سُرة المدينة “التي” تدل على مكان الاتصال بالحبل السري لأمنا الأرض”. هكذا اختصر (مكي) تعريفه لشارع المطاعم، ويرد على لسان حسن القوطي “إن فيه روحاً تواسي الحزانى والمتعبين من الحياة”. أما موقعه الفلكي فهو ” تحت تأثير برج الدلو، الذي يجذب الشباب المحب للحرية والطبقة المثقفة، ويكون الجو في هذا النطاق مُولداً للأفكار الجديدة والصرعات الغريبة”. و”الداخل إلى هذا الشارع السد، يبدأ سنته الأولى مُشرداً، ثم في سنته الثانية يصير مجنوناً، ثم بعد ذلك تستقر حالته ويغدو مواطناً عادياً من مواطنيه”. هكذا يبصره ثالث..
جملة المفاتيح التي يرميها أمامك (وجدي الاهدل) في كتابه القصصي الصادر حديثاً “ناس شارع المطاعم، مؤسسة أروقة، القاهرة، 2017” إنما لتختار منها ما يناسب الباب الذي ستدلف منه لمعاينة عوالم هذا الشارع الملهم، الذي لا تكتمل صنعاء كمكان إلا به كمزار لمن أتاها سائحا أو صاحب حاجة ، وهو لمن أراد من ساكنيها رئة طرية للتنفس، أو تحسس الروح الأكثر التصاقا ببهجة الحياة، التي يمنحها المكان الأكثر بساطة، بعيدا عن أجواء الحرب والتعاسة.
جميع “الرجال” الذين يرتادون هذا الشارع رائعون، لن تجد مثيلاً لهم في أية أمكنة أخرى. إنهم من خيرة الناس، صفوة المجتمع، قلوبهم طيبة، وأخلاقهم سمحة، لن تجد بينهم واحداً يتباهى بحمل السلاح أو يتفاخر بقبيلته.. حتى نظرات الناس هنا ليست استفزازية، ولا تحمل ذلك الفضول الذي يُضمر صاحبها نوايا سيئة تجاهك. الأشرار لا مكان لهم هنا، يلفظهم خارجاً، قوة غير مرئية تسبب لهم أمراضاً عصبية وعاهات جسدية وحوادث قدرية، تجعلهم لا يضعون أقدامهم في شارعنا مرة أخرى”.
إنه المكان الذي يشبهنا تماما كبشر بندوبهم الكثيرة، وأحلامهم المراقة على الطرقات، فـ”مكي” القابع على كنز في غرفته قادر على إحباط كل مؤامرات أبيه الساعية لإخراجه من الغرفة، من أجل الاستيلاء على الكنز، وهو القادر على إدارة الكون وحبس المطر:
“أنا متصل بالطبيعة، وبيننا تفاهم عميق. وهذا التفاهم وصل إلى درجة أني عندما أشعر بالكآبة، أطلب نزول المطر لتتحسن حالتي المزاجية. وهو ما يحدث.. دائماً كانت تتم تلبية رغبتي بكل سرور. وأما إذا لم يسقط المطر فأعرف أنني أنا السبب. الملائكة تعرف هذا الموضوع أكثر من أي شخص آخر.. فما عدت أحتاج حتى للكلام، يكفي أن أحمل مظلتي أو العكس لتفهم الملائكة قصدي.”
فمكي هنا و تبعا لمراحل “التفييض المعراجي” لسكان الشارع قد وصل إلى مرحلة التجلي الأكبر، متجاوزاً مرحلة التشرد والجنون ليصل إلى مرحلة العقل الكامل المتخلص من ركامه الأرضي، لهذا يقول بكل اطمئنان: “سوف أحتاج إلى مجلدات لتوضيح ما أنا عليه حقاً من علو في المقام وعظم في الشأن.” وحتى تفرغ هذه الشخصية من شحنتها الرؤيوية للأشياء تركها “الكاتب” تقدم نفسها بضمير المتكلم المتحرر من ضغوط الخارج، وضمائر السرد التي لا تخصه، فتجلى متدفقاً وشديد الانتباه في استبصار أناه، في تحققها الأرضي وتعاليها الغيبي.
غير “مكي” سيجود الشارع بمهندس الديكور “طه محمد أحمد” الذي سيجد نفسه مشرداً جائعاً، أو كما يقول: “ساءت حالتي النفسية أكثر مع انفجار حرب 1994 التي حطمت أعصابي تحطيماً، وأصبت بمرض اتصال الخلايا.. إنه مرض خبيث نادر، العلم لا يعرف عنه أي شيء تقريباً، وعندما أصبت به أمست خلايا عقلي ترسل ذبذبات في الفضاء، وتحمل معها كل شيء أفكر فيه، وهم بأجهزتهم الخاصة يلتقطونها، وبهذه الطريقة يتجسسون علي ويعرقلون أي شيء أريد إنجازه.. ثم يوجهون أفكارهم الشريرة إلى خلاياي لتدميري وتحويلي إلى مجرم ينفذ أطروحاتهم القذرة”. بعد أن نهبه البنك كل مدخراته، والذي يشترط إعادتها إليه بارتكاب جريمة قتل، فقط لتوكيد نظرية مديره التي تقول “إن على الإنسان أن يسلك سلوكاً إجرامياً معيناً لكي ينال حقوقه المادية والمعنوية في المجتمع.. كما تفعل الحيوانات المفترسة في الغابة.. وكنتيجة لسجله الإجرامي فإنه يصير بالضرورة مواطناً صالحاً!” فينفذ جريمته في أكثر الناس تعاطفا معه وهي متسولة شابة معاقة تتواجد في ذات الشارع.
في ثورة الريحان” ثورة فبراير 2011″ سيتماهى السارد مع أحلامه المؤجلة، والتي ستتكرر مع كل فبراير الذي بدأه في 25 منه بانضمامه لساحة الاحتجاج، ليصل إلى فبراير 2021، حيث ستقوم الحكومة الجديدة بطبع مجلد تذكاري عن شهداء الثورة، فيقول عنها “حصلتُ على نسخة وفرها لي أحد أصدقائي. عندما قمتُ بتقليب صفحات الكتاب، عثرتُ على صورة قديمة لي وأنا أرتدي قميصاً أبيض وربطة عنق فضية تشبه بدن سمكة من بحرنا. تحت الصورة كتبوا اسمي ونبذة مختصرة عني، ذكروا فيها أنني قد وافاني الأجل في ” ساحة التغيير” بعد صراع مرير مع مرض السرطان، عن عمر ناهز الثانية والثلاثين عاماً، وذلك في ديسمبر 2011 . صفقتُ دفتي الكتاب ورميته بعيداً. حقيقة لا أتذكر أن شيئاً من هذا القبيل قد حدث ”
إنه الحلم الذي سيبدأ بتحققات الذات من خلال الوظيفة المبدعة، وتالياً الزواج والإنجاب والاستقرار في شقة رائعة، في لعبة سردية لن يكتشفها القارئ إلا مع نهاية الحبكة التي أرادها تغليفا للموت، الذي صار في النص استكمالا لحياة الشخص، لأن “ثورة الريحان” تبعا لهذه الرؤية لم تكن سوى حلم جميل للمقهورين، بمن فيهم شهداؤها، التي تتجلى لهم كطيف في قبورهم.
في “حياة بلا ثقوب” سنرى فلسفة الحياة للمشرد الذي اختار أن يعيش داخل كرتون مقوى من الورق في جهة مسدودة من شارع المطاعم، وأول ما يفعله عند استيقاظه في الضحى هو “تأمل الناس في غدوهم ورواحهم، ويشعر بالحزن لأجلهم، وخصوصاً حين يسمعهم يتحدثون عن غلاء المعيشة، وارتفاع إيجارات المساكن، وفواتير الماء والكهرباء والهاتف المرهقة للجيوب.”
إنها حياته التي بلا ثقوب لأن “التفكير في المال لا يشغله، كونه يرى نفسه أغنى من كل أغنياء المدينة.. لأنه من منهم – أي الأغنياء بلغ من الثراء حداً – لم يعد معه يفكر في المال؟!
لكن من أين يعيش؟ كيف يدبر ثمن وجباته؟ طبعاً هو يدفع ثمن الطعام الذي يتناوله، والشاي بالحليب الذي يشربه، فهو لا يستجدي أحداً، ولا يقبل إحساناً من أي كان.. ولذلك يقوم بجولات عديدة على قدميه لجمع قناني المياه البلاستيكية في كيس نايلون كبير جداً، ثم يبيعها لمحلات العصائر”
مشكلة “نيما الكاتب” الذي اختار الجلوس على طاولة قذرة في أحد المقاهي منذ سنوات ولا يشاركه أحد بالجلوس عليها، أنه لا يستطيع كتابة قصصه، وأن القلم الذي يسكن بين أصابع صاحبه منذ خمس سنوات لم يكتب حرفاً، وبدلا عن ذلك “يتفنن” في إصدار الروائح الكريهة، التي تزعج الجميع، فيظنون أن صاحبه هو من يصدرها !!
ومن ناس شارع المطاعم “عبير” المتسولة، الشابة التي تتعرض للاغتصاب، وتموت بداء السرطان، و”الانتحاري” الذي تتساوى عنده الكوابيس بنعومة الحياة فيعيش تلك الخضات الوجودية التي تباعد بينه وبين الموت وقتل الأبرياء من ركاب الطائرة، لمجرد أن مسحة من دعة تلبسته ذات يوم.
أما الأكل في شارع المطاعم فهو أهم بكثير من وجبات كائنات الفضاء، حتى ولو دعي صاحبها إلى مركز علمي مرموق، وحضر بغيمة من فتات الخبز، واستعار حواجب جاره لاستخدامها كأعواد لأكل الطعام من أطباق تسبح باللحم الأخضر، لسكان كوكب نبتون. لأن المكان الذي سيعود إليه، ومثل كل مرة وحتى بعد عودته من تشييع أنبوبة الصرف الصحي سيتيح له متابعة هوايته في “النظر إلى البشر باشمئزاز والدمدمة بألفاظ نابية بحق أمهاتهم “.
بين الجامعة الأمريكية ببيروت وشارع المطاعم، خيط سري اسمه حسن القوطي “شيخ العصادين” رجل ناهز الستين، وهوايته السرية جمع السكاكين! حضرته من معالم شارع المطاعم. يزعمون أنه لا يعرف من صنعاء إلا هذا الشارع فقط، إذ لم يُر خارجه راكباً أو راجلاً قط. لذا فإنهم يتهامسون في قفاه أنه ارتكب جريمة قتل في قريته وفر متوارياً في أمعاء “شارع المطاعم” المغلق والمكتفي بذاته ” لكنهم لا يعرفون أنه يحمل ليسانس أدب انجليزي من الجامعة الأمريكية، وقصة حب دامية لابنة مسئول، وندوب كثيرة في الجسد هي التي أوصلته إلى هنا.
“المهدي المنتظر” في شارع المطاعم رجل يأكل الفاصوليا بالبيض، ويمشي في الأسواق لكنه بدأ يفكر جدياً في البحث عن عمل، ليتدبر ما يكفي من المال لشراء سيارة، من أجل أن ينتظره أحد ما.
الحياة التي قد لا نبصرها كما نشتهي، غير أننا متورطون في الإقامة في مصباتها الجارفة، التي تغسلنا بالخيبات الكثيرة والمسرات القليلة. حياة لا تُستطعم إلا في أكثر محطاتها إيلاما. وحده كشاف المبدع من يضئ اختلاطاتها وثنائياتها التي تتجسم كذات متوحدة بنقائضها، لهذا يتوجب التعبير عنها بالسخرية والغرابة واللامعقول كما تفعل تجربة وجدي الاهدل السردية .
الشارع نحن.. الشارع هم.. الشارع جميعهم/نا.. الشارع خرافتنا المتخففة من وعيها، حتى وهي تُقطِر وهمها في التاريخ الشخصي المبعثر في انكماش الزمن إلى الماضي الذي نحاول الهروب إليه، إلى ما دون التذكر وليس إلى التدوين البعيد الممدد في بطون الكتب على نحو إعادة التذكير بانقلاب الناصريين في أكتوبر 1978. وحرب صيف 1994 وتذويب المستقبل في لحظة الافتراض، التي تنتجها مخترعات التقانة في حياة، جعلت من كائنات سكان نبتون يمدون سكان الأرض بالطعام الأخضر. أو جعلت أخلاق البشر في عام 2100 يرون في مواسير الصرف الصحي أكثر نفعا من الأوادم، فـ” لو أن موظفي الدولة يعملون بنفس كفاءة مواسير الصرف الصحي لكانت بلادنا بألف خير” كما قال مدير الموارد البشرية المكلوم.
الشارع متعين في وعينا، كما هو واقع في الجغرافيا، كمكان بتفاصيل كثيرة، فلكونه ” الشارع السد” إنما بسبب منفذه الواحد، ومسميات معالمه لا مجازية مثل “مقهى مدهش” وهو الأكثر حضورا في النصوص بوصفه المعلم الأبرز فيه، إلى جانب “مطعم البوري” حيث يأكل المهدي الفاصوليا، ومطعم العصيد حيث يقيم “حسن القوطي” ويقول عنه “إنه شارع المهزومين! وليس بالضرورة أن يكون للهزيمة ذاك المعنى السلبي.. أحياناً يسعى الإنسان إلى الهزيمة بإرادته”.. حتى يستطيع إعادة قراءة ذاته في تموضعها الذي ترغب فيه، وليس ما يراد من غيرها أن تكونه.
في ” ناس شارع المطاعم” يثبت وجدي الاهدل أن القصة القصيرة في اليمن لم تُمِتها شقيقتها الكبرى الرواية، بل ما زالت قادرة على مقاومة الإقصاء والتهميش والتغييب، باجتراحها الموضوعات الأكثر دهشة من قلب الحياة، التي تخلق من أفعال البشر كل مفارقاتها.
محمد عبد الوهاب الشيباني*