محمود الريماوي
قاص أردني
استلقت سيتا عاملة البيت الآسيوية، سيتا ذات الأربعة والعشرين ربيعًا على سريرها الصغير في ختام يوم عمل عادي، ورنت ببصرها إلى سقف غرفتها الصغيرة وبدا لها من شدة بياضه شفافًا مثل غيمة صيفية، متمتعة بدفء فراشها ذات ليلة خريفية في بيت مخدوميها، وما إن التقطت أنفاسها ونالت قسطا يسيرًا من الراحة، حتى انطلق طائر الأماني من محبسه في صدرها وحلَّق بها في سماء رحيبة، وبغير تفكير أو تخطيط مُسبق تمنت لو أن مفاجأة سعيدة، لو أن معجزة تقع، وتنقلها من حال الفقر والضنك إلى رخاء اليُسر والثراء، وقد تبسمت مع نفسها ابتسامة خجلى مكتومة تعبيرًا عن اعترافها بالشطط في ما تمنّته، ولحسن طالعها فما إن غرقت بالنوم حتى تواصل حلم اليقظة لكن على هيئة حلم مما تراه النائمة في نومها. لقد حلمتْ حقًا أن الثراء قد أصابها فجأة ودفعة واحدة وعلى غفلة منها، بمثل ما يصيب مرضٌ ما شخصًا سليمًا، ولا يعرف كيف ولماذا أصابه، ولدرجة خشيتْ معها لو أنها حاولت ان تسأل وأن تعرف مصدر الرزق الوفير الذي نعمت به، فلسوف تُرمى بالجحود وربما بالتجديف، وتُعاقَب بفقدان ما كسبته.. لهذا تقبّلت الحال الجديد بكتمان وامتنان من دون استفهام أو تعليق أو ما شاكل ذلك من انفعالات وردود فعل.
.. وأما وأن سيتا قد باتت بقدرة قادر واسعة الثراء وتقطن في بيتٍ فاره فسيح حسن الإضاءة والتأثيث، بما يفوق ما لدى بيت مخدوميها، وأنها سوف تنشغل لا محيص بين وقت وآخر من ساعات النهار والليل باستقبال ضيوف لطفاء وذوي اعتبار وتبادل أحاديث مرحة وشائقة معهم ثم وداعهم، فقد فكرت في أنها سوف تحتاج بل ستكون مُكرهة -لا غرو في هذا- على استخدام عاملة منزل تُعينها على تحمّل أعباء العناية بالبيت الكبير.. وقد راقت لها الفكرة بل كادت أن تطربها، فلن تصادف صعوبة في اختيار إحداهن للعمل معها، إذ أن جُلّ صديقاتها هن من عاملات المنازل، وهي تودّهن مودّة خالصة.. الفرق بينهن أن هذه أصغر وتلك اكبر سنًا، وهذه نحيلة وتلك ممتلئة، هذه سمراء داكنة وتلك أقل سمرة، وهذه خجولة وتلك أقل خجلا، وهذه مسلمة وتلك هندوسية، هذه مسيحية وتلك بوذية، وهذه تحب الآيس كريم وتلك مولعة بالشيكولاتة، وهذه تحب لملابسها اللون الأصفر الكمّوني وتلك البرتقالي، وهذه فقيرة وتلك أشد فقرًا، وهذه قصيرة وتلك أطول قامة، وهذه تُكثر من الحديث على الموبايل كلما واتتها فرصة، وتلك تتكلم أقل. والفرق بينها هي وبين جُملة صديقاتها العزيزات لا يعدو كونها ثرية بينما هن مجتمعات غير ذلك، وسوى هذا فإنهن جميعهن طيبات نشيطات مُتشابهات، يُضنيهن الشوق للأهل في الديار. وقد فكرت أنها سوف تمنح من يقع عليها الاختيار للعمل معها راتبًا سخيًا، وهدايا جميلة في الأعياد والمناسبات السعيدة، وهي خير من يعرف ما الهدايا التي تسعدهن أكثر، وسوف تظل تعاملها كما من قبل معاملة صديقة عزيزة، وتمنحها فترات استراحة أطول، وتجعلها تتمتع بيوم إجازة تمضيه خارج البيت مع صديقاتها وقريباتها، وسوف يحق للعاملة في بعض الأوقات الاستماع للموسيقى الشجيّة والأغاني العاطفية بصوت منخفض، وأن تضحك على سجيّتها حينما يكون هناك ما هو مضحك، لا أن تغُصّ بالدموع فقط في المواقف الصعبة، وأنهما سوف تتشاركان تناول الطعام متجاورتين وتتبادلان خلال ذلك أحاديث ودية على المائدة نفسها.
وهكذا فإن بهجة سيتا بفرصة اختيار عاملة للمنزل من بين صديقاتها، لم تكن تقِل عن سعادتها بحال الرخاء الذي أصابها. فلما وطئت قدماها عتبة المنزل الذي وهبته الأقدار لها، وقبل أن تتمعّن في فخامته المبهرة وأرجائه الفسيحة، إذا بها تُفاجأ بوجود عاملتي منزل اثنتين لا عاملة منزل واحدة، انحنيتا لها، وقد وضعت كل منهما نفسها في خدمتها. وقد فهمت منهما أن وجودهما مُتلازم مع منح المنزل لها.. لم تنظر لهما بسوء بل استلطفتهما كثيرا، وراقت لها ملابسهما البيضاء اللامعة ووجهاهما النضيران، لكنها أدركت في تلك اللحظة أن وجودهما سوف يحرمها بالتأكيد من اختيار عاملة منزل من بين صديقاتها، فشكرتهما وصافحتهما بحرارة وتبادلت معهما قبلات خاطفة، وفارقت المنزل على وجه السرعة، وبغير رجعة.
لم تجرؤ على رواية حُلمها لـ (ماما) سيدة المنزل، حتى لا تظن بها الظنون، وهي في العادة لا تتباسط مع سيدتها في أمورها الشخصية، لكنها أحاطت صديقاتها علمًا بما رأته، وقد تفاجأن وأطلقن ضحكات هنيئة مسترسلة على ما سمعن، وتوجّهن جميعهن لها بالسؤال عمن اختارت منهن للعمل في منزلها، فأوضحت لهن أنها صادفت صعوبة في الاختيار فـ «كل واحدة منكن أفضل من الأخرى وأقرب إلى قلبي من الأخرى.. كنت سألجأ إلى القرعة».
وقد طلبن منها على سبيل المزاح أن تواصل رؤية أحلام جميلة كهذا، وان تحجز لهن مكانا ودورًا في تلك الأحلام. قالت الأولى: أريد أن أتمكن من تأمين مستلزمات البيت بغير تأخير حتى لا يفكر الخطيب بفسخ الخطبة. وقالت الثانية أريد موبايل حديثًا بأربع كاميرات، وقالت الثالثة أريد سيارة يابانية كهربائية حتى لا أدفع المال لملئها بالبنزين، وقالت الرابعة أريد أن أصبح مديرة روضة أطفال في بلدي براتب مُجزٍ، وقالت الخامسة أريد أن أكون نادلة أنيقة في حانة فندق 5 نجوم يؤمّها كبار القوم حيث يكثر البخشيش.
تبادلت الضحكات معهن وهن يتوزعن بين الجلوس على مقعد ثلاثي، والوقوف في مساحة خضراء ضمن حديقة أطفال تتوسط عددا من البيوت حيث يعملن، ثم غشيتها سحابة حزن مفاجئة قبل أن تقول متنقّلة بناظريها بينهن: ماذا جرى لكُنّ، هل توقفتن عن الأحلام؟ لا أحد يحلم عن الآخر.
لم تكن سيتا أكبرهن ولا أصغرهن سنا، كل ما في الأمر أنها ذكية وقد أنهت تعليمها المدرسي، وتعكف دائما على التفكير، وتفكر بغيرها أكثر مما تفكر بنفسها.
وقد سكتن بعدما سمعن التقريع الودي وأَشَحْن بوجوههن عنها إمارة عن الشعوربالحَرَج، وقد نجحت إحداهن وكانت الأكثر مرحا بينهن في كسر الوجوم وإشاعة الصفاء مجددًا قائلة: سمعًا وطاعة أستاذة. مضيفة: أعتذر.. لن أعمل في قصرك، لا تحسبي حسابي. ولم يكن تصريحها هذا بغريب، إذ تحلم أو تطمح لا فرق، وكما سبق أن قالت لمهنة نادلة في حانة فندق درجة أولى.
قصة: والو
(إلى محمد حجّي محمد)..
بعد أن تعرّف عليّ وتقبّلني بابتسامة مُشعّة، ومن دون أن يفاجأ بوجودي هنا وفي محله، وبعد أن أوضحت له ما أريد من حلاقة الشعر، فقد فاتحني بغير مقدمات أن لديه ابنًا غائبًا لم يكتب له كلمة منذ عبر البحر قبل 22 عاما. لم أفاجأ كثيرا بخبر اندفاع شاب للهجرة العشوائية نحو أوروبا عبر البحر، لكني لم أتوقع أن أصادف أحدا من ذوي هؤلاء المهاجرين. قال إن جواد لم يخبر أحدًا من أترابه وخلانه بعزمه على المغادرة ليلة رأس السنة وقبل افتتاح الألفية الثالثة بساعات، ولم يكن الابن على خلاف مع العائلة باستثناء مفاتحة الأب له بأنه يمكنه تلبية بعض طلباته لا جميعها. وقد أبلغ الأب عبدالرحمن الشرطة بواقعة اختفاء ابنه، ليس أملًا باستعادته أو حتى سماع أخبار عنه، إنما التزام بمقتضيات أمنِيّة روتينية، ولم يَعده الشرطيون بشيء.
قلت له قبل ذلك إنه بينما يتمتع بهندام حسن، وبملامح نضرة تقاوم زحف الكهولة، فإن محل الحلاقة خاصته تسوده الفوضى، حتى أنه يترك الجوارير مفتوحة وتظهر نصف محتوياتها ممتدة خارج كل جارور، وأن الحل لهذا هو بأن يدعو إحدى بناته لزيارة المحل زيارة عابرة فسوف تهب ّمن تلقائها لوضع حد للفوضى المستشرية، ولن تخرج إلا والصالون في أفضل حال، فالبنات لا يرتضين مثل هذا لآبائهن، أما الأبناء فيطنّشون (يتغاضون)، فأجاب إن البنات تزوجن ولهن حياتهن، واضعًا بذلك حدًا لإمكانية تنظيم المحل وترتيبه. مع ذلك فقد كان هناك مشروع ابتسامة حيية دائمة على شفتيه الجافتين. وقد تحمست وأضفت متسائلا: هل يعقل أن يكون المحل بغير آرمة تنبئ عن هويته وتدل عليه السابلة، فمن يمر بباب المحل نصف المفتوح ونصف المغلق يخاله مخزنا أو مستودعًا صغيرًا، ولن يخطر بباله أبدًا أنه صالون حلاقة (كنت قد توقفتُ ليلة البارحة بالمصادفة أمام الصالون، ولمحت الحلاق الكهل وهو ينهي يوم عمله)، فأجاب: إن زبائنه يعرفون المحل ويقصدونه بانتظام منذ سنوات طويلة، وإنه لم يكن ليمانع في وضع آرمة صغيرة على مدخل المحل، لولا أن البلدية تتقاضى مالًا عن هذا الإشهار، وأنه ليس لديه مال فائض يمنحه للبلدية الثريّة.
في البداية طلبت منه أن يقتصد في تقصير شعري فهز رأسه موافقا، فيما كانت حركة المقص تنشط ببطء في يده. وقد أوضح لي أنه لم يعتمد على أحد في التحري عن مكان جواد إذ ذهب بنفسه إلى بلجيكا، وهو البلد المستهدف في هجرة ابنه. كنا نأمل أن يلجأ لشقيقته المتزوجة والمقيمة هناك، لكنه لم يفعل إمعانًا في التخفي، وأن البنت ظلت تنتظر أن يقرع أخوها باب البيت لكنه لم يفعل. وقد طاف الأب هناك على المطاعم والمقاهي التي يرتادها مغاربة، لكن أحدا لم يشف غليله بخبر عن جواد، ونشر بمعاونة معارف له ومتطوعين صور الابن في كل مكان يمكن تثبيت الصورة عليه. وظل الأب يعتقد جازما أن ابنه يتعمّد التخفي التام مخافة أن تلقي الشرطة القبض عليه وتعيده مخفورًا إلى طنجة، وهو ما يفسر عدم مصادفة أحد له.
اغتمّ الأب من دون أن يفقد الأمل وكان يرغب فقط برؤية ابنه ومعانقته ومعاتبته على مغادرته الفجائية، وعلى حرمان العائلة من أي اتصال أو تواصل معه، ثم سوف يتركه إلى الأبد ليواصل حياته كما اختارها… لم نفعل له السوء، قال الأب برباطة جأش وبنبرة حيادية واثقة. وقد مرت السنون حتى غادر أحد أبناء الحومة (الحي) إلى بلجيكا لزيارة ذويه هناك وعاد من زيارته، وقد أشاع لدى عودته أنه التقى بجواد، من دون أن يلتقي بالأب لإبلاغه ما حدث رغم أنه يعرفه. ولما سأل الأب عنه هنا وهناك مستغربًا أن يُبلّغ الرجل كل من ليس له علاقة بالأمر بخبر اللقاء، مستثنيًا ذوي جواد، حتى عثر عليه وتحادث معه بشأن ابنه، وقد اعترف الرجل أنه لم يصادفه بل رأى شخصًا على شبهٍ به، وأن هدفه كان أن يبعث الأمل في نفوس أفراد العائلة. لم يزعل الحاج عبدالرحمن منه، فالناس باتوا غريبي الأطوار، فإذا كان ابنه قد اختفى فجأة بغير علامة أو خبر، فماذا يمنع أن يطلق أحدهم مثل هذه الكذبة متعللا بنيةٍ حسنة.
لم أجد الكثير مما يسعني مواساته به، إذ قلت كلاما من قبيل إن جواد ليس طفلًا أفلت من يد أمه ذات يوم وضاع وسط الزحام، بل هو رجل راشد اتخذ قراره بملء إرادته ومن دون أن يضغط عليه أحد من العائلة. فوافقني الرأي قائلا: إنه الآن في سن الثانية والأربعين، فقد غادر في سن العشرين، وتمنيت من جهتي أن يكون الابن الآن في حال طيبة بعد أن قرر اختيار مصيره بنفسه. فأجابني بأن هذا ما يتمناه، وكل ما هو منتظر منه أن يخبر العائلة ببضع كلمات عن أحواله، ثم ليفعل بعدئذ ما يشاء فهو يتحمل مسؤولية نفسه. بدا الحاج غاضبا بأكثر مما هو حزين لاختفاء الابن، غاضبًا ومجروحًا في صميم كبريائه، ولدرجة الشعور بإهانة الاستغناء عنه من طرف الابن وهو كبير إخوته، وفيما حافظ على نبرات صوته الثابتة مع أقل قدر من الانفعال، فقد فاتحني أن أحدهم أخبر العائلة بأنه صادف جواد في أحد المقاهي. وسألته: صادفه؟ بماذا تحادثا؟ فأجاب: إن الرجل كان يعبر مقهى فيما كان جواد يغادر المكان، وقد مرّا على عجَل بمحاذاة بعضهما من غير أن يتبادلا الحديث ولا حتى التحية.. لكن الرجل عرف جواد الذي كان ينظر صوب الأمام ولا يلتفت لمن يمرون به. متى حدث ذلك؟ في الـ 2016، قبل ست سنوات في بلجيكا. وعُذر الرجل في عدم استيقاف جواد هو في كونه يعرفه مجرد معرفة في الحومة وفي المدرسة، ولم يكونا على صداقة. وفي بسطه لهذه الحادثة لم يكن ثرثارا ولم يستدر العواطف، رغم أنه يستبطن شعورًا بظلم فادح، فقد وهب حياته للعائلة وما زال، وها هي أحوال العائلة معقولة لا ينقصها شيء ولا ينغصها شيء سوى امتناع جواد عن إحاطة أهله بأي خبر عنه.. لم يشر طوال المحادثة ولو من طرف خفي إلى احتمال أن يكون قد أصابه سوء بين أمواج المتوسط أو في البر البلجيكي، ولا أنا ألمحتُ إلى احتمال كهذا.
وقد نجح الحاج في توقيت سرد حكاية الابن بما يتوافق مع الوقت المخصص للحلاقة البطيئة، إذ لم يكن هناك من زبائن ينتظرون. كنا وحدنا في المحل زهاء الساعة الثالثة بعد الزوال، وروح جواد تخفق في المكان.
قلت له أن يوكّل أمره إلى السماء إذ إنه لم يرتكب ذنبا بحق ابنه، ووافقني على ما قلت. وإذ نظرت في النهاية إلى شعري، فإذا بمقصه قد أتى عليه كله، وأبقى لي على شعر بالغ القصر، لم أعاتبه على ما فعل بل شكرته، ولم أعاتب نفسي على غفلتي، إذ دأبت على النظر إلى رأسي في المرآة كل يوم من دون أن أراها، وهذا ما فعلته أمام المرآة البيضاوية القديمة للحلاق، وأبلغته أني لمست كم أن جيرانه في المقهى يحبونه ويعتبرونه أفضل حلاق في المنطقة، فغمغم شاكرًا، ونقدته أجرته التي حددها مع زيادة طفيفة، وقد تقاضاها بقبول تام. فيما أنا لا أكفّ في دخيلتي عن التساؤل: لماذا اختارني لسرد حكايته، وأسارع للإجابة أنه لا بد قد سرد حكاية ابنه على مسامع ما لا يُحصى من زبائنه طيلة 22 عاما، ولستُ إلا واحدًا بين هؤلاء، وأنني لكوني غريبًا من خارج البلاد فلربما وجد في هذا سببا إضافيا للبوح بمكنونه، فقد تطير حكايته هنا وهناك من خلالي لدى عودتي إلى دياري وخلال أسفاري، ووجدتني أتمتم بصوت مسموع وأنا أنظر إلى عينيه السارحتين: لقد سمعتك جيدًا جدًا يا سي عبدالرحمن، واذا أمكننا وضع القَدَر جانبًا، فإن ابنك جواد -سامحه المولى- ليس معه الحق أبدًا أبدًا أبدًا.. والو، باللسان المغربي. لم يقل شيئا وهو ينحني قليلًا وينفض بالفرشاة البيضاء بقايا الشعر المقصوص عن قميصي وبنطالي.
تأهبت للمغادرة وقد فاجأني بالقول وهو يودّعني: مجاورة البحر نعمة ونقمة. وقد نلنا نصيبنا منهما على السواء. كنتُ سبّاحا ماهرا، لم أعد أذهب إلى البحر القريب، وشهيتي باتت تعاف الأسماك. وجدتني أجامله بالقول: معك الحق، فيما تتناثر في تلك الرقعة حولنا مطاعم الكائنات البحرية. وعند الباب استوقفني للمرة الأخيرة قائلًا: أخشى ما أخشاه أن يكون قد اختفى في بلادنا الكبيرة، إذ لم يُبلّغ أحد عن سفره بالبحر، وهو لم يكن يملك مالًا للمشاركة في رحلة القارب. أربكني هذه المرة حتى كدت أشعر بشيء من الدوار، ولم أجد ما أقوله، واستشعرت القلق من بدايات تيه لديه، حتى وجدتني أخاطبه بكلمات متقطعة: ما قلته مهم سي عبدالرحمن، مهم جدًا ويحتاج إلى جلسة أخرى، يحتاج إلى جولة حلاقة ثانية قريبًا..