حاورته:فاتن حمودي
شاعرة وإعلامية سورية
«كلّ فن لا يفيد علما لا يعوّل عليه»، بمقولة ابن عربي أمضي نحو تجربة شيخ الخطاطين منير الشعراني، الذي يُعد واحدا من أشهر فناني الخط المعاصرين في العالم العربي، ابن سلميَّة، الشامي الذي تهجى شعرية الجمال والخط في أسواق دمشق، التي كانت تلفته في رحلة ذهابه وإيابه إلى معلِّمه بدوي الديراني، «ولم تكن دمشق حينها سوى متحف للجمال، لافتات المحلات، الخطوط المشغولة بالخشب والنحاس والذهب، الأصبغة، الدهانات».
في «ذاكرة المكان»، يأخذك الشعراني إلى حكايته مع الكلمة والمدن، والغربة والعمل، بما يشبه السيرة الذاتية، صورة الأم، مصطبات البيوت، الحمام الأثري، وهو الذي رسم في كل مدينة زارها أو عاش فيها حكاية، في ميلانو أنجز تصميم أغلفة الأعمال الكاملة لدوستويفسكي، وفي القاهرة، وبيروت وغرناطة و«قرطبة»، التي رأى فيها نسخة من دمشق بأزقتها وبيوتها، لهذا قال «بكيت وأنا عصيّ الدمع شوقًا»، و«الشام في مرآة روحي».
ماذا يفعل الفنان الذي يقف منفردا عن السرب، وهو يرى الشام التي عاد إليها بعد ربع قرن من الغياب في نفق مظلم، يكفي أن تقرأ لوحاته، لاءاته، لتدرك عميقا على أي أرض يقف، اللوحات الرافضة للقتل والطائفية والتهجير والتعطيش والتجويع وغيرها من الممارسات، وهو المجدد المقتصد في اللون، البعيد عن ثرثرة الحروفيين، يؤمن بأنه «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة»، فيجعل من اللوحة مساحة للجمال، للموقف، للإنسان، للمكان والزمان معا، بعيدا عن القداسة التي وضع فيها الخط العربي، تأطير هذا الفن داخل الإسلام فقط، أو النظر إليه وكأنه دين مكتمل. وبعيدا عن نظرة الاستشراق يمضي الشعراني مجددا و مطورا ومُحْييا ما غاب من أنواع الخطوط بطريقة حداثية مدهشة… حول الرحلة والتجربة والمرجعيات الثقافية …، نفتح باب الحوار
«الإنسان هو الخفي في حجارة المكان، لأنه هو صانع الأماكن»، منير الشعراني كيف تقرأ المكان والزمان معا، من خلال فلسفتك، فنك، تجربتك؟
فلسفتي؟ هذا كثير عليّ! ربّما تقصدين انحيازي الفلسفي، وهو يبدأ بانحيازي إلى الحقّ والخير والجمال، وما يرتبط بروح هذه المفاهيم العابرة للزمان والمكان وجوهرها كالحريّة والعدالة والمساواة والحبّ والسلام، ومن هنا أرى أن الزمان يبدأ مع أول مساعي الإنسان للارتقاء بحياته في بيئته ومكانه وما يحيط به دون أن يعرف أنّه بذلك يراكم على طريق الارتقاء بالحياة البشرية وعطائها الإنساني أيضًا، والعلاقة بين الزمان والمكان في رأيي علاقة جدليّة تمرّ بمنعرجات قد يتفاوت تسارعها، لكنها في حصيلتها حبيّة ومتكاملة وما الصورة الجزئية في زمان أو مكان ما إلا نقطة صغيرة في الحاصل التراكمي الموضوعي في خارطة الوجود لكنّها لا تكتمل بدونها.
أما عن قولي الذي ذكرتِه، الإنسان فيما أرى خفيّ في حجارة المكان، هو الذي اكتشف إمكانية استخدامها في سبيل الارتقاء بحياته، وهو الذي سخّرها لأغراض مختلفة قبل أن يستخدمها في بناء مأوى آمن له من الطبيعة والوحوش، هو الذي اكتشف وما يزال ما خفي فيها من معادن وعناصر وطاقات وخواص وأشكال وألوان، وهو الذي اكتشف النار الكامنة فيها، وهو الذي بثّ فيها الحياة، والأمر كذلك بالنسبة للأماكن التي عاش فيها على امتداد الزمن.
متى بدأ شغفك بالخط بالحرف، بالكلمة، حدثنا عن مرجعيّاتك الثقافية التي نبّهت فيك هذه الحاسة للجمال؟
لست أدري متى بدأ الشغف ومع ماذا؟ هل ابتدأ بالسمع أم بالبصر، هل ابتدأ بالإحساس بإيقاع الحروف والكلمات ومعانيها أم مع متابعة صورها وحركتها في الوصل والقطع لتشكل كلمات وجملا ذات دلالة، هل ابتدأ في البيت أم عند الشيخة مُزيّن؟ لكني أذكر أنني منذ عرفت أن أفكّ الحرف قبل المدرسة الابتدائية أدمنت القراءة، وتعرّفت على مجلة سندباد التي حببتني رسوم معلمي الأول حسين بيكار فيها، وصار رسم الخطوط وسيلتي الأولى ، والتي كان يشدّني جمالها في عناوين الكتب، قبل أن أعرف أن للخط العربي أقلامًا خاصّة مختلفة عن أقلام الرسم والكتابة العاديّة، أمّا عن المرجعيات الثقافية فلربما كانت بالبداية كامنة في لا وعيي منذ طفولتي المبكّرة بتأثير أجواء مدينتي الصغيرة «سلميّة» التي كان معظم أهلها مغرمون بالشعر والأدب والثقافة والتعليم، وبتأثير البيت الذي وعيت فيه على أمّي وهي تطرّز وتمارس الفنون النسوية فيه، ثم في قراءاتي في مكتبة المركز الثقافي بحمص بتشجيع من الأهل ورعاية من الأستاذ «عبد المعين الملّوحي» الذي كان مثالًا وقدوة في ثقافته وشيمه وسلوكه.
يقول الماغوط عن سلميّة «سلميّة: الدمعة التي ذرفها الرومان/على أوّل أسير فكّ قيوده بأسنانه/ ومات حنينًا إليها»، هل تحدثنا عن ذاك الفضاء الذي ابتعدت عنه طويلا، عن سلمية، وعن تلك المصطبة التي كنت تسمع فيها عزف النساء وغناءهنّ؟
في أيلول 1952، غدوت كائنًا يحق له أن يضاف إلى أهل بلدٍ لم يكونوا فيه آنذاك مجرّد أرقام، كان هذا في بدايات الجفاف الذي أصاب سلميّة وبدّل حالها وحال أهلها، هناك عشت في بيت عربي تجاوره بيوت أعمامي ويصل بينه وبين بيت عمي الملاصق باب «خوخة»، كنت دائب الحركة بين البيتين، ألعب وأمارس شقاوتي الطفولية التي ما زالت زوجة عمي تتندر بها حتّى اليوم مع حكاياتي عند الشيخة «مُزيّن» التي علمتني القراءة والكتابة وبعض قصار السور قبل أن أنتقل في الخامسة من عمري إلى حضانة آل «الجندي» النظامية، لأنزح مع أهلي بعد عام إلى حمص إثر زحف الجفاف واحتراق متجر والدي مما اضطّره إلى العمل بعد أن تخطّى الأربعين موظفًا في أوّل السلّم بشهادته الابتدائية، وما تزال صورته في متجره الذي كان يحتوي بالإضافة إلى البقالة ومنتجات الألبان والخضَر والفاكهة والتبغ و«المتة» بضائع كان أوّل من جلبها إلى البلدة كالقرطاسية والأدوات المدرسية، ولوازم التطريز والخياطة النسائية، والأدوات والأجهزة الكهربائية ولوازم التمديدات التي صارت مطلوبة منذ أنشأ خال أمّي القادم من حمص «عبد الحميد الملّوحي» شركة الكهرباء لينير سلمية عام 1946، وينير معها قلبَيّ أبي وأمي، كانت سلمية آنذاك مدينة نشيطة سياسيًا واقتصاديًا، تمارس فيها نشاطات متنوعة في النوادي الاجتماعية والثقافية والرياضية، والمقاهي والنُزُل»المَضافات» والبيوت، وكان فيها سينما، وكان لأمي ولبعض السيّدات «استقبالات» تنعقد بشكل دوري في بيت إحداهن، فكانت تفرش على مصطبة البيت مائدة بما لذّ وطاب من المآكل والمشارب والمسليّات، تلتف وصاحباتها حولها فيتسلين ويتسامرن ثم يبدأن بالعزف والغناء تحت سماء صافية مرصّعة بالنجوم، كنت أنتظر هذا الاستقبال وأنشدّ إليه ولا أرغب أن يفوتني شيء منه رغم محاولات أمي لإلهائي أحيانًا، وكانت متعتي كبيرة عندما أذهب بصحبتها وصاحباتها إلى الحمام الأثري الذي كان ما يزال مستخدمًا.
حمص لاحقًا… المدرسة، المكتبة، عبد المعين الملّوحي، حدثنا عن صدمة الحداثة بين الريف والمدينة وعن قصص وحكايات واجهت هذا الطفل الخاص المميز؟
في حمص استأجر والدي الطابق الأرضي من بيت الأستاذ عبد المعين الملّوحي قريب أمّي الذي كانت تربطه به صداقة منذ مشاركتهما في جماعة الدفاع عن اللغة العربية أيّام الاحتلال، وفي عصبة الدفاع عن فلسطين بعد ذلك، كان البيت في جورة الشياح قريبًا من بيوت الشاعرين عبد السلام عيون السود وصديقه عبد الباسط الصوفي، الذي شهدتُ تشييعه من بيته، والرئيس هاشم الأتاسي ومن مدرستي الابتدائية التي سمّيت باسمه، لم تكن هناك صدمة من أي نوع لأن سلمية في ذلك الوقت لم تكن ريفيّة، والفوارق بينها وبين حمص كمدينة أكبر لم تكن كبيرة، ولم تكن حمص جديدة عليّ فلقد زرتها مرّات مع والدتي قبل ذلك ، لكن الجديد كان سخرية الأطفال الذين كنت أرغب باللعب معهم في الحارة من لهجتي التي تميّزها القاف السلمونية الجليّة، الأمر الذي اضطرّني إلى ضرب «منقذ» أكبرهم وأطولهم، ليذهب باكيًا فيشكوني إلى أبيه الأستاذ عبد المعين الذي تعلّمت منه يومها أوّل دروسه العميقة، لأنّه بعدما تبيّن الأمر لامَ ابنه على سلوكه المرفوض لأنّه ينمّ عن تعالٍ على الآخرين بلا مبرر، وكافأني، قرّبني هذا منه وكانت تغريني مكتبته العامرة فأطلب أن يعيرني كتابًا أقرأه فكان يفعل ويشجّعني، ثم اهتديت إلى بائع كتب ومجلات يفرشها على رصيف في الشارع الواصل بين الساعتين القديمة والجديدة فكنت أستأجر منه مجلة سندباد قبل أن أكتشف المركز الثقافي وأداوم فيه بعد إلحاح على الموظف الذي استصغرني ومنعني من الدخول قبل أن أنتزع موافقته بالقراءة أمامه، لأعرف لاحقًا أن مدير المركز هو الأستاذ عبد المعين الذي سُرّ عندما رآني هناك وربَت على كتفي مستحسنًا ردّي على الموظف عندما سألني لماذا لم أُعلمه عندما أراد منعي بالصلة التي تربطني بالأستاذ، فقلت له: وهل كنت أدخلتني إذا عرفت صلتي بالأستاذ ولم أكن أعرف القراءة!؟ ولأنه كان مقتنعًا بجدارتي وعلى رغم رفضه للوساطة، ولكي لا أخسر سنة دراسية لأنّ ستة أيام تنقصني، طلب من إدارة المدرسة امتحاني بمقرر السنة الثانية وقبولي إن نجحت، وقد حصل.
درست السنتين الابتدائيتين في حمص واجتزتهما بتفوّق، رغم أنني كنت أعتمد على تركيزي ومراجعتي البسيطة للدروس وما أمتلكه من ذاكرة قويّة، و ربّما ساعدتني كثرة القراءة على تطويرها.
حديث حمص يطول، لأن السنوات التي قضيناها منذ 1958 حتّى 1961 كانت مؤثّرة ففيها شهدت وتعلّمت الكثير وبدأت خطوط شخصيتي تتبلور وتشي بمعالم الشخص الذي سأكونه.
قلتَ لي مرة بإحدى الحوارات: «علاقتي مع الخط بدأت تتضح في دمشق، وأول لافتة كتبتها لأحييّ فيها البطلة جميلة بوحيرد، حين زارت دمشق، وعلّقتها على سطح بيتنا في المهاجرين». هل لك أن تعود بالذاكرة إلى معلّمك الدمشقيّ «بدوي الديراني» وتلك المشاوير إلى مكتبه، و أنت تتأمّل لافتات المحلات في سوق الحميدية وما حولها وأنت تتمشى مشغولًا بها عن كل ما عداها؟
انتقل عمل أبي إلى دمشق فاستأجر ملحقًا في المهاجرين وانتقلنا إليها، انتظمت كتلميذ في الصفّ الثالث الابتدائي في مدرسة رابعة الشامية التي كانت تشغل بيتًا عربيًّا بالقرب من ساحة عرنوس، كنت أنزل إليها ماشيًا وأعود بالترام، تلفتني في الذهاب والإياب لافتات المحلّات المخطوطة بشكل جميل، وكانت عناوين الكتب تشدّ انتباهي فأقلّدها رسمًا لجهلي بأقلام الخط وأدواته حتى أنني كتبت اللافتة القماشية الصغيرة للترحيب بجميلة بوحيرد بقلم ذي لونين أحمر وأزرق بللته بالماء لأرسم به حروفًا عريضة، في المدرسة انتبهت المديرة التي كانت تعلمنا الرسم والأشغال إلى اهتمامي بالخط فنصحتني أن أطلب من والدي أن يأخذني إلى خطاط يعلمني، فأخذني إلى أشهر خطاط في سوق الخطاطين في البحصة، لكنني لم أرتح لأسلوبه في التعليم فتوقفت، وسرعان ما سنحت لي الفرصة أن أذهب إلى الأستاذ بدوي الديراني الذي انتبه إلى شغفي ووافق على تعليمي، فكتب لي سطرًا كلفني بكتابته بعشرات من الصفحات تتلوها عشرات كان يصححه لي عليها حتّى اطمأنّ إلى تركيزي وصبري ودقتي وجديتي اللازمة لمن يريد أن يتعلّم الخطّ العربي، واظبت على التردد على مكتبه منذ 1962 حتّى وفاته عام 1967 في طريقي إلى مكتبه بزقاق المارستان مارًا بسوق الحميدية أو بأي طريق تفضي إليه، كانت عيناي تمسحان الخطوط على الآثار، واللافتات التي كان معظمها مشغولًا بطريقة جميلة سواء بالنحاس أو الخشب المدمج النافر أو الذهب المذاب أو الأصبغة والدهانات، كانت الحميدية وما حولها متحفًا للافتات بدوي وأستاذه ممدوح وقلّة آخرين كعبده وطيفور، لم أتعلم من بدوي الخطّ العربي فحسب، بل تعلّمت منه أيضًا أخلاق الفنان غير المقلّد وروحه والتزامه بقيم الحقّ والخير والجمال.
قلتَ أيضًا: «درست في ثانوية التجهيز الأولى-جودت الهاشمي، التي كانت أشبه بقلعة، لا يستطيع من بداخلها الخروج إلّا بسلطان، لكنني استطعت عبر سلطان الخط، أن أنتزع إذنًا بالدخول والخروج، متى أشاء». حدثنا عن الدراسة، عن تطوّر الوعي والمرجعيات الثقافيّة، عن خصوصية التميّز، وعن البحث عن الطريق؟
قبل «جودت الهاشمي» لقيت اهتمامًا بموهبتي بالخط والرسم في مدرستي الابتدائية الدمشقية الثانية التي أنهيت فيها المرحلة الابتدائية واحدًا من العشرة الأوائل على دمشق، ورعاني الفنانان هشام زمريق وخير الدين الأيوبي وغيرهما في إعدادية عبد الكريم الخطابي بالمزرعة بالقرب من بيتنا الذي اشتراه والدي في الديوانية بثمن بيتنا في سلمية، كنت أرسم وأخطّ مجلة الحائط وما يلزم للأنشطة المدرسية، وكنت قد بدأت بالعمل ـ إلى جانب الدراسة ـ بالخطّ كمهنة تدرّ علي دخلًا طيبًا وافتتحت محلًّا لأعمال الخطّ بجوار حديقة المزرعة في سنتي الإعدادية الأخيرة، ثم ذهبت إلى جودت الهاشمي فتلقف موهبتي أستاذي الفنان رشاد قصيباتي والفنان عيد يعقوبي وغيرهما من الأساتذة، وكان مدير المدرسة فتحي القنواتي يكلّفني بالإضافة إلى ما يلزم المدرسة في مجال الخطّ والأعمال الفنية بمساعدة مدارس أخرى في أنشطتها، وبالمشاركة في تجهيز المعرض السنوي للمدارس الذي كان يقام في صالة ثانوية ابن خلدون ويشرف عليه الأستاذ عبد القادر الطويل، كما كلّفني بمعرض للصحة السنّية المدرسية بطلب من مديرها د. هشام البرهاني بعد اعتذار الأستاذ يعقوبي، وسلّمني مفاتيح مرسم المدرسة الذي كان يديره لأنجز المعرض الذي أقيم في صالة معهد الحريّة «اللاييك» بمساعدة عدد من الزملاء، الأمر الذي جعلني أتجرأ على طلب إذن دائم منه للخروج والدخول من المدرسة مقابل تعهّد مني بحضور الدروس المهمّة، والمحافظة على تفوقي، في الوقت نفسه كنت رئيسًا للجنة الفنيّة لاتحاد الطلبة الذي كان الانتساب إليه حرًّا، ونظمت معرضًا لطلّاب المدرسة شارك فيه الشهيد غياث شيحة، الذي كان زميلي في المدرسة وفي مركز أدهم إسماعيل، كنا نتلمس طريقنا فكريًا وسياسيًا وكانت جودت الهاشمي مدرسة بحقّ فيها مجموعة مختارة من المعلمين الأكثر كفاءة أمثال أحمد قبّش وعدنان العطار ورأفت مرادني ومروان مراد وغيرهم ممن أسهموا في تطوّر ثقافتنا ووعينا على مختلف الأصعدة، إلى جانب مكتبتها الكبيرة المتنوعة التي تغنى بكل جديد، وأجواء المدرسة التي أسهمت في تخلّصي من النزوع الغيبي لصالح الفكر الجدلي المادي الذي تلمّست خطاي الأولى على طريقه في حزب البعث قبل أن أغادره بلا رجعة قبل انتهائي من المرحلة الثانوية عام 1970.
المرحلة الجامعية، كلّية الفنون الجميلة في دمشق، باب توما ومرسم «يوسف عبدلكي»، دمشق القديمة ومافيها من تراث وصناعات وتحف، محاولات التجديد التي بدأت في مرسم الجامعة، مشروع تخرّجك، الملاحقة؟
كنت قد عقدت العزم منذ سنوات على دخول كلية الفنون الجميلة، وكان لي ذلك بعد امتحان القبول؛ في الكلّية كنت من المتفوقين، وكان إتقاني للخط العربي وتوجهي إلى التجديد فيه وإعادته إلى مكانته بين الفنون الجميلة أمرًا ميّزني وميّز عددًا من مشاريعي التي كنت أعتمد في تصميمها عليه، والتي شكّلت خطواتي الأولى على طريق تجربتي وما أنجزته بعد ذلك، وقد لاقت استحسانًا كبيرًا من أستاذي في التخصص عبد القادر أرناؤوط رئيس شعبة التصميم الزخرفي «الإعلان»، والأستاذ محمود حماد عميد الكلّية، وغيرهم من الأساتذة، أمّا أستاذ الخط «حلمي حباب» فقد تعامل معي كخطاط محترف ولم يلزمني بحضور دروسه، وكان يأخذ برأيي في تقييم الزملاء الذين كان كثير منهم طلّابي أيضًا في معهد الثقافة الشعبيّة حيث أسست قسم الخطّ ودرّست فيه، كانت أجواء الكلّية مشجعة على البدء في مشروعي الطموح فعزمت على أن يكون مشروع تخرجي تصميمًا لخط طباعي جديد وجميل يختصر عدد الأشكال ويسهّل عملية التنضيد، وكنت قد قاربت على إنجازه عندما قررت كرد فعلٍ على التدخل السوري في لبنان 1976 أن يكون مشروع تخرجي مجموعة ملصقات عن القمع والتسلط العسكري والذي قدّمته برغم محاولات أساتذتي لثنيي عن ذلك، الأمر الذي لم يمنعهم من تحكيمه بنزاهة كبيرة فكنت الأوّل على دفعتي في التخصص، كانت الجامعة منذ دخلناها تغلي بالأنشطة الثقافية التي كان لذوي التوجه اليساري من الطلاب دور بارز فيها بتأثير من الحركة الطلابية العالمية بأواخر الستينيات، ومن القضايا المحلّية والعالمية ومن الأفكار التقدّمية والاشتراكية والماركسية، في هذا السياق توطدت علاقتي مع «يوسف عبدلكي» زميلي في الدفعة ثم رفيقي في رابطة العمل الشيوعي منذ بداياتها، وكان مرسمه مسرحًا لسهرات ولقاءات وحوارات، وشاهدًا على أحلامنا، وملاذًا لكل من يحتاجه، حتّى أن مفتاحه كان يوضع في مكان نعرفه جميعًا، كان المرسم يشغل طيّارة أحد البيوت العربيّة في باب توما التي صارت تشدّني ببيوتها وحاراتها المفضية إلى أحياء داخل السور قلب دمشق ومتحفها المفتوح الذي يمثّل روحها بعراقتها وعمارتها وصناعاتها الفنيّة وأسواقها بحميميتها وأسرارها، بشكل يفوق حارات الصالحية وحمص القديمة التي أحببتها وعرفت خباياها.
تمّ سوقي بعد التخرّج إلى التجنيد الإجباري، وخضعت لدورة في مدرسة المشاة في حلب، كان الخطّ منقذي من أعبائها لأن الإدارة كانت بحاجة لخريج فنون خطّاط لتنظيم متحف المدرسة ومحتوياته، فُرِّزت بعد الدورة إلى الإدارة السياسية للجيش والقوات المسلحة مشرفًا فنيًا ومخرجًا لمجلة جيش الشعب، فغيّرت تصميمها وأخرجت عددًا واحدًا منها قبل أن أتخفّى بسبب ملاحقتي سياسيًا، وأسكن طيّارة بيت دمشقي في باب توما، ثم منزلًا ريفيًا في حمص، لأعود إلى دمشق وأعمل في طباعة جريدتنا لشهور قبل أن أتسلل إلى بيروت في مهمة وأعمل في تصميم أغلفة الكتب والمطبوعات باسم مستعار هو «عماد حليم» مع عدد من دور النشر والمؤسسات واشتهرت به لسنوات حتّى بعد اضطراري لمغادرة بيروت إثر انتخاب بشير الجميل بعد حصار بيروت الذي شاركت خلاله بما أستطيعه لدعم الصمود، في قبرص ثم في القاهرة حيث قضيت معظم سنوات الملاحقة والاغتراب القسري وعملت وعشت وأنجبت بنتي وابني.
الفنان منير الشعراني، بعد 25 عامًا من الغياب عن سورية، كيف كانت العودة، كيف ترى دمشق اليوم، إلى أين تذهب المدن بنا أو نذهب بها؟
طوال ربع قرن من الغربة القسريّة التي قضيت معظمها في القاهرة حيث عشت بين الناس والمثقفين كواحد منهم وانتزعت مكانتي في التصميم وعرضت تجربتي في التطوير الخطّي منذ بداياتها ولقيت اهتمامًا بالغًا، وأغنيت فيها معرفتي وتجربتي، وشاركت بفعالية في حركتها الثقافيّة وأعطيت الكثير، وكُرِّمت، وكانت منطلقي لعملي ومعارضي في بلدان أخرى عديدة، ظلّ الحنين إلى دمشق خصوصًا وسورية عمومًا يعتمل في داخلي ويلقي بظلاله على خياراتي يحدوني الأمل بالتغيير والعودة، حتّى أنني لم أهيّئ أو أعتبر أيًا من البيوت أوالمراسم التي امتلكتها إلّا مكانًا مؤقتًا، ثم سنحت لي فرصة العودة بعدما شملتني مذكرة كف بحث سياسيًا، وعفو عام شمل الفرار من الجيش، فقررت العودة بعدما تأكدت من جدّية الأمر، فور وصولي إلى دمشق وانتهائي من لقاء الأهل والأصدقاء والمهنئين طلبت من أخي أن يأخذني في جولة لأشمّ فيها رائحة دمشق وأتكلم مع حجارة بيوتها وطرقها التي شاركتها طفولتي وشبابي، كانت ذكريات طفولتي وشبابي تستدعيني وأنا أوجّه أخي ليمضي بي في شوارعها وحاراتها وأزقّتها، لكنني في اليوم التالي تعرّضت للاعتقال وخضعت لتحقيق طويل في فرع فلسطين قبل إقفال ملفّي وإطلاق سراحي بعد 13 يوم مصابًا بالتهاب حادّ في القصبات الهوائيّة، على الرغم من ذلك كنت أشعر بالفرح وأنا أتجوّل في محيطي وبين ناسي وألتقي أهلي ورفاقي وأصدقائي، رغم المنغّصات التي واجهتني لإنجاز المعاملات العالقة لتسوية وضعي عسكريًا ومدنيًا، لكنّ الفطر الذي نما على جسد دمشق وزحْف الإسمنت على غوطتها والعشوائيات على محيطها كان يوجعني ويشعرني أنها فقدت كثيرًا من ألقها وبهائها بفعل فاعل استباح مفاتنها ومزّق حلّتها لكنّه لم يستطع الوصول إلى قلبها وروحها اللذين ظلّ حبهما ينعش وجداني، وظلت مدينتي الأثيرة التي لم تستطع كلّ المدن التي عرفتها أن تحتلّ مكانتها، وظللت آمل أن أراها وقد استعادت ألقها وبهاءها وحرّيتها.
حدثنا عن تجربة العمل والسفر، تصميم أغلفة الكتب والمجلات، قبرص، أثينا، إيطاليا، روما وميلانو وفيرونا وأعمال «دوستويفسكي»، باريس، تونس،»فاس» التي أعادتك إلى عصر الأندلس، قرطبة التي أعادتك إلى دمشق: «بكيت على الأصل الذي شوِّه، فنحن اليوم أسوأ حالًا من دويلات الطوائف في الأندلس»، حدثنا عن هذه الأمكنة وعن دمشق التي انزاحت عن أصلها وظلالها وكل شيء؟
الحديث في هذا يطول، ولا أظنّ نفسي قادرًا على الاختصار أكثر مع ما تفتحينه من أبواب الذاكرة التي تثير الشجون.
قضيت عمري مسافرًا عاملًا، ذهبت إلى قبرص بطلب من «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» التي كنت مديرًا فنّيًا لها لأنهم كانوا ينوون الانتقال إلى هناك، لكنهم ذهبوا إلى الأردن، وبقيت، وعملت مع عدد من دور النشر والمجلات والجرائد العربيّة منها «الأفق» و«بلسم» و«الجيل» و»الكرمل» و«فلسطين الثورة» و«اللقاء» و«النشرة» وغيرها، كتبتُ في النقد الفنّي والسياسة وعملت بالتصميم والخطّ والإخراج الفنّي، وصمّمت جناح فلسطين في معرض نيقوسيا الدولي بشكل مستوحى فنّيًا من روح المسجد الأقصى والتراث الفلسطيني، كانت قبرص وناسها مضيفًا رائعًا متعاطفًا ومؤيدًا لقضيتنا، ومن قبرص إلى أثينا ذهبت لأضع التصميم الأساسي وأدير فنيًا جريدة عربيّة مستقلّة، باعها أصحابها للقذافي بعد اتفاقنا فانسحبت بعد إصدار العدد صفر، كانت أثينا جميلة جذبتني عراقتها وآثارها وأهلها الذين استمتعت بعزفهم على البزق ورقصهم على أنغام موسيقاهم الجميلة، سحرتني روما بعراقتها وأناقتها مدينة وناسًا، ومواءمتها بين القديم والحديث، وذرعت شوارعها وحاراتها مبهورًا بجمالها قبل أن أقطع الطريق رائع الجمال بينها وبين ميلانو حيث كنت ذاهبًا لأصمم أغلفة الأعمال الكاملة لدوستويفسكي وأشرف على طباعتها لصالح «دار ابن رشد»، لا تشبه ميلانو روما فهي مدينة صناعية لا يميّزها جماليًّا إلا الغاليريا والكاتدرائية المجاورة له ومحطّة القطارات التي سافرت منها إلى فيرونا المدينة الجميلة جمال أهلها نساءً ورجالًا وأطفالًا والتي يقصدها العشاق لزيارة بيت جولييت حبيبة روميو ورؤية الشرفة الشاهدة على لقاءاتهما، ويؤمّها الزوّار والسيّاح لرؤية المسرح الروماني الذي ما يزال قائمًا أو لحضور عرض أو حفل فيه، بعد إيطاليا ذهبت بدعوة من يوسف إلى باريس التي رأيتها أقلّ جمالًا وحميميّة، على رغم وجود أصدقاء حميمين لي فيها، ربّما غطّى شوقي لهم ورغبتي بقضاء وقت أطول معهم على ذلك، لكن والحقّ يقال أنها أشبعت نهمي وشوقي إلى رؤية أعمال الأساتذة الكبار في الفنّ منذ بداياته حتّى اليوم في متاحفها الكثيرة المتنوّعة، ولم يخلُ الأمر من القيام ببعض الأعمال فيها تلبية للأصدقاء. ثم ذهبت إلى تونس كمدير فنّي لمجلة «لوتس» الثقافية الدولية الفصلية، فوضعت تصميمًا جديدًا لها من العنوان إلى الغلاف إلى الأبواب إلى الخطوط، وصرت أحضر دوريًا من القاهرة لإصدار الأعداد التالية، احتوى أول هذه الأعداد على ملفّ عن الفنّ التشكيلي في تونس حصلت على صورة من الأستاذ علي اللواتي مدير «مركز الفن الحي» الذي سهّل دخولي إلى أوساط الثقافة والفنون هناك لما يتمتع به من احترام وتقدير بسبب ثقافته العميقة المتنوعة وخلقه الرفيع ومقدرته الإدارية المبدعة، وكان متحمسًا لتجربتي فدفعني للعرض في تونس وعرضت مرّات عديدة وصدر كتابان عن أعمالي ومستنسخات لبعضها وكرّاسات تعليمية قمت بعملها، في تونس تعرّفت أيضًا على عدد من الناشرين وتعاونت معهم، كذلك تعاونت مع المكتبة الوطنية وصممت لها كتابًا وملصقات وغيرها لمعرض نفائس المخطوطات بالإضافة إلى كثير من الملصقات والمطبوعات لمؤتمر اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا الذي عقد هناك عام 1988 وكثير من الملصقات المؤيدة لانتفاضة الحجارة في فلسطين.
في تونس أحسست ببعض من روح الأندلس، لكنني عندما زرت المغرب وفاس بالأخصّ شعرت أنني في حاضرة من حواضر الأندلس، أمّا الأندلس فكان المكان الوحيد الذي لم تكن زيارتي له لأوّل مرّة مرتبطة بعمل ما، بل كانت تلبية لرغبة عميقة في نفسي شجعتني عليها دعوة الصديق «عاصم الباشا» لزيارته في غرناطة، قضيت في مدريد أيامًا تعرًفت فيها على المدينة بخصوصيتها الجميلة، ومتاحفها الثلاثة الأهم حيث قضيت الوقت الأطول، ثم قصدت غرناطة ومن بيت عاصم الواقع مع مشغله في ضاحيتها كنت أتجه إليها فألتقي أحد الأصدقاء ونتجوّل في دروبها الرائعة المحيطة بقصر الحمراء الذي لم أكن لأستطيع رؤيته لولا الصديق المستعرب «خوسيه ماريا بوينتا» الذي استطاع استثنائي، بصفتي فنانًا، من الدور الذي قد لا يأتي إلا بعد شهور ورافقني في جولتي، كنت أشعر بالنشوة في غرناطة لكنني عندما ذهبت إلى قرطبة بلغت بي النشوة ذروتها وسكرت وهاجت شجوني وشؤوني، رأيتها بأزقتها وبيوتها التي تمتلئ شرفاتها بأصص الورود نسخة من دمشق التي حرمت منها قبل أن يتم تشويهها فبكيت -وأنا عصيّ الدمع- شوقًا إلى دمشق وحرقة على حالها وحالنا وعلى حضارة فرّطنا بعطائها، كانت دمشق التي غادرتها مكرهًا والتي تعشش في وجداني وروحي بعيدة المنال وكانت ومعها سورية توغل في النفق المظلم الذي أدخلت فيه منذ عقود رغم الانفراج المخادع الذي استطعت خلاله العودة إليها بعد 25 سنة من خروجي.
في الشارقة ثمة ملتقى دوري يعنى بالخط، وثمّة مهرجانات ومعارض واهتمام من وزارة الثقافة ومؤسسات أخرى في الإمارات والخليج، لماذا تضيق المساحة المعطاة للخط العربي في البلدان العربية الأخرى، من يهتم اليوم بفن الخط في الشام أو الدول المجاورة؟
يعرف بعض الأصدقاء من الخطاطين والفنانين أنني كنت صاحب التوصية بإقامة متحف وبينالي للخط العربي في ختام ندوة موازية لمعرض المرئي والمسموع ، وتمّت الموافقة من قبل الشيخ على التوصيتين اللتين كنت قد قدمتهما قبل عامين في ندوة موازية لمعرض كبير للخط العربي أقيم في القاهرة لكن لم يلتفت إليهما أحد هناك، بعدما بدأ ملتقى الشارقة ازداد الاهتمام بالخطّ العربي واتسع في الإمارات فزاد عدد المقتنين بعدما كانوا قلة أبرزهم الأستاذ محمّد المرّ، لكنّ إدخال «الأرسيكا» التي يديرها أتراك عثمانيو الهوى كمستشار في ملتقى الشارقة وغيره من الأنشطة جعل الاهتمام يتركّز على المدرسة العثمانيّة التقليدية ويعتبرها مرجعيته، ويجعل الاهتمام بالتجارب التحديثية في الخط محدودًا ويستعيض عن ذلك بالاهتمام بالحروفية واعتبارها هي الحداثة الخطية! كان ملتقى الشارقة فاتحة لملتقيات كملتقى القاهرة الدولي ومعارض دوليّة دوريّة أنشئت لاحقًا للخط العربي في الإمارات وفي بلدان أخرى، برعاية مؤسسات ثقافية، أو هيئات دينية حرصت على حصره بالوظيفة الدينية بعيدّا عن ماهيته التشكيلية، وفي رأيي أن المساحة لا تضيق اليوم لكن يتمّ توجيهها بطريقة سلفية تقليدية لا تليق بفنّ الخط العربي.
من المؤسف أنه -ككل شيء في الشام- لا يلقى الخط العربي الاهتمام اللائق رغم كثرة الشباب الموهوبين فيها، وهي التي تمت فيها خطوات تطويره الأولى على طريق تحوله من الوظيفة الكتابية الأدنى إلى الوظيفة الفنّية الأرقى.
أنت صاحب مشروع يتنامى ، كيف تؤثر على جيل الشباب من الفنانين، ألا تفكر في أن يكون لك منصة افتراضية تطل عليهم من خلالها، وتنشر رسائلك، فلسفتك، وأهمية هذا الفن الذي يشكل هوية حقيقية تربطنا بالمستقبل وبإرثنا الثقافي الغني؟
منذ البدايات اعترضت مشروعي عقبات كثيرة على مستويات متعددة، تبدأ بالعقلية السلفية المحافظة لمعظم الخطاطين والنظرة الشائعة للخطّ العربي حتى لدى معظم الفنانين التشكيليين على أنّه مهنة أو بأحسن الحالات فنّ مرتبط بالدين، مرورًا بظروف الملاحقة والانتقال ومتطلبات المعيشة أثناء ذلك وانتهاءً بالشعور بعدم الاستقرار، لكن الإصرار وحده أو العناد هو الذي مكنني من إنجاز الجزء المؤسس من مشروعي الذي كنت أطمح أن أقيم عليه بناءً متكاملًا يعيد لهذا الفن مكانته بين الفنون الجميلة، من ذلك تأسيس أقسامٍ له في كلّيات الفنون وضعت لها تصورًا برنامجيًا عصريًّا كان يمكن أن يبدأ في تونس في منتصف تسعينيات القرن الماضي بعد أن تمت الموافقة عليه رسميًا لكنّ وضعي السياسي حال دون ذلك، فمنذ معارضي الأولى لفتت تجربتي أنظار خطاطين وفنانين ونقادًا كبارًا كتبوا عنها ووجهوا الأنظار إليها، فصار لها متابعون كثر وبدأ تأثيرها يتضح خصوصًا على شباب الخطاطين وساعدت على ذلك الندوات المرافقة لمعارضي والتي كنت أطرح فيها رؤيتي بالإضافة إلى المقابلات والمؤتمرات المتخصصة التي كنت أواجه فيها التقليديين بالحجّة والبرهان، لكن كثيرًا من هؤلاء الشباب ظلّ معظمهم أسرى ما تربّوا عليه من الميل إلى التقليد والمحاكاة فصار معظمهم يقلدون ما قمت بتطويره دون فهم لمنهجي في التطوير والتجديد، لكنّ الحال كان أفضل مع من سمحت الظروف بمتابعتهم عن قرب في ورشات عمل أو حتى بالمراسلة، وصار واضحًا دور تجربتي في المشهد العام وفي خروج كثيرين من هيمنة الجمود والتقليدية وتلمّس طريقهم نحو الحداثة الخطّية، أما عن المنصّة الافتراضية فلا أراها مجدية من الناحية العملية فالاحتكاك والتوجيه والتصحيح والمتابعة لا بدّ منها لتحقيق فائدة حقيقية عميقة، والحلّ الصحيح في التعليم المباشر، في قسم خاص بمعهد أو كلّية فنّية حتّى لو تمّ تدريس بعض المواد النظريّة عبر منصّة افتراضيّة، لكن ما أتمنّاه أن يتنبّه مسؤولو بلادنا إلى أهمية هذا الفنّ وصلته الوثيقة بهويتنا فيعطونه مكانته اللائقة في كلّيات الفنون الجميلة ومعاهدها في بلداننا دون وصاية من أحد.
تبدو واضحةً في أعمالك الخطوط التي تأخذ أشكالًا هندسية معمارية، الأقواس، المنحنيات، الدوائر، المربعات، المثلثات، وغيرها، ما العلاقة الجوهرية بين المعمار والخطوط؟
العمارة هي أمّ الفنون وهي فنّ يقوم على الإبداع لكنّه في الوقت نفسه يخضع لقوانين طبيعيّة، وكلّما استطاع المعماري أن يكون مبدعًا في تسخير هذه القوانين وخلق علاقة خلاّقة بينها وبين رؤيته الجمالية والوظيفية لما يريد أن يبنيه كلّما كان عمله أرقى فنّيًا، وإذا كانت العمارة تحتاج في تحقيقها بالإضافة للتصميم إلى مجموعة من العناصر والمواد لتصبح بنيانًا واقعيًا، فإن الخطّ العربي لا يحتاج إلى ذلك لاكتمال بنيانه لأنّه فنّ يقوم على التجريد لا الإنشاء وهو على رغم تعامله مع الأسس الهندسية التي يقوم عليها التصميم المعماري يمنحنا جمالًا وإحساسًا من نوع آخر ويختلف في تجلّيه ووظيفته ويحيلنا إلى تأويلات بصرية مغايرة، وأنا أحاول في استخدامي للقوس والدائرة والمربّع وغيرها في عملي أن أحمّلها إحالات ودلالات تثير ذهن المتلقي وتخرجه من المفهوم الهندسي البحت لهذه الأشكال.
من جانب آخر كان الخط العربي في تراثنا المعماري حاضرًا دومًا يضفي على جلاله حيويّة وجمالًا.
علاقة الخط بالتشكيل وبالصيغ التي وضعها المستشرقون والعثمانيون، وما مدى اهتمامك بالخط الكوفي والخطوط عمومًا، الخطّ والمواد الخام، الورق، القماش، الحجارة، المنسوجات؟
الخط العربي باختصار فنّ قام على التجريد الأقدم في التاريخ وارتقى به من الوظيفة الدنيا التوصيلية إلى الوظيفة الأرقى الفنّية، ونقله إلى دائرة الفنون التشكيلية، التي تخضع على اختلاف أنواعها للأسس البنائية نفسها، بالإضافة إلى خصوصياته الأدائية والجمالية، فهو يقوم فنّيًا على العلاقة بين النقطة والدائرة والخط وتخضع حروفه لعلاقات نسبية تقوم عليها علاقاتها ببعضها وتؤثر في العلاقة بين فراغاتها البينية وعلاقات الكتلة والفراغ في التكوين العام، ويقوم بناؤه على أسس التكوين الجامعة للفنون التشكيلية، غير أن المستشرقين المغرضين، أبعدوه ومعه كلّ فنوننا عن ميدان الفنون التشكيليّة وتاريخ الفن العام وربطوها بالدين وعزلوها تحت مسمّى «الفنّ العربي/ الإسلامي» أو «الفنّ الإسلامي» الذي جعلوا «الخط العربي» أو «الخطّ الإسلامي» فرعًا منه، الأمر الذي تقاطع مع هوى العثمانيين وأشياعهم الذين كرسوا ربط الخطّ بالدين لا بالحضارة التي ارتقى في دواوينها وتطوّر ليصبح قاسمًا مشتركا لعطائها الدنيوي والديني في الوقت نفسه، وكرّسوا تسميته «الخط الإسلامي» وتبعهم في ذلك نقادنا الذين درسوا على أيدي الغربيين دون أن يتعلموا من منهجيتهم في البحث والتحقيق، أما عن «الخطّ الكوفي» وهي تسمية اصطلاحيّة تطلق على مجموعة كبيرة من الخطوط التي تتسم بالصلابة والاستقامة والهندسية، فقد وضعه العثمانيون في الظلّ منذ حكموا بلادنا وشحنوا صناعنا وفنانينا ومبدعينا إلى عاصمتهم، وكاد أن يندثر قبل أن يتم إحياء بعض أنواعه في مصر والشام ليتمّ الالتفات إليه من جديد، وقد لفتتني بعض أنواعه المسكوت عنها والتي وجدت فيها جماليات عالية يمكن استلهام علاقاتها البصرية في الحداثة الخطيّة التي أسعى إليها كالنيسابوري والقيرواني والمشرقي والتربيعي والمصحفي والفاطمي وهي تسميات اصطلاحية، فقمت بالعمل على تحديثها وتطويرها واستكمال نواقص بعضها و أنتجت بها كثيرًا من أعمالي، وفي الوقت نفسه عملت على تطوير خطوط أخرى مرنة وتوظيفها في أعمال بأسلوبي، كما ولّدت وابتكرت خطوطًا أخرى، أمّا عن الخطّ العربي والمواد والخامات المختلفة والتي تعامل فنانوه معها جميعًا بشكل خلّاق في تراثنا، فأتمنى أن يسمح لي الزمن والظروف بتنفيذ خططي لتقديم أعمال بأسلوبي في ربط تراثنا الخطّي بعد تطويره وتجديده بالحداثة والمعاصرة في ميدان التشكيل.
تميّز الخط العربي بخصوصيته الجمالية وارتباطه بالهوية، كما ارتبط بالدنيوي والمقدّس في الوقت نفسه، ليتك تعرّفنا كيف استطعت أن تحرّك هذا الفن عن القداسة التي وضع فيها، وما هو التجديد الذي قمت به على هذا الصعيد؟
تأتي خصوصية الخط العربي الجمالية من كونه فنًّا يقوم على الكلمة والعبارة المصاغة تشكيليًا بواسطة الحرف العربي الذي أصبح فنًّا قائمًا بذاته بعد مراحل من ارتقائه التجريدي والوظيفي ليتجاوز وظيفته النفعية الدنيا إلى وظيفة أرقى تسمو بالنفعي إلى الجمالي الإبداعي، وقد تمّ هذا في ظلّ الحضارة العربيّة التي تعامل جماليًا مع معطياتها جميعًا، فتشارك مع فنونها وعمارتها الخارجية والداخلية من دور وقصور ومساجد ومدارس وبيمارستانات ومع صناعاتها الفنية الخشبية والمعدنية والخزفية والنسيجية والزجاجية وغيرها في استخداماتها المختلفة ليضفي عليها من روحه وجمالياته، هذا بالإضافة إلى دوره الكبير في المخطوطات والارتقاء بفنّ الكتاب الذي تحتفظ متاحف العالم بنماذج من آثاره الرائعة مما تبقّى من المكتبات الخاصة والمكتبات الكبرى في المراكز الحضارية التي عبثت بها الغزوات وتغيّر العهود ومن بينها المصاحف الجميلة التي كان طبيعيًّا أن يكون كمّها أكبر من الكتب لأنها كانت موجودة ومعتنى بها في كلّ بيت ولم يتمّ حرقها كما حصل مع المكتبات، وقد اعتمد المستشرقون على هذه المصاحف ليخلصوا إلى تأكيد فكرة أن الخطّ العربي فنّ ديني وهي الفكرة التي تمّ تكريسها طوال العصر العثماني الذي وضِع الخطّ فيه في قفص القدسية الذهبي وتمّ تقنين استخدام أنواع محددة لوظائف محددة مع استبعاد الكوفيّات كلها تمامًا، وقد تأكّدت عبر البحث التاريخي النظري والبصري والجمالي أنّ تطوّر الخط العربي فنيًا وجماليًا لم يبدأ مع المصاحف والوظيفة الدينية، بل بدأ مع تعريب الدواوين في بدايات العصر الأموي، واستمر في تطوره مع الصعود الحضاري للدولة، ونسخت بواسطته المصاحف كما نسخت الكتب الأخرى، واستخدم في العمارة الدنيوية والدينية كذلك وفي غيرها من المعطيات الفنية الحضارية الدنيوية والدينية الأخرى التي ما تزال شواهدها باقية، من هنا عملت على إخراج الخطّ العربي من قفص القدسية الذهبي الذي وضع فيه وكان سببًا في وقف تطوّره المتسارع الذي شهده في العصر العبّاسي، وفي سيادة التقليد والمحاكاة والسلفية عند الخطاطين الذين اكتفوا بذلك وبالتجويد في الخطوط التي أقرها العثمانيون، بعيدًا عن التجديد والتطوير والتحديث، الأمر الذي أصّلت له في تجربتي نظريًا ومارسته في أعمال مختلفة شكلًا وموضوعًا، ودعوت إليه في كل المحاضرات والندوات والمؤتمرات التي شاركت بها وفي كتاباتي ومواجهاتي مع التقليديين والسلفيين، ولو جمعت العبارات التي اخترتها لتكون موضوعًا لأعمالي لاكتشفت علاقتها الوثيقة برؤيتي وموقفي من الكون والإنسان وقضاياه وأنني أضع نصب عيني مفاهيم الحقّ والخير والجمال والحريّة والعدالة التي تحقق إنسانية الإنسان.
ما معنى أن يصل الخط إلى ذروة التطوير؟
لا فنّ يصل إلى ذروة التطوير، طالما أن الإنسان يتطوّر في قيمه ورؤاه وأفكاره وعلومه واكتشافاته واختراعاته وغير ذلك يتطوّر تعامله مع الفنون وعطائه فيها وينتقل بها من ذروة إلى ذروة، وهذا لا يتوقف إلا بتوقف الحياة، والادعاء بأن الخطّ العربي وصل إلى ذروته ليس إلا تعبيرًا عن إفلاس القائلين به، والاستسلام إلى هذا الادعاء لا يعني إلّا الحكم بالموت على هذا الفنّ الذي ما زال يخفي الكثير من الجمال والتطور بعد سبات طويل أخضع له.
تتميز بأسلوبك وكأنك شاعر الحرف والخط معًا، كيف توصلت إلى هذه الأسلوبية، نقاط حمراء، جرافيك، متى يتحول اللون في اللوحة إلى ثرثرة، وكيف اعتمدت الاقتصاد في الألوان؟
كلّ ما تضمنته أجوبتي السابقة كان له دور في وصولي إلى أسلوبي: المطالعة، تتلمذي على يدي مديرتي الرسّامة، أهلي، تشجيع المعلمين، العمل المبكّر بالخط والرسم، دراستي الجامعيّة، بحثي المعمّق نظريًا وعمليًا، التجريب على أغلفة الكتب والمطبوعات، المخزون البصري، الصبر والإرادة والإصرار، المنهجية والإتقان، التنافس مع الذات.
اكتشفت بعد استخدامي لألوان ودرجات في أعمالي أنها لا تضيف شيئًا إلى شكل العمل أو محتواه، إلا في ما ندر، مما يعني أنها ليست سوى ثرثرة لونية، وأن ما كنت أطلبه منها يمكن أن يتحقق عبر التجريد اللوني الذي يمكن أن يفتح ذهن المتلقي ليلون العمل في سريرته بروح تفاعله معه بصريًا ووجدانيًا، واحتفظت بالنقاط الحمراء غالبًا لتضبط إيقاع العمل في البصر والبصيرة.
إلى أي مدى تلجأ إلى التكنولوجيا وبرامج التصميم؟
ليس هناك برامج تصميم وما يسمونه كذلك ليس في الحقيقة إلّا برنامجًا راقيًا للتنفيذ يستعين به المصمم لإظهار تصميم غير مسبوق لا يمكن أن يكون مبرمجًا إن كان كذلك حقًا، أنا أستعين ببرامج التنفيذ لإعادة رسم تصميماتي بالخط الكوفيّ المربّع، وفي شفّ التصميمات بالخطوط الأخرى لاستخراج قالب نظيف لها على ورق شفاف كخطوة على طريق تنفيذه على الورق باللون يدويًا.
يقول ابن عربي كل فن لا يفيد علمًا لايعوّل عليه، كيف تجعل من اللوحة العبارة موقفًا، حدثنا عن هذا لاسيما في ظل عشر سنوات من الحرب والدمار والطائفية؟
هذه العبارة محتوى واحد من أوائل أعمالي وجعلت منها شعارًا لي لأنّها تنسجم مع رؤيتي للفنّ ودوره، والمتابع لأعمالي يجد مصداقًا لهذا في مجملها، واتصالها بقضايانا مستمرّ منذ البداية ولم ينقطع يومًا، لكنه مع ثورة شعبنا للمطالبة بحقّه المسلوب في الحرّيّة و الكرامة أخذ صيغة أكثر مباشرة في المحتوى مع المحافظة على الحرص على تقديمها بسويّة عالية لا تقلّ أبدًا عن سويّة أعمالي السابقة، وبالإضافة إلى ذلك أنجزت عشرات الملصقات الرافضة للقتل والطائفية والتهجير والتعطيش والتجويع وغيرها من الممارسات التي قامت بها كل الأطراف التي شاركت مع الاستبداد في تحويل الثورة إلى مقتلة شاركت في تسعيرها أطراف محليّة وعربيّة وإقليميّة ودوليّة تحولت إلى احتلالات عديدة انتهكت وحدة الأرض والشعب وتواطأت على التغيير الديموغرافي وتسعير الطائفية والخلاف بين الإثنيات، كما شاركت بملصقات تؤيد وتدعم كل التحركات الثورية في المنطقة في السياق نفسه، ولا أظنني سأتوقّف عن هذا.