دُنى غالي
كاتبة وشاعرة عراقية
1
مولودون من عشبةٍ مدفونة، قاومت من أول التاريخ، تخيلوا أنها عاشت رغم عتمة الأحراش، رغم فضلات الأرض، وتراكم طبقات الورق الميت والحي فوقها، بأدنى ما يسدّ العيش. عشبةٌ هَرِمَة مناضلة، ما إن فُرِدت لها فسحةٌ من الضوء حتى أيقظت صغارَها النائمين.
2
أحدهم وُلِدَ وهو يضحك، ليس سفاهة، ربما استشرافا لفاجعة العالم، أو رأى الصوت في وجوه الكائنات: «افرح، إنه لا يحبّ إلا الفرحان». قد يكون الاقتباس ذاته ما أضحكَ الوليد!! صوت كركرة في الكون، أو ما هو أكثر من الفرح الذي شبَّ من بعد عليه: هل يكون هو الغصن الذي أطلّ بغتة على النهار وأعرَب عن انبهاره بإطلاق ثمر؟!»
3
حيوانٌ جريح، صورةٌ لا تُشبهه، ولا أعلم كيف ولماذا. أوقِظه لأتأكد. جاء لساني على طعمٍ حلو، دمٌ امتزجَ في فمي مع القهوة. قد يكون منقاري!
4
أية فاجعة التي يتحدّث عنها: هو لا يقول بالحرف فاجعة. أتهجاها فقط، الأصابع والاتكاء، والقبض على الكتاب المهتوك.
كم أنفرُ من عناده، رغم أني مأخوذةٌ بملاحقته ليل نهار. ها قد أطفأَ الضوء، أنصتَ إلى تلاوة بعيدة، لابد كالرابض خلف عمودٍ في أغورا، قد ارتدى الآن زي الملوك ( في دوره المفضّل) واعتلى الخشبة…
5
ورغم المفاتيح المودَعة لي تحت عتبة بابه، تقبض عليّ رهبةٌ أبدية؛ أن أرفع المَداس يوما ولا أجد غير ريش.
6
كم من مقترحٍ مني لأن نقوم بحملة تصنيف وتعزيل كبرى، غير أنه يرفض أن يرمي شيئا. لا، هذا ليس صحيحا. الأدقّ؛ بيته رفوف منتقاة من أهوال العالم.
7
اختلّ شيء. تأملتُه، تأذيت في جسدي، زمنٌ يُستعاد من دوني، طارئ ما، مداهمة ما لكيانه؛ توفّز بالمشاعر، كتمان، أو حادث أجهله ويجعله يرتجف ويجفل لمجرد سماع حفيف غصن.
8
أول أمس جلسنا طويلا، وقد اكتفى بالاقتراب من وجه الليل، من دون قول كلمة. (في البدء لم نكن على يقين من اللغة التي سنتفاهم عبرها). اضطررتُ لأنهض وأوقد المصابيح كلها، فكلما تمايل لهبُ الشمعة لمحتُ لمعةً خاصة في عينيه. أذكر دهشة طقوس الاحتفال المحفوف في ذكرى ميلاده الذي فات. كان حصادا، لكنه لم يكن شهر تموز. كان في الذي لحقه. آب، من مواسم الجنّة. رحيق «الآلو والميوة». الفاكهة تسير في شارع الموكب… وهل تعرف، يعمّد البابليون الشهور بطريقة مختلفة: كلّ شهرٍ بإسمِ إله، أقول له، ويجدون له نعتا أيضا. آب، الملاك اللهّاب. رقصه الأهوج مضحك.
9
سَمِعْتُه، بلغةٍ أخرى، اشتَقّها على مرّ سنوات العزلة التي لم تخل من زحامه. أتقنتُها، تلك اللغة بالتالي، تقريبا. لا خيار لدي، أو هو طموحه حيال كلّ ما حوله، وكلّ مَن حوله (أليس من أحد هناك غيري؟)، أو الزمن وقد تشكّل بلِعْبِنا، فأخذَ مسارَه الخاص. لَعِبْنا في الأصل على جذور الكلمات المعدودة. على النزر، مما تبقى. ألسنةٌ تبتلع حالها! ربما (وهي الكلمة التي يتشبّث بها) هو الحادث ما أنساه اللغة السائدة، ليس من السهل أن تقف على شيء معه. أو ربما (ينقلب انفتاح الكلمة هنا) اندثرت عن قصد. كل يوم جمعةٍ تندثر لغةٌ في العالم، أقول، أعرف عند الحدود، بعيدا جدا في الأقاصي، فئةً مختبئة، لا زالت مطارَدة بسبب هذا. اختباؤه يشبه اختباءهم، أفكّر بسري. صورٌ تجاور بعضها.
10
سرعان ما سينقلكَ إلى محل آخر ينسيك الأول. لعله أكثر من واحد، يجهلهم هو نفسه. هو حرّ وأنا سجينه، وعليّ أن أدورَ بوجهي بعيدا عنه قبل أن تفلت الهمْهمة مني: سيبقيكَ سابحا في الهواء.
11
وفي الحبّ هو سلسلةٌ من نداءات واعية، شرِهة في حالات، بحروفٍ صحيحة يطلقها وبعينين مفتوحتين حين اشتهائه. أتجوّفُ. حرارة حارقة في بطانة جسدي، رذاذ نافورة صيفية ينفرج له الحلق. وبتصاعدٍ يلمعُ سطحُ الجلد بضوءٍ وهّاج، يعكسه الزغَب الأسمر. يحدث هذا وسط كلّ المزرقّ والمفضّض من العشب. مِن تحتنا الليل ومن فوقنا.
12
… آه، نعم، القصة أن سقوط الشجرة العملاقة التي كانت تظلل مستقرّ الكون، أحدَثَ انفجار ولادات لا عدّ لها. في الشمال استمرت مراوح الشفق القوس قزحية تعوم لليال في الكواليس، ما جعل الناس تقصدها قادمةً من أبعد نقطة. في شرق البلاد جاء البحر بقدميه وألقى مستعمرات من اللاجئين والأسماك وأكبر حاويات أساطيل الشحن الفولاذية (الأخيرة للمفارقة تضمن خدمات النقل من الباب إلى الباب). غربا لم ير الناس مثيلا لعواصف أكلتْ حواف اليابسة وحرثتْ تربة الفايكنج.
أما الجنوب، المختلف على الدوام، فكان هادئا، على غير عادته. لم يلحظ أحدٌ أدنى تغيير يذكر: إنْ هو إلا خبر سقوط شجرةٍ كونية الحجم ليلا!
13
مرّت عصور. في أيام تظهر وحدته جلية بانفتاح الباب على عتبة كوخه، أول الصباح وكلّ ما فيه جائع، مفتوح ومتذلل. في أحيان أخرى يشي الستار الكئيب المُسدَل لعينيه والزوغان بعربدةِ ومجونِ المقطوع من شجرة.
14
هل عَرَف آخرون مكان المفتاح؟ أحتالُ على الغيرة. تختفي في ثنايا مشاعر عادية أخرى، بين جُنْحَي، وفي أطباق أثيرة أعدُّها… هناك مَن يدخل بيته، يأكل ويتسامر معه.
15
وكلّ ما جمعْتُه (الطير المُحلّق أبدا إلى بيته) يشحب، أمام سلّة الفاكهة المرسَلة من قلب العالم إليه. تنتفض غرائز فيّ، لا الحبّ، لا الأمومة ولا الأبوة حاضنها. أدلفُ من الباب زامّةً منقاري على كمّ الحشرات المحشوة في فمي. أبصقها في صحنه على الطاولة. أُخوّن عزلته. أوقِدُ المصباح وأجلس مثل ضيفٍ عابر. أتلفّت إلى الكتب، الحاسوب، الرماد المتطاير، الصحون المتراكبة على بعضها، لفائف الغبار في الزاوية، وذبذبات الهواء الذي يدخل النافذة المشرعة؛ فضائي يتم اختراقه.
الهوامش
« مَنْ قالَ لي: لا سماءَ ليخفقَ فيها جناحاك… مَنْ؟» سعدي يوسف