مازن أكثم سليمان
تنطوي تجرِبة الشّاعر السُّوريّ الرّاحل محمود السَّيِّد (1935-2010) على خُصوصيّة فنِّيّة ومَعرفيّة في حركيّة الحداثة الشِّعريّة العربيّة، وعلى بعضِ الإطلالات الجادّة على عَوالِم ما بعدَ الحداثة، على نحْوٍ يستحقُّ معهُ هذا المُبدِعُ تمحيصًا خاصًّا في مُنجَزِهِ، واحتفاءً يستحقُّ أنْ ينالَهُ.
ويتجاوَزُ حُضورُهُ الإبداعيّ وتأثيرُهُ الأصيل في المشهد الثَّقافيّ السُّوريّ والعربيّ مسألةَ الكتابة الشِّعريّة باقتراحاتِها المُغايِرة، فحسب؛ ليمتدَّ هذا الحُضور إلى مجالات التَّدريس والصَّحافة والنَّشر التي ترَكَ فيها لمسةً واضِحة، ابتداءً من عملِهِ في الصَّحافة الدِّمشقيّة في العام 1960م، مُرورًا بلمستِهِ المُؤثِّرة عندما كانَ مُشرِفًا فنِّيًّا على “مُلحَق الثَّورة الثَّقافيّ” في العام 1976م ولمدَّة عاميْن، حيثُ احتلَّ ذلكَ المُلحق مكانةً مرموقة ومُتقدِّمة في الثَّقافة العربيّة عبرَ ما كانَ يُقدِّمُهُ -شكلًا ومضمونًا- في سبعينيّات القرن المُنصرِم، ولا سيما بمُساهَمة كبار المُثقَّفين السُّوريِّين والعرب فيهِ في تلكَ الحقبة، ليُتوِّجَ السَّيِّد مشروعَهُ الإبداعيّ بالتَّجرِبة الفريدة -سُوريًّا وعربيًّا- التي مثَّلَتْها مجلَّة “ألِف لحُرِّيّة الكشف في الإنسان والكتابة” واستمرَّتْ مُدَّةَ عاميْن قبلَ أنْ تتوقَّفَ لأسبابٍ ماليّة. حيثُ كانَ يُصدِرُها الكاتب والنّاشِر السُّوريّ سحبان سوّاح، وكانَ يرأسُ تحريرَها محمود السَّيِّد.
يرى الشّاعر والمُخرِج علي سفَر أنَّ أثَر تجرِبة السَّيِّد التي تمحورَتْ، أساسًا، في مُنجَزِهِ الشِّعريّ اللّافِت، وفي عمَلِهِ مُدرِّسًا لطلّاب الَّصحافة في جامعة دمشق لمادّة الإخراج الصُّحفيّ، يتعدَّى (هذا الأثَر) ذلكَ إلى مُستوى ارتباطِ نصِّهِ الإبداعيّ، عميقًا، باشتغالِهِ الخاصّ على مسألة التَّشكيل البصَريّ المُختلِف، وهوَ الأمرُ الذي ظهَرَ، أوَّلًا، في عملِهِ في مُلحَق الثَّورة الثَّقافيّ، وثانيًا، في مجلّة ألِف؛ فالسَّيِّد “وعبر تجربتين عمليتيْن وإبداعيتيْن، في آنٍ معًا، قدَّمَ (…) إرثًا بصَريًّا مهمًّا، اتَّسَقَ مع مسعاه لأنْ يخرُجَ باللُّغةِ الشِّعريّة نحو تصوُّر مُختلِف عن السّائد”1، ذلكَ أنَّهُ “لم يأتِ إلى تجرِبة المُلحَق الثَّقافيّ من حالةٍ حِرَفيةٍ مكتفيةٍ بمهارات التَّشكيل والقُدرة على التَّلاعُب بالكُتَل المُكوِّنة للصَّفحة كالعناوين والصُّور وبلوكات الكلام، بل إنَّهُ سبَقَ إشرافَهُ الفنِّيّ على المُلحَق بتجرِبة صحفيّة وأدبيّة كانت قد كرَّستهُ بوصفهِ صاحب مشروع ووجهة نظر سياسيّة، ورؤية فنِّيّة تشكيليّة، ونبرة جارحة في كتاباته الشِّعريّة”2.
ويبدو أنَّ هذا المشروع الإبداعيّ المُغايِر قد بلَغَ ذُروتَهُ في عمَلِهِ في مجلّة ألِف، فهوَ “ومن موقع المُبدِع صاحب الرُّؤية المُلهِمة للجيل الجديد الذي يبحثُ عن تفجير متن النَّصّ جاءَ محمود السَّيِّد (…) ولعلَّ مُطالَعة صفحات أعداد المجلّة الاثنين والعشرين توضحُ وبجلاءٍ مَلمَسَ رؤيتهِ الشَّخصيّة وروحهِ فيها، فقد قامتِ المجلّة تحت لواء التَّغيير في نمطيّة الكتابة السّائدة مُتعلِّلةً باسمها “ألِف” المُستوحَى من نصّ النِّفّري الشَّهير”3.
لقد ” بدَتْ (ألِف) مُختبَرًا تجريبيًّا على مُستوى النَّصّ، وعلى مُستوى التَّشكيل أكثر منها مطبوعة مختومة ومُقفَلة، فكلّ شيء فيها كانَ يتغيَّرُ من عددٍ إلى آخر، ووحدهُ (لوغو) المجلّة كانَ ثابتًا في شكلهِ وليسَ في موقعهِ، وإذا كانَ لنا أنْ نبحثَ عن محمود السَّيِّد في هذا المُختَبر، فإنَّنا لا بدَّ أنْ نعثرَ عليهِ ضمنَ هذا المبنى الإجماليّ للتَّجرِبة حيثُ يُمكِنُ للفوضى البصَريّة المصنوعة كفعلٍ إبداعيّ أنْ تُثبِّتَ خطابَ المجلّة الذّاهب باتّجاه صفحات ما بعد حداثيّة يُمكِنُ لكلّ العناصر المُختلِفة أنْ تتجاوَرَ فيها، وأنْ يتمَّ تخليق التَّنوُّع من روح هذا الاختلاف”4.
صدَرَ للسَّيِّد:
– مركبة الرَّغوة – شِعر.
– الجرذ والملِك – مسرحية.
– مزامير ديك الجنّ – شِعر.
– مونادا دمشق – قصيدة نثريّة.
– سهرُ الورد – نصّ إبداعيّ.
– تتويجُ العشب – نصّ إبداعيّ.
– كتابُ العشق: إشراقيّة العشق الجنوبيّ.
مدخل:
دعتِ الحداثة الشِّعريّة العربيّة إلى تقديم قصيدةٍ جديدة ومُختلِفة عن القصيدة التَّقليديّة من جانبٍ تقنيّ، أوَّلًا، حيثُ تتَّصفُ بالتقاط حركيّة العالَم الجزئيّة المُتحوِّلة، وتفتَحُ عالَم القصيدة الحداثيّة على الكونيّ والكُلِّيّ بما ينطوي عليه ذلكَ من كشفٍ ومُجاوَزة ومخضٍ للمَجهول، وهو الأمر المُرتبِطُ بالجانب الثّاني الذي اقترحتهُ القصيدة الحداثيّة، نظَريًّا على الأقلّ، والمُتمثِّلُ بالتَّبشير بالحداثة والتَّجديد والتَّغيير شِعريًّا، بما هو تبشيرٌ افتُرِضَ أنَّهُ يسبقُ إنجازَ هذهِ الحداثة وذلكَ التَّجديد في الحياة العربيّة السِّياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة.
لكنَّ الحداثةَ نفسها قد انقسمَتْ إلى حداثاتٍ عدَّة، حيثُ سادتْ بادئَ ذي بدء القصيدة الرُّؤيويّة المُشبَعة بالأيديولوجيا، نسبيًّا، قبلَ أنْ تظهرَ تجارب شِعريّة حداثيّة جديدة أرادتْ أنْ تتخفَّفَ من العبء الأيديولوجيّ، وأنْ تنهضَ فيها الأبعاد الرُّؤيويّة اليوتوبيّة على أُسُسٍ حضاريّة قائمة على الاستقلاليّة والكُلِّيّة والحسِّيّة الجسَديّة.
وساعدَ على هذا المسار التَّطوُّريّ في الحداثة الشِّعريّة العربية ظُهور اقتراحات شِعريّة مُغايِرة سعتْ إلى مُجاوَزة شكل قصيدة التَّفعيلة، باعتماد قصيدة النَّثر التي وُصفَتْ بقُدرتِها على النُّهوض بغايات الحداثة، ولا سيما بفضل قدرتِها الدّيناميّة على التَّطوُّر الشَّكليّ والمضمونيّ، وهذا الأمرُ حضرَ بجلاء فيما بعد عبرَ طُموح قصيدة النَّثر بالانفتاح على مشروع (الكتابة).
وضمنَ هذا التَّحقيب الفنِّيّ والفكريّ كتَبَ الشّاعر السُّوريّ محمود السَّيِّد (ديوانَهُ/ القصيدة) المُعنوَنة بـِ “مونادا دمشق”، والمنشورة أوَّل مرَّة في مجلّة المعرفة السُّوريّة في العام 1973م، والتي عدَّ النُّقّاد والمثقَّفون صُدورَها حدَثًا ثقافيًّا مهمًَّا حينَها، لكونِها مثَّلَتْ، في اعتقاد الكثيرين، علامةً فارِقة في تطوُّر قصيدة النَّثر السّوريّة والعربيّة، من جهةٍ أُولى، ولقُدرتِها، من جهةٍ ثانية، على الخوض في تجريبيّة غنيّة مُنفتِحة على مشروع الكتابة، وعلى مُجاوَزة المَحمول الأيديولوجيّ، إلى حدٍّ كبير.
أحاولُ في هذا البَحث أنْ أدرسَ ديوان “مونادا دمشق” عبرَ مُقارَبةِ المُستويات المَضمونيّة، حيثُ أقومُ بقراءة كيفيّات انبساط أساليب الوجود الكيانيّة/ الكُلِّيّة في هذهِ القصيدة، ثُمَّ أدرسُ موضوعات مثل بنائيّة الرَّمز الحضاريّ، ومشروع الهُوِيّة النَّهضويّة، فضلًا عن تحليلِ مَسائِلَ عدَّة، منها: ملحميّة الموقف الرُّؤيويّ، ويوتوبيا الحُبّ والخَلْق الجدَليّ، والتَّشتُّت الحسِّيّ.
أوَّلًا: كيفيّات انبساط أساليب الوجود الكيانيّة/ الكُلِّيّة
لابُدَّ في بداية القراءة من الوقوف عند عتبة عنوان القصيدة/ الدِّيوان، فالمونادا مفهومٌ فلسفيّ يعودُ في جذوره الى أصول قديمة اصطلاحًا ومفهومًا، وهوَ “لفظ يونانيّ الأصل، ويدلُّ على الوَحدة، وأطلقه أفلاطون على المثال. واستعمله بعض المفكّرين المسيحيّين للدَّلالة على الجواهر الرُّوحيّة التي يتكوَّن منها الكون، كما أطلقه لايبنتز على كلٍّ واحدٍ من الجواهر البسيطة التي يتكوَّن منها العالم”5. وبناءً على هذا المنحى أقول: إنَّ المونادا هو الواحد المنطوي على البساطة غير القابلة للانقسام؛ بمعنى أنَّهُ الوَحدة النِّهائيّة التي تُشكِّلُ وجودًا كُلِّيًّا.
إنَّ عنونة محمود السَّيِّد لديوانه بالمونادا كانَ الخُطوة المحوريّة الأُولى لتأسيس وَحدة الوجود الحضاريّ الكُلِّيّة المُنبسِطة عبر أساليب الوجود في عالم هذه القصيدة، التي أرادَ شاعرُها في عملية الإسناد بين دمشق والمونادا: “مونادا دمشق” أن يخلق أوَّل عتبة كيانيّة كُلِّيّة تقترحُ كيفيّات الوجود الزَّمكانيّة الكُلِّيّة في وَحدة الوجود الحضاريّ الذي يريدُ أنْ يبني معماريَّتَهِ بما هو الفعل الحركيّ المُتشظِّي داخل مركزيّة الوَحدة المُطلَقة التي يُمثِّلُها عالَم القصيدة بوصفِهِ عالَم تخليق المُجاوَزة الحضاريّة الجديدة.
يفتحُ الغوص أبعد من الدَّلالة الفلسفيّة الأوَّليّة القائِمة في عتبة العنوان فضاءً مُمكنًا لفعل تقليب تأويليّ أشدّ مُغامَرة، فمُحاولة المُقارَبة الاشتقاقيّة لُغويًّا بين “المونادا” و”المُنادَى” تكشفُ البُؤرة الدَّلاليّة الشّاغلة في الوعي الوجوديّ الأُنطولوجيّ ضمن أساليب الوجود المُنبسِطة في عالم هذه القصيدة، إذ تنفتحُ مسافة التَّوتُّر أبعد حينما نرى أنَّ وَحدة المونادا الكُلِّيّة تنهَضُ على (نداءٍ) يستدعي رمزيّة الحُضور الكيانيّ في قلب عالَم تخليق هذه المُجاوَزة الحضاريّة المُغايِرة، فما ننتمي إلى وَحدَتِهِ الكُلِّيّة يُنادينا كي نقبضَ على كينونتنا الأصيلة عبر أفعال تخليق الرُّؤى الحضاريّة وأساليب وجودها.
لعلَّ أهمّ ما يرسمُ معالم مونادا دمشق هو بسطُ أساليب الوجود الحضاريّة بوصفِها أساليب كيانيّة/ كُلِّيّة تلغي التَّناقضات لمصلحة وَحدة انبساط الرُّؤى والأفعال في حركيّة تخليق البناء الحضاريّ بما هيَ حركيّة الحُبّ والولادة والخصب، فَـ “القصيدة السلفية تتعامل مع العالم كأشياء، وليس ككل، إنها تجزئ العالم إلى موت وحياة، إلى سماء وأرض، إلى عالم باطن وعالم ظاهر. إنها في ذلك تنقل العالم في شكله وليس في عمقه، في قشوره وليس في لبّه. وهذا التجزيء هو الذي أدّى إلى أغراض الشعر: مديح- هجاء- غزل. في حين أن القصيدة- الرؤيا تتعامل مع العالم ككل موحد، لا كأجزاء. هنا لا يغدو الموت نقيضًا للحياة، بل وجهًا آخر لها. ولا تغدو السماء محركًا خارجيًا للأرض، بل امتدادًا للأرض، ولا يغدو الباطن نقيضًا للظاهر بل وجهة الآخر العميق. القصيدة السلفية تنقل العالم، مجزءًا إلى أشياء، في حين أن القصيدة -الرؤيا تكتشف العالم في كليته الحقيقية، في وحدته الكونية- الإنسانية هكذا كان الشاعر السلفيّ ينفعل بالأشياء، في حين أن الشاعر- الرؤيويّ يكتشف الأشياء. وبين الانفعال والاكتشاف فرقٌ أساسيّ. الانفعال هو نقل للعالم أمّا الاكتشاف فهو لا محدودية الخلق”6.
قال الشاعر:
“آهٍ يا أميرات الغرف المحجّبة يا نعومة تضطهد طيور الحبّ،
يا حوَرًا يكتحل باليباب.. الألوهة أيضًا
تبتهج للمزاحمة، والفارس القابض على القتل،
سيّد الحبّ.
ما من صخرة فوق يديه أثقل من التنائي،
ما من رمح ينتصر به كامرأة تتجرّد كما في الحلم
من الحلم.
إيه يا سيّد القتل، يا سيّد الحبّ والقتل، لتكن
يداك أشدّ طهارة بالدم.. ولتكن الأخوة
دمها القربان الذي لا يُرفَض، وليُبارك دخول
الرجل جسد الأنثى، الدخول مبتكر
الطفولة،
وصانع العالم..
يا لتلهفي، ويا لَلغيرة.. الصغار يطلقون لغوهم
عربات تجرّها خيول من خشب، الصغار،
يتندرون بعيون تراقب بحذر والنقاوة تغتسل
بأقدامهم الحافية، وفوق أيديهم يطفو الخفر
الإلهي ملغومًا
بإشارة السقوط.
وهذه الحرائق من شجر لا يثمر للفريسيين،
وبالعقم تُختم أفئدتهم:
أيّها المتوحّد في الحبّ
يا ثالوث المسرّة والفروسيّة والدم.
الشفة المكتنزة بالخمر،
والعين المتسعة على الوجد والاكتشاف..
ما من مسافة تفصل بيننا، متعرّية في مسامك،
متوحّدة بعرقك،
والنساء يتناسلن بي،
وكلّي يتوجع في ولادتهن!!”7.
يُؤسِّسُ الشّاعر أساليب وجوده في هذا المقتبس على وَحدة الحُبّ/ الخصب/ الولادة، ونلاحظُ هُنا كيفيّة التحاق فعل القتل ودمويَّتِهِ، بفعل الحُبّ الذي يُمثِّلُ الوَحدة المركزيّة الخلاّقة، فالقتل فعل توليد وولادة في آنٍ معًا، وهو فعل (مسرّة وفروسيّة)، لأنَّهُ يؤسِّسُ لحركيّة تشظِّي العالم داخل وَحدة الوجود الحضاريّ الكيانيّة/ الكُلِّيّة محمولةً على رمزيّة الحُبّ/ الولادة، وهذا الحُبّ، وتلكَ الولادة الدَّمويّة، ليسا إلاّ نمط الاكتشاف الذي يخلق العالَم الحضاريّ الجديد: “والعين المتسعة على الوجد والاكتشاف”.
من البيِّن للمُتمعِّن في هذا المقتبس تعدُّد مُستويات الخطاب؛ حيث يبدأ الشّاعر بقوله: “آهٍ يا أميرات الغرف المحجّبة”، ثُمَّ يقول بعد بضعة أسطر: “إيه يا سيّد القتل، يا سيّد الحبّ والقتل”، ويُنهي المقطع بقوله: “ما من مسافة تفصل بيننا، متعرّية في مسامك،/ متوحّدة بعرقك،/ والنساء يتناسلن بي،/ وكلّي يتوجع في ولادتهن!!”، وفي جميع هذه المُستويات تحتفظ أساليب الوجود بتيمة تُشكِّل البُؤرة التوليديّة الرَّئيسة للدَّلالة، وهيَ تيمةُ حسِّيّةِ فعل الحُبّ النّاهض على شبقيّةِ فعل القتل بما هو فعل دخول (كيانيّ) يبتكر الطُّفولة: “وليُبارك دخول/ الرجل جسد الأنثى، الدخول مبتكر/ الطفولة/ وصانع العالم..”.
ولذلكَ تنبسطُ كيفيّات الوجود هُنا بوصفِها كيفيّات كُلِّيّة ترفضُ ما يمنع الحُبّ: “ما من صخرة فوق يديه أثقل من التنائي”، وتحتفي بالكُلِّيّ الذي يمثِّلُ مُعادِلًا وجوديًّا/ كيانيًّا لفعل الخَلْق الحضاريّ عبرَ الولادة: “والنساء يتناسلن بي،/ وكلّي يتوجع في ولادتهن!!”.
إنَّ ما تتميَّزُ به حركيّة المقطع السّابق أنَّها حركيّة لا تُخلخلُ الوَحدة بقدر ما تؤكِّدُ رمزيَّتَها المُتماسِكة؛ أي بما هيَ وَحدة أساليب وجود تخلقُ البناء المعماريّ الحضاريّ بوصفِهِ خلقًا كيانيًّا/ كُلِّيًّا ناهِضًا على مُجاوَزة كُلّ ما يُفتِّتُ مركزيّة فعل الحُبّ والولادة والخصب؛ ذلكَ أنَّهُ فعل استدعاء العالم الحضاريّ الجديد.
لعلَّ هذهِ الوَحدة الكيانيّة/ الكُلِّيّة هيَ التي تؤكِّدُ كونيّة فعل الحُبّ في هذه القصيدة/ الدِّيوان؛ فالشّاعر يوحِّدُ في مركزيّة الحُبّ كُلّ الأساليب العيانيّة العابرة، ويتَّحد (صوفيًّا) بفعل الخَلْق (الحسِّيّ) الحداثيّ، وهو بهذا يبدو وفيًّا لانزياح الموقف الصُّوفيّ في الحداثة الشِّعريّة العربيّة فـَ “في (الرُّؤيا القديمة) نتحدث عن الصوفي أما في (الرُّؤيا الحديثة) فنتحدث عن (إنساني كوني). إن الإنسان الكوني في (الرُّؤيا) الحديثة يندفع إلى حافة الفعل، في حين أنه في الرؤيا القديمة استلابي. لذلك فـ (الصوفي) بقي في عوالم ما وراء الطبيعة، أما (الإنساني الكوني) فإنه في دراما الوجود الإنساني يبحث له عن كيفية أخرى”8.
قال الشاعر:
“لا، أيّها المحبّ. ما فيك لي ليس مما يُحدّ
وأنا
لست مكانًا ولا زمنًا،
ولست
أكون إلاّ
في الحبّ”9.
تتعيَّن الكينونة الأصيلة في هذا المقتبس في مركزيّة الحُبّ، ولهذا يأتي نفي الزَّمكانيّة العيانيّة، حيث يردُ المكان والزَّمان نكرتين: “وأنا/ لستُ مكانًا ولا زمنًا”، ليحلَّ مكانهُما الانتماء إلى وَحدة الحُبّ الكُلِّيّة بما هو الاستثناء المُعرَّف بأل التَّعريف بوصفِهِ أسلوب الوجود الكيانيّ الأصيل: ” ولست/ أكون إلاّ/ في الحبّ”.
وهكذا، تتجرَّدُ أساليب الوجود في كيفيّات انبساطِها في هذهِ القصيدة/ الدِّيوان من كُلّ عيانيّ وعابر، وتتجسَّدُ في وَحدة الحُبّ الكُلِّيّ بما هو حامل فعل التَّخليق الحضاريّ، حيثُ لا ينفصلُ هذا الفعل -بحالٍ من الأحوال- في حركيّة أساليب الوجود في القصيدة عن فعل الولادة النّاهض على دمويّة تطهيريّة خلاّقة كما نجد في المقتبس الآتي الذي يخلعُ في بدايتِهِ الشّاعر “كلّ ما لم يكن مذ الولادة “:
“باسمك نخلع كلّ ما لم يكن مذ الولادة،
وندخل، هكذا
مع البنفسج والقبّرات موجتك المستلقية
كراع، على شاطئ الروح.
باسمك نتجرأ على الوجد والدم، وتقولين
يا صباح الطهارة:
أن الجسد سلّم،
والدم جناح،
ودمشق سقف الحبّ..”10.
من المحوريّ في عالَم الدِّيوان أنَّ الحُبّ/ الولادة/ الخصب هي القيَم المُهيمِنة، وأنَّ أساليب الوجود المُنبسِطة تتوحَّد صوفيًّا لا لبلوغ ما كانَ يرمزُ إليه الصُّوفيّ القديم؛ إنَّما لتخليق عالَم الوَحدة الوجوديّة الحضاريّة النّاهضة كيانيًّا وكُلِّيًّا على أفعال الحُبّ، فالقصيدة هُنا وجود كونيّ لا يقبلُ إلاّ حسِّيّة الحبّ بما هو آليّة تخليق وابتكار حضاريّ مُغايِر، ولهذا يكون الجسد سُلَّمًا في المقتبس السّابق، والدَّم جناح، وتكون دمشق (حاملة الرَّمز الحضاريّ المعني بفعل الحُبّ الخلاّق) سقف العالم، بما هو (أي هذا السَّقف) وعاء وَحدة أساليب وجود الحُبّ والخصب الكيانيّة/ الكُلِّيّة.
ثانيًا: بنائيّة الرَّمز الحضاريّ، ومشروع الهُوِيّة النَّهضويّة
يسعى محمود السَّيِّد في مونادا دمشق إلى تقديم الرُّؤيويّ الحضاريّ على ما عداه؛ بمعنى أنَّ مركزيّة الوَحدة العشقيّة الحضاريّة تتعالى على العابر والعيانيّ واليوميّ، لمصلحة الخَلْق الكُلِّيّ، كما ذكرتُ من قبل، وهذه قاعدة حداثيّة محوريّة تحقِّقُ للشّاعر هُنا إمكانيّة استباق الزَّمن الحضاريّ الذي يتقدَّم على الزمن الوقائعيّ السِّياسيّ والاجتماعيّ والثَّقافيّ، وهو ما يدفع إلى الاقتناع أنَّ “وعي الشاعر هو الذي يجدّد أحيانًا مستوى الكتابة، فهناك من يتخلّف عن حضارة المجتمع، وهناك من يتقدم على تلك الحضارة ويسبقها بأشواط”11.
لكنَّ إلحاق الشّاعر المُستويات السِّياسيّة والاجتماعيّة والثَّقافيّة، وإدغامِها رمزيًّا في الوَحدة الحضاريّة الكيانيّة/ الكُلِّيّة، لا يعني إهمال تلكَ المُستويات؛ إنَّما يعني أنَّ مركزيّة وَحدة الحُبّ/ الولادة/ الخصب تدمج كُلّ التَّفاصيل والتَّناقُضات بها، وتُخلخلُها مجازيًّا ورمزيًّا، وهذا بُعد محوريّ أساسيّ في قصيدة مونادا دمشق التي تُعيد النَّظَر في المُسلَّمات الثَّقافيّة والسِّياسيّة والاجتماعيّة من بوّابة فعل الحُبّ الحضاريّ، ذلكَ أنَ “الكتابة – رؤيا رفض واحتجاج على النظام الثقافي السائد. إنها تضع هذا النظام موضع تساؤل دائم”12.
قال الشاعر:
– ” في سرير واحد، عبر جسد واحد نتسرّب،
نشفّ
وفي اللاكثافة نبدع وطنًا لا يحدّ..
أتلمّس وجهي هاربًا، مرسومًا بريشة مياه
بلون اللهاث، وبين ذراعين مغمورتين بعشب
تملّحه الذكورة، تأخذ البحيرة شكل وزيم
يهجئ كلمات الرغبة لامرأة مجهولة.
يا لوجهي الذي لا أعرف، وصوتي الذي لا
أسمع، يا لتعارك بي، يركض خارجًا بردفين
يتجاذبان زمنًا بلا توازن، وأرضًا بلا مرتكز..
يا له، الأكثر بحثًا عنّي، لحظة مجدينا، بحنائه
ألبس بشرة الحلم،
على رقبتي ينهب،
ما لا اسم له،
من عسل جلّنار بريّ يتأجّج بالظل والغضارة!
وأيّ نداء
لا أكون فيه؟
والصهيل يطارد مرعزاء الإبط، الصهيل
رسول أفواه بحريّة تلتهج بنهدين
تتخاطفهما بحة أجراس الكنائس.
على مذبحك المرأة، خلّني، لك الشكر،
مباحة، تتنشّق حرّ فخذيّ حليمات الأشياء
المنفرجة لعذرة تواكب صراخ المخاض..
وفي الحضور، اغرسْ بي شك الثواني
الهاربة
بمسك الحركات، المتزاحمة تحت قبو فوضى الجنس
بين
يديك الجسد،
وليس من طهارة إلاّ وفيه..
أيّها المهيمن بلا سطوة، أمنحني قرابة ما فيك
من ذكورة، أتعلّم رموز النعمة والتفوّق،
أختصر ما سيكون في
صيحة دخول لا تُرفض!”13.
تتأسَّسُ بنائيّة الرَّمز الحضاريّ في هذا المقتبس على سيادة وَحدة فعل الحُبّ، فمنذ بدايته يُعيِّنُ الشّاعر أساليب وجوده في مركزيّة فعل الحُبّ/ الجنس الخلاّقة للوطن الحضاريّ الجديد: “في سرير واحد، عبر جسد واحد نتسرّب،/ نشفّ/ وفي اللاكثافة نبدع وطنًا لا يحدّ..”.
لعلَّ حُضور تفاصيل الوجه والصَّوت والرّقبة واللُّهاث في هذا المقتبس، هو إلحاق للتَّفاصيل الذّاتيّة والجمعيّة بمركزيّة الخَلْق الحضاريّ النّاهض على حسِّيّة فعل الحُبّ، وهذا ما تنهضُ به رمزيّة حُضور الماء إلى جانب تفاصيل الذّات السّابقة: “ريشة مياه”، “البحيرة”، وكذلكَ هذا ما تنطوي عليه دلالة مُفردة “الرَّغبة”: “يهجئ كلمات الرغبة لامرأة مجهولة”، وبهذا يُشكِّلُ أسلوب وجود “الحلم” و”النِّداء” هُنا بُؤرة توتُّر دلاليّ تبسطُ حالة الالتحاق ببنائيّة الرَّمز الحضاريّ المأمول: “ألبس بشرة الحلم،/ على رقبتي ينهب،/ ما لا اسم له،/ من عسل جلّنار بريّ يتأجّج بالظل والغضارة!/ وأيّ نداء/ لا أكون فيه؟”.
إنَّ الوطن هُنا لا يتعيَّن إلاّ عبر فعل الحُبّ الحضاريّ، وتفكيكُ فكرة الانتماء يمرُّ في القصيدة من أساليب إعلاء تماسُك الوَحدة الحضاريّة الحسِّيّة أو العشقيّة التي تنهضُ عليها بنائيّة الرَّمز الحضاريّ، ولذلكَ يغدو “الحُضور” في المقتبس السّابق مُعادِلًا وجوديًّا للجنس ومخاضه: “وفي الحضور، اغرسْ بي شك الثواني/ الهاربة/ بمسك الحركات، المتزاحمة تحت قبو فوضى الجنس”، وهذه حركيّة تُقدِّمُ المفهوم الحضاريّ على أي مفهوم تسييسيّ محدود، وفي الوقت نفسه تجعلُ من (الحُبّ/ الجسَد) حامِلًا لـِ (الحضارة)، ومن الحضارة حامِلةً لـِ (الحياة) التي لها الأولويّة في بناء وَحدة الوجود الحضاريّ الكيانيّ/ الكُلِّيّ.
وهكذا، تأتي (الهُوِيّة) في مونادا دمشق بطريق الوَحدة المركزيّة الحضاريّة، وهذا لا ينفي الهُوِيّة السِّياسيّة؛ إنَّما يُعيد تأويلها عبر مُمارَسة الشّاعر في عالم قصيدته فعلًا ظاهراتيًّا يضعُ بينَ أقواس كُلّ جانب تفصيليّ، ليُظهِرَ -فقط- كُلّ ما يتشظَّى داخلَ وَحدة العلاقة العشقيّة التي تُمثِّلُ حامِلًا رمزيًّا ودلاليًّا لولادة الهُوِيّة الجمعيّة الكيانيّة والكونيّة الجديدة.
قال الشاعر:
“.. وتلك هي تتسلق بنا سلالم الشرق
الآخر، عارية إلا من جسدها المدملج
بأنثويات الأرض النارية.
ومطهمون نحن،
نمتطي فحولة المطر، متصدين للخطر
يتقاطع مجتازًا أفواه المتاريس،
وموطوءًا
يندحر تحت حوافر الأحصنة المتلحفة
بالمرافئ الأبنوسية.
تلك هي..
وفي موكب قرباني، وما
من سمت إلا بها، تتألق بين بنات
أجسامهن تحتشم بالعري.
وغدًا،
غدًا تشهدون ولادة أخرى لامرأة
بلا شاطئ:
مثل الحمامة البيضاء، منتعلة بخور النبوة، تهش
الرعاة حتى نجمة الصبح وكجنية متحزبة لصيف
الخمرة في الجسد، تلبس طفولة الملحمة،
وجهها
أكثر إضاءة من الأمومة على المهد،
وأكثر نقاوة الصوت الموقع بوحدانية الحب، والدم
المجبول، هناك بنعمة الاستشهاد.”14.
إنَّ الشَّرق الذي يُريدُ الشّاعر تسلُّقَ سلالمه هو شرقٌ “آخَر” تتعيَّنُ أساليب وجوده الهُوِيّاتيّة في هُوِيّة نهضويّة جديدة تتأسَّسُ بنائيّة رمزها الحضاريّ على الجسَد والجنس وفعاليّات الحُبّ المُشتعل بنار التَّغيير: “وتلك هي تتسلق بنا سلالم الشرق/ الآخر، عارية إلا من جسدها المدملج/ بأنثويات الأرض النارية”، وتأتي دلالةُ “المطر” في هذا المقتبس لتوطيد الهُوِيّة النَّهضويّة القائمة على وَحدة الرَّمز الحضاريّ بما هو رمز الولادة، فالمطر = الماء هُنا هو عامل إحياء وبعث وخَلْق، لا عامل هدم، والأحصنة = الحُرِّيّة عامل انبعاث وحركة لا عامل سكون وتقاليد: “نمتطي فحولة المطر، متصدين للخطر/ يتقاطع مجتازًا أفواه المتاريس،/ وموطوءًا/ يندحر تحت حوافر الأحصنة المتلحفة/ بالمرافئ الأبنوسية”، وفعل الحُبّ الدَّمويّ يرسمُ رمزيًّا معالِم حسِّيّة لولادة هُوِيّاتيّة مُغايِرة وغائصة في حضاريّة مشروع النَّهضة المُرتجاة كما يرتجي الشَّهيدُ/ الفادي الشَّهادة: “وغدًا،/ غدًا تشهدون ولادة أخرى لامرأة/ بلا شاطئ:/ مثل الحمامة البيضاء، منتعلة بخور النبوة، تهش/ الرعاة حتى نجمة الصبح وكجنية متحزبة لصيف/ الخمرة في الجسد، تلبس طفولة الملحمة،/ وجهها/ أكثر إضاءة من الأمومة على المهد،/ وأكثر نقاوة الصوت الموقع بوحدانية الحب، والدم/ المجبول، هناك بنعمة الاستشهاد”.
يبدو (شرقُ) الشّاعر في هذا المقتبس (وفي كامل القصيدة)، شرقًا مُختلِفًا لا يكونُ إلاّ في فعل الخَلْق الحضاريّ، وتبدو (دمشقُ) في هذا الدِّيوان مركز وَحدة العشق الكونيّ، وهُوِيّة المُجاوَزة النَّهضويّة، وعلى الرّغم من سيادة المنطق الكُلِّيّ في استشراف فعل الخلق الحضاريّ بما هو فعل هُوِيّاتيّ مركزيّ هُنا، لكنَّ هذا لا ينفي الأسس التَّرميزيّة الوقائعيّة الكبرى التي يتَّكئُ عليها محمود السَّيِّد في صوفيَّتِهِ الحسِّيّة وهو يبني هُويَّة عالَمهُ الحضاريّ المُبتغى، ولهذا يصحُّ أنْ أقول -نسبيًّا- إنَّ ديوان مونادا دمشق يُوظِّفُ الميتافيزيقا ليسَ لمصلحة البشريّ المُباشَر -إذا صحَّ القول- بل لمصلحة البشريّ الكيانيّ/ الكُلِّيّ الذي تنبسطُ أساليب وجوده الحضاريّة في وَحدة الحبّ الحسِّيّ، وهذا اقتراح لهُ خُصوصيَّتُهُ في هذِهِ القصيدة، ومُغايِر لآليّات الصّوفيّة التي عرفتها الحداثة الشِّعريّة العربيّة؛ وبمعنىً آخَر: ميتافيزيقا السَّيِّد ليست ميتافيزيقا لاهوتيّة، بقدر ما هيَ ميتافيزيقا فَهْم ما وراء الأشياء من ماهيّة حضاريّة مُمكنة، ولذلكَ لا ينطبق على محمود السَّيِّد قول محمَّد جمال باروت العامّ الآتي: “إن الصوفية العربية الحديثة لا تزال موزعة ما بين الهم الميتافيزيقي والهم البشري، (…). إنها لا تزال موزعة ما بين الوحي والمعاناة البشرية. بين النبوة داخل العالم، والنبوة خارجه، بين الواقع وبين المطلق، بين القفز في الفراغ، وبين الاندماج في تحولات الواقع. هذا التوزّع هو جزء من انشطار الرؤيا العربية بين الميتافزيقية، وبين الانخراط في تحولات الواقع، هو مستوى من مستويات هذا الانشطار الذي يتمثل على صعيد التشكل الصوفي الحديث في القصيدة النثرية كنموذج”15.
قال الشّاعر:
– “على المملكة القمريّة، يُتوّج فارس لا يُبوتق
إلاّ في نفسه.. في الغرف يستيقظ، في الأسرّة
يُحاصر، في البحر والمطر، يطلع وجهه الواحد المسطّر
بزهر التنبّؤات.
وفي أمكنة عُبرت بالحزن، واتشحت
بالوجع، قامته تغرس الفرح، وأيضًا خضرة الأسرّة
الشاهدة على الابتكارات المزدوجة في
حلبة الولادة..
وها هي دمشق، العاشقة، والتي أبدًا
لا تروَّض، تقلع بالسفن صوب كوكب النبالة
فيها:
يا حبّ، يا ثالوث المسرّة والفروسيّة والدم،
بين يديك الوجه مضاء بجرح الميلاد.. وخبزي
ملوّح بشقرة العنب، وما من نقد، ما من
سبائك نُقشت بأسماء الملوك، إلاّ وتحت
نعلي.
جسدي، يا حبّ، سبيكة نُقشت
باسمك، وليس إلا العشّاق يعرفون
كم مملكتي الأنثويّة محصَّنة ومحتجبة عن
الحراب!!”16.
الـ “فارسُ” في هذا المقتبس مُتَّحدٌ بأساليب الوجود الجزئيّة في عالَم القصيدة، وهو ملكُ “المملكة القمريّة”، وحاضرٌ ابتداءً من “الأسرّة” و”الغُرف”، وصولًا إلى “البحر” و”المطر”، وهو سيِّد “التَّنبُّؤات” من مساحات “الحزن” إلى مساحات “الفرح، لابتكار “الولادات” الدِّمشقيّة حيثُ مُعانقة ماهيّة الحُبّ/ الولادة/ الخصب في جسد رمزيّ مُلوَّح بنبالة دمويّة خلاّقة تُعيد للهُوِيّة مشروعَها النَّهضويّ عبر بنائيّة الرَّمز الحضاريّ الذي تنهض به حسِّيّة جنسيّة راسِخة وخارجة عن السُّلطات التَّقليديّة المُعتادة كما نقرأُ في دلالات نهاية الشّاهد الآتي المأخوذ من المقتبس السّابق: “وها هي دمشق، العاشقة، والتي أبدًا/ لا تروَّض، تقلع بالسفن صوب كوكب النبالة/ فيها:/ يا حبّ، يا ثالوث المسرّة والفروسيّة والدم،/ بين يديك الوجه مضاء بجرح الميلاد.. وخبزي/ ملوّح بشقرة العنب، وما من نقد، ما من/ سبائك نُقشت بأسماء الملوك، إلاّ وتحت/ نعلي”.
ثالثًا: ملحميّة الموقف الرُّؤيويّ بينَ التَّموُّج والتَّوتُّر الغنائيّ
يُؤسِّسُ محمود السَّيِّد ملحمته الشِّعريّة على رؤيا كُلِّيّة تنهضُ على فعل الكشف الحسِّيّ، واختبار المجهول بما هو مُحاوَلة تلمُّس مجيء العالَم الحضاريّ الجديد محمولًا على حركيّة الحُبّ/ الولادة/ الخصب، وقد “اكتشفت الأنتلجنسيا العربية (الرؤيا من خلال الجسور الثقافية مع الغرب عمومًا ومع (فرويد) خصوصًا”17، وإنْ كانَ لهذا المفهوم جذوره في التُّراث العربيّ الصُّوفيّ، لكنَّ المصدر الرئيس له كانَ الشِّعر الغربيّ، فَـ “الشعر الأوروبي الحديث، منذ رامبو، جعل وظيفة الكشف وارتياد المجهول، سواء في النفس أو في الطبيعة، أو فيما وراءها، وانعكس هذا الفهم على عدد من شعرائنا، وقد تحدثوا عن الرؤيا، على أنها مظهر من مظاهر الكشف”18.
قال الشاعر:
– “مرحبًا.. مرحبًا
بالعيون المكحّلة طفولة ترحّب الفصول..
الأرض على سريرها تقفل
أصابعها الموشّاة بالعبق والنضارة والمطر،
وإلى أثدائها تحزم
قصائد اللهو والبراءة،
ترسم حميميّة العالم، الفيض الآتي على
أجنحة الحمام،
ومناقير عصافير الكرز..
مرحبًا بالفارس
يتحدّث كما البحر في ليالي الصيف
المغلّفة بحريريّة الرحم.
مرحبًا بالأناشيد الأولى ذات الإيقاع الملوّن
بدم البكارة، المدوزن على مسام الرجل القابض على خاتم الأنثى.
مجبولة بطينتي، مجبول بريقها..
ومرتبط دمي بالهتاف يعلو من سفينة تواكب
فتوة البحر..
: يا حبيبًا بحثت عنه، يا حبيبًا التقيته في
القمح والعنب، وفي عينيه بوّقتُ
السوسن،
طاردتُ الجآذر،
متجهة إليك يا حبيب،
متجهة صوب دمي،
متئدة، راكضة، ملهوفة
وعالية أصوات النداء..”19.
ينهضُ هذا المقطع على غنائيّة ملحميّة تسبغ الدِّيوان بأكمله، وتتحرَّكُ أساليب وجود هذه الغنائيّة تبعًا لآليّات الرُّؤيا العشقيّة التي تستدرجُ عبر فعل الخَلْق الحسِّيّ الوجود الحضاريّ القادم، ولذلكَ يُرحِّبُ الشّاعر هُنا بـِ “العيون” و”الفصول” و”العبق” و”النَّضارة” و”المطر”، بما هيَ عناصر إطلاق الرُّؤيا الحضاريّة المُتجدِّدة عبر فعل الحُبّ الذي يرسم “حميميّة العالم” بوصفِ هذه (الحميميّة/ الرُّؤيا) فيضًا كاشِفًا قادمًا وشبيهًا بحُرِّيّة الأجنحة وجَمال “مناقير عصافير الكرز”: “مرحبًا.. مرحبًا/ بالعيون المكحّلة طفولة ترحّب الفصول../ الأرض على سريرها تقفل/ أصابعها الموشّاة بالعبق والنضارة والمطر،/ وإلى أثدائها تحزم/ قصائد اللهو والبراءة،/ ترسم حميميّة العالم، الفيض الآتي على/ أجنحة الحمام،/ ومناقير عصافير الكرز”.
إنَّ “الفارسَ” الذي “يتحدَّثُ كما البحر” في المقتبس السّابق هو حامل شعلة الكشف المُبشِّرة بالمجهول الجميل المُغايِر، فالتَّشظِّي العشقيّ يندغمُ في وَحدة الوجود الحضاريّ الكيانيّ/ الكُلِّيّ كاشِفًا آفاقها الحضاريّة عبرَ ملحمةٍ الحُبّ والولادة والخصب، والرُّؤيا هُنا ليستْ سوى غنائيّة إعادة التَّكوين الجديد لقصّة الخَلْق، لكنْ لا بمعناه الفيزيائيّ، ولا بمعناه البيولوجيّ؛ إنَّما بمعناه الحضاريّ النّاهض على دمويّة حسِّيّة: “دم البكارة”، “مُرتبط دمي بالهتاف”، “مُتّجهة صوب دمي”، وهيَ المُنطوية على دلالة استجابة الموقف الرُّؤيويّ لـِ “نداء” التَّغيير الحضاريّ الملحميّ الجديد: “يا حبيبًا بحثت عنه، يا حبيبًا التقيته في/ القمح والعنب، وفي عينيه بوّقتُ/ السوسن،/ طاردتُ الجآذر،/ متجهة إليك يا حبيب،/ متجهة صوب دمي،/ متئدة، راكضة، ملهوفة/ وعالية أصوات النداء”.
وهكذا، يتدفَّقُ الموقف الرُّؤيويّ في تلافيف البناء الملحميّ، حيثُ تنبسطُ أساليب وجود غنائيّة في الدِّيوان تقوم على حركيتين مُتكاملتين، هما: حركيّة التَّموُّج الغنائيّ، وحركيّة التّوتُّر الغنائيّ، فـَ “التموج الغنائي للانفعال الشعري، (…) يختلف عن التوتر الغنائي، في كون التموج انسيابيًا ذا طبقة واحدة (…)، أما التوتر فهو مبني على تعدد الأضداد، وتعدد الصوت الانفعالي في السطر الشعري”20، ذلكَ أنَّ “التوتر (…) ينشأ داخل النص من التقاطعات التي تكونت منها بنيته، ومن علاقات التضاد المتمثلة بانكسار سياقه اللغوي، وما يحمله إلينا من اضطراب في مفاهيم الصيغ وعلاقاتها، حيث تتجدد قيمة التوتر من كونه يساعد في تعميق دلالات النص، ويعمل على تحريك مكامن الشعور عند الشاعر والمتلقي على السواء”21.
قال الشاعر:
– “على الهدب، بين الشوك مشيت.. حافية
مشيت على الحرائق.. تلمّس خاتمي مصهورًا
ومطهّرًا بالحبّ، فتح لي أبوابه، دخلت
ولن أخرج!..
على الجلجلة كنت فيه..
وفي البحر حصدت حقول الزبد، تسلّقت
حباله وهبطت،
الصخور تزنبقت باسمه،
الأعماق فوّرت بالدّم، وبدمه
تطهّرت من كلّ دنس، حملته كرومًا عنّبت،
أطفالًا ونبيذًا وخبزًا.
وعادت السفن، سفينتي في المقدّمة،
تتبهنس بربّانها، والبحّارة ينشدون
ابتهاجًا بالعودة،
البحر تدّفق في الأعماق.
كن فينا يا بحر.”22.
تسودُ انسيابيّة التَّموُّج الغنائيّ في وَحدة أساليب الوجود الحضاريّ بما هيَ وَحدة أساليب وجود العشق الحسِّيّ، وأفعال تخليق الولادة المُجاوِزة، لكنَّ هذا التموُّج يتعرَّض عبر زمانيّة القصيدة لحُضور توتُّريّ مُستمر؛ إذ نلاحظُ على سبيل المثال أنَّ بلوغ الولادة الخلاّقة في المقتبس السّابق، والتي تنهضُ على حركيّة السُّفن، وتدفُّق البحر/ الخصوبة -حامل رمزيّة الأطفال والنَّبيذ والخبز- وصولًا إلى ذروة غنائيّة أصفُها بزمانيّة المُطلَق، تمرُّ عبر توتُّر يحتفي بالأضدّاد، فالعاشقة صانعةُ الخصب مشت بينَ الأشواك، وحافيةً مشت على الحرائق، وحصدت حقولَ الزَّبد حتّى بلغت الدَّمَ/ الولادة/ الخصب.
وتبدو هذه العلاقة الجدَليّة بينَ التَّموُّج الغنائيّ والتَّوتُّر الغنائيّ سِمة مُهيمنة في كامل الدِّيوان، وتحتفي ببُؤرة رؤيويّة كشفيّة محوريّة تقوم على تبادل المواقع بينَ الآليتين (التَّموُّج والتَّوتُّر) في آنٍ معًا، وهي (أي هذه البؤرة) بُؤرة (الدَّم/ الألم) و(الدَّم/ الولادة)، حيثُ تنساب أساليب وجود الدَّم/ الحُبّ/ الولادة/ الخصب في تموُّجٍ غنائيّ يخلخلُهُ من داخل عالَم القصيدة توتُّر الألم المُصاحب لفعل الولادة والخَلْق بما هو ألَم تطهيريّ رؤيويّ يفتحُ فَجوة كشف المجهول لاستنطاق وَحدة الوجود الحضاريّ المأمول والقادم.
رابعًا: يوتوبيا الحُبّ، وكينونة الخَلْق الجدَليّ
إذا كانَ الشِّعر بطبيعتِهِ المجازيّة يُفترَضُ أنْ يتحرَّكَ خارج إطار الأيديولوجيا؛ بمعنى “أنَّ علاقة الشعر بأية أيديولوجية تختلف قليلًا عن علاقة النثر بهذه الأيديولوجية، ذلك أن طبيعة الشعر تصوغ شكل هذه العلاقة بطريقة تسمح للشعر أن يظل شعرًا مهما كان ارتباطه -أو التزامه- بأيديولوجية ما”23، فإنَّ محمود السَّيِّد في مونادا دمشق قدَّم قطيعة لافتة عمّا كانَ سائدًا في نسبة كبيرة من شعر السِّتينيّات العربيّ بوجهٍ عامّ، والسُّوريّ بوجهٍ خاصّ، حيثُ خلَّفتْ أساليب وَحدة الوجود الحضاريّ الكيانيّ الكُلِّيّ في هذا الدّيوان الرُّؤى الأيديولوجيّة وراءها، وذلكَ عبرَ انفصال أصيل عن المُسَبَّقات النَّظَريّة والسِّياسيّة والاجتماعيّة التي حكمَتِ الخطابات السُّوريّة والعربيّة ردحًا من الزَّمن.
يبسطُ مونادا دمشق أساليب وجود يوتوبيّة تستنطقُ لحظة الانبعاث الحضاريّ والخَلْق الحيويّ الكيانيّ والكونيّ المُجاوِز للمُسَبَّقات المُنجزة، حيثُ تغدو وَحدة وجود العشق الحسِّيّ هيَ مركز الدَّلالة المُغايِرة لأيّة وعي أيديولوجيّ، وتنهضُ الرُّؤيا على كشف حداثيّ يوتوبيّ لكينونة الخلق القادم بما هيَ كينونة حضاريّة مفتوحة على أُفُق الاختلاف.
قال الشاعر:
“الرغبة تقرع النوافذ، تشقّق التربة، والشوق
عقاب يلتهم الكلمات. الخوف تحت الثدي،
مبارك هو الخوف مشحون بالوجد، يتلمّس
نسغه النهد..
وللهاث صوت المطر، خطوات
المطر، النداء المغمّس بالوله:
مزدحمة الفصول
بي، مزدحمة التربة والماء والريح في جسدي..
وللطيور هتاف يطرد الوهم على سرير الحبّ!
أيّها الفارس المتكتم على سرّ الفتك،
أيّها القابض على رهجة الحبّ، وعلى القتل
من أجل الحبّ..
لتكن أنت سيّد سفني عبر
استوائية الطقوس العشقية.. لتكن على
خاصري كالوشم، أكن في مسامك نزير
التكهّن والتجاوز..
في الأرض يبرعم الشوق، وفي المطر..
وتحت الثدي تتكئ أغنية ربّان هرم،
مكنّز ومسرّ.
يا حبيّ المطهّر بالدم، ما من عشق يأكل نضارتنا،
بل نتوهّج بالعشق، وفي لهبه نركض، نتدافع
نزدحم ببعضنا، وتزدحم بنا أسراب السمندر.
أما الأشعار القديمة والجديدة، فمن شفاهنا
تَقلع، تترصّد العالم في رحلته،
تومئ له أن يستريح تحت
الإبط
/تحت إبطها العالم ليس إلاّ طفولة
وحلمًا../”24.
إنَّ طفولة العالم، وحُلمه، في هذا المقتبس، هو العصر اليوتوبيّ الجديد الذي انفتَحـتْ عليه عوالم مونادا دمشق، وهو عصر استبدلَ بالرُّؤى الأيديولوجيّة المُسَبَّقة والمُغلَقة، رؤى الحُبّ والمخاض والولادة والخصب، فالدَّمُ هُنا هو مسار صراعيّ ليسَ وفق دلالات أيديولوجيّة سياسيّة أو اجتماعيّة؛ إنَّما وفق دلالات نهضويّة حضاريّة كُلِّيّة تستجمعُ المُتناقضات في وَحدة الخَلْق الجديد والقائِم على حامل العشق الحسِّيّ.
يلتحقُ الشّاعرُ هُنا بأساليب وجود مفتوحة -إذا صحَّ التَّعبير- حيثُ تغدو الرُّؤيا استجابة يوتوبيّة لحُلم تغييريّ مفتوح، ولذلكَ يُؤسَّسُ هذا الحلم على “الرَّغبة” و”الشَّوق” و”الوجد” و”اللُّهاث” و”الخطوات” المُستجيبة لـ “النِّداء” الجديد المُغاير “المغمَّس بالوله”: “الرغبة تقرع النوافذ، تشقّق التربة، والشوق/ عقاب يلتهم الكلمات. الخوف تحت الثدي،/ مبارك هو الخوف مشحون بالوجد، يتلمّس/ نسغه النهد../ وللهاث صوت المطر، خطوات/ المطر، النداء المغمّس بالوله”، ويستكملُ الشّاعر بناء طقوسِهِ التَّوليديّة يوتوبيًّا لاستدعاء الحضارة القادمة عبرَ حُضور فارس الحُبّ والقتل الحسِّيّ خالق الولادة و”التَّجاوز”: ” أيّها الفارس المتكتم على سرّ الفتك،/ أيّها القابض على رهجة الحبّ، وعلى القتل/ من أجل الحبّ../ لتكن أنت سيّد سفني عبر/ استوائية الطقوس العشقية.. لتكن على/ خاصري كالوشم، أكن في مسامك نزير/ التكهّن والتجاوز”، ليُنهيَ الشّاعر هذا المقطع بدلالة رؤيويّة محوريّة تقوم على الاحتفاء بأساليب وجود لا ترى العالم “إلا طفولة”، بما هيَ رمز التَّحوُّل اليوتوبيّ إلى وَحدة الوجود الحضاريّ المأمول: أما الأشعار القديمة والجديدة، فمن شفاهنا/ تَقلع، تترصّد العالم في رحلته،/ تومئ له أن يستريح تحت/ الإبط/ /تحت إبطها العالم ليس إلاّ طفولة/ وحلمًا..//”.
قال الشاعر أيضًا:
“النهد يتعرّم لابسًا نسريّة الانتصار، هو
أكثر مهابة قبيل الاحتدام، وأكثر حصانة بالمد
المتطوّع مع الجنيّات وهرج الأطفال، حين
أهبط عذراء تحتلّ نكهتي غرفك السريّة،
محرّرة ما ليس
يُحصى من فقاعات تتسلّق حبال المياه كعلامة من
علامات الحبّ المصرّ على التزاوج وسط سرير
الموجة، وتحت قوس البذرة.
وصباحًا أيّها الأحبّة،
مع الخطوة الأولى لطفولة النهار،
صباحًا أيّها العشّاق،
والحوت خيط أسود ينتعل قرّاص الهزيمة،
أتنفّس في المخادع،
في الشفة أتبرّد
بعقيقيّة تفتق أحزمة الليل، ووحيدة لا أكون
مع براعم تتأنّث به النداوة.
وحيدة لا أكون والنهر
ينهب سفينة القراصنة..
الحرير لامرأة بلا ثدي،
العطور لصبيّة تُدلك بالوهم، التوابل لي
وعسل البعل.
وبالحبّ وحده، أيّها العشّاق
أنا المرأة،
أديم العالم بسرّتي
وحيث لا أُرشق
لا يكون..”25.
كُلّ ما في هذا المقتبس يحتفي بالحُبّ يوتوبيًّا، ويُحوِّلُ هذا الفعل إلى آليّات جدَليّة بينَ الخلق ومخاضه، ولهذا يعلو الارتماء نحو “الانتصار” و”الاحتدام” و”المدّ” بما هيَ حركيّة وَحدة الوجود الحضاريّ “الحُرّ” الذي يولد حديثًا: ” محرّرة ما ليس/ يُحصى من فقاعات تتسلّق حبال المياه كعلامة من/ علامات الحبّ المصرّ على التزاوج وسط سرير/ الموجة، وتحت قوس البذرة”، وهذه الولادة الجديدة تجلب “الصَّباح” و”النَّهار”، وتهزم -جدَليًّا- “الحوت” و”اللَّيل” و”القراصنة” المُعادون للتَّغيير والتَّحوُّل وكينونة الخَلْق المُغاير: “وصباحًا أيّها الأحبّة،/ مع الخطوة الأولى لطفولة النهار،/ صباحًا أيّها العشّاق،/ والحوت خيط أسود ينتعل قرّاص الهزيمة،/ أتنفّس في المخادع،/ في الشفة أتبرّد/ بعقيقيّة تفتق أحزمة الليل، ووحيدة لا أكون/ مع براعم تتأنّث به النداوة./ وحيدة لا أكون والنهر/ ينهب سفينة القراصنة..”، ليسودَ في نهاية المطاف خَلْقُ الحُبّ الجديد: “وبالحبّ وحده، أيّها العشّاق/ أنا المرأة،/ أديم العالم بسرّتي/ وحيث لا أُرشق/ لا يكون..”.
يُظهِرُ المقتبس السّابق بجلاء أنَّ لا كينونة عند السَّيِّد خارج كينونة الحُبّ، ولا حُبّ خارج فعل الخَلْق الحضاريّ، ولا فعلا حضارياّ خارج وحدة الجدَل الكُلِّيّ، ذلكَ “أنَّ العلاقة بين شاعر قصيدة النثر والصوفي قائمة، وقيامها ناتج عن تقارب وجهات نظرهما فيما يتعلق بالرؤيا إلى العالم من جهة، وما يتفرع عن هذه الرؤيا من علاقة تواشج وانفصال بين مكنونات العالم، حتى لكأن هذه العلاقة تخضع لوحدة جدلية قائمة على التوغل بين عناصر الكون، وتهدف (…) إلى جعل العناصر كلًا واحدًا متماسكًا ومتكاملًا. بينما تقوم من الجهة الثانية على هذا الخصب اللغوي الذي ارتفع مع تجربة كلّ من الشاعر والصوفي، فاستطاع بما يحمل لنا من أسرار التشكيل اللغوي أن ينقل لنا حيوية اللغة بشكلها الأرقى، حيث البكارة صفتها الغالبة”26.
قال الشاعر:
“كن فينا يا بحر.
في الرجال كن، في النساء كن، في الأطفال كن،
نتعال مع الموج، من الزبد نغتسل بالشمس
نرفع أشرعتنا وقاماتنا،
ننثر الكلمات مع المحار ونمضي.
نداؤنا واحد،
جوابنا واحد.
على الصخور نحفر أسماءنا المتعدّدة باسم
واحد،
وبإصبع أنثى تتطهّر بالحبّ.
على الرمل ترسم الأبكار أسماءهن، وفي الغرف
يقضمن الأظافر..
كن فينا يا فارس علامة تحدّ وتحرّر، نجب
المدن والريف، السهل والجبل.
وعلى الحراب نكتب
أشعارنا،
نحترق، نترمّد، نهطل صباحات نداوة وزهر..
ومن أجل النقاوة ندلك جباهنا بالحرائق، وعروقنا
نجد لها مرنة في تنانير النسوة حاصدات القرنقل
والبهار.
من أجل الأطفال نتقدّم يا فارس بالقرابين
والنذور،
نتناسق مع البحر، نتجاذب مع الأرض، تدخلنا التربة، نتحلل فيها، نتماسك في سفر واحد،
وما من علامة من علامات التفكك..
بين الرجل والمرأة،”27.
يبسطُ هذا المقتبس عالَم الوَحدة الوجوديّة اليوتوبيّة، فجميع الأجناس والعناصر وأساليب الوجود تهدف إلى تمتين وَحدة الحُبّ المُتماسِكة، وكُلّ الموجودات تندمج في رقصة حياة تهدفُ إلى بلوغ الخَلْق الجدَليّ للعالم الحضاريّ الجديد عبرَ رمزيّة فعل الحُبّ/ الولادة/ الخصب الحسِّيّ، ولهذا فـَ “نداؤنا واحد”، و”جوابنا واحد”، و” على الصخور نحفر أسماءنا المتعدّدة باسم/ واحد”، و”نتناسق مع البحر، نتجاذب مع الأرض، تدخلنا التربة، نتحلل فيها، نتماسك في سفر/ واحد”، وهذه الكيفيّات لا انفكاك بينها ما دامَ فعل الحُبّ اليوتوبيّ يخلق الوجود الحضاريّ الجديد في وَحدة تبدأ من وَحدة الجسَدين أوَّلًا وأخيرًا: “وما من علامة من علامات التفكك../ بين الرجل والمرأة”.
تبدو حركيّة توحيد الرَّجُل والمرأة في الدِّيوان بما هيَ حركيّة فعل الحُبّ/ الولادة/ الخصب، كأنَّها تبثُّ يوتوبيا الحُبّ بكينونتِها الجدَايّة الخلاّقة في (زمانيّة المُطلَق) بوصفِها زمانيّة خَلْق العالم الحضاريّ الجديد، والتي تُعمِّقُ وَحدة (الأنا/ الآخَر) في وَحدة (الجسَد/ الخصب)، إلى جانب توحيد جميع المُتناقضات في كينونة جدَليّة يوتوبيّة أقرب إلى قلب المُعادَلات السّابقة شِعريًّا، حيثُ كان الانطلاق في العادة يتمُّ حداثيًّا من الأيديولوجيّ إلى الأسطوريّ، ليقوم ديوان مونادا دمشق على اقتراح حركيّة تنطلِقُ من الأسطوريّ إلى اليوتوبيّ.
خامسًا: التَّشتُّت الحسِّيّ،
وتفكيك التَّمركُز الفُحوليّ
يُعرَّف التَّمركُز بأنَّهُ ” نسَقٌ ثقافيّ مُحمَّلٌ بمعانٍ ثقافيّة (دينيّة، فكريّة، عرقيّة) تكوَّنت تحتَ شروط تاريخّية مُعيَّنة، إلا أنَّ ذلكَ النَّسَق سُرعان ما تعالى على بُعدِهِ التاريخيّ”28. في حين أنَّ الانتشار أو التَّشتيت (التَّشتُّت) هو أحدُ المصطلحات التي جَعَلَ منها (دريدا) أداةً تقويضيّة، ويعني بها تكاثُر المعنى وانتشاره بطريقة يصعب ضبطُها والتّحكُّم بها. فهذا التَّكاثُر المُتناثر ليسَ شيئًا يستطيعُ المرء إمساكه والسَّيطرة عليه، إنّما يوحي بـِ (اللَّعب الحرّ) الذي هو حركة مُستمرّة تُثير عدم الاستقرار والثّبات29.
قامت حركيّة مونادا دمشق على آليّة لها خُصوصيَّتُها، فالتَّشتُّت الحسِّيّ في أساليب الوجود في القصيدة لا يُفكِّك عالَمَها نفسه؛ إنَّما يُمارسُ فعلًا مُزدوجًا، يفكِّكُ في شقِّهِ الأوَّل التَّمركُز الفحوليّ، ويُنجزُ في شقِّهِ الثّاني إعادة تشكيل الفحولة عبرَ تمكينَ تخليق وَحدة الوجود الحضاريّ النّاهضة على جدَليّات حركيّة الحُبّ والولادة والخصب.
قال الشاعر:
“المليئة بالحبّ، الفيّاضة بالحبّ، يا فارس التوحّد
والقتل، تعقد ذراعيها على خاصرة الذكورة.
فلتحمَّل السفن
بالخبز والسوسن،
وبالزهو إلى قاسيون..
رمل يستحمّ بجسدك الفحوليّ، يرشح رعشة
مجلوة بالمطر..
الرمل يا فارس التوحّد والقتل
يتعلّم في مسامك المتوهّجة لغة الخصوبة،
أبجديّة التناسل.
والرمل يتنفّس حقولًا، الصهيل يمسح
كآبة الأرض.
الدم فاتحة التوحّد، الدم سيّد
الحبّ، بالدم تصير المرأة إقليمًا يعجّ بالأطفال
والثمر.
البحارة في ساعات تفتّحهم، يغمرون الصخور
بكنوز وأسلحة، يحرقون السفن المدجّجة،
يتوحّدون مع الزبد والملوحة.
الملوحة طعم المرأة،
الزبد علامة الاحتكاك.
خبر المرأة معجون بالزبد والاحتكاك..
أسمعُ صوتك.. لا نعاس في بيادر تتعبّأ
بالشمس،
لا ظلّ لأنثى أرحب من إبطيّ الفحل!”30.
لا تتعيَّن الفحولة في هذا المقتبس بوصفِها ذكوريّة مُتعالية؛ إنَّما تنبسطُ أساليبُ وجودها في وجود الأنثى نفسِها التي تمنحُ هذه الفحولة كينونتها الأصيلة: “المليئة بالحبّ، الفيّاضة بالحبّ، يا فارس التوحّد/ والقتل، تعقد ذراعيها على خاصرة الذكورة”، فالفحولة ليست قيمة بذاتِها، بقدر ما هيَ قيمة بفعل الحُبّ الحسِّيّ الذي ينهضُ بدلالة تخليق الولادة الحضاريّة الخصبة والجديدة: “رمل يستحمّ بجسدك الفحوليّ، يرشح رعشة/ مجلوة بالمطر../ الرمل يا فارس التوحّد والقتل/ يتعلّم في مسامك المتوهّجة لغة الخصوبة،/ أبجديّة التناسل./ والرمل يتنفّس حقولًا، الصهيل يمسح/ كآبة الأرض./ الدم فاتحة التوحّد، الدم سيّد/ الحبّ، بالدم تصير المرأة إقليمًا يعجّ بالأطفال/ والثمر”. وبهذا المعنى لا دلالة للأنوثة خارج الذّكورة، ولا دلالة للذّكورة خارج الأنوثة، وكُلّ أساليب الوجود في القصيدة تُفكِّكُ عالم الفحولة لمصلحة وَحدة الحُبّ/ الولادة/ الخصب: “البحارة في ساعات تفتّحهم، يغمرون الصخور/ بكنوز وأسلحة، يحرقون السفن المدجّجة،/ يتوحّدون مع الزبد والملوحة./ الملوحة طعم المرأة،/ الزبد علامة الاحتكاك./ خبر المرأة معجون بالزبد والاحتكاك../ أسمعُ صوتك.. لا نعاس في بيادر تتعبّأ/ بالشمس،/ لا ظلّ لأنثى أرحب من إبطيّ الفحل!”.
إنَّ بلوغ كينونة الحُبّ الحسِّيّ في المثال السّابق تتعيَّنُ عبرَ أساليب وجود الولادة والخَلْق، حيثُ “تتحدّد الولادة، في النص الشعري، بكونها (…)، دليل فهم أصيل لحركة الحياة، تقوم على إزالة ما يناقض هذه الحركة، وترسيخ ما يمكن أن يعيد لها وهجها وجدّتها”31، وبذلكَ لا يُفكِّكُ فعل التَّشظِّي الحسِّيّ عالَم القصيدة، ولا ينقلُها من (تشظِّي النَّصّ الحداثيّ) إلى (نصّ التَّشظِّي ما بعد الحداثيّ)؛ إنَّما يُحافِظُ على تقاليد الحداثة الشِّعريّة المُتحرِّكة من العابر الجزئيّ إلى الثّابت الكُلِّيّ، وذلكَ في وَحدة وجود حضاريّ تفتِّتُ مركزيّة الفحولة بتفكيك مُسَبَّقات الأخلاق عبرَ التَّمركُز على حركيّة الحُبّ الحضاريّ المُحتفي حسِّيًّا بالحُرِّيّة المُطلَقة، وهذا الأمرُ يظهرُ بجلاء في المقتبس الآتي:
“نرفع لك أطفالنا يا حبّ،
بالأطفال نتلمّس إشارة توحّدنا الكليّ، بالأطفال
نتعلم الخطوة الأولى، الكلمة الأولى.
وفي الأطفال نتعرّى لك لحظة الانبهار والدهشة
أبدًا كما الحركة المليئة بالجمر وتيارات التداخل.
أبدًا الذكر والأنثى كما الأرض والمطر!
مع الريح نرسل أصواتنا إليك،
مع العاصفة نرسل ابتهاجنا بك،
ومع توجّع الأرض بالولادة، نتقذف إلى غبطتك
المعرّشة في الأعماق،
نرقص في مخدع أنثاك،
مسحورين بعلامة العودة تزغف في كلّ منّا،
وكل منّا متماسك مع أنثاه في دم العالم
وسرّة الأرض..
نرفع لك توحّدنا يا نبي الامتلاك،
المرأة في الرجل. وفي المرأة الرجل.”32.
وهكذا، يأتي تشظِّي أساليب وجود الحُبّ الحسِّيّ محكومًا بوَحدة هذا الحُبّ النِّهائيّة الكُلِّيّة، وهيَ وَحدة تحتفي بالولادة والخصب والأطفال: “نرفع لك أطفالنا يا حبّ،/ بالأطفال نتلمّس إشارة توحّدنا الكليّ، بالأطفال/ نتعلم الخطوة الأولى، الكلمة الأولى./ وفي الأطفال نتعرّى لك لحظة الانبهار والدهشة/ أبدًا كما الحركة المليئة بالجمر وتيارات التداخل”، ولعلَّ المحوريّ في الدِّيوان هوَ تفتيت التَّشتُّت الحسِّيّ لمركزيّة الفحولة، وإلحاقِها بوَحدة الحُبّ التي لا تنبسطُ أساليبُ وجودِها إلاّ بحُضور طاغٍ للأنثى الخلاّقة، ذلكَ برسم مشاهد توليد العالَم الحضاريّ المُغايِر والجديد عبرَ رمزيّة وَحدة الحُبّ/ الولادة/ الخصب: “أبدًا الذكر والأنثى كما الأرض والمطر!/ مع الريح نرسل أصواتنا إليك،/ مع العاصفة نرسل ابتهاجنا بك،/ ومع توجّع الأرض بالولادة، نتقذف إلى غبطتك/ المعرّشة في الأعماق،/ نرقص في مخدع أنثاك،/ مسحورين بعلامة العودة تزغف في كلّ منّا،/ وكل منّا متماسك مع أنثاه في دم العالم/ وسرّة الأرض../ نرفع لك توحّدنا يا نبي الامتلاك،/ المرأة في الرجل. وفي المرأة الرجل”.
ما يُشبِهُ الخاتِمة
أظهَرتِ المَحاوِر التَّطبيقيّة لهذا البحث أبعادَ الخُصوصيّة الفنِّيّة والرُّؤيويّة لديوان “مونادا دمشق”، حيثُ بسَطَ الشّاعر محمود السَّيِّد أساليبَ وجودِهِ في هذهِ القصيدة على نحْوٍ جديدٍ ومُغايِر عن الأساليب الحداثيّة التي احتفتْ بكُلِّيّة الجسد ورمزيته، إن كان ذلكَ في الشِّعر السُّوريّ بوجهٍ خاصّ، أم كانَ ذلكَ في الشِّعر العربيّ بوجهٍ عامّ.
وقدِ انفتحتْ أساليبُ الوجود في ديوان/ قصيدة “مونادا دمشق” على الأبعاد الكيانيّة/ الكُلِّيّة انطلاقًا من كيفيّات الوجود الجزئيّة التي تُدغَمُ في وَحدة الحُبّ/ الولادة/ الخصب، بما هيَ وَحدة تُلغي التَّناقضات لمَصلحة رمزيّة أساليب الوجود الحضاريّة الكيانيّة/ الكُلِّيّة؛ أي بما هيَ هذهِ الوَحدة مُنطوية على تشظِّي أفعال تخليق عالَم الخصب الجديد، ومُحتفية بمركزيّة الحُبّ الذي ينبسطُ بدءًا من الأساليب العيانيّة العابرة، وانتهاءً بالأساليب الكُلِّيّة.
إنَّ مركزيّة الوَحدة العشقيّة الحضاريّة بوصفها تتعالى على العيانيّ العابر واليوميّ لمصلحة الخَلْق الكيانيّ، تؤسِّسُ معماريّة وَحدة الرَّمز الحضاريّ عبرَ إدغام المُستويات السِّياسيّة والاجتماعيّة والثَّقافيّة في دلالاتِهِ، وصولًا إلى الخَلْق الكيانيّ/ الكُلِّيّ عبرَ فعل الحُبّ الحسِّيّ الذي يحتفي فيه الدِّيوان. وهكذا، تنبسطُ أساليبُ وجودِ الهُوِيّة النَّهضويّة الجديدة في القصيدة بطريقِ بنائيّةِ الرَّمز الحضاريّ الذي تنهضُ بهِ أفعالُ الولادة/ الخصب المُحتفية دلاليًّا بالوَحدة الحضاريّة المركزيّة.
وتستمدُّ، في الآنِ نفسِهِ، ملحميّةُ الموقف الرُّؤيويّ دلالاتِها في الدّيوان بناءً على كيفيّات الكشف الحسِّيّ النّاهض على رؤيا كُلِّيّة تختبرُ أبعاد المجهول، وتتلمَّسُ آفاقَ مجيء العالَم الحضاريّ الجديد محمولًا على حركيّة الحُبّ/ الولادة/ الخصب، فالغنائيّة الملحميّة تسبغُ عوالم الدّيوان بأكمله، وتنبسطُ أساليب وجودها وفقَ آليّات الرُّؤيا العشقيّة التي يكشفُ عبرَها فعلُ الخَلْق الحسِّيّ الوجودَ الحضاريّ القادم، ذلكَ تبعًا لحركيتيْن مُتكاملتيْن تبنيان المعمار الملحميّ الرُّؤيويّ، هُما: حركيّة التَّموُّج الغنائيّ الانسيابيّ، وحركيّة التَّوتُّر الغنائيّ مُتعدِّد الأضدّاد.
وانطلاقًا من هذا المَنحى أيضًا، سَعَى محمود السَّيِّد في “مونادا دمشق” إلى بُلوغ قطيعةٍ لافِتَةٍ عمّا كانَ سائدًا في نسبةٍ كبيرة من شِعر السِّتّينيّات السُّوريّ والعربيّ، حيثُ تجاوَزتْ أساليبُ الوجود الحضاريّ الكيانيّ/ الكُلِّيّ في القصيدة الرُّؤى الأيديولوجيّة، ذلكَ عبرَ انفصالٍ أصيلٍ عن المُسَبَّقات النَّظَريّة والسِّياسيّة والاجتماعيّة، مُستبدلًا بالأبعاد الأيديولوجيّة الأبعادَ اليوتوبيّة التي تستنطقُ كشفيّا لحظةَ الانبعاث الحضاريّ والخَلْق الحيويّ الجديد، بفعل توليدِ كينونةٍ جدليّة حسِّيّة مُختلفة ومُحتفية بالحُبّ والمَخاض والولادة والخصب.
ولعلَّ هذهِ الآليّات التَّخليقيّة في حركيّة “مونادا دمشق”، قد تمكَّنتْ، إلى حدٍّ كبير، من تفكيكِ التَّمركُز الفُحوليّ عبرَ أساليبِ وجودِ التَّشتُّتِ الحسِّيّ، لكنَّها أعادَتْ تشكيلَهُ -في الوقتِ نفسهِ- مُندغِمًا بجدليّات حركيّة الحُبّ والولادة والخصب التي تبسطُ رمزيًّا كيفيّات تخليق وَحدة الوجود الحضاريّ الكيانيّ/ الكُلِّيّ، وبهذا المَعنى لا تتعيَّنُ الفحولةُ في الدِّيوان بوصفها ذُكوريّة مُتعالية؛ إنَّما تستمدُّ كينونتَها الأصيلة من وجودِ المرأةِ نفسِها في حدَث الحُبّ الحسِّيّ الخلاّق.
أخيرًا، وليسَ آخِرًا، أقولُ:
تستحقُّ تجرِبة محمود السَّيِّد على نحْوٍ عامّ، ولا سيما في ديوان/ قصيدة “مونادا دمشق” تحديدًا، الاحتفاءَ والتَّقديرَ المَعرفيّ والنَّقديّ والإبداعيّ. فضلًا عن ضرورة الاحتفاء بمجموعةٍ من الدَّواوين والقصائد العربيّة الحديثة الأُخرى، والتي تستحقُّ، في اعتقادي أيضًا، المزيدَ من القراءة والتَّمعُّن والتَّحليل، بوصفِ تلكَ الأعمال علاماتٍ لافِتة في الشِّعريّة العربيّة الحديثة.
ومن الجدير بالاهتمام، في هذا السِّياق، أنْ يَعمَلَ النُّقّادُ كذلكَ، على فهمِ الصِّلات الإبداعيّة والفنِّيّة التي تربطُ بينَ بعضِ الأعمال الشِّعريّة الحديثة والأبعاد التَّنظيريّة التي نهَضَ عليها الموقف العربيّ الحداثيّ/ النَّظَريّ، ومدى انفتاح تلكَ الأعمال على فضاءاتٍ مُمكِنة تنتمي -إلى حدٍّ ما- إلى رُؤىً ما بعدَ حداثيّة، وهو فعلٌ مُتعلِّقٌ عميقًا بتحقيب الأعمال الشِّعريّة ذات الأهمِّيّة تأريخيًّا وفنِّيًّا.
1 علي سفر: محمود السَّيِّد صاحب مونادا دمشق التي أيقظَت النُّصوص (موقع العرب: السَّبت 2015/5/30).
2 المرجع نفسه.
3 المرجع نفسه.
4 المرجع نفسه.
5 ابراهيم مدكور: المعجم الفلسفي (القاهرة – مصر: الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 1983) 197.
6 محمَّد جمال باروت: الشِّعر يكتب اسمه – دراسة في القصيدة النَّثريّة في سوريّة (دمشق – سوريّة: منشورات اتّحاد الكُتّاب العرب، 1981) 57 -58.
7 محمود السَّيِّد: مونادا دمشق (دمشق- سوريّة: دار ألف للكتابة الجديدة، ط2، 2003) 22 – 23.
8 محمَّد جمال باروت: الشِّعريكتب اسمه، 58.
9 محمود السَّيِّد: مونادا دمشق، 58.
10 المصدر نفسه، 127 – 128.
11 أحمد بزون: قصيدة النَّثر العربيّة – الإطار النَّظَريّ (بيروت – لبنان: دار الفكر الجديد، ط1، 1996) 48 – 49.
12 محمَّد جمال باروت: الشِّعر يكتب اسمه، 146.
13 محمود السَّيِّد: مونادا دمشق، 43 – 45.
14 المصدر نفسه، 46 – 48.
15 محمَّد جمال باروت: الشِّعر يكتب اسمه، 69 -70.
16 محمود السَّيِّد: مونادا دمشق، 117.
17 محمَّد جمال باروت: الشِّعر يكتب اسمه، 16.
18 محمَّد إسماعيل دندي: الحداثة – حداثتنا الشِّعريّة – مفهومها وإشكالياتها (دمشق – سوريّة: دار معد للطِّباعة والنَّشر والتَّوزيع، ط1، 1996) 40.
19 محمود السَّيِّد: مونادا دمشق، 76 – 77.
20 محمَّد جمال باروت: الشِّعر يكتب اسمه، 101.
21 يوسف حامد جابر: قضايا الإبداع في قصيدة النَّثر – دراسات في نصوص القصيدة (دمشق – سوريّة: دار الحصاد للنَّشر والتَّوزيع، ط1، 1991) 112.
22 محمود السَّيِّد: مونادا دمشق، 80 – 81.
23 غالي شكري: شعرنا الحديث إلى أين؟ (بيروت – لبنان: دار الآفاق الجديدة، ط 2، 1978) 163.
24 محمود السَّيِّد: مونادا دمشق، 8 – 10.
25 المصدر نفسه، 62 – 64.
26 يوسف حامد جابر: قضايا الإبداع في قصيدة النَّثر، 29.
27 محمود السَّيِّد: مونادا دمشق، 81 – 83.
28 عبد الله إبراهيم: المركزيّة الغربيّة – إشكاليّة التّكوُّن والتَّمركُز حول الذات (بيروت – لبنان: المؤسسة العربية للدِّراسات والنشر، ط2، 2003) 11.
29 يُنظَر: ميجان الرّويلي وسعد البازعي: دليل الناقد الأدبي – إضاءة لأكثر من سبعين تيّارًا ومُصطلحًا نقديًا مُعاصراً (الدار البيضاء – المغرب، بيروت – لبنان: المركز الثقافي العربيّ، ط3، 2002) 119-120.
30 محمود السَّيِّد: مونادا دمشق، 7 – 8.
31 يوسف حامد جابر: قضايا الإبداع في قصيدة النَّثر، 199.
32 محمود السَّيِّد: مونادا دمشق، 104 – 105.