبيرية ، حيث يجاهد في الإمساك بالذاكرة المنفلتة، وبصوت الحكي الشعبي المنزلق على ألسنة نساء عائلته، وبالتحديد أصوات الأم والجدات العجائز، متلمسا في شغف تلونات الحكي الشعبي المتوارد في الذاكرة الجماعية، كما يتراءى لمخيلته وهو طفل، مستلبا بصوت “الأنثى/ الأم” التي حلت محل الراوي في كتاب الف ليلة وليلة، حيث يكتب قائلا في مستهل الصفحات: ” كنتُ احسب أنني استنفدتُ منذ زمن بعيد المخزون العائلي من الحكايات، ثم في مناسبة أحد الأعياد اكتشفت حكايات أخرى بعد مغادرة الضيوف، فما أن هدأ هياج الأيام الأخيرة من العيد، تكون للعجائز لحظة مميزة عندما يجتمعن فيما بينهن، يصعدن معا وهن ممسكات بحبل الذاكرة، مجرى شبابهن وطفولتهن، اذ ذاك وعند تلك اللحظة تنبثق من ملاذ هذا العالم الأنثوي حكايات سِّرية وإن تكن مستمدة من الف ليلة وليلة إنهن يحولن الحكايات، ويموّهن الشخوص ويمزجن بين المواقف ويختزلن حكايتين في حكاية واحدة، لكننا دوما نعثر على الحكاية الأصلية بين السطور وعبر هذه الحكايات ينبثق امامنا رويدا رويدا عالم آخر، وحدهن يمسكن بمفاتيحه، حيث تنفلت ذاكرتهن من عقالها، فتسلمنا بين الألم والرغبة الى هذا الكون العجيب”.
• “السينماتوغراف والهوية الثقافية” :
يبدع ناصر خمير افلامه السينمائية من داخل فضاء الثقافة الإسلامية، وما تجتذبه من مفردات بصرية وتشكيلية خاصة، واساليب فريدة في السرد القصصي، وطرائق متنوعة في الحكي وفنون القول تخص هذه الحضارة بعينها، مستلهما من مصادرها التراثية والدينية مادة أعماله ونسيجها الروائي. وهو كصنوه المخرج المصري”شادي عبدالسلام (2) الذي انشغل طيلة حياته وحتى مماته بالتعبيرعن الثقافة الفرعونية بخصائصها البنيوية والتصويرية، فكلاهما وعلى اختلاف التوجه والنزوع الفني، قاما بالتعبير عن هذه الثقافة القومية، أو تلك، وجعلا من عملية الخلق الفني مجرد مجال جمالي لعرض الأفكار والتصورات “الحضارية” في بحث عن الهوية الثقافية، والذاكرة الجماعية المتواترة لمجموعة بشرية محددة بسياقها الجغرافي والتاريخي والديني.
ثمة مفارقة يقف عندها المرء حائرا والتي تتجلى بوضوح تام في السينما التي يصنعها “ناصرخمير” من حيث التعارض الأساسي بين الوسيط الحداثي “السينماتوغراف” الذي هو نتاج ثقافة مادية متطورة احتلت فيها “العين” المركزية المهيمنة في الثقافة الغربية طوال قرون عديدة، والتي دمغها المفكر الفرنسى “ميشيل فوكو” في إحدى مقولاته: “بإمبراطورية النظرة المحدقة”(3) ،وبين ثقافة مغايرة في مرجعياتها شٌيدت اساسا على المجاز اللغوي، وايحاءات الصوت والحكي والتخييل، .إنه بالأحرى تعارض إشكالي بين عالم الصورة والمحاكاة، وعالم المجاز والرمز. فكيف يمكن ان يتلبس خفة الحكي المتطاير عبر فضاء سمعي في المتجسد بعينه؟ بكل ثقله المادي وصيرورته الزمكانية؟.
فمنذ عصر النهضة (4) أولى الفن اهتماماته نحو اختبار المخيلة إزاء الواقع المادي-كما تراه العين- وكيفية محاكاته وإعادة تمثيله ، كان ذلك مواكبا لتطور علم التشريح، وابحاث “ليوناردو دافنشى1452-1519″في علم البصريات واكتشاف المنظور والأبعاد المساحية، وكيفية التحايل التقني بالإيهام به، ثم إعادة قراءة وتفسير الأعمال الفلسفية لأرسطو طاليس وكتابه فن الشعر.كل ذلك آل في ذروته الى الثورة الصناعية واختراع آلة التسجيل الفوتوغرافي وبداية عصر الاستنساخ، وقد توجت الحقبة باختراع “السينماتوغراف” في نهاية القرن التاسع عشر،لتجسد التطور الحداثي الخلاق لنظرية التمثيل الواقعي للزمان والمكان والحدث في وحدة واحدة، دون احالة غير واقعية في التمثيل الفني لموضوع الفن المراد تصويره.
أما العياني والمجسد concreteness فلم يكن له أن يوجد داخل شرط الثقافة الإسلامية ، والتي اقامت من حاسة السماع طريقا معبدا الى اليقين الإيماني بالمقدس (5). وباستثناء فنون العمارة والخط وصناعة الزخرف وتطريز النسجيات، وهي في جملتها الفنون التي أدت دوراً وظيفيا داخل نطاق الحضارة الإسلامية، فانه لامجال لفتح العين والنظرالى الخارج. وقد وصمت العين والنظر دائما بشهوة الامتلاك والزيغ عن الطريق القويم والضلال وغواياته، فاستبدلت الرؤية الخارجية بالرؤيا الداخلية، أي تم احلال الثبات الأبدي محل التحول النسبي الموهوم، والمقترن بالسرعة المخاتلة عند لحظة الابصار وإمساك شبكية العين بصورة الشيء، وقد جاء في لسان العرب لفظة”صورة” بمعنى: تصورت الشيء توهمت صورته فتَصور لي.
لذلك كان من أبرز الظواهر الخلافية بين الحضارات هو الاتجاه الى “المحاكاة”أو البعد عنها. ففكرة المحاكاة تقوم على اساس أن الطبيعة كائن ثابت ، كل عنصر فيه كامل في ذاته، ومن ثمَّ فقد أصبحت لغة الفن في ظل المحاكاة هو نقل الطبيعة، وتجسيمها، وصولا الى أكمل صورها المادية مثالية.
ومن هنا فإن التصور البصري للمكان يعمل على إبراز الجوانب المكانية باعتبارها مجالا للنشاط والحركة، مع نقل صميم ماهية الحجم، وقيام المسافات بين الأشياء، وتوزيع النسب في الفراغ . فالمكان لايقوم الاّ على فكرة العمق فهو “طول/ عرض/ عمق” ،وكل مكان خلا من فكرة العمق هومكان غير حقيقي، فانعدام الحيز كما يقرر “جون ديوي” هو إنكار للحياة نفسها (6). على العكس من ذلك، فإن الفنون الإسلامية في جملتها لاتقوم على فكرة “المحاكاة” قاصدة التجريد المطلق abstract، حيث لا تستهدف البعد الثالث وتجسيد المنظور المكاني، لكنها تستهدف العمق الوجداني والروحي، اي تجاوز الحدود الى ماوراءها، ومن ثمً فقد انصرف الفن الإسلامى، والفنان المسلم، في تصوير الكائنات الحيَّة عن المحاكاة الشكلية، مع شغل الفراغ بشبكة متلاحمة من الوحدات الزخرفية التي تعمل على امتصاص مادة الجسم، والإحساس بثقل المادة، مستخدما كل عناصر الزخرفة المجردة، والتي من شأنها جعل تلك الطبيعة قابلة للتحوير والتحول الى طبيعة مغايرة لماهي عليه في الواقع، حيث لا يبقى من اثرها الّا خطوط هندسية تعمل على خلق انفساح وإمتداد لانهائي.وقد فرق الفيلسوف “اسَوالد اشبنغلر”بين مبدأ المحاكاة، ومبدأ اللامحاكاة ،حيث وصف المحاكاة بـ”التقليد” أو الأسلوب العضوي ،اما اللامحاكاة فوصفها بـ”التزيين” أو الأسلوب الهندسي . فالتقليد يساير الحياة ويتابع الحركة، ففيه طابع التحول الزماني، أما التزيين فقد خلا من الزمان نهائيا،لأنه خلا من الحياة، واستحال الى امتداد وثبات، لهذا كان لكل تقليد”محاكاة”بداية ونهاية، لأنه يجري مع الزمان، بينما التزيين لايعرف غيرالبقاء والاستمرار (7) .
كان الكاتب “خورخي بورخيس” قد تلمس تلك المعضلة الحضارية عبر قصته”بحث ابن رشد” عندما حكى لنا عن المأزق الذي وجد نفسه فيه عاجزا عن العثور على معنى كلمتين وردتا في كتاب ارسطو طاليس”فن الشعر” هما “التراجيديا/ الكوميديا” ،لكنه في النهاية أوحي اليه بأن يضيف الى مخطوطه هذه السطور: “ارسطو طاليس يطلق كلمة “مأساة” على المديح والإطراء، وكلمة “ملهاة” على الهجاء والسب، وكم من مأساة وملهاة تأخذ بالألباب وتحفل بها صفحات القرآن ومعلقات الكعبة” (8) .
في الحقيقة كان ابن رشد يبحث عن الغياب بدءا من الغياب نفسه “وهو ما سيتكرر بعد قرون طويلة لشخوص ناصر خمير المتخيلة، في رحلاتها الموهمة عبر أفلامه”، فلم يكن لابن رشد أن يعثر على معنى دقيق للمصطلحين من داخل ثقافته الإسلامية المنغلقة داخل مجالها الروحى، ففسر الكلمتين المبهمتين بنفس الآلية التي يصنف بها انواع الشعر، وهو الفن الذي برع في صناعته العرب في صحراء الجزيرة العربية. لقد أراد ابن رشد- كما يقرر بورخيس- معرفة عنصري الدراما الأغريقية، لكنه ما كان قدر أى “المسرح”قط ، ولم يتخيل ما تعنيه المحاكاة وأن يؤدي شخصا شيئا امام الناظرين بدلا من أن يحكيه في كلمات .
•”الهائمون في الصحراء/ الوعاء الحكائي”:
..”الهائمون في الصحراء”هو بداية ثلاثية بدأها ناصر خمير في عام 1984 ،لكنها ستكتمل بعد عشرين عاما تقريبا في العام 2004 بفيلم “باباعزيز- الأمير السابح في روحه” كواحد من اكثر الأفلام تيها بالنص الصوفي الإسلامي بجميع روافده، والذي سيحققه بعد احداث 2001/9/11، وحيث ستظهر عبر الفيلم -لأول مرة – لقطة لطائرة تخترق السماء!، بعد فيلمين حفلا بجميع انواع الكائنات والمركبات والمطايا كالدواب والخيول والغزلان ، وايضا الحمام الذي أفرد له فيلما بكامله”طوق الحمامة المفقود 1991 ” والذي جاء ردا على ظهور وانتشار الجماعات الدينية المتطرفة في ارجاء البلاد العربية، بالإضافة الى اصداء الحرب الأهلية اللبنانية التي كانت لاتزال مشتعلة، ولم ينطفئ أوارها بعد.
لكن عبر هذه الأفلام الثلاثة ستتردد بوضوح كافة العناصر البنائية التي تشكل خطابا تخيليا مؤثرا في تعدد اصواته، وقصصه، التي تحفل بشخوص -هي في الأغلب – مستنسخة من كتب التراث مثل :”ألف ليلة وليلة، مصارع العشاق، المثنوي ، منطق الطير، طوق الحمامة للفقية ابن حزم الأندلسي”.
هذه الاحالات التناصية وهي بالطبع تقنية شائعة لدى كل من يعمل على استلهام التراث كمادة استعارية تذوب داخل النسيج الحكائي، من حيث يتم تضمينها كحشو “بالوعاء السردي “الإيهامى الذى يصممه المؤلف وفقا لهندسة بنائية دقيقة، والذي يموضع عبره -الصانع- الخطاب الذي يود ايصاله. ولكن هذا”الوعاء السردي” وما يتضمنه من كافة عناصر الفضاء السردي يظل ساكنا حتى إيجاد وخلق محرك فعَّال، او بالأحرى مايسمى “بالبؤرة الخفية” الجاذبة لكل اليات السرد الفيلمي. هذا اللب او البؤرة التي تجتذب اليها بحتمية بنائية كافة العناصر الرمزية والتخيلية هي في ذات الوقت مجرد حكاية رمزية allegory لكنها تزيد في اتخاذها شكلا مطلسما، يتطلب من الرائي يقظة ذهنية للإمساك به، لأنه يظل متواريا ومخبوءا وراء شبكة من الفسيفساء الحكائية التي تتوالد بشكل سحري ومتسلسل enchainement تعمل على حجبه وراء فيض من التداخلات السردية ذات التوريق الحكائي”نسبة الى الزخرفة النباتية ذات الوحدات الهندسية التكرارية في فن الأرابيسك الإسلامي” (9) .
وباستعارة معمارية من الممكن تشبيه تلك البؤرة المتوارية “بالفناء/الصحن” في العمارة الإسلامية من حيث كونه المركز الذي يتوسط هيكل البناء، وهو سماوي تحيط به أروقة من جوانبه الدائرية ، لذلك فهو يٌرى من الداخل حيث تتلاقى في مركزه جميع الجهات، ولكنه ايضا “محتجب” لأنه في القلب من البناء المعماري ، ولا يمكن كشفه الا بعد فعل” العبور” اليه، فهو مرئي ولا مرئي معا.
بهذه الكيفية يعمل ناصر خمير على هندسة بنيته الفيلمية مبتدئا بخلق ذلك “المعبر/المدخل”الذي يمثل مفتتح الحكاية الرئيسية، ومن ثم يقودنا هذا المعبر من الخارج الى الداخل حيث توجد”محيط الدائرة” والتى يتشكل من داخلها وبشكل مواز لمحيطها مدارات من الدوائر السردية ، والتي تتداخل فيما بينها،حيث تتوزع شخوص الحكاية على تلك المدارات قربا، او بعداً، من القلب الخفي، او البؤرة النصية الجاذبة. هكذا تبتدئ الحكاية بوصول المعلم الشاب الى الواحة المجهولة على الخريطة، او”محيط الدائرة الحكائية،” والتي تبدو في الظاهر المرئي كمجرد مكان واقعي وساحة لحراك الشخوص، لكنها في نفس الوقت تشكل فيما وراء جغرافيتها فضاءا استعاريا تكتب داخله مصائر البشر، وتٌشيد على رقعته كافة العناصر الرمزية والأمثولية الحاملة للمعنى الباطنى.
•”متواليات سردية”:
اتوبيس متهالك يشق طريقه وسط تلال الرمال يستقله معلم شاب”عبدالسلام” تم تعيينه مدرسا إلزميا بإحدى القرى المنسية في قلب الصحراء، والتي ينفي سائق الحافلة وجودها على الخريطة.. في الطريق يرى عبر النافذة ثلة من الرجال تهيم عند أفق الصحراء يغلفهم الغبار كأشباح /على مشارف اطلال القرية يلتقي بشيخ “الأصم” يحرث الرمال، والذي امضى حياته يحفر الصحراء بحثا عن الكنز المخبوء/ يقوده شيخ القرية “الغرناطي” الى داره، ويهيئ له مكان اقامته بحجرة ابنه”بكر” الذي ارتحل بعيدا ليلحق بالرجال الهائمين في الصحراء ،ويقع المعلم في حيرة من أمره بعد اكتشافه عدم وجود مدرسة يمارس فيها عمله، حيث يفاجئ بعالم القرية الذي يعيش بعيدا عن القوانين الوضعية للدولة ، ووفقا لعاداتها المتوارثة /3- يطلب منه الطفل”حسين”حفيد شيخ القرية أن يتبعه الى دار حكيم القرية، والذي يخبر المعلم انه كان ينتظره منذ زمن طويل ، كاشفا له عن أوهام القرية التي تعيش على أمل العثور على الكنز / تذهب الأم الى المعلم لترجوه ان يقنع حفيدها “حسين” بألا يرحل كما فعل أبوه ، تحقيقا لأسطورة تتناقل عبر الأجيال كلعنة، مخلفا وراءه صورة “البراق” التي تخفي وراءها اشعار الحلاج/ يصادق حسين”جني” اسمه “حسن” يسكن بئرا مهجورة بالدار، ويقص عليه ما يجري بالقرية، ويحلم بالسفر الى قرطبة التي يأتي ذكرها على السنة العجائز في حنين الى جذور الأجداد، ويقوم بسرقة المرايا من بيوت القرية ليقيم من جذاذتها بساتين الزهور في الرمال على هيئة صورة السماء/ يقع المعلم في أسر غناء ونظرات ابنة شيخ القرية التي تلاحقه داخل أروقة الدار لترسم له بصورة إيهامية اشارات صامتة وملغزة كاشفة عن مرآة في باطن يدها/ يحكي حكيم القرية للمعلم انه ورث كتابا يتكلم عن اللعنة، وبمجرد أن يطالعه الرجال الهائمون تنفك لعنتهم، ولكن على الغريب ان يخرج اليهم ليسلمهم الكتاب اثناء زيارة اهل القرية لقبور الأجداد / تموت الجدة بعد ان يطرق الباب ملاك الموت الذي يظهر على هيئة شحاذ عابر ،تاركا وردة ذابلة عند عتبة الدار، بينما يرحل الجني عن القرية تاركا حسين ، والذي لا يريد ان ينتهي به الحال كالرجال الهائمين/ يذهب حكيم القرية الى الأصم وهو على فراش الموت ليخبره بسر الكنز الموعود للرجال الهائمين، فقبيل سقوط قرطبة وقبل رحيل جدهم”الخطاط”عنها أعطاه شيخ صندوق فيه صكوك الملك ومفاتيح القصور والبساتين واستحلفه أن يعود في يوم ان لم يكن هو يكون ولده او حفيده ، ولما أحس الخطاط بالموت دفن الصندوق تحت شجرة تين، ومرت الأيام، ونسي الوعد، حيث حلت عليهم اللعنة، وأخذت القرية تفقد ابناءها/ المعلم يطالع الكتاب،وبين اليقظة والنوم تتراءى له المرأة العجوز المرتسمة على صفحات الكتاب ، فيسلم نفسه اليها طائعا منجذبا الى الغياب/ يتم ارسال محقق ومساعده الى القرية للتحقيق في اسباب اختفاء المعلم، لكن تصطدم معتقدات المحقق بمعتقدات اهل القرية وخرافاتهم فذات نهار يهرع اهالي القرية بعد ان وجدوا مركبا غائصا في الرمال، كإشارة على أن المعلم قد نجح في مهمته، وباقتفاء آثار المعلم يعثرون على صاحب المركب “سندباد” الذي لا يعي كيف وصل الى القرية/ يفشل المحقق في معرفة الحقيقة وقد انغلق عليه الفهم فيقرر الرحيل، اما مساعده العجوز فيتركه في الصحراء ليعود الى القرية وهو يصرخ في البيداء: لا لغز الاّ الدهر، حيث يسلم نفسه للغيب.
•”الرحلة والدائرة- تناظرات مرآوية” :
عبر هذه المتواليات السردية التى يتكوَّن منها المخطط السردي لفيلم “الهائمون” نجد انفسنا امام سرد إشكالي يشي ظاهره بغير باطنه، والذي لايخرج عن كونه استعارة تناظرية لمخطط البنية الصوفية. فصورة البراق (10)التي يخلفها الرجال الهائمون قبل رحيلهم تخفي خلف ظاهرها المراوغ اشعار الحلاج :”لا تلمني فاللوم مني بعيد.. وأجر سيدي ،فاني وحيد”(11) والتي يشرح فيها الحلاج انه قد عقد العزم على أن يمضي في طريق التصوف حتى نهايته، فالهيام الصوفي هو ذاته غواية السير بلا وصول، وفقد الاتجاه ،مثلما يسير الهائمون في سراب الصحراء بحثا عما لا يمكن ادراكه. كما أن الحديقة التي يحلم الطفل “حسين” بصنعها دون ان يعرف ماتكون عليه شكل الحديقة، فلم ير في حياته قط سوى رمال الصحراء، لكن ” الجني ” يشير عليه ان يصنعها على صورة الحديقة السماوية لأنها تمثل الأصل للانعكاس الأرضي المراوغ ،بما يعني الصلة بين العالم العلوي والعالم السفلي.
ومن هنا فان الشخوص الموزعة على الخريطة الأرضية لهذه القرية، تقتفي فيما وراء الظاهر الخريطة المعرفية والوجودية التي تماثل في حركتها “المقامات والأحوال ” أو كما أسماها الصوفي”ابوحسن الشاذلي” بمنازل الوصول”(12)، وحيث تحل هنا”المكابدات والمجاهدات” محل الصراع الأرسطي التقليدي في الدراما الأغريقية . فالحراك الدرامي هنا لا ينحصر في صراع الأفكار أو الإرادات بين شخوص الحكاية المروية، لكنه يتم في المجاهدات بين”الداخل/ الخارج -الظاهر/الباطن – المحدود/ اللامحدود” عبر جذبات من الدوائر المتناظرة والتي يتم خلالها الحراك السردي والمعرفي.
“فالجذبة”(13) هنا مسرحة صراع يتم في الداخل عبر الذوق ومجاله العاطفة ، ومن ثم يحل الإفراغ الوجودي محل التطهير الجمالى في الدراما الأغريقية، كما أن فعل “التطهير” في البنية الصوفية يأتى في بداية الرحلة، لا في نهايتها كما يحدث في الدراما الكلاسيكية، حيث يٌسقط الرائي الطاقات السالبة كشرط أولي للولوج الى الدائرة، ومن ثمَّ يتم التطهر من المتعلقات الزمانية والمكانية قبل السياحة في اللازمان واللامكان.
فليس امام شخوص فيلم الهائمون في رحلتها سوى الانتقال الى المراتب التالية، وقد حكم عليها بدخولها الى حيز الدائرة “التخيل الحكائي” الاّ تخرج منه ابداً حتى تصل الى مرتبة الذوبان/الغياب في المتخيل ذاته،أو الفكرة التي هي النقطة البدئية “المركز الخفي لقلب الدائرة”. فتلك الدائرة تجسد في تضاعيفها السردية مشاق الرحلة للوصول واكتمال السرد، سواء عبر الحركة الفيزيقية لفعل العبور داخل متاهة الواحة التي تبدو لنا كعالم مفقود داخل سديم من الرمال، أو عبر الحركة الرمزية المتمثلة في “العود الأبدي” الماثل في متاهة الرجال الهائمين الذين يخرجون جيلا بعد جيل للضياع أو عبر الاعتقاد الجمعي بوجود “كنز” دفن منذ قرون، حسب الأسطورة المتناقلة، أوالحلم “بمكان مفارق هو” قرطبة”، التي تتوارث الأجيال حلم العبور اليها فيما وراء البحر، والتي يمثل مكان النشأة الأولى للأجداد، أي انها تظل “محتجبة” مثلها مثل الكنز، تقع فيما وراء الظاهر والمحسوس.
فالمعلم الغريب عن القرية والذي قٌدر له الولوج للدائرة ، سيلقي المصير ذاته بالانجذاب نحو الهوة الخفيّة التي تدور حولها الدوائر السردية، حيث سيتحول هو نفسه بغيابه او “هيامه” الى وقود تتغذى عليه الأسطورة المتناقلة عبر الكلام، والتي تقتات عليها الذاكرة لتظل حاضرة في المخيلة الجماعية، عندئذ يتم افراغ الذات لتحل الفكرة الغيرية والرمزية.
ومن هنا تكمن المفارقة النصّية والسحرية معا، التي يوجدها ناصر خمير داخل فيلمه، ففي المشاهد الأولى من الفيلم نرى وصول ” المعلم ” الى تخوم القرية ، وحيث يكتسب هذا الاستهلال المشهدي أهمية درامية بما يوحي للرائي بأن المعلم هو بطل الحكاية المقدمة، والشخصية الفاعلة، بما تمثله من ثقل درامي على مسرح الأحداث، لذلك فان المشاهد يعوّل عليه في امداده بالمعلومات اللازمة كي يتوحد سريعا مع عناصر السرد، لكن العرض السردي لا يقدم الحكاية من وجهة نظر المعلم القادم من خارج المكان كمحرك للأحداث – او كشاهد ومعلق على حال القرية- لكن ما يحدث هو عكس ذلك، فقرب منتصف الفيلم يختفي المعلم، فلم يكن هدف صانع الفيلم عرض صراع بين التقدم والتخلف في سردية قرية تقتات على اسطورتها الخاصة- فبنية الفيلم هي سردية ساكنة مغلقة على نفسها، بفعل عوامل اسطورية وطبيعية تحددها مسرح الأحداث وهي “الصحراء” .فلا يوجد أذن بطل محرك للأحداث،لأنه لا توجد أحداث بالاحرى ، فكل شيء مسطور في الكتاب بشكل سلفي، وجميع الشخصيات متعادلة في الوظيفة السردية، مشاركة بقدر متساو في الحكاية، وايضا في الإيمان بالقدر المحتوم.
فالغياب عن الحيز الواقعي للقرية يعني بالضرورة أن تصير مرويا عبر الكلام ، بدلا من أن تكون ممثلا للحكاية في الزمن، حيث يتحول “المعلم” الى مجرد حكاية تتناقلها الألسنة، وهنا فقط تكتمل الدائرة السردية والحياتية ليتم الانتقال بالغياب الى دائرة الوجود المجازي والرمزي ، والمقصود هو ان تنسى الشخص وأن تتذكر الحكاية لأنها تقودك الى الحكمة.
وباستثناء “المحقق” الممتثل لقوانين الدولة كسلطة مادية، والذي يجري وراء ظاهر الأشياء تيها بعجرفة العقل في حيرته بين الأسباب والنتائج للإطار المادى “للحكاية” فإنه هو الوحيد الذى يعود خارجا من الدائرة، كما جاء خالي الوفاض، وقد منعه الحاجز العقلي من العبور الى ما وراء ظاهر الحكاية، والإمساك بالفكرة، حيث يجد نفسه في الربع الأخيرمن الفيلم يغرق في متاهة من الأحاجي التي تسرد في شكل حكايات مقتطعة، ومقتحمة، ليس لها بداية اونهاية “حكاية المركب والسندباد/ حكاية العصفور الصيني” محاولا العثور على السياق والرابط بينها وبين أسباب اختفاء المعلم من القرية.
هذه الحكايات تقطع حركة السرد الأفقي في الحاضر”مشهد التحقيق ” بمسار رأسي يمثل زمن سرد الحكاية المغلقة على نفسها، فهي لا تفسر شيئا من اللغز المستعصي على فهم المحقق، كما انها لا تؤدي الى تطور حركة السرد للأمام، وايضا لا يمكنا اعتبارها رجوعا الى الخلف في الزمن “فلاش باك” لأن وظيفة تذكر الماضى – الذى بالضرورة يوقف حركة السرد في الحاضر-هو تفسير الأحداث والدوافع التي أدت الى تعقد الحكاية عند النقطة التي توقف فيها الزمن. لكن الحكاية المقتحمة تخلق في الزمن السردي فجوات مظلمة من الأحاجي المبهمة التي تسرد من وجهة نظر”الأعرج” الهزيل الجسد فهو ينوب عن”الأخرس”في “الكلام”، بينما الأخرس الذي يمتلك جسدا قوي البنية يقوم “بالفعل” فهو يتولى حراسة المركب ،وينفرد وحده بحمل الصندوق الذي يحتوي داخله على العصفور الصيني، فهما في علاقة تبادلية بين” الفعل/ الصورة”وبين”الحكي/الصوت والمجاز اللغوي”، لكن في النهاية فان الأعرج يقوم بالاستيلاء على حركة السرد لصالحه، فقد خصته الطبيعة باللسان “تكلم حتى أراك” فهو يلون الحكاية بإيقاعه الذاتي وخياله المتقد، لكن دون يقين فيما يرويه من أحاديث ، دافعا “المشاهد/ المحقق “الى قلب المتاهة السردية من جديد. إنه يبعثر ما اكتنزه المٌشاهد من أحداث سابقة ويعيده الى الحيرة امام ما شاهده من قبل، فنحن في الحقيقة لا نعرف كيف وصل المركب”الذي هو أداة للحركة على سطح المياه “الى الصحراء، ولماذا ترك البحار المركب لأهالي القرية ليقتسموه فيما بينهم اذا لم يعاود الرجوع ، وايضا العصفور المعدني الذي يحرك جناحيه وجفنيه والذي سنجدله مثيلا في أعاجيب الف ليلة وليلة. فظواهر الأدوات التي خلفها لنا”سندباد “- وهو الاسم الذي يطلقه أطفال القرية على المراكبي مجهول الهوية والصورة- الذي نسمع عنه دون أن نراه على الشاشة – تؤكد ظاهر الحكاية وحدوثها فعلا، لكن الكيفية والأسباب غائبة، فالأمر يحتاج اذن منا الى تجاوز السطح المخادع كي نتوحد سحريا مع الحكاية،وأن نسلم انفسنا لها، كما أسلم المعلم نفسه للغياب.
• “الحالم والمرآة”:
وكما يحدث في “الف ليلة وليلة”حيث يدفع القدر وتصاريفه ابطال الحكاية الى ما ليس في الحسبان ، فبدلا من أن يمارس المعلم علمه في تلقين الدروس لأطفال القرية، يجد نفسه مستمعا لحكيم القرية ، كوعاء يٌملأ بالحكايات والأسرار. فعندما يطالع المعلم كتاب الرجال الهائمين يقرأ مصيره وقدره المقدر له في الكتاب: “فبعد ثلاثة ايام من فتح الكتاب تأتي العجوز لتصطحبه وتشق معه الرمال، اليد في اليد، حتى يصلا الى جنان حبيبته ، وقد كٌتب على باب الجنان هذه الكلمات: لايدخله الاّ المحبون”(14)، لكن فكرة الكتاب في المعتقدات التيوصوفية في مراميها الأعمق هي بالنسبة للصوفي تتلخص في “ام الكتاب” وقصة الخلق ونهايته ، اي الكتاب الذي خطه الله وكتب فيه مصائر البشر، وان تاريخ الكون ليس الا رواية او قراءة للكتاب الإلهي ذاته الذي صحفت فيه أقدارنا وبموتنا تغلق صفحتنا التي كتبها الإله منذ الأزل، وهو ما يحدث للمعلم في الهائمون عندما يطالع مصيره الذي لم يتقرر بعد في الزمن الإنسانى.
فالكتاب هو عبارة عن رسالة مرسلة من الأجداد منذ قرون طويلة الى متلق محدد سيأتي في المستقبل”إنه المختار”، وعليه ان يقف على الرسالة بفك رموزها وفهم معناها المراد إيصاله له، ولكن شفرة فك طلاسم “الكتاب/ الرسالة” لاتتم عبر اللغة، ولكن داخل ” الحلم” الذي يستمد وجوده من الإيمان به. وفي نظر ابن عربي فإن الوجود في حقيقته ليس إلا خيال يماثل الصور التى تتراءى للنائم في احلامه، كما أن عملية الخلق هي نتاج الحلم الإلهى الخلاق، وهو حلم يجب تفسيره من خلال صور الظاهر الملموس من اجل التوصل الى معناه الخفي، كما أن الرؤيا بمقدورها تجسيد الرمزى والمجرد، وهي الأداة الوحيدة التى بإمكانها الجمع بين الحقائق بوصفها أداة التخييل التي تقوم عليها بنية الوجود(15).
فما أن يقرأ المعلم الكتاب حتى يدخل في حلم فتتراءى له نفسه: يدخل الى مكان خالعا نعليه،/ يتأمل المكان مأخوذا به / يروح في سبات / تظهر الفتاة ابنة الشيخ وترش فسقية حجرية بقطرات الماء”وهو نفس المشهد الذي سيتكرر فيما بعد بحذافيره مع حلم أميرة سمرقند في طوق الحمامة” ثم تخرج مرآة من طيات ملابسها وتتطلع فيها بوله ، تاركة المرآة على حافة الفسقية وتختفي/يفتح المعلم عينيه محدقا في المرآة/ تظهر امامه المرأة العجوز كما في صورتها المرتسمة على صفحات الكتاب ، محدقة بنظرات آمرة الى المرآة، فينهض المعلم ويمسك بالمرآة متطلعا فيها بوله الى ذاته ،بينما يسلم يده طائعا الى العجوز لتسحبه الى الصحراء.
في هذا المشهد الحلمي تجتمع ثلاث شخصيات تناط بمهام محددة لها داخل نصّ كتاب، والذي هو أقرب الى التعويذة السحرية التي بمقدورها أن تفك اللعنة التى تكبل القرية، بالإضافة الى وجود أداة رمزية هى:”المرآة”:
1 – المعلم: الحالم اوالشخص المختار المكلف بإيصال الكتاب الى الهائمين، والذي يجد نفسه في الحلم داخل مكان قديم يشي بقدسيته، فهو يخلع نعليه عند عتبته قبل الدخول، ومع فعل العبور الى الداخل يعبر الحيز الواقعي للقرية ليصبح” خارج المكان/داخل الحلم “. فالعتبة المكانية ترسم الحدود الفاصلة بين الواقع والفكرة، وايضا بين الحياة والموت . إننا نراه يسير كالنائم في المكان ذاهلا عن نفسه ،كما لو كان واقعا في حال “السكر” وهو الحال الصوفي الذى يقع للمحب في توقه لمشاهدة المحبوب فأذا غلبه تمكن منه . لكن في حال المعلم فان حال السكرلا يعقبه صحو كحال عارض، لكنه يستمر الى العبور من المكان المتعين داخل الحلم الى خارج المكان والزمان .إنه معلق بين الحلم وعالم إدراك الكليات حيث يحل به حال الفناء والإشراق الروحي(16)، ليصل الى مرتبة “المشاهدة /التجلى المرآوي” التي لاتتم دون إفناء الأنا. والفناء هنا هو فناء الظواهر والأشكال ، وهي المرحلة المحصورة بين فعل إغلاق العينين وفتحهما ،أو بين النوم واليقظة حيث تظهر الفتاة وحدها في مقطع كامل لتؤدي إيماءاتها الرمزية، بينما المعلم غائب عن الوجود العيني داخل المشهد.والنوم او ما يسمى بالميتة الصغرى، هو مجاز الموت الذي يعايشه الإنسان في تجربة حياته المباشرة، وهو برزخ العبور من عالم الظاهر والعقل الواعي الى العالم الباطنى الخفي او “ماتحت الوعي” حيث تتحرر الصور الحلمية والتخييلات المكبوتة من معاقلها ، لكن في الموت وفناء الذات يفيق الإنسان في نهايته من حلم الحياة الثمل “والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا”. وحسب نصّ الحكاية المقروءة فإن العجوز ستصطب المعلم الى جنان محبوبته والتي لايدخلها الا المحبون، وهذا هو العبور الأخير للمعلم في اطوار الرحلة الى حيث الفردوس المقصور على العاشقين ، وهو ينتقل ويعبر من مستوى القراءة والتلقي الجمالي الى مستوى التمثيل والفعل الرمزي. والمريد الصوفي كما تخبرنا ادبيات التصوف يكون في داخله جوع شره الى العبور وطي مراحل الرحلة للوصول، فهو لا ينظر الى العالم المحيط بمعزل عن الفكرة التي تشمله كليا، ويتحين كل لحظة للعبور الى الماوراء ليصير بذاته الفكرة او الكلمة التي كانت في البدء.
2 – ابنة الشيخ: التي يتوالى ظهورها على الشاشة في اربعة مقاطع مشهدية ويقتصر حضورها على وجود المعلم معها داخل أروقة البيت، حيث تتبدى امامنا طوال الفيلم بوجه لايشي بحقيقة جنسها كذكر امْ أنثى، إنها تشبه المردان في الليالي ، أو الخنثى ”androgynous” في الأساطير الإغريقية ، والتى تجتمع فيها صفات الأنوثة والذكورة معا، وينحصر دورها كوسيط صامت يشير ولايبوح، مكتفية طوال الفيلم برسم الإيماءات والإشارات الرمزية الملغزة التي يتفجر بها الجسد بشكل لا واع. إن الخرس الملازم للفتاة والاكتفاء بالإيماءات الجسدية “الكفان في مواجهة/ إمالة الرأس نحو الكتف اليسرى/ضم اليد اليمنى على اليسرى/ الكشف عن مرآة في باطن اليد ثم ضمها الى موضع القلب/ اقتران الوسطى والسبابة على الفم والعينين”، إنما يشير الى قصور اللغة المنطوقة وعجزها عن ايصال المعنى الباطنى. والرمز في معناه المباشر هو المعنى الباطني المخزون تحت كل ظاهر لا يظفر به الا أهله.
فالرمز والإشارة والحركة هي التعبير الوحيد عن النواحي المستترة التي لاتقوى اللغة على ادائها في دلالاتها، وهي تموضع المسافة بين الوجود المطلق واللغة (17). وعلى سبيل المثال فان رقصة السما المولوية (18)”نسبة الى مولانا جلال الدين الرومي” تشير حسب قواعدها الأدائية الى الصلة التي تربط الإنسان “العالم الأصغر” بالكون “العالم الأكبر” عبر مجموعة من الحركات الإيمائية التي يحاكي فيها الراقص رمزيا حركة الأجرام السماوية، بينما في نفس الوقت يدور حول ذاته كما تدور الدائرة بالنقطة التي تتوسط قبة تعلوه، وهو يشير الى الأرض بيد، بينما يده الأخرى تشير الى السماء في إشارة واضحة الى الصلة بين العالم العلوي والعالم السفلي حيث يربط بينهما الإنسان .
الفتاة هنا في هذا السياق بالنسبة الى المعلم هي أقرب الى الهاجس الظني، فهي الوسيط الروحي المتجسد في صورة إنسانية له، وهي التي تقوده الى ما يتوجب عليه فعله من المعاينة والكشف كي ترتقي الروح بين مستويات الإدراك والمعرفة ومعاينة البصيرة. والإشارة الوحيدة المقتضبة الى الرابطة الواقعية التى تصلها بأهل الدار هو تقديم شيخ القرية لها الى المعلم عند وصوله كابنة له،حيث يفاجأ بنظراتها الصامتة. غيرذلك تنقطع سيرتها الواقعية لتظهر في المشاهد التالية كشبح يلاحق بالصوت والإيماءات المعلم، وعندما ينتهي دور المعلم بالغياب ينتهي دورها بالتالي من الفيلم كأنها لم تكن.
يشير جان بول سارتر في “نظرية الانفعالات”(19) الى أن العالم نراه من خلال انفعالاتنا الذاتية، حيث يتبدل الوجود الواقعي الى وجود سحري، وبالعكس بأن ينكشف العالم ذاته للشعور أحيانا بوصفه عالما سحريا كنا نتوقعه، بل إن السحري بناء من الأبنية الوجودية للعالم، والسحري بإعتباره كيفية حقيقية للعالم لا يقتصر على المجال الإنساني، بل إنه يشمل بديهي الأشياء بقدر ما تحمل الطابع النفسي. وهو ما يؤكد ان المعلم كان مهيأ بشكل قبلي- باعتباره المختار-للرحلة، وان ما تراءى له من عوالم يغلفها ظلال المخيلة والحلم هي صور تقع مابين البين نابعة من أغوار روحه.
3 – المرآة : وهى الأداة التى تستخدمها الفتاة في مقطعين سينمائيين حيث تتطلع فيها بوله، دون أن نرى نحن المشاهدين ما الذى تراه تحديدا ، ومصدر الانفعال الناتج عن فعل الرؤية، فالتخطيط الإخراجى للمشهد لا يحتوى على لقطات ذاتية توضح وجهات النظر “subjective camera angle” لتطلعنا على موضوع الرؤية واتجاه نظرات الفتاة/ المعلم. فموضوع الرؤية لا مرئي بالنسبة لنا، او بالاحرى هو محتجب عنا!.
وقد داعبت المرآة خيال الفنانين والشعراء على مر العصور وذلك لطبيعتها الازدواجية المراوغة والغامضة، وتزخر حكايات الليالي بالعديد من المرايا السحرية العجيبة التي تنطوي على قدرات مرئية غير عادية. كما ان المرآة قد طالت كل مباحث التعبير الفلسفي والديني فهناك: “مرآة العالم، مرآة الله، مرآة الروح، مرآة الإنسان”، ومن ثمة فكل مرآة منها كفيلة بأن تعكس حسب التصور جانبا من جوانب الإنسان وإشكالياته الكبرى منذ بدء الخليقة، ورؤية الإنسان لصورته منعكسة امامه على سطح الماء واكتشافه للأنا وفردانيته الكونية كما في أسطورة “نرسيس”(20) .
لكن المرآة وبشكل خاص تحتل مكانة متميزة ضمن جملة من رموز التصوف الإسلامى، خاصة في الشعر الصوفي الفارسى بما تهيأ من تجاوز لمفهومها كأداة الى مرتبة عليا من التمثيل الروحى والدلالي، لأنها تتصل بفعل الإمكانات البصرية التى تنطوي عليها، على مجاز الترائي والمشاهدة العليا والتجلى الإلهى، وهنا من الممكن أن نتلمس في أداة المرآة نظرية “وحدة الوجود pantheism” وهي النقطة المركزية في فكر محيي الدين ابن عربي القائلة بالوجود كفيض إلهى، وتجل الله وصفاته في اشكال وصور منعكسة عنه. فالخلق والكون مرآة لتجلياته، وهي صور ومرايا لحقيقة واحدة هي الأصل (21) .
يورد الشاعر الصوفي عبدالرحمن الجامى(22) في ملحمته”يوسف وزليخة”حوارية تكشف وتبين معاني التجلي والانعكاس للجمال الإلهي في مرايا الكون والإنسان عبر كلمات يلقيها يوسف الى زليخة قائلا: “إن بارئي العظيم احتجب خلف حجاب السرية، فهو الجميل، وجماله مبرأ من أية شبهة نقص، ومن ذرات الكون خلق عددا من كبيرا من المرايا، ومن خلال كل مرآة عكس مظهرا من مظاهر جلاله وجماله لكل عين مبصرة، فكل مايبدو جميلا ما هو إلا تجل لهذه الملامح”. وفي موضع اخر من القصة تقول زليخة ليوسف وقد امتلأت بكلماته: “والآن مادام قلبي قد تفتح لتلقي هذه الحقيقة المستترة، بأن عشقك ماهو الا مجرد مجاز الى الحقيقة فمن الأفضل لى ان ابرح الصورة الخادعة الى الأصل(23) .
فكأن الصورة التى تتراءى للمعلم هنا هي الوسيط الرمزي بين المرئي واللامرئي، بين المنكشف والمنحجب، لكن حالة التجلي والمشاهدة لاتكون الا في حالة الفناء حيث ترتفع الحجب وهذا لا يكون إلا بالموت، كما يقول جلال الدين الرومى في احد اقواله الشعرية مفصحا عن غاية الصوفي من النظر الى تلك المرآة المجازية: “إن غير العاشق وحده يرى نفسه في مرآة الماء، اما العاشق الحق فلايرى في مرآة الوجود إلا الفناء”.
4- المرأة العجوز: التي لها صورة مرسومة على صفحة الكتاب حيث يتطابق الرسم الحكائي للمخطوط بالرؤيا في حلم المعلم، فهي شخصية نصّية خارجة من متن الحكاية التى يقرأها وتتجسد امام عينيه كتخييل ، وهي تحيلنا بظهورها في التو الى صورة المرأة العجوز التي تتوارد في قصص الصوفية، والتي تظهر للمريد اثناء سياحته لتوضح له مسائل مستغلقة عليه(24). ولكن هنا في صورتها الفيلمية فانها تقترن اكثر بصورة “ملاك الموت “الذي يظهر على هيئة شحاذ ليقبض روح الجدة، تاركا للحفيد حسين وردة ذابلة على عتبة الدار. إنها الزهرة الأولى التي يمسك بها الحفيد خلال حياته القصيرة ليوائم من خلالها “الوردة الزمنية الفانية”حلمه أن يزرع حديقة لايعرف ما تكون عليه في الحقيقة، وهي ذاتها الوردة في الميثولوجيا الدينية والتي تمثل جوهر الشمس هابطا في تويجها، وايضا هيكل “الفسقية” في العمارة الإسلامية التي يتفجر قلبها بماء الحياة رمز الخلود الأبدي، وحيث تتشابه صورة ملاك الموت في فيلم الهائمون بتلك الصورة الرمزية التى تتردد في الأدب الميتافيزيقى عن ذلك الكائن الذي يعبر أغوار الكون من أجل أن يهب البشرية زهرة حيث يتماهى الحلم بالفناء.
•” رمزية الكنز/ الكتاب: إشارات موهمة ” :
لكن ماهي تلك البؤرة الجاذبة ذات الثقل التخيلي المحركة لقوى السرد في فيلم الهائمون؟.
إنها ماثلة في ذلك الكنز المخبوء الذى يجن به أهل القرية، حيث يراودهم حلم الإمساك بالخفي، والذي يؤسس في خفائه بباطن الأرض بؤرة حضور في المخيلة الجماعية، تماما مثل الأجداد الأموات المدفونين في الرمال كالكنز، والذين دشنوا بموتهم/عبورهم الى “الماوراء”خلودا أسطوريا متوارثا في ذاكرة الأبناء والأحفاد، لأنهم المؤسسون لوجود الأجيال التالية في سلاسل متسلسلة كتسلسل الحكايات وتوالدها من بعضها البعض.
لكن في الحقيقة ان الكنز ليس كما يتصوره أهل القرية ليس الاّصندوق أعطاه شيخ مجهول لجدهم “الخطاط “قبيل سقوط قرطبة ،فيه صكوك الملك ومفاتيح القصور والبساتين،وقد استحلفه الشيخ أن يعود يوما ،لكن لما أحس الخطاط بدنو أجله دفن الصندوق تحت شجرة تين،وبمرور الزمن تم نسيان الوعد بالعودة ،وعندئذ حلت اللعنة على القرية جريرة النسيان، حيث بدأت القرية تفقد ابناءها ،لكن اللعنة من الممكن أن تنفك عبر فعل “القراءة” اواسترجاع الذاكرة، عبر مطالعة “الكتاب” الذي أمضى حكيم القرية كل عمره يفك رموزه وشفراته ، والذي على المعلم ان يسلمه الى الرجال الهائمين اثناء غياب اهل القرية لزيارة قبور الأجداد.
هذا الكتاب يقترن في ثقله القيمي بالكنز، وكلاهما “الكتاب المٌرمز/ الكنز الخفي” يشيران الى “مكان مفارق” لم يره أحد وهو “قرطبة”، والذي تغلفه صور الحنين والحسرة عليه، وتحلم الأجيال بوطئه فينتهي بها الحال الى الغياب والضياع في سراب الصحراء.لكن في هاتين الصورتين “الكنز/المكان”فأن القصدية هو الجري وراءالمحال،وسواء أكان الكنز أو الأندلس! فهما يهيئان للغياب والانتقال من حال الى حال. فالكنز يخلب الألباب ويذهب بالعقول،ويقود الى الغياب الكامل بالهذيان والجنون،وايضا يهيئ في نفس الوقت للانتقال من حال الفقر الى الغنى،”فكل حال يزول” كما نقش على أحد ابواب القرية. وبنفس القياس فإن ابتغاء الرحلة هو انتقال من مكان” متعين” الى مكان”متصور”ورؤيوى يقع ايضا في دائرة التخيل والحلم، فيما وراء الظاهر.وسواء”الكنز/قرطبة”فهما محتجبان عن النظر،يقعان في حيز خفي كالجوهرة المصونة.
لكن كثيرا ما تقترن المعانى في المعاجم اللغوية بالكنوز والنفيس من المعادن متخذة صورا مادية محسوسة تستدعي سعي الإنسان وراءها بحثا، وكما يقول “الجرجانى” في “اسرار البلاغة”:أن الباحث عن المعاني كالقابض على الدرر (25). وفي لعبة الاستعارات عادة ما تقترن “الفكرة”اوالومضةالأولى للخلق الإبداعي بالعثور على الكنز كناية عن صعوبة الوصول اليها ضمنيا.نحن اذن امام أدوات وصور مادية مراوغة تقع بين الظاهر والباطن، بين الهنا والهناك،لكن تلك الأدوات ماهي الاّ رموز وإشارات تعلن عن نفسها من خلال الواقع، فهي إشارات تٌشير الى المٌشار الخفي،أو المعنى الدلالي الذى يقع فيما وراءه، والتي هي في صميم المكوّن اللغوي للنصّ الصوفي، فالرموز والأسماء هي وسائل لبلوغ الحقيقة،ولا يجب أن يقف عندها المرء- كما يقرر المتصوفة- فيحسب الظاهر باطنا. لكن “الخفاء”يمثل في الثقافة الإسلامية بنية معرفية ذات ثقل مقدس،لأنه صفة من صفات الذات الإلهية‘التي هي علة الوجود المحسوس، لكنها في ذات الوقت كائنة فيه، فهو الظاهر والباطن معا.ويحتفي المتصوفة في ادبيات الصوفية بالحديث القدسي الذي ورد فيه: “كنت كنزا مخفيّا، فأحببت أن أٌعرف، فخلقت الخلق بي عرفوني” فالتأويل الصوفي للقول المقدس يرى أن الذات الإلهية كانت قبل ايجاد الخلق خفيّة، غير معروفة ولامرئية، ثم اراد الله أن يرى ذاته في شيء آخر غير ذاته، فخلق الخلق، وأوجد العالم، فكان هذا العالم بمثابة المرآة التى يرى فيها الله ذاته، ويرى من تجليه على صفحتها خلقه، وبهذا المعنى كان خلق الله ثمرة من ثمرات الحب الإلهى (26).
•”طوق الحمامةالمفقود/المدينةالمحتجبة”:
في المشهد الأخير من فيلم الهائمون يهرع الطفل “حسين “الى قبر جدته ويخبرها بأنه سيرحل الى قرطبة،ويوصيها أن توقظه في الصباح كما اعتادت أن تفعل،لكن عليها أن توقظه هذه المرة ابكر من المعتاد، ثم يتمدد فوق الثرى ويروح في النوم.لكننا لانعرف اذا كان قد غفا فعلا امْ انه مات دون أن يتحقق حلمه بالعبور الى ماوراء البحر!؟.
قرطبة في” طوق الحمامة المفقود “هي المدينة الضائعة المحتجبة في الثقافة العربية والتي يعمل ناصر خمير على ابتعاثها من وقت لآخر عبر أفلامه ،حيث يموضعها موضع سؤال حول الهوية ” الماضي/ الحاضر/المستقبل”،عاكسا عليها اسئلته حول الوضع الراهن للثقافة العربية،بالنسبة لما كانت عليه في الماضي من ازدهار،دون أن يغفل تحليل وفهم الأسباب المأساوية للأفول ،وبالتالي فإن” المدينة “تشكل خطابا إنسانيا في حوار الحضارات الأخرى، وحيث تتحول المدينة المبتعثة في فضاءاتها المختلفة الى مجرد استعارة رمزية.والمقصود هنا هو رمزية المدينة وماتحتله في الوعي الجمعي لثقافة معينة من مكانة متميزة سواء في جانبها الديني والتاريخي .فقرطبة هي فضاء متعين في حيزه المادي ،لكنها في ذات الوقت مفارقة للتعيين والتحديد حيث ترتفع فوق حدود المكان بما تمثله من رمز
يكتب المستشرق الفرنسي”جاك بيرك”في مقدمة الفيلم قائلا:”ليس الهدف إعادة صياغة زمان ومكان معينين في الأندلس،ولكن الهدف هو أن نحقق عبر الذاكرة ذلك الانعكاس الهش لبستان منسي.لكن لماذا الأندلس؟.لأنها أرض التقت عليها ثقافات متعددة، حوار حيّ بين الديانات والأجناس،والتي يمكن قراءة آثارها اليوم في النصوص والموسيقى والحدائق مابين الأطلسي وبحر الصين.إنها المكان الهندسي للحب،وصورة متعددة ومكثفة للآخر،انها ليست رواية لقصة حب تدور في الأندلس،ولكن الأندلس كعين للحب عبر عطوره وأشعاره وحدائقه.هذه رحلة لشابين ولدا للحب وسط عالم نٌذر لمذبحة، لكن املهما -وهو- امنيتنا اليوم- أندلسيات تحمل في داخلنا حطامها،ورجاءها الذي لايهدأ”.(27)
وإذا كان الهائمون يشير في ثناياه عبر بنيته الرمزية الى ذلك المكان المفارق”الأندلس”أوتلك الجنة التي اندحر عنها العرب بعد ارتكاب فعل الخطيئة،فإن طوق الحمامة يبدأ وينتهي على أرض الأندلس،حيث تدور أحداثه في نهاية القرن الحادي عشر الميلاد ،عند المنحنى التاريخي للسقوط. إنه بحث مستحيل عن الحب في زمن الحرب،وبحث عن كتاب في زمن الجهالة،وبحث عن مدن لن يبقى منها شيء في النهاية سوى طلل بعد عين.نحن اذن امام فيلم يتطرق في خطابه الى قوة المنسي في الذاكرة العربية،بعد فوات ما يقرب من عشرة قرون على الخروج.،ومع فقد الأندلس أوتلك الجنة التي وعد بها العرب في جغرافيا بديلة،فإنها خلفت وراءها لحظة ضياعها غنائيات الحنين الجمالي للغياب ذاته. إن جانبا كبيرا من الذاكرة الشعرية للعرب في معلقاتهم هو غناء مسحور بالأطلال، واقتفاء أثر ما كان على رمال الصحراء،والحسرة على هناءة العيش التي قوضها هادم اللذات.فملاك الموت يحل في الثقافة العربية محل الزمن الذي يشبه النهر في الاستعارة الفلسفية الشهيرة. لكن،وهنا، في فيلم ناصر خمير فان ملاك الموت يتجلى في الحروب والانشقاقات الطائفية، وفي الجور والظلم الاجتماعى،واستبداد الملوك بعروشها حتى آخر رمق، وايضا في حرق الكتب وجعلها طعمة للنار. تلك هي انعكاسات على الموت والأفول،بعدما وصلت الحضارة الى تخمة الحياة، فعليها الآن أن تعايش الانحطاط التاريخي،وأن تسقط في وهدة الموت وأداته الحروب والفوضى الكارثية.
الحب والموت هما اذن موضوع فيلم طوق الحمامة،ولكن لا يفوتنا بالطبع الإشارة الى عنوان كتاب ناصر خمير السابق ودلالته”اغنيات الحب والموت”الذي استوحى رسوماته عن اشعار ماريا ريلكه بنفس العنوان. لكن ثمة مايدعونا الى التأمل في هذا”الغياب/الفقد”بفعل توارده وتكراره بين كافة الثقافات البشرية،والذي يتمثل في تقنية”الإزاحة” والاستقطاب اللاوعي، كبؤرة للحضور الرمزي والحسرة على ارتكاب الخطيئة الكبرى التي ادت الى الطرد من الفردوس الأرضي،وحيث يتجاذب هذا الغياب المادي والمعنوي: ذكرى الخروج المؤلم/وحلم العودة مجددا الى المكان.
تدور كثير من أفكار المتصوفة حول فكرة”الخروج “الإنساني الأول، والطرد من الجنة، في تلازمه مع الانشقاق عن الذات الإلهية والرحم الكوني.فمنذ خروج أدم من الجنة بفعل اكتشاف الوعى بالذات والأنا والإنسان ما فتئ يتلفت وراءه ندما على طرده من جنة عدن حينما كان التناغم الكلي قائما، وحيث وٌلدت في تلك اللحظة الذاكرة،والحنين الى بيته السماوي والنبع الأول لخلقه، ،وايضا الندم على ارتكاب الشرور.
هكذا من الممكن أن يتلاعب ناصر خمير بإطار المكان الديني في القصة الصوفية،واضعا قرطبة – المدينة الموبوءة بالحب والموت- محل جنة عدن في الذاكرة الجماعية لمجموعات بشرية لاتزال تتلفت وراءها عبر التاريخ حنينا الى “الرحم المكاني” الذي ارتبط فيه فعل الخروج والطرد بارتكاب المعصية،والتي هي استبدال التعدد بسيادة العرق الواحد،دينا وثقافة ولسانا.
فعبر تاريخ المدن الحضارية تظل “بابل” هي المدينة المقدسة إنسانيا، كمثيلتها “قرطبة “المدينة المقدسة جماليا ،كساحات تلاقيات مستحيلة من حيث أن اللاتجانس اللساني والتعدد التأويلي شرطان اساسيان لاستمرار وجودهما المعرفي والحضارى. يشير “نصر حامد ابوزيد”الى هذا المعنى في دراسته “ابن رشد:التأويل والتعدد”:فلم يكن من قبيل المصادفة أن يولد ابن رشد في بيئة الأندلس، ملتقى العوالم والتقاء الثقافات بعد التقاء اللغات والأديان.إنها البيئة التي انتجت عقلانية ابن رشد وصوفية ابن عربي وإشراقية ابن طفيل.إن “حي بن يقظان” هوالباحث عن الحقيقة وراء اللغات والأديان،الحقيقة كما يصل اليها الإنسان المتوحد في الفلاة معتمدا على حواسه وتجاربه وخبراته، منتقلا من الحسي الى العقلي،ومن العقل الى ماوراء المادة والعالم،فيصل الى الحقيقة التي لاتخالف ما وردت به الشرائع السماوية على لسان الرسل والأنبياء(28).
****
•”االتتابع السردي/ بنية الرحلة” :
حسن مريد لأحد شيوخ الخطاطين بمدينة قرطبة،والذي امضى عشرين عاما يبدع في حرف الواو مستكشفا اسراره /يهيم حسن عشقا بابنة الشيخ دون ان يقدر على مصارحتها ،لكنه يبحث عن مترادفات كلمات الحب في العربية،مصادقا الطفل “زين” الذي يتخذه شباب المدينة رسولا بين المحبين،وينظر اليه كلقيط، لكنه في الخفاء يأوي قردا داخل جرة، يعتقد فيه إنه انسانا من أصل أميري تم مسخه،لكن أمه تخبره بأن اباه الحقيقي”جني “عاشرها ذات ليلة،وانه سيأتي في يوم ما ليأخذه ،حيث يحلم بعودته ليعيد القرد الى هيئته الاولى/ يعثر حسن وزين على صفحة من كتاب محترق “مجهول المؤلف” ،يخبره حارق الكتب بأن مجهولا أمره بحرق الكتب لأنها مسمومة،وحتى لايجد(يسرق)أحد حلمه “بأميرة سمرقند”. يقرر الشيخ الخطاط السفر الى مكة ارض الأجداد ولقاء صديقه عيسى الصيدلي،تاركا حسن يهيم عشقا بصورة أميرة سمرقند وحكايتها، باحثا عن كتاب لا يعرف مؤلفه ولم يبق منه سوى شذرة وحيدة، وبينما يطالع مفرداته التى جمعها يتخايل امامه فارس على جواد له وجه ليس بالذكر ولا بالأنثى ،لكنه يختفي فجأة كالسراب .وبمساعدة زين يقتحم حسن مخزن الكتب خلسة للبحث عن الكتاب لكن النيران تشتعل في المخزن ويختفي زين وسط النيران ،ثم يظهر زين وحيدا تحت شجرة الأمنيات ويتراءى له اباه الجنى الذي ينزل به داخل مقبرة جاذبا اياه الى عالمه السحري .يموت الأمير فتسود المدينة الفوضى والقلاقل بين الناس، وتبدأ الفرق السياسية المختلفة في التناحر ،بعد أن طوّق المستضعفون اسوار المدينة استعدادا للهجوم عليها . يقررحسن اللحاق بشيخه في مكة وفي طريقه يرى الموت قد طال كل شيء من حوله ،ومن جديد يصادف الفارس”عزيز” ،واثناء مطاردتهما من قبل المتطرفين يفترقان مجددا .يجرح حسن ويأخذه بستاني لمعالجته لكنه يسمع صوت نواح يتردد صداه ويخبره البستاني انها”اميرة سمرقند “تنوح على حبيب لاقته في حلمها، وان نواحها يذبل بستانه يوما بعد يوم .يصل حسن الى بيت صديق الشيخ وهناك يلقى عزيز الذي يقع في غرام حسن فيرتحلان معا، وفي طريقهما يمران برجل يحمل جثمان سيده الأمير لدفنه في “جنان حلم” حيث تنتظره اميرة سمرقند، ويعطيه كتاب سيده الذي اودع فيه حلمه،ويكتشف حسن انه نفس الكتاب الذي يبحث عنه”طوق الحمامة”،وأن “عزيز” هو اميرة سمرقند العاشقة متخفية في رداء فارس، وفي لحظة المكاشفة يهجم عليهما المعدمون فيندفعان الى البحر هربا ويغرق الكتاب في قاع البحر. يواصل حسن رحلته فيمر في واد مقفر بشيخ يقتعد الرمال في الليل ويخبره بأن هذا المكان كان يحتله في الماضي سوق المدينة وكان يبيع فيه الكتب ،ويقص عليه حسن حكايته وجريه وراء حقيقة الحب ،ولقاءه بأميرة سمرقند التي فقدها دون أن يعرف من تكون في الحقيقة، لكنه يفاجأ بقلم شيخه الخطاط بحوزة العجوز ويفهم ان زمنا طويلا قد مرّ عليه في سفره. يعود حسن الى قرطبة لكنه يجدها تحولت الى طلل، وقد حاق الخراب ببيت شيخه، فيجلس على حافة الفسقية ذاهلا، متذكرا كلمات شيخه الصوفي عن حرف الواو.
****
أردتٌ من خلال التدوين السابق لتتابعات الحركة السردية للفيلم، أن يقف القارئ على كيفية تصميم بنيته ،والتي تستمد طاقتها من فعل”العبور”الحركي المتدفق بكافة تنويعاته البصرية والروحية،والذي يتشكل كوحدات صغرى داخل قالب “الرحلة/البحث” الذي يكوِّن العمود الفقري الذي ينتظم من خلاله السرد وتتابعاته. فالرحلة هي الفكرة البنائية التي تنطوي داخلها كافة المحاور الرئيسية وتنويعاتها الدرامية كالبحث عن: “المعرفة/الحب/الأب/السلطة /الزمن/ الله /الحلم والانعكاسات المرآوية/الوحدة والتعدد/اللغة”، وهذه المواضعات هي التي تشكل في مجملها التيمات الأكثر استعمالا وتوظيفا في السياقات المختلفة في أفلام ناصر خمير،والتي تتكرر من فيلم الى آخر،إنها بالاحرى رحلة بحث معرفية وانطولوجية عن القيمة المضافة الى الوجود الإنسانى، والتى تكسبه شيئا من المعنى .
ويحفل التراث الإسلامى في أدبياته بصور متنوعة من قصص الرحلات واجتياز الآفاق، وذلك مرجعه الى انتشار الإسلام خلال فترة الفتوحات، وما تلاها من عصر الأستقرار والازدهار حتى مشارف القرن الحادي عشر الميلادى.والحج كشعيرة مقدسة كان من أهم العوامل التي دفعت بالمسلمين الى الرحلة والانتقال فهى مطلب ديني،وفي القرآن آيات كثيرة تنبه وتحث على فضيلة السفر وتدعو اليه:”قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق”.وقد نوه ابن خلدون في مقدمته بأهمية الرحلات في طلب العلم،ولاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الترحال(29). ولعل اشهر الرحلات المتخيلة في الأدب هي رحلات السندباد في الليالي، والتى تقدم من خلال بنيتها الفنية انموذجا لكل مخطط سردي يتخذ من شكل الرحلة قالبا فنيا له،حيث تحكي ما لاقاه خلالها من عوائق ومخاطر كان عليه اجتيازها لينعم بعدها براحة الوصول في النهاية وخاتمة الحكاية الى دارالسلام أو”مدينة بغداد” حاضرة الدنيا في الف ليلة وليلة.
والرحلة في مخططها عبارة عن خط زمني يصل بين نقطتين هما:”الرحيل/بدايةالرحلة “-“العودة/نهاية الرحلة” وبينهما فواصل مكانية تمثل مشاق الرحلة من أطوار المشاهدات والمجاهدات التي تواجه العابر. لكن في طوق الحمامة، تتعدد اشكال الرحلة وايقاعاتها واهدافها الجمالية والوجودية فهناك:”الرحلة الصغري” :وهي التى يقوم بها “حسن/زين” في ارتيادهما وتجوالهما بين أماكن مختلفة داخل المدينة”السوق/جامع قرطبة/المقابر/بيت شيخ الخطاطين/طرقات المدينة/حمام النساء/الفرن/مخزن الكتب/برج الحمام الزاجل”. “الرحلةالكبرى”: والتي يقوم بها “حسن “بمفرده،عندما يقرر ترك قرطبة للبحث عن شيخه حيث يصتدم بالموت والحرب في العالم الخارجى. “الرحلة المعرفية ” : المتمثلة في بحث “المريد حسن “عن مفردات الحب في اللغة العربية ،ثم بحثه عن كتاب لا يعرف مؤلفه ،ثم التدرج في رحلة البحث الرمزية عن الأسماء الى حقيقتها الماورائية “الرحلة الروحية”: وهي التي يتم من خلالها المراوحة بين عوالم باطنية،وتخيلية غير واقعية،مثل عشق ” حسن” لأميرة قرطبة المرسومة على صفحات المخطوط وانعكاساتها في صور متعددة، والبحث عن حقيقة الأصل لذلك الانعكاس النصيّ.أو انتقال الطفل” زين “من العالم الأرضي المحسوس الى العالم ماتحت أرضي “عالم الجن”.في عبوره السحري.
..لكن السرد الزمنى للرحلة في الحاضر يتم قطعه بحكايتين تخترقان الحكاية الأصلية”بحث حسن عن مترادفات الحب” ويحولان مسارها السردي بأستخدام تقنية”التضمين التراكمي”،حيث تتوالد بشكل فجائي حكاية من جسد الحكاية الأصلية بفعل الصدفة المحضة- لقاءعابر- تاركة أثرها في نفس بطل الحكاية الرئيسية،ولكن ينتهي دور شخصية الحاكي لتلك الحكاية التضمينية بمجرد إحداث الأثر والتحول فلا تعود للظهور مرة اخرى. والهدف الوظيفي من وجود حكايات التضمين داخل عملية السرد هو إما تحويل اتجاه السرد الى مستوى اعمق واكثر تركيبا وتعقدا عبر التشابكات حتى يصلا في حبكتيهما”الحبكة الرئيسية والفرعية”الى التماهى والتوحد ليصبحا حكاية واحدة ،كما في لقاء المصادفة بين “حسن والفران “اثناء سيره في طرقات المدينة فيلتقي برجل يأمره بحرق الكتب بدعوى انها “كتب مسمومة” وبالكاد ينقذ صفحة محترقة من كتاب تحكي قصة اميرة سمرقند التي سيقع في عشقها ،حيث يتنقل بعد فعل القراءة بين الخيال الفنتازي والواقع الحسي في تصوراته عن الكينونة التى تكون عليها بطلة الحكاية. يظهر حارق الكتب”كشخصية ثانوية” لمرة وحيدة ليقص علينا بشكل مشهدي :”فبينما هو جالس في المقبرة هتف به هاتف من بعيد ستجد بقرب الفرن كيسا من الكتب فاحرقها” عبر تقنية” الفلاش باك” قصة ذلك الأمير الذي أودع سر عشقه “في المخيلة” لأميرة سمرقند في كتاب ثم فكر في حرقه حتى لا تنتقل عدوى العشق الى الآخرين عبر فعل التخيل المنتوج عن قراءة الحكاية.
اما الوظيفة الأخرى لعملية التضمين السردي هو تماس المعنى الدلالي مع الحكاية الأصلية من اجل ايصال رسالة خفية الى البطل الرئيسي عله يتفكر في حاله، بالإضافة الى تنبيه” المشاهد” الى المستوى الدلالي الأعمق الذي يستتر خلف ظاهر سردية القصة الخادعة، كما في لقاء حسن بالدرويش الصوفي عند مشارف المدينة فبينما هو مستغرق في قراءة الصفحة المحترقة اذ تتعالى صيحات وضحكات الدرويش الهاذية ممسكا برمانة، ويقص على حسن حكايته في “فلاش باك” عن الرمانة التى جرفتها المياه اليه وفي لحظة افاقة من سكره الإلهى اشتهاها فكاد ان يغرق:”سنوات من الحب والشعر الموجه اليه تعالى،كل هذا الحب يطمس في لحظة جشع”(29) .وعندما يسأله حسن عن معنى الحب يعطيه”الرمانة” ويأمره بأخذها .
هنا لقاء تماس بين نوعين من أغراض الحب التي تتعارض في اهدافها،وإن كان يربط بينهما وشائج من التوريات بين الحب الإلهي والحب الغزلي الذي يستخدم المتصوفة قاموسه ومفرداته من اجل التعبير عن مواجيدهم في صورة اقرب الى الفهم الشعوري الإنساني وكثيرا ما يتم الخلط في الشعر الصوفي بين الحب الإنساني والحب الإلهي في استعاراتهم اللغوية من قاموس الحب العذري والخمري الذي خلفه المحبون من العذريين (30)، فالدرويش مثل الخطاط الشاب ممسوس بالكلمة الإلهية باحثا عن اسماء الله في الكون، وانعكاساتها من حوله. فموضوع المعرفة واداتها وغايتها هي بعينها تمثل موضوعا للحب وأداته وغايته فالعارف الذي يتكلم عن معرفته،إنما يتحدث عن الحب ولكن في لغة المعرفة ،فالعلاقة بين العارف والعاشق هي علاقة تبادلية تتمحور حول الصراع والمكابدة بين الكتمان والبوح. كتمان وتستر العارف على مايكنه من حقائق كلية، وتحايل العاشق على الكتمان للبوح بمكنون عشقه، فكلاهما يكن في صدره عواء مهلك،فالعاشق اذا سكت هلك،والعارف اذا نطق هلك.. ومن هنا يحول الخطاط الشاب وظيفة الرمانة المعطاه له من قبل الدرويش من طبيعتها كثمرة تؤكل الى لوح يسطر على سطحها مفرداته التي قام بجمعها ،حيث تصبح أداة من ادوات التدوين ونقل المعرفة،فضلا عن كونها كلمات معبرة في تمثيلها اللغوي عن المه العاطفي وجوعه الى الحب.
لكن في هاتين الحكايتين اللتين تقتحمان عنوة مجرى الرحلة، يٌوهب الى الخطاط الشاب شيئان يثقلان السرد بمراوغتهما الرمزية كعطية لاترد، واللذان سيكونان زاده في مواصلة الرحلة- لكن دون أن نغفل عنوان الكتاب الأول الذي كان يبحث عنه المريد في المشاهد الأولى داخل سوق الكتب وهو”زاد المسافر”لابن الجزار. أولهما: صفحة من كتاب مفقود عليه ان يعثرعليه لكنه يجهل مؤلفه وهو ما يعقد من متاهة البحث.وثانيهما: الرمانة التي سيكتب عليها ما جمعه من كلمات الوجد الروحي التي القاها اليه الدرويش الصوف حيث سيحول من وظيفة الرمانة كثمرة تؤكل الى سطح يٌكتب عليه ماجمعه من كلمات الحب لتصير أداة معرفية،ولكن ثمرة الرمان سيتكرر حضورها الرمزي في النصف الثاني من الرحلة خارج حدود قرطبة، وذلك عندما يقدم عزيز الفارس المقنع رمانة أخرى اليه كأشهى طعام الجنة كل حبة منها هي فردوس فيردها قائلا :”إنه لايعرف أكل الرمان”. وفعل تقاسم المرأةرمانة مع رجل في العادات الرمزية والمعتقدات يعد بمثابة اعلان اقترانه بها حتى الموت ،،كما انه يرمز به في الفن الأيقوني المسيحي وفي الصوفية الإسلامية الى فضيلة الإحسان الذي تنتشر حباته وتنفرط عندما يتفتح(31).
• “المدينة كمخطط سردي” :
ولكن كيف يمكن موضعة المدينة كمخطط طوبوغرافي ومعماري يعكس طبيعتها الحضارية في القرن الحادي عشر داخل المخطط السردي للنصّ الفيلمي، والذي يتخذ من تيمة الرحلة بنية له؟.وأن يتطابق الفضاء الروائي والحركة السردية في دوافعها وأهدافها الدرامية بالفضاء المديني لقرطبة كحيز بانورامي يضم داخله كل التيمات الإنسانية وتتصارع على رقعته كل الخلائق والرغبات والمقاصد المتنافرة- لكن دون اللجوء الى بنية الفيلم التاريخ في سرد قصة اندحار مدينة – وانما تقدم لنا عبر عدد محدود من الأماكن التى تنوب بشكل تلخيصي عن ،حيث يتم استعراضها بأقل قدر من التكلف البصري، وبأسلبة تصويرية” stylisation” تقترب من التجرد الشعري. فذلك لا يكون الا عبر خلق موتيف سينمائي يتمثل في”فعل حركي” وظيفي ،يتجسد في حركة عبور بطلي الفيلم”حسن/زين” في رحلاتهما بين أرجاء المدينة،وارتيادهما لتلك الجيوب المكانية. فالفيلم بأكمله هو متوالية من التدفقات الحركية لعبورالشخصيات بين مناحي المدينة، وحيث تؤتي المدينة من جميع اتجاهاتها عبر فعل”السير” .ونوعية الفعل الحركي ووتيرته الإيقاعية يتخذ لنفسه شكلين متضادين في أدائه ووظيفته لبطلي الحكاية، انه أشبه بلزمة موسيقية “leitmotiv” يتكرر بشكل دال للإيحاء بسمات الشخصيتين وتكوينهما النفسي،بالإضافة الى الإفصاح من خلال آلية الحركة داخل الأماكن التي يتحركان داخلها ونوعيتها عن منزلتهما الإجتماعية في المدينة:
1-حركة منفلتة: يمثلها الطفل “زين”اللقيط، الذي يتجاوز في تحركاته كل أشكال الرقابة والمراقبة الانضباطية بالمدينة، فهو يخرق المحظورات الأخلاقية ويقوم خفية بنقل رسائل العشاق،فهو القوة الحركية المتدفقة الذي يصل شخصيات الفيلم ببعضها البعض ،ويحلم بالانتقال الى عالم سحري مرده انتسابه الى ابيه “الجني”الذى عاشر أمه في الماضى، ويخرج الى مشارف المدينة ليعلق شرائط من الأمنيات انتظارا لعودته، لكنه في العبور الى العالم التحت أرضي بموته، حيث نراه وقد شمله السكون والراحة النهائية التي تشبه حالة”الاتركسيا” ،حيث يتحرك هادئا متأملا بدهشة عالمه الجديد. انه في اللامكان حيث تنعدم الظلال كليا في الصورة المصنوعة على اسلوب المنمنمات الفارسية لبهزاد ()، والتي تتصدرها شجرة وارفة تشي لنا في تجردها الخطي بلا واقعيتها.
2-حركة منضبطة: يمثلها”حسن”الخطاط الذى يرتاد أماكن محددة بطلب المعرفة مثل مجالس العلم بالجامع الكبير، او بمكان عمله ببيت شيخ الخطاطين، او بحوانيت باعة الكتب، او اماكن تتصل بنوازعه العاطفية مثل برج الحمام الذي يراقب من خلاله حبيبته ليلى عن بعد. وفي النصف الثاني من الفيلم عندما يغادر اسوار قرطبة تتحول حركته الهادفة الى حركة مذعورة مشتتة لا اتجاه لها ،اثناء مطاردته من قبل المعدمين اوالجماعات المتطرفة التي تحرق وتدمر كل شيء،حيث ينتهي به الحال في نهاية الفيلم الى حركة هائمة آخذة الشكل الزجزاجى كما تظهر في مشهد الوادي المقفر وهو يسير بين هضاب جبلية في أوبته الى حطام المدينة بعد مرور زمن على مغادرته لها، وفي الحركة الأخيرة يتلبسه ايقاع اقرب الى حالة من السكون التام في جلسته على حافة الفسقية ذاهلا عن كل ما يقع خارجه، فمتواليات الحركة الظاهرية للجسدفي ايقاعاتها المتبدلة خلال رحلة البحث افضت في النهاية الى انارة الداخل،فلم تكن الرحلة الاّ في داخل ذاته، وماكانت دلالتها الاّ عليه.
فالحركة القصدية لشخصيتى “حسن/زين” عبرالخريطة المكانية للمدينة ناتجة عن رغباتهما ومخاوفهما وأحلامهما، ومع كل حركة ذات اتجاه محدد يصل بين النقاط المكانية للخريطة، فان الحركة تشير الى الحقول الأخلاقية المشرعة والمحرَّمة داخل النسيج الثقافي للمدينة. ومن ثمّ فبإمكاننا أن نرى الحكاية ومصائر شخوصها المعلقة بمصير المكان ذاته عبر طرقات وأقبية وبساتين وساحات المدينة، بل ان رسم محاور الحركة”افقية/دائرية/حلزونية/امامية/خلفية” تجسيدا لمواضع “التجاور/التباعد/الاحتواء/الانقصال ” تأتي تأسيسا على الهندسة المعمارية للمكان ذاته الذي يحدد زوايا النظر”أفقي/رأسى”- كتلصص حسن واختلاسه النظر الى ابنة الشيخ خلال لهوها في باحة البيت – ان بناء المكان الضيق الذي يستخدم كمأوى للحمام الزاجل الحامل لرسائل المحبين لايسمح الاّ باتجاه واحد للنظر المعبرعن مكابدة المريد لعشقه من جانب واحد.ومن ثمّ فان نظرته اليائسة الأحادية ترتد اليه في نهاية المطاف لتتحول من مجرد عاطفة شعورية إنسانية الى عاطفة ذات نزوع جمالي متمثل في إيجاد بديل لغوي”مترادفات الكلمات” قادر على احتواء العاطفةالمكبوتة. كما أن الحركة بين الأماكن العامة”السوق / ودكاكين باعة الكتب /الجامع الكبير/حمام النسوان”حيث تتقابل الشخصيات وتتلاقى الأهواء والصدامات فانها تحدد التداخلات السردية كاشفة عن النسيج الإجتماعي والسياسي،ونمط السلطة الحاكمة للمدينة. إنها اماكن مفتوحة تؤدي وظيفة الاتصال ونقل المعلومات كما انها تمثل مركز المدينة وسُرتها بجوار الجامع الكبير كعادة التخطيط في عمارة المدينة الإسلامية()، بينما المقبرة غير المأهولة التي تشيد على اطراف المدينة هي مكان لإدارة المؤامرات السياسية على النظام الحاكم للمدينة. اما اسوار قرطبة فهل تمثل كخط فاصل ثقافي وايديولوجى بين عالم يشرف على الانهيار وعالم آخر يقع خارج السور يتأهب للانقضاض والاستيلاء على السلطة القائمة حيث يستعد المعدمون للهجوم لكن خريطة المدينة يعاد تشكيلها ايضا في كل لحظة حسب الأهواء والتخيلات كما لو كانت ممسوسة بمس سحري بمجرد النظر اليها “فعل الرؤية الى الداخل”،ففي أحد المشاهد يدخل زين الى رواق مسجد قرطبة فيرى الأعمدة قد تبدلت الوانها، يراها رؤية العين -وحده- ويصر على أن ما رآه هو الحقيقة:”رأيتُ مارأيت فليس ذنبي أن أرى ما لا يراه الآخرون”.هكذا يتلون المكان بعاطفة الشخصيات،حيث التبادل السحري بين المكان ومخيلة زين ورغباته الداخلية،والمراودة بين العالم الظاهري والباطني. وهو الأمر نفسه بالنسبة للخطاط الشاب الذي يرى في لمحة بصر خاطفة صورة “اميرة سمرقند “متقنعة أمامه في صورة فارس على جواد. وبهذه الكيفية النسقية تمتزج الخريطة المدينية بالخريطة الحكائية المتخيلة ،ومن هنا تصبح كل خطوة تخطوها الشخصيات بمثابة رحلات معرفية ووجودية كاشفة ترسم خريطة الكائن والمكان في تحولاتهما معا، كما أن مكائد الزمان ترسم ايضا خطوطها في النهاية على المكان بتحوله الى طلل وخراب،عندما يعود حسن الى المدينة بعد تطواف فيجلس في باحة بيت الخطاط المدمر، مستعيدا كلمات شيخه عن حرف الواو،حيث يبدأ رحلته مجددا من حيث انتهى شيخه اليه.
•”الحروف والأسماء/الظاهر والباطن “:
لقد ورث المريد شيئين عن شيخه الراحل اولهما:”القلم” الذى يعثر عليه صدفة على طريق الرجوع في وادي مقفرمن الزرع بعد سنوات طويلة من التيه حينما يجد نفسه في ما كان في الماضي يمثل سرة المدينة حيث كانت تباع الكتب.اما العطية الأخرى فهى: حرف من حروف الهجاء هو حرف “الواو”،عندما تتردد في نهاية الفيلم والرحلة صدى كلمات الشيخ في ذاكرة المريد “الواو هو الحرف الوحيد المتضمن لمعناه، فريد ومتعدد على صورة المصور..حرف مسافر”(32). ،لتعيدنا الكلمات الى نقطة الصفر من حيث قابلية ان تبدأ الحكاية اوالرحلة مجددا لكن في اتجاه آخر.
القلم في اشارته المباشرة والوظيفية يشيرالى حرفة الكتابة ومنزلتها في الحضارة الإسلامية وهو قرين المعرفة، ومن ثمَّ فان ما يثيره القرد الممسوخ “هارون”،المستنسخة قصته من كتاب الليالي (33) من دهشة واحترام في نفوس اهل قرطبة يرجع الى اتقانه لصنعة الكتابة بخط اميري ،واحتفاظه بمملكته الإنسانية التى تفرقه عن الحيوان حتى بعد مسخه وتحوله الى هيئة قرد لكنه بقي عاقلا وفاهما .
وفي المشاهد الأولى من الفيلم يلقن الشيخ درسه الروحي للمريد عن الخط قائلا:”الخط اكثر من المقاسات ،الخط ايقاع مطلق هو الصلة بين العالم الظاهر والعالم الباطن،الحرف هو صلاتنا بهذا وحده يصير الخطاط شاهدا على البهاء الإلهي”(34). ان الدرس المستخلص من حكمة الشيخ يعني اكثر من الصنعة،فهو يتطلب من الصانع الايمان الروحي لأن الأمر يتعلق بنسخ كلمات إلهية مقدسة”القرآن” ونشرها بين عموم الناس.وقد أولى المتصوفة الى الحروف الأبجدية اهمية كبرى باعتبارها رموزا إلهية،فاعتبروا الكلمة أعلى درجات التجلي الإلهي ،ولا يمكن التعبير عن الله وصفاته الا بوسطتها ،وتستهل العديد من السور في القرآن بحروف مجهولة المعنى وهي سر من الأسرار الإلهية، بل إن بعضها قد يتخذ مراتب عليا عن حروف أخرى(35)، والحروف هي الصلة بين العالم الظاهر المنعكس عن العالم الباطن وهو ما يتصل بموضوع “المشاهدة”(36) التي تتراءى للمريد الخطاط اثناء الرحلة عندما يجد نفسه داخل بستان فيسمع نواح اميرة سمرقند فيتتبع الصوت ليصل الى كوة في جدار هو الحاجز بين عالم الواقع وعالم الأطياف الحلمي حيث يرى منها معشوقته النصيّة المرتسمة على صفحة كتاب مفقود..فكلمة”شاهد” والتي تحتوي داخلها كفعل على معان متعددة منها”الانجذاب /الذهول/ الدهشة/السرور”وايضا اكتشاف المغايرة خارج حدود الذات والحضور الروحى والالمام الكلى بمعان متعددة في لحظة واحدة ، وكما تذكر المستشرقة”انيماري شيميل” فان الكلمة تتوارد في الشعر الصوفي الفارسى على الأخص للتعبير الكنائي عن رؤية وجه الحبيب ،فالتغني بجمال وجه المحبوب البشري لأنه الشاهد الحقيقى على الجمال الإلهي فالله خلق الإنسان على صورته (37). ومن هنا فقد صارت ليلى العامرية ايقونة ونموذجا للشاعر الصوفي الذي يبث عشقه الروحي ويهذي وهو يهيم على وجهه في الصحراء، متخذا لنفسه نفس المكانة التي كان عليها المجنون،وهو ايضا ما يتصل بموضوع التداخل بين”العشق الإلهي/العشق الإنسانى”وكما نقشت زخرفة على رأس منبر مسجد”سارية” بالقاهرة تدليلا على المعنى قائلة”إنَّ عينا لن تريها جمالك فهي عين شقية”.
لكن في المشهد السابق هناك ثلاث وقفات في عبارة الشيخ للمريد هي إشارات للمعنى الذي تتألف منها رحلته الكونية”المطلق/الظاهروالباطن/البهاء الإلهي” والتي ستخرجة كليا من صيرورته التاريخية المحدودة في الزمان والمكان ،اي التحول من النسبى المقيد بالحركة الزمكانية الى اليقين والثبات اللانهائي.
ومن ثم فإن فكرة الانعكاسات والصلة بين العالم العلوي والسفلي،الباطن والظاهر، وتعدد المظاهر لأصل واحد تقودنا الى فكرة اساسية في الفلسفة الإسلامية تتردد عبرالنصوص الفيلمية لناصر خمير وهي الوحدة والتنوع وسيادة النوع على الفرد، فالعناصر المكونة للكون هي محمولات لا نهائية ناتجة عن الموضوع الأوحد.
في قصة لبورخيس بعنوان “الظاهر”والذي يومئ الى اسم من اسماء الله الحسنى يتجلى في كل شيء في الكون،ومنها جذع من الرخام يسكن أحدا عمدة قرطبة،وعملة نقدية تحمل نفس الاسم والتي يمكن رؤية وجهيها بشكل سحري في نفس الوقت ،وفي الهائمون يصف حكيم القرية نفسه بأنه مثل انسان قعد ينتظر في الصحراء وصول إنسان،انسان واحد يصل ليشعره بأن كل الناس قد وصلت. وفي طوق الحمامة يؤكد المعنى عندما يطلب الخطاط من المعلم ان يخبره بحقيقة الحب،فيرد عليه بأنه تكفيك معرفة كلمة واحدة تنوب عن كل الكلمات المترادفة التي تبحث عنها. فالتعددية هي سلسلة لا نهائية من التجليات تعكس حقيقة واحدة منعزلة عن العالم ولكن الاتصال بينها وبين العالم يتم عبر مرايا حيث تتنوع الأشكال بتنوع المرايا.
•”التكرارالسحري/الاستنساخ والمقابسة ” :
وإذا كان موضوع الرحلة كتيمة بنائية هو احد الموضوعات الأثيرة والمتكررة لدى ناصر خمير ، فإن التكرار والعلائق القصصية يطول ايضا الشخصيات دون حدود قاطعة بين الأفلام وبعضها البعض ،حيث يتبدَّى لنا الصانع كما لو كان يصنع فيلما واحدا لا ينتهى ،تتعدد وتٌستنسخ فيه الشخصيات والأسماء والأماكن بشكل سحري، ومن هنا فلا وجود لنصّ أو حكاية مكتمله،إذ إنها تعاود الظهور لتكمل حياتها في صورة أخرى وفي زمن آخر،ولكن يظل الحاكى واحدا يتلاعب طيلة حياته بالحكايات التي في جعبته. في طوق الحمامة يعيد احياء وتجسيد حكاية” الجد الخطاط ” في فيلم الهائمون ،الذى حمل معه مفاتيح الديار وصكوك الحكم قبل رحيله عن قرطبة، في صورة “حسن “الشاب الخطاط المريد. كما أن أميرة سمرقند التي يكسر الطفل حسين “مرآتها” في الهائمون تعود للظهور كشخصية اساسية داخل حبكة الحكاية في طوق الحمامة ،مكللة بهالة من الخيال الفانتازي الذى يفقد الزمن الواقعي توازنه وثقله. كما يعيد تكرار تيمة الإنسان وصداقته مع المخلوقات الأخرى والتي ظهرت من قبل في فيلمه السابق مثل “صداقة الطفل حسين مع الجني”حيث نجد الطفل زين يصاحب قردا من اصل إنساني تم مسخه. ومن جديد تعاود الحضور النصّى العلاقة والصلة بين العالم الارضي المحسوس والعالم التحت ارضي غيرالمرئي، والمتمثلة في عوالم الجان الأسطورية، حيث يتعايش الأنس مع الجن، كما يتداخل الحدث الواقعي بالعجائبي وتختلط الأحلام بالتخيلات والرؤى الحدسية. ايضا تعاود الظهور تيمة التنكر والمواراة في الجنس” المرأة التي تتنكر في صورة غلام “مثل شخصية الفارس عزيز/ الفتاة ابنة الشيخ في الهائمون ” بحيث يصعب علينا تميز جنسها الحقيقي ذكرا كانت أمْ انثى، بيد أن كل هذا يشير الى الظاهر المخادع وعدم الارتكان الى حقيقة ثابتة في عالم يموج بالتحولات كصور ورقية قوامها التبدل بين الاضداد وتغير المصائر والأحوال من النعيم الى الشقاء وانتقال الهيئات البشرية الى صور حيوانية “metamorphosis”،ومن حضور المدن الى غيابها كقرطبة التي انقضت في لمح البصر،وذلك من اجل ايقاع العبرة الرمزية للحكاية في نفس القارئ اوالمشاهد وهي خصيصة من خصائص الأمثولة الصوفية التى تعمل على تأكيد الطابع الخداعي الوهمي للعالم، فكل شيء الى زوال امام الحقيقة الثابتة للموجود الأكبر. لكن لا غرابة في ذلك فعوالم” الف ليلة وليلة “حاضرة دوما في استعاراته السينمائية وتضميناته النصّية ،سواء عبر حكاياتها أوبنيتها ومعمارها الفنى، ففي الليالى يتبدى لنا دوما هذا العالم الموهوم المتقلب الذي يتلبس اقنعة متغيرة في تحولاته النسبية المخاتلة.
لكن بشكل عام فان حضور العنصر النسائي كشخصيات روائية مؤثرة في احداث السرد يكاد ينعدم في افلام ناصر خمير ،فهن اما يظهرن بشكل عابر في الحبكة الروائية،او نطالعهن في صورة جنسية ملتبسة بهيئة مختلطة بين الأنوثة والذكورة معا،وربما ذلك يرجع من ناحية الى عالم الصحراء كمكان مشهدي تدور على رقعته كل افلامه وهي مواقع تصوير في الحقيقة كانت في الأصل مدنا اسلامية مزدهرة في الماضى لكنها تحولت الى اطلال وخرابات حجرية عبر قرون الانحطاط ،وحيث تتسيد مفاهيم الذكورة المعزلة داخل المشهد الطبيعي للصحراء بينما تتوارى النساء وراء الجدران، ومن ناحية اخرى ربما يعود ذلك الى تراث الصوفية ذاته – الذي يستمد منه المؤلف عالمه القصصي ونماذجه – والمنغلق على اسراره داخل تكايا الدراويش، وحيث تستبدل النساء بالغلمان للخدمة، ومن هنا فان تكرار حضور الشخصيات التي لا جنس لها حاملة صفات الانوثة والذكورة معا ربما يكون عائدا في تقاليده الى التراث الصوفي الشرقي الممتزج بالفلسفة الافلوطينية المحدثة ،والحافل بقصص عشق المردان. فالغلام ذو الأربعة عشر ربيعا المضيء كالبدر اصبح في ادبيات متصوفة العصر العباسى نموذجا للجمال البشري.
• “الكتاب المسموم/عشق الصورة” :
ناصر خمير شأنه كشأن بورخيس وامبرتوايكو مسكون بالآثار والنصوص القديمة التي يخلفها البشر وراءهم . ابطاله ضائعون عبرالزمن،بين التواريخ المدونة والمنسية بحثا عن كتاب او مخطوط ضائع. إن فعل التدوين هو فعل يائس من الحتمية الوجودية المحكوم بها الإنسان منذ البدء، وهى الموت الذي يقضي على فرص التناقل البشري الحي، أو ذلك التماس في الزمان والمكان. وتبدو الفكرة في تردادها وإلحاحها من فيلم الى آخر مبعثها هوى شخصي للمؤلف بإقتفاء الأثر والعلامات .فهو يستوحي فكرة فيلمه “طوق الحمامة”من حادثة حقيقية في التاريخ الإسلامي عندما تم حرق الكتب في عهد ملوك الطوائف بأمر من الأمير المعتضد بن عباد”462/403هجرية”، حيث تم حرق كتب الفقيه ابن حزم ومؤلفاته بأشبيلية بدافع التقرب من الله والحيلولة بين الفتنة ووقوعها بدعوى انها كتب مسمومة تنشر الفساد والرذيلة بين عموم المسلمين .
قد تتعدد اشكال الاستبداد الرمزي عبر العصور في مواجهة الكتاب وما يحتوي عليه من افكار ولكن النتيجة واحدة مفادها النسيان وعمل قطيعة مع الذاكرة ومحو آثار البشر التى هي بمثابة موت اكثر فظاعة من الموت الجسدي. في قصة بورخيس”السور والكتب ” يحكي لنا عن دوافع نفعية اخرى تبناها الامبراطورالصيني”شيه هوانغ تي”الذي احرق الكتب السابقةعليه، بحثاعن الخلود العيني المتمثل في بناء سور الصين العظيم،فكان الحجر بديلا عن الورق واللسان، والذي هو بطبيعة الحال ليس الا قطعة صامتة لا يمكن تأويله والاختلاف عليه كالكلمات.وقد ارتبط الكتاب”مثله كمثل النهي عن فتح الأبواب وهتك الأسرار” في الثقافة الإسلامية بمعنى من معاني الشقاء والمعاناة “وما انزلناعليك الكتاب لتشقى”او كنذير شؤم يجلب اللعنة على من يقوم بمطالعته ،والأمثلة كثيرة على الرعب الكامن من الكتاب ونقله الى الآخرين بعد موت مؤلفه والذي عادة مايوصي خلفه وهو على فراش الموت بإلقاء كتبه الى “النهر/النار” مخافة ان تكون سببا في ضلال الآخرين اذا اسيء فهمها(38). وتزدحم الليالى بحكايات من هذا النوع سواء باستخدام الكتاب أداة للانتقام والقتل،مثل حكاية الحكيم رويان وانتقامه من الملك يونان لعدم صونه للجميل والإحسان الذي صنعها لحكيم به عندما طببه من مرضه المستعصي على الشفاء، فما كان من الحكيم الا فعل مكيدة بالملك بأن قدم له كتابا مسموما وعندما طالعه الملك سري السم في اوصاله فمات، او معاناة خوض رحلة ممتدة لسنوات من اجل الوصول الى سر كامن بين طيات كتاب قديم، كقصة بلوقيا المنبثقة من حكاية حاسب كريم الدين عندما يعثر بعد موت ابيه على صندوق داخله كتاب وهو الشيء الوحيد الذي خلفه ابوه حيث يقرأ صفات الإنسان الكامل الذي يأتي في نهاية الزمان فيقرر بلوقيا هجر حياته للبحث عنه مواجها اهوال رحلة مجهولة.
في الربع الأخير من الفيلم يلتقي الخطاط وحبيبته عزيز برجل يدفع عربة تحمل جثمان الأمير الذي اودع سرعشقه لأميرة سمرقند في كتاب لكن الموت لقيه، حيث يعطي الرجل الكتاب الى حسن كعطية لاترد فيكتشف الخطاط انه نفس الكتاب الذي ظل يبحث عنه دون معرفة مؤلفه “طوق الحمامة في الألفة والإيلاف”،لكن عزيز تنهره آمرة بأن يدع الكتاب لإنه سيجلب لهما النحس وهو ما سيحدث في المشهد التالي حيث يسقط الكتاب في البحر ،منتهيا الى النسيان الحتمي كغريق .اما العاشقان فمآلهما الى الفراق. في هذا المشهد الجنائزي المصور بين غبشة جبال وعرة هناك اشارة تاريخية واضحة لمشهد اخر اكثر مأساوية يخص الرحلة الطويلة الشاقة التي خاضها جثمان الفيلسوف “ابن رشد”في الخفاء عبر الجبال والوديان بصحبة كتبه الممنوعة لكي يدفن في موطنه الأصلي قرطبة التي نفي عنها ، وحيث جُعل التابوت على الدابة وجٌعلت كتبه تعادل الجانب الآخر ،وهو ما اثار مواجيد ابن عربى فانشد قائلا في رثائه: “هذا الامام وهذه أعماله ياليت شعري هل اتت آماله؟”(39)
لكن ثمة غرابة في هيام حسن الخطاط بصورة اميرة سمرقند المرسومة في كتاب. شخص يقع في أسر صورة تستبد بمخيلته حتى ينتهي به الحال ان يراها رؤية العين كحقيقة في الواقع ().وهو اشد انواع الحب غرابة وفتشية في التراث العربى الزاخر بقصص الوقوع في العشق عن طريق سماع اوصاف المحبوب، او الحالم الذي يقع في عشق امرأة تتراءي له في حلمه دون حقيقة فيهيم على وجهه بحثا عنها في الواقع، لكن ان تكون المنمنمة هي الوسيط الجمالي بين العاشق ومعشوقته فذلك هو الاجتراء والتجاوز الثقافي في التعلق بوثن صنع من اجل التوله، كفتح الأبواب المحظور عبورها حيث تجر وراءها الذنوب والخطايا.هنا يحدث الانتقال من البحث عن الفونيم الصوتي للحرف الى البحث عن اصل الصورة ومثالها الحي”في سلسلة من الانعكاسات المرآوية” حيث التحول من نعيم الامتلاء بكلمات الحب الى شقاء الوجود داخل عالم مسطح مكون من بعدين، لتنتهي رحلة حسن مع الكلمات ومعه حرف واحد هو حرف الواو مقتعدا حافة فسقية خربة جفت مياهها وغارت، فما كانت رحلته الا فيه،وما كانت دلالته الا عليه تجسيد لقول ابن عربي.
• باباعزيز”الأمير السابح في روحه” :
فيلم”بابا عزيز “كما اسلفنا هو ذروة اعمال ناصر خمير السينمائية والصوفية دون مواربة،حيث يشارك بالتمثيل فيه ممثلون من جنسيات مختلفة، وينطق حوارالفيلم بثلاث لغات مجتمعة في وقت واحد في نسخته الأصلية غيرالمدبلجة”العربية والفارسية والهندية” ويشارك في كتابة السيناريو الشاعر وكاتب السيناريو الإيطالى الكبير”تونينوجويرا” ،وفيه يستعير ناصر خمير ضمن النص السينمائي بحزمة من النصوص الصوفية “الرومي/العطار/ابن عربي/ابن فريد”تجري على ألسنة الشخصيات المتخيلة ،مطوعا إياها لأهدافه المشهدية. مفتتحا الفيلم بسورة مريم تصاحبها موسيقى المؤلف الفرنسي “ارماند عمار” حيث نرى درويشا يرقص وهو يدور حول نفسه داخل مكان طللي ثم يسقط مغشيا عليه، ليبدأ الفيلم بعبارة مطبوعة على الشاشة “الطريق الى الله بعدد نفوس الخلائق” لتبدأ القصة الرئيسية التي تصور رحلة حج يقوم بها شيخ ضرير”باباعزيز” يصحب حفيدته الطفلة “عشتار” عبر الصحراء لحضور المقام الصوفي في مكان يجهله هو ذاته حيث يأتي اقطاب الطريق من جهات المعمورة للالتقاء والإجتماع في الموعد المحدد الذي يقام كل ثلاثين عاما.
هنا رحلة تصل بين نقطتين بدايتها غير معلومة لكن هدفها محدد هو الوصول الى مكان مقدس في قلوب المريدين والمؤمنين به، انه مكان تلاقيات من كل صوب ،وعبر الطريق في الصحراء تتداخل الحكاية الرئيسية “الشيخ وحفيدته”ورحلتهما مع تقاطعات سردية لشخوص تظهر بين الحين والآخر على مسرح الصحراء والذي هو اقرب الى ساحة عرض تتيح لكافة الناس عرض مكابداتها فلاجدران او حواجز تعيقها عن المشاركة في الرحلة. ومن هنا فان مشهدية الصحراء تجلب معها بشكل اعمق المعنى الصوفي المباشر لتجربة السياحة في الأرض كي تمنح معها المرء فرصة التأمل لوضعيتة بالنسبة للكون الفسيح.
فالصحراء فضاء شاسع تنعدم فيه بوصلة الاتجاهات ولا يمكن الاستدلال على الهدف الاّ بالنظر الى السماء ونجومها، اي تغييب كل اشكال الإرادة الإنسانية امام الطبيعة الغفل،ومن ثم تقييد الحركة الإنسانية لتظل مرتهنة بحركة الكون ذاته. وبالاضافة الى تلك التقاطعات السردية في الحركة الخارجية داخل فضاء الصحراء فهناك حركة داخلية وهي رحلة موازية تتمثل في امثولة يقصها الشيخ على حفيدته في وقفات الراحة من السير وهى قصة الأمير السابح في روحه، ورحلته في الاستنارة ومن ثم التخلى عن مملكته الأرضية .
في الطريق يلتقى بابا عزيز بغزالة تأنس اليه وهو يحادثها فتسأله عشتار”هل تفهم ماتقوله لها”فيرد الشيخ”انها تعرفني منذ زمن طويل”.انه مشهد استهلالي موضوع لتقديم الغزالة التي هي بطلة الحكاية المروية عن الأمير، لكن الرمز الأول الذى يقابلنا اثناء توقفهما عن السير هو شكل الدائرة ()التى يرسمها الجد لتشتعل داخلها النار من تلقاء نفسها كي يطهو خبزه عليها. ان الدائرة في شكلها الديمومي الحركي المتمثل في فكرة العود الأبدي هى اسقاط على الحكاية ذاتها في قابليتها التكرار في كل زمان ومكان ،حيث يتم القطع المتوازي المتبادل بين الحدثين في تزامنهما ” زمن الجد وهو يحكي/زمن الحكاية ذاتها” التي تدور امامنا كحاضر آني من وجهة نظر موضوعية ، فنرى الأمير يلهو بالرقص والغناء داخل خيمة منصوبة في الصحراء ينتبه لفرسه يبتعد فيخرج اليه لكنه يلمح غزالة فيطاردها،ولكن الحصان يعود الى الرعية بدون الأمير فيهب الجمع للبحث عنه، فيجدوه جالسا يتأمل ذاهلا في حزن صورته في عين ماء متفجرة بينما تراقبه الغزالة عن بعد وقد تحول من مطارد لها الى فريسة لوجده ،وبالقرب منه يدور حديث دال بين اثنين من تابعيه وهما في حيرة مما أصابه:” لربما يتأمل صورته في الماء/لعلها ليست صورته فالعاشق لا يرى صورته على سطح الماء/لكن ما الذى يتراءى له حقا/يتأمل روحه انها بالأحرى قد محيت”.
لكن ما الذي محا روح الأمير؟انه الكشف لحظة الترائي عندما نظر احدى صورالتجلى للجمال الإلهي الذي انعكس في صورة غزالة في الصحراء، ومن ثم وقع فريسة في حال الجذب الممغنط
في محاورة المائدبة”سمبوزيوم” يقرر افلاطون كلامامشابها عن الأثرالذى يتركه مرأى الجمال في النفس قائلا:”كلما شاهد الإنسان جمالا أرضيا تذكر الجمال الحقيقي وشعر أن له جناحين ليطير بهما،ولكن جناحيه يعجزان عن حمله الى هذا الجمال فيبقى معلقا في الهواء كالطائر وينسى مايعيش تحته فيعتقد الناس انه قد مسه الجنون” ، وهوالحال الذى انتهى اليه الأمير من الإنقطاع عن المرئي ناظرا في اللامرئي.
لكن أمثولة الأمير المتخيلة في الفيلم ترمي بظلالها الكثيفة على قصة امير آخر في تاريخ التصوف هو “ابراهيم بن ادهم البلخي المتوفى بالشام سنة 161هجرية ،والذي توعز اليه المصادر التاريخية بأنه المؤسس الأول لمذهب التصوف الإسلامي في الزهد،وتقترن سيرته دوما بسيرة بوذا او سيد هارتا،حيث قطع نسبه الى الملك بلا رجعة ولبس عباءة الصوفية الخشنة بعدما فاجأته اليقظة الروحية.
تلقى مصادفات الرحلة في طريق الجد عزير بشخصية”زيد – الشاعر الجوال ” ، وهو يجدفي السير منشداً إحدى رباعيات جلال الدين الرومي ،إنه يبحث هو الاخر عن الطريق الى المحفل الصوفي لكنه مثل الجميع لايعرف كيفية الوصول اليه ، ،فيأمره الجد بالسير والسير ،لكنه يبدي تخوفه من التيه في الصحراء ،فتهدهد عشتار من مخاوفه قائلة ان المطمئن لايضيع ابدا،اما الجد فيلقي اليه وصيته التى ستكون زاده في بحثه بأن صوته هو مرشده فالغناء سيرشده الى الطريق،ينتهي اللقاء ليسير احدهما عكس اتجاه الآخر في الكادر ،وكما يتراءى الطريق في حدس كل منهما ،فليس هناك خريطة ترشد الى المقام سوى القلب.
مرة أخرى تعاود تيمة التذكر والنسيان والحنين الى البيت السماوي التى تحتل ركنا أساسيا في الفلسفة التيوصوفية عبر حوارية تدور بين الجد عزيز وحفيدته عشتار للتسرية عنها خلال الرحلة الشاقة، مشيرا الى عالم المثل العليا التى عاشهاالإنسان قبل السقوط والإنشقاق عن الرحم الكونd ،فيخبرها بأن الأطفال في بطون امهاتهم يعرفون كل أسرار الكون لكنهم ما ان يولدوا حتى يأتى الملاك ويضع اصبعه على أفواههم كي ينسواماقد عرفوه من قبل .فتتساءل عشتار “لكن هل يمكنى استعادة تلك المعرفةالمفقودة؟”،إنها ذاتها المعرفة القبلية المفقودة التي سعى اليها الأمير في الحكاية المجازية خلال تأملاته في صورة الماء.
لكن ومثلما رأينا في بداية الفيلم آثار اقدام عزيز وعشتار المنطبعة على رمال الصحراء على طول سيرهما ،تنطبع ايضا مصائر شخصيات الفيلم في المحيط الزماني والمكاني فالذكرى كما يقال تنفع المؤمنين،حيث يمر الجد والحفيدة في إحدى محطات الرحلة بمكان في قلب الصحراء يؤمه الناس احتفالا بذكرى ما حيث توزع الأطعمة وتعزف الموسيقى والابتهالات الصوفية ،إنه مكان استيهامي يعمق حركة السرد المترنحة بين الفعل في الحاضر وبين الحكى بالصوت.فالمكان هو ذات المكان الذى كان يجري تشييده للأمير كمدينة ، لتعمق إلغازالأمثولة الموازية في انشطارها بين الواقعي والمتخيل، لكنه ايضا نفس الموقع الذي قام المخرج فيه بتصوير فيلمه الأسبق الهائمون به مضافااليه بالمونتاج الايهامي بوابة واسوار مدينة الأمير”عبر تقنية الكولاج السينمائي والوصل بين لقطات توحي بمخطط مكان واحد غير حقيقي ” والتي لم تكتمل وبقيت على حالها كشاهد طللى على امثولة متناقلة بين الدراويش حتى تصل في النهاية الى عشتار الطفلة. لكن في نفس” المكان” المنشطر بظلاله الكثيفة التى تمد البنية السردية للفيلم بطاقة تخيلية دافعة قدماالى نسج شبكة من الخيوط الخفية التي تكسر احادية الزمن وتحطم الحاجز العقلى في الفصل بين المجازي والواقعي بوضع إشارات بصرية متناثرة كعلامات اركيولوجية تخلق متاهة سردية دون تنحية الثقل الدرامى لشخصية عزيز وعشتار وإرتكاز محور السرد عليهما، وذلك عندما تقتحم حركة السرد شخصية “عثمان” الباحث عن فردوسه المفقود حيث يلقي بنفسه داخل بئرباحثا عن قصره فيظن الناس به الجنون لكن عزيز يؤمن بصدق حكايته وهو يقصها مستخدما تقنية الاسترجاع .
قد تبدو من الظاهر حكاية عثمان مقطوعة الصلة بالحكاية الرئيسية للرحلة اوالحكاية الموازية المجازية للأمير،لكن عثمان هو احد أركان لعبة مصائر العشاق على مسرح الصحراء فالرابط الحقيقي يكمن في المكان السحري الديمومى كساحة من الممكن ان تؤدى عليها تناوبات سردية لمصائر متعددة في وقت واحد .لكن عثمان يقودنا بالتبعية عبر خريطته السردية الى الأخين التوأمين” حسين الخطاط المتصوف/حسن الدنيوي الفاسق” وهما بدورهما يقودانا الى “الدرويش ذي الشعرالأحمر”خادم الجامع الذى رآيناه في برولوج الفيلم يرقص رقصة السما، فالدرويش المتصوف بشطحاته هو الممر السردى الذي من خلاله يعبر حسن الى عزيز ليكمل رحلته في نهاية الفيلم ،ولتكتمل بهم جميعا لوحة المصائر المتقاطعة التي تشبه زخرفة الأطباق النجمية في الفن الإسلامى.
عثمان هو الباترون الأكثر واقعية وعملية بين شخصيات الفيلم يرمي الى المشاهد حكايته ثم يختفي من خريطة السرد، لكن ما يتراءي له يغير وجهةحياته كليا، هوشاب يريدهجرماضيه ووطنه بالسفر الى الخارج ويجمع الأموال لذلك الهدف من بيعه الرمال الى شيخ خطاط وهى المهنةالتى ورثها عن ابيه لكنه غير معتز بها فهو يبغى القطيعة التامة مع تراثه المتوارث”تأمل ايها القارئ المفارقة التي تجمع بين حرفة الشاب في جمع الرمال وحلمه الذي ينثال من بين اصابعه كالرمال” يساعده صديقه الوحيد حسين العاكف على حرفة الخط العربى في جمع المال اللازم لسفره “هاهوذا المؤلف يستنسخ مرةأخرى شخصيةالخطاط في فيلمه السابق” حيث يقضى حسين وقته في المسجدمستغرقا في سماع الغناءالصوفي ، في نفس المكان يظهر لنا الخادم”الدرويش ذو الشعرالأحمر” ،انه يكنس الصحن وهو يغنى بالفارسية”اكنس ونظف بكل روحك امام باب المعشوق..فذلك فقط هو مايسعده”(40) لكنه لا يكتفي بتنظيف صحن الجامع فيرفع المقشة عاليا على خلفية المأذنة ليكنس السحاب، ثم ينفخ ذرة غبار عالقة بالسماء .لكن عثمان يفاجأ في الحانة التي يلتقي فيها بمتعهد الهجرة غير الشرعية بوجود الأخ التوءم حسن سكيرا فيلتبس عليه الأمر لشده الشبه بينهما،معتقدا انه صديقه حسين الذي تركه منذ قليل بالمسجد فيعنفه ويعود ثائرا الى المسجد فيجد امامه حسين فتزداد حيرته، فيكشف له حسين إن مَن رآه في الحانة هو اخاه التوأم ،فهما كوجهي مرآة لكنهما مختلفين في الطباع .هكذا يتم تقديم الشخصية تلوالشخصية بلا تكلف سردي حيث تصل الشخصيات بعضها بعضا في حلقات متدرجة من الخارج الى الداخل مستخدما تقنيات الليالي في نسج حبكات صغيرة تقديمية للشخصيات عبر افعالها الوظيفية داخل المكان.يوالي عثمان سرد ما وقع له عندما سقط داخل بئر مهجورة ليجد نفسه في قصر من قصور الليالى بين حوريات لكنه يقع في حب زهرة” لايظهر وجهها في الفيلم” فيطلب منها ان ترحل معه ،لكنها لقاء ذلك تطلب منه أن يطفئ النخلة المشتعلة امام نافذتها، فيذهب لكنه يجد نفسه في الصحراء محاطا بالرمال، يعود للبحث عن القصر داخل البئر لكن لا يجد شيئا ينتظره غير الغرق ،وفي النهاية ينضم الى رحلة الحج الى المقام الصوفي لعله يعثر هناك على قصره ،قانعا بما رآه من مثال روحه.
في حكاية عثمان المراوغة التي تدور في عوالم تحتية خفية “قاع بئر يخفي قصرا” وهي اشبه بحكاية القمقم الصغير الذي يحبس عفريتا ضخما ،حيث تنعكس عليها ظلال كثيفة من الرؤى الحلمية ،فالسقوط داخل الحلم يعادل السقوط داخل البئر حيث الخروج من عالم والدخول الى عالم آخر،ومعهما يفقد المرء وعيه وتوازنه، وتنعدم الجاذبية ويتوقف الزمن للوسط المحيط. ومن هنا نجد انفسنا مرة أخرى امام فكرة الظاهر/الباطن، والعلوي والسفلي،والوجود غير المرئي الذي ينطوي داخل الوجود المرئي .فكل ماتراءى لعثمان من مشهدية الوجود المحسوس للقصر كان مجرد وهم وانعكاس نابعا من غوايات روحه الظامئة الى الهجرة فما رآه اقرب الى ظلال لصورة لا يمكن الإمساك بها الا في الموت وهو المبدأ المتجلي في اتجاهات التصوف المتأثرة بالمثالية الأفلوطينية القائلة بأن العالم ليس الا ظل لا حقيقة له، ،كما يعلق احد المستمعين للحكاية قائلا :”لقد أراد لك المولى ان تذوق مثال الجنة”.ايضا فكرة التعدد والوحدة المتمثلة في التوأمين المتشابهين كوجهي مرآة ،وبالرغم من اختلافهما في المعتقد” صوفي /ملحد” لكنهما ينتسبان الى أصل واحد هو النوع الإنساني الذي يعتمل داخله الشك والإيمان معا ،وفي ظني ان كلا من الأخوين المتشابهين في أوصافهما الجسدية مع تباينهما في التوجه هما شخص واحد يكمل احدهما طريق الآخر في رحلة الصحراء.ومن ثمَّ يدخل حسن الى متاهة الصحراء باحثا هو الآخر عن الطريق الى المقام الصوفي ليس بغرض الإيمان ،لكن بهدف قتل الدرويش الأحمر انتقاما منه لقتله اخيه حسين، لكنه يجد نفسه عاريا يسير حافيا بعد تعرضه للسرقة، تاركا هو الآخر آثار قدميه مطبوعة على الرمال فالصحراء لا تفرق بين أحد من الناس سواء آمن او كفر،فالأشياء كلها ليست الا جوانب من كل رائع.
يولي ناصر خمير للتراث الشفاهي وطقوس قص الحكايات اهتماما كبيرا في افلامه سواء عبر اقتباسه لحكايات تراثية وتضمينها في متن النصّ السينمائي بشكل صريح ومباشر،او من خلال تصميم مقاطع سردية متخيلة مفصلة حسب استراتجيات القص في الف ليلة وليلة. فسماع الحكاية قادر بشكل سحري على إحداث التوازن الجسدي والروحي لدى السامع، فالحكاية تكون سببا في شفاء عشتار من الحمى التي اصابتها عندما تراءت لها الغزالة ليلا في الصحراء ،وحيث تأتي حكاية زيد الشاعر العاشق لتردها الى الحياة متزامنة مع صلاة الجد من اجلها. زيد الشاعر الجوال هو الآخر يبحث عن عشقه المتمثل في “نور”التي عرفها في الماضي وتعيش في بلد عربي تحت حكم قبلي استبدادي أدى الى فرار والدها الشاعر الصوفي قبل سنوات طويلة،ومن ثم تتحايل على زيد سارقة هويته متخفية في ملابسه حتى يتسنى لها عبور الحدود للبحث عن ابيها تاركة له ضفائرها بعد تقنعها في هيئة رجل حيث حرية السفر في تلك البلاد حكرا على الرجال وحدهم..فصدق اداء الشاعرالجوال لحكايته تمنحه ايضا قبول عشتار والجد بمرافقتهما ومشاركة الطريق الى المحفل الصوفي.
لكن عبر الفيلم تتردد اشكال من السرد التكراري للشخصيات “كحادثة السرقة “التي يتعرض لها كل من زيد /حسن ” وفي كلتا السرقتين”ملابس زيد/ملابس حسن”فهناك شيء رخيص يسلب من المرء ليعوض عنه بشيء ثمين لا يعوض .ان تكون عاريا يعني نزع هوية ما ملتصقة بجلدك،لكن الأمر الأكثر تعقيدا وسحرا ان تولد مجددا عاريا وبريئا من كل لوثات حياتك السابقة.
دائما ما تقترن نهاية الرحلة بنهاية السرد ومن ثم تظلم الشاشة امامنا ،ومع الاقتراب من المحفل فان مكابدة العشق تكون هي نفسها مكابدة الموت،فالموت يلقي بظلاله على كل شيء معلنا عن نفسه في صور هياكل عظمية لحيوانات متحللة تحت وقدة شمس الصحراء،حيث يعثر الدرويش الأحمرعلى حسن شبه ميت،فيطلب منه ان يتركه فليس بمقدوره مواصلة الحياة بعد موت اخيه ، بينما يحمله الدرويش الى قبر الأخ كاشفا عن سره كعاشق حيث يقترن الموت بإتحاد العاشق بالمعشوق (41). لقد اختار حسين ان يدفن مع حبيبته وهما أحياء في قبر واحد، فما كان من الدرويش العارف بالشوق سوى أن يلبي رغبة العاشقين بأن يغلق عليهما باب المقبرة. في هذه المقاطع المشهدية الجنائزية التي يمتزج فيها الحب الإلهى بالعشق الإنساني يصاحبنا الغناء الصوفي لشعر جلال الدين الرومى قائلا: “البشر امام لهب شمعة كثلاث فراشات.الأولى تقترب من اللهب قائلة: انا اعرف الحب ،والثانية تناوش بجناحيها اللهب قائلة :اناأعرف الاكتواء بالحب،اما الثالثة فتلقي بنفسها في جوف اللهب قائلة: لقد احترقت . فقط هو منْ يعرف معنى الحب الحقيقي”.
يصل الجد في المكان الذي سيدفن فيه وقد حان الوقت كي يستعيد تلك المعرفة التي فقدها بخروجه الى الدنيا، فيترك عشتار الى زيد لمواصلة الطريق الى المحفل مذكرا اياها بأن تغني عندماتصل الى هناك ،لكنه يقص عليها نهاية قصة الأمير الذي ظل على حاله ،وقد تركه الآخرون ،وبقي معه الدرويش العجوز والغزالة، تاركا العالم المرئي من أجل ذلك اللامرئي. وعندما استيقظ من سباته وجد بجانبه خرقة الدرويش فلبسها متكئا على عصاه وسار في الصحراء،ليأتي حسن الى الجد الذي ينتظره ويعرفه دون ان يلتقيه من قبل لتدور بينهما حوارية حول الأبدية والموت الذى يخشاه حسن فالموت نهاية لكل شيء، فيرد عليه عزيز”اذا كان الموت نهاية لكل شيء فلا توجد بداية لأي شيء” ينتهيى الفيلم بأن يواري حسن جسد عزيز في باطن الارض ويلبس رداءه ويتكئ على عصاه مواصلا طريقه الذي يبدو انه قدعرفه.
* هوامش ومراجع
(1) ناصر خمير: ولدعام 1948بمدينة جربة بتونس.حصل على منحة دراسة السينما في فرسا من منظمة اليونسكو عام 1966.منذ عام 1982عمل كمؤدي”حكاواتي” على مسرح شايوه الوطني.حصل على جائزة افضل مخرج بمهرجان قرطاج1984،والجائزة الذهبية بمهرجان فالنسيا 1985 عن فيلمه الهائمون.تنقل منذ عام1973بين اخراج الأفلام الروائية والتسجيلية وافلام التحريك”1973البغل”رسوم متحركة”/1976حكايات من بلاد ربى “تسجيلي”/1977الغولة”تسجيلي”/1991البحث عن الف ليلة وليلة”تسجيلي”/2008ابجدية امى” تسجيلى”.حقق خلال مسيرته اربعة افلام 1984الهائمون في الصحراء/1990طوق الحمامة المفقود/2004 بابا عزيز”الاميرالسابح في روحه”/2017همس الرمال..ايضا خلال مسيرته الإبداعية قام بكتابة ورسم عدة كتب نثرية وتشكيلية :1975″الغولة”/1978″ام الخير: شمس بين حائطين”/1984″حكاية الحكواتية””الغيمة العاشقةعن الشاعر التركي ناظم حكمت “ميلاد جدي”/1987 “شهرزاد”/1988″اغنيات الحب والموت”
(2)شادي عبدالسلام: مخرج مصري ومصمم مناظر وملابس من اشهر اعماله فيلم” المومياء/شكاوي الفلاح الفصيح “توفي في عام1986
(3)انظر شاكر عبدالحميد”عصر الصورة”عالم المعرفة عدد711 ص104
(4)ارنولد هاوزر الفن والمجتمع عبرالتاريخ ترجمة فؤادز كريا الجزء الأول الباب الخامس”عصرالنهضة،المانرزم،الباروك”
(5)سورةالأعراف الآية204″وإذا قرئَ القٌرءان فاستمعوا له وأٌنصتوا لعلكم تٌرحمون”
(6)ابوصالح الألفي الفن الأسلامى دارالمعارف ص72
(7) المرجع السابق”التقليد والتزيين” ص75
(8) انظر”خ.ل.بورخيس” بحث ابن رشد”ترجمة ابراهيم الخطيب “المرايا والمتاهات” قصص دار توبقال للنشر طبعة اولى1987
(9) arabesque:عناصرمتكررة وتبادلية من الزهور وأوراق النباتات المعرشة يتميز بتموجه الإيقاعي وهو شأنه كشأن الخرفة الهندسية أداة للتأطير والحشو في الفن الإسلامي/انظر شيلار. كانبيي الفن الإسلامي-مشروع كلمة
(10)البراق: في حديث المعراج دابة ركبها النبي “ص”ليلة المعراج، وهو فرس ذات وجه آدمى وقد استعمل المسلمون رسوم حيوانات خرافية ومركبة لأنها تتفق في تكوينها في البعد عن الطبيعة والمحاكاة
(11) الحلاج: لاتلمني فاللوم مني بعيد-وأجر سيدي ،فاني وحيد/إن في الوعد،وعدك الحق ،حقا – إن في البدء: بدء أمري شديد/من أراد الكتاب هذاخطابي- فاقرأوا وأعلموا بأني شهيد”
(12) ابوالوفا التفتازاني مدخل الى التصوف الإسلامى دار الثقافة للنشر الطبعة الثالثة/حول تعريف المقامات والأحوال ص38-39
(13)الجَذْبٌ:هي تقريب العبد بمقتضى العناية الإلهية المهيئة لكل مايحتاج اليه في طي المنازل الى الحق بلا كلفة او سعي منه”معجم المصطلحات الصوفية للكاشاني” ..والمجذوب في اصطلاح الصوفية من جَذَبه الحق الى حضرته وأولاه ماشاء من المواهب بلا كلفة ولامجاهدة
(14) ()نص ورد بالفيلم
(15) نصر حامد ابوزيد”هكذا تكلم ابن عربي” مكتبة الأسرة 2015 ص154
(16)يعود اصطلاح الفناء في استخدامه الى ابي يزيد البسطامي بمعناه الصوفي اي محو النفس الإنسانية وآثارها وصفاتها، حيث يعقبه الاتحاد
(17) اسماء خوالدية “الرمز الصوفي” منشورات ضفاف
(18)انيماري شيميل “جلال الدين الرومي: الشمس المنتصرة” -الصور المجازية للموسيقى والرقص/ترجمة: عيسى على العاكوب موسسة الطباعة-ايران – الطبعة الأولى.
(19)جان بول سارتر”نظرية الانفعالات” ترجمة:سامي محمودعلى-عبدالسلام القفاش دارالمعارف ص63-64
(20) محمود رجب”فلسفة المرآة” الهيئة العامة للكتاب
(21) نصر حامد ابوزيد”هكذا تكلم ابن عربي ص194-193
(22)عبدالرحمن الجامي”1492م-1414″شاعر صوفي فارسي ألف محموعة من الملاحم الشعرية ومنظومات قصصية مطولة منها”يوسف وزليخة/مجنون ليلى/سلسلة الذهب”
(23)يوسف وزليخة نظم عبدالرحمن الجامي ترجمة عائشة عفة زكريا-دارالمنهل للطباعة – دمشق
(24) انيماري شيميل/”الأبعاد الصوفية في الإسلام” ترجمة محمد اسماعيل السيد منشورات الجمل/ص491″العنصر النسائي في التصوف”
(25)سعيد الغانمي “الكنز والتأويل” مكتبة الفكر الجديد
(26)محمد مصطفى حلمي “الحب الإلهي في التصوف الإسلامي” المكتبة الثقافية عدد24 وزارة الثقافة والإرشاد-ص39-40
(27)سمير فريد”طوق الحمامةالمفقود”/السينما التونسية في مصر اعداد هاشم النحاس
(28)نصر حامد ابوزيد”ابن رشد: التأويل والتعددية”/مجلةالعربي عدد414
(29)حسن محمد فهيم”ادب الرحلات” عالم المعرفة عدد138
(30)كما في(26)ص 60-61
(31)انظر رمز ثمرة الرمان “الرموز في الفن والأديان والحياة” تأليف فليب سيرنج ترجمة عبدالهادي عباس دار دمشق
(32)نص ورد في الفيلم
(33)حكاية القرد هارون مستنسخة من قصة الصعلوك الثاني”الأمير الذي سحره الجن قردا” في حكاية البنات والحمال الف ليلة وليلة المجلد الأول طبعة بولاق (34) نص ورد في الفيلم
(35) انيماري شميل كما في(24) رمزية الحروف في المصادر الصوفية ص469
(36)المشاهدة هي من المقامات العليا بجانب “السفر/الغربة”وتعني المداناة والمحاضرة والحضور وترادفها المكاشفة ،فالمشاهدة كشف رؤية الحقيقة وتدخل في الحدسيات التي تكون بالتأمل والاستغراق في خفايا الوجود والمكاشفة ما يقرب مما يراه الرائي بين اليقظة والنوم- “هادي العلوي مدارات الصوفية ص195-196”
(37) كما في(35)ص 326
(38) عبد الفتاح كيليطو لسان ادم”ترجمة عبد الكبير الشرقاوي /القسم الثاني”الكتاب الغريق”– دار توبقال للنشر
(39)المرجع السابق /القسم الثانى”ترحيل ابن رشد “– دار توبقال للنشر
(40)نص ورد بالفيلم تمت ترجمته عن الإيطالية
(41) الاتحادunitary conciouenese الشعور الذي يتجاوز كل كثرة يتلاشى ، كل ظاهرة وتفنى الذات في اللامتناهي
* للمزيد انظر انور ابي خزام (البعد الصوفي لجمالية الخط العربي )-دراسة – مجلة الفكر العربي العدد السابع والستون1993
* كأمثلة وردت في أدبيات التراث العربى عن عشق الصورةانظر: الليلة الثالثة والخمسون بعد التسعمائة الف ليلة وليلة طبعة بولاق المجلد الثانى
21