صلاح بوسريف
لا مُطْلَق في الشِّعر ولا يقِين. كل شيء في الشِّعر قابل للتأمُّل والمُساءلة. اليقين في الشِّعْر، إلغاء للشِّعْر، لأن اليقين، هو القانون، وهو القاعدة، بل هو الإطار الذي داخِلَه يصبح الهواء ضَيِّقاً، لا يصلح للتَّنَفُّس بحرية، أو لِما في الطبيعَةِ من رِيحٍ، تَسَعُ كُلَّ الجِهَاتِ.
الشِّعْر، جَامِعُ أَنْوَاعٍ، السَّمَاءُ والماءُ واليَابِسَةُ، كُلُّهَا فِي نَفْس النَّفَسِ، كثيرٌ في واحِدٍ، أو واحِدٌ في كثيرٍ، لا فَرْقَ. الأمْرُ مُتَعَلِّقٌ بالشِّعْر، بالزُّرْقَةِ التي في أُفُقِهَا، العَيْنُ لا تَقِيسُ المِسَاحَةَ أو المَسَافَةَ، بل تَسْرَحُ في نَشْوَةِ العُبُور والاخْتِراقِ، زُرْقَتُهَا تَكْتَسِي بالكَثَافَة التي، غالِباً، ما نُسَمِّيها في الشِّعْر غُموضاً، دون أن نُدْرِكَ الفَرْقَ بين عَنَاصِر تَحُلُّ في بَعْضِها لِتَتَصَادَى وَتتَنَادَى بنوعٍ من الحُلُول الإشْراقِيِّ الخلَّاقِ، بنفس حُجَّةِ الغَمَامَةِ، قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَها المَطَر، وبَيْنَ ما يَصِيرُ ظُلْمَةً بَابُهَا لا كُوَّةَ فِيهِ، لِنَتَلمَّسَ الطَّريقَ صَوْبَ الثَّلْمِ الُمُضِيءُ الَّذي مِنْه كَان أودِيسْيُوسُ عَبَر جَحِيمَ هَادِيسَ، نَجَا بأَبَدِه من عَدَمٍ رآهُ يُطْبِقُ عَلَى أَخِيلَ في ظُلْمَتِهِ المُطْفَأَة.
في تَلمُّس الثَّلْمَاتِ، في تَعَقُّبِهَا، في النُّهُوض من الإطْبَاقِ الجَارِفِ الذي تَسْتَرْخِي فيه المُخَيِّلَةُ والنَّغَم، ويصيرُ أحَدهُما ما نُسَمِّي به الشِّعْر، أو هو دَالُّه الأكْبَر، كما يَحْدُثُ في نَظَرِيَّاتٍ لم تُراجِع خَلَلَها، بل تَمَادَتْ فيه، رَغْم فَرْقٍ الهَواء، نكون شَرَعْنا في تَلمُّس الزُّرْقَة، التي هي جَوْهَر الضَّوْء، وهي ما يُضْفِي عليه إشْراقَهُ، حَتَّى والظُّلْمة تُطْبِقُ على نُورِه، فهي، لن تَكُونَ سِوَى الكَثَافَةِ ذَاتِها، التي بِها يَتدَثَّر الشِّعْر، ليَقُولَ مَا يَعْتَمِلُ في يَدِ الشَّاعِرِ مِنْ رَعَشَاتٍ، هي نفسُها رَعَشَاتُ الجِسْم، بل كُلّ الحَوَاسِّ في تَنادِيهَا وتَناغُمِها.
II
اليَدُ التي تَكْتُبُ، هِيَ اليَدُ التي تُصافِحُ، تُعانِقُ، وهي اليَدُ التي تُلوِّح للقَوَارِبِ العَابِرِةِ إلى المَجْهُولِ. في المَطْهَر، أو «المَحْشَر»، كَمَا سَمَّيْتُهُ في «مَخَالِبِ العَدَمِ [في الذُّبُولِ المُرِيبِ مِنَ الحُلُم]»، حَيْثُ العُبُورُ قَذْفٌ آخَر، بعد القَذْفِ الأوَّل مِن السَّماء إلى الأرض. مَنْ بَقَوْا في المَحْشَر، هُمْ من كَانتْ أيادِيهِمُ مَلِيئَةً بالشِّعْر، غَاصَّةً بخَيَالاته، بموسيقَاهُ، لا تَفْتَأُ تَسْتَحِثُّ المَجَازَ، تَصُونُهُ مِنَ التِّكْرار والاسْتِعادَة، ومن قَوْلِ المَوْجُودِ، تَخْلُقُه، وتُوجِدُه، يكون عِنْدَها انْبِثَاقاً وظُهُوراً، بل تَكَشُّفاً، مِثْلُ الغَسَقِ، تَماماً، فهو ظُلْمَةٌ تُطْبِقُ على الضَّوْءِ، أو تَدْخُلُ فِيهِ، دون أَنْ يَفُقِد الضَّوْءُ تناثُرَهُ في الهَواءِ، لِيعُودَ في غَيْرِ صُورَةِ الشَّمْسِ الَّتِي كَان عَلَيْهَا، قَبْلَ أَنْ يَبْدُو تَلاشَى وانْتَثَر.
الشَّمْسُ التي نَرَاهَا كُلّ يومٍ، لَيْسَتْ هِيَ الشَّمْس نَفْسها. مَنْ يَرَاهَا هَكَذَا، فهو لَمْ يَخْرُج من ماضيهِ، من المَجَازاتِ نفسِهَا، وهي تَأْتِي مِنْ أَصْواتِ المَاضِين، مَن اكْتَفَوْا بالغَسَقِ كَإطْبَاقٍ شَامِل، ما يَأْتِي بَعْدَهُ، لَيْس سوى نفس الإطْبَاقِ، بِحُلَلِ الخيال نفسه.
III
الكِتَابَةُ نَسْجٌ، ثَوْبٌ يَتَخلَّقُ من خُيوطٍ تَتَوَارَى في البِنَاءِ، أعني في النَّسْجِ ذاتِه، بِمِثْل الصَّبْر الذي به تَنْسُجُ العَنَاكِبُ فِخَاخَهَا. تَوَاشُجٌّ، قُوَّتُهُ في هَشَاشَتِهِ، في الانْفِرَاطِ أو التَّلاشِي الذي هو مَنْذُورٌ لَهُ. ما لا يَبْقَى، لأنَّه اسْتِعْدَادٌ للقَادِم، لِما لا يَكْتَمِل وَلا يَنْتَهِي. اكْتِمالُه في نُقْصانِه، في الشُّرُوخ والتَّصَدُّعاتِ التي يُبْقِيهَا على الصَّفْحَةِ، مِثْل مَسْرَح الجريمَة، حَيْثُ يُمْكِن اسْتِشْفَافُ الطَّرِيق إلى النَّصّ، لا الخِطَاب، [1] لأنَّ النَّصّ، هُوَ ما يَنْطَوِي عَلَى بِنَائِهِ، عَلَى رَعَشَاتِ وَتمُوُّجُاتِ يَدِ الشَّاعِر، وهي تَخْلُقُ كَثَافَةَ نَسِيجِهَا، تُعَتِّمُهُ فيما وَسَّعَتْ بِهِ دَوالّ الشِّعْر، وأتَاحَتْ لِحداثَةِ الكِتَابَةِ أَنْ تَسْمَعَ فيمَا هِيَ تُبْصِر، وأَنْ تُبْصِر فيما هِيَ تَسْمَع، لا تخَذَلُهَا ظُلْمَةُ الغَسَقِ، بَلْ تُسْعِفُها في اكْتِشَافِ مَضَائِق البِنَاءِ والنَّسْجِ، ما رَغِبتِ الأصَابِعُ أَن تَتَكَتَّم عليه، لا تُدْلِي بِه، لأنَّ عَيْنَهَا عَلَى قَارئٍ، الصَّفْحَةُ عِنْدَهُ هِيَ المحَكّ، بما فيها من تَفْضِيةٍ وتَوْزِيعاتٍ خَطِّيَّةٍ، وبما فِيها من أرْقَام وَعَناوِينَ، وما فيها من بياضات ونقط وفواصل ورسومات هندسية، أو تَشْظِيةٍ للكلِمَات والجُمَل والحُرُوف..
لا شَيْءَ في يَدِ الشَّاعِر يكون صُدْفَةً، حَتَّى واليَد لا تنْفِي الصُّدْفَةَ أو تُلْغِيهَا إِنْ حَضَرَتْ، فالصُّدَفُ، في وضْع الكِتَابَةِ، هِيَ من مَثَالِبِ الكِتابَة.
اللّغَةُ، لم تَعُدْ وَحْدَهَا ما نَقْرَأُهُ في الصَّفْحَةِ، البَياضُ والصَّمْتُ والحَذْفُ والتأجِيل، كُلُّهَا تدخُل في صَمِيم العَمَلِ الشِّعْرِي، مثل نسيج العنكبوت، دِقَّة حِيَاكَتِه، في الفَراغاتِ التي تُغْرِي باقْتِنَاصِ الطَّرائِد. المُوسِيقَى تَفْعَل نَفْسَ الشَّيْءِ، لَيْسَ العَزْف، وَحْدَهُ، ما نَشْعُر فيه بالمُوسيقَى، لَحَظَاتُ الصَّمْتِ فِيها، تُوقِظُ الجَمَال الكَامِنَ في المُوسِيقَى في نُفُوسِنا. الجِسْم، دَفَقاتُ القَلْبِ وإيقاعُه، هو تَدوالٌ بين الصَّمْتِ والصَّوْت. ضَعْ يَدَكَ عَلَى قَلْبِكَ لِتَتَحَسَّس الشِّعْر: إيقاعاتٌ تختلفُ، باخْتِلافِ حركَةِ أو سُكُون النَّفْس، اطْمِئْنانُها أو هَلَعُهَا، فَرَحُها أو قَلَقُها. ارْفَعُ يَدَكَ عَنْ قَلْبِكَ، لأن دَقَّاتِه في يَدِكَ، وهِيَ تَسْتَدْرِجُ الشِّعْرَ إلى الصَّفْحَةِ، إلى البَيَاضِ، هذا الفَراغ المهيب.
هَكَذَا، نَجَتْ بِي حَداثَةُ الكتابة، من «القَصِيدَة»، من الشَّفَاهَة والصَّوْتِ الواَحِد، من الغِنَائِية التي هِي عُنْصُرٌ من عناصر العمل الشِّعْرِيّ، ولَيْسَتْ هي العمل الشِّعْرِيّ، لأن العَمَل الشِّعْرِي، هو نَفَسٌ أو بِنَاءٌ ملحمِيّ مُركَّبٌ، بِلَّوْرِيّ، بِقَدْرِ ما يتَمَرْأَى في الأشْياء والعَناصر، الأشياء والعَناصِرُ تَتَمَرْأَى فيهِ. العمل الشِّعْرِيّ، هو نفسه ما صَبَا إليه الشُّعراء والكُتَّاب الاسْتِثْنائيون، وما عَمِلُوا على إنْجازِه، من خلال مفهوم «الكِتَاب» أو العمل الشِّعْرِيّ.
«القَصِيدَة» مَطَبّ، مَزْلَقٌ بِتَعْبِير المرئ القيس، فهي تَفْرِضُ شَرْطَها الفِكْرِيّ والجَمَالِيّ، وتَفْرِضُ بِناءَها، وهو بِنَاءٌ، كَمَا كَتَبْتُ أكْثَر من مَرَّة، مَسْكون، آهِلٌ. فمن يَقْبَل أنْ يَسْكُنَ في البَيْتَ المَسْكُون ـ المَأْهُول، ينامُ في فِراشِ غيره، ويأكُل طَعامَ غيره، على مائدَة غيره !!؟
الشِّعْر، عَمَلٌ في العَراءِ، في الخَلاءَاتِ التي ما تَزَالُ لَمْ يَحْدُث فيها وَقْعُ العَابِرِين. تَحْتَاجُ أن نَشْحَذَ مَحارِيثَنَا لِنَقْلِبَ تُرْبَتَها، نَنْزِل إلى مائِها، نُزِيل عَنْها الطَّبَقَات المَيَّتَة التي طَمَرَتْ حَيَاتَها، أو جَعَلَتِ الغَسَقَ، فِيها، يكُون هو الظُّلْمَة، لا الزُّرْقَة الكَامِنَة في يَدِ الشَّاعِر.
IV
اليَدُ، لَيْسَت اللِّسَان. الكِتابَةُ مُقَابِل الشَّفَاهَةِ. انْتِقَالٌ فَرَضَتْهُ طَبِيعَة الفِكْر والخَيَالِ البَشَرِيَّيْنِ، ما جَرَى في هَذَا الفِكْرِ والخَيَالِ مِنْ طفْراتٍ كَبِيرَة، أهَمُّهَا كَان الكِتَابَة، التي بَدَتْ مَلامِحُهَا الأولى في الرَسْمِ والحَفْرِ فِي المَغَاراتِ والكُهُوفِ المُعْتِمَةِ. الرَّسَائل التي كَانَتِ الشُّعُوبُ الأُولى، تَسْعَى مِنْ خِلالِهَا أن تَتَّصِل بِنَا، وَتَصِلَ إلَيْنَا، أن تَقُول لَنَا إنَّهَا تَقَاسَمَتْ مَعَنَا الأَرْضَ، وتَقَاسَمَتْ مَعَنا الوُجُودَ، كَمَنْ يَضَعْ فِي أعَالِي البِحَارِ، رِسَالَةً فِي زُجاجَةٍ، لِيُدْلِيَ بِوُجُودِه عَلَى قَيْدِ الحياةِ.
الخَطّ والرَّمْز واللَّوْن، هِيَ مَظَاهِر لِهَذِه الطّفْراتِ، لِمَا بَلَغَهُ الخيالُ والفِكْرُ البَشَرِيَيْنِ من وُجُود بالمَعْرِفَةِ والإبْداع والعِلْم. ظهرت الكُتُب، وظهَرَت المَكْتَبَات. قَبْلُ كَانَ الطِّينِ المَشْوِيّ حَامِلَ المَعْرِفَة والإبْدَاع. عَبْرَ هَذَا الوَسِيط وَصَلَتْنَا «مَلْحَمة جِلْجَامِش»، وعبرهُ عَرَفْنا بَعْضَ ما كَانَتْ تَجْرِي به حضارات وثقَافات ومعارِف بلاد ما بين الرَّافِدَيْن. ضَوْءٌ أَتَاحَتْه الكِتَابَةُ أو التَّدْوِين، بالأَحْرَى. اللِّسَانُ لَمْ يَكُنْ مُمْكِناً أنْ يَبْلُغَنَا بِمَا أَتَاحَتْه الكِتَابَةُ والخَطّ والرَّمْزُ واللَّوْن، بِما في ذَلِك الكِتَابَة البِكْتُوغْرامِيَة، المَظْهَر الأَوَّل للأثَر. فَالكِتَابَة، بِمَعْنَاهَا الخَطِّيّ، أَثَرٌ.
نقرأُ «مَلْحَمَة جِلْجَامِش»، دُونَ أنْ نَخْتَلِفَ فِي الرِّوَايَة، في تَصَرُّفِ الرُّواةِ، في زَلَّاتِ وعَثَراتِ اللِّسَانِ. ما حَدَثَ فِي الشِّعْر الجاهِلِيّ، وما جَرَى من نِقاشَاتٍ حَوْل مَنْ رَوَى لِمَنْ، مَنْ أَضَافَ ومن حَذَفَ، وهل الذَّاكِرَةُ تَصْمُد أَمامَ التَّلاشِي والنِّسْيَانِ!!؟
الخَطّ والرَّمْز واللَّوْن، هِيَ مَظَاهِر لِهَذِه الطّفْراتِ، لِمَا بَلَغَهُ الخيالُ والفِكْرُ البَشَرِيَيْنِ،الكِتَابَةُ، كَانَتِ الثَّوْرَة الكُبْرَى الحَاسِمَة فِي الوَعْيِ البَشَرِيّ. كُلّ مَكْتَبَاتِ الكَوْن، مُنْذُ ماضي المَكْتَبَة عند الآشُورِيِّين والبابليين والسُّومريِّين، وعند العرب، هِي أثَر الكِتَابَةِ والخَطِّ والتَّدْوِين. ذَاكِرَة لا يمكنُ تَحْرِيفُهَا، ولا يمكن إتْلافُهَا، لأنَّ النَّسْخَ والطِّبَاعَةَ لاحِقاً، كَانا هُمَا ذَاكِرَة اليَد، ذَكِرَة الأثَر المَكْتُوب، نَقْرَأَهُ فِي كُلّ مَكَان، بنَفْسِ العِبَاراتِ، لا زِيَادَةَ ولا نُقْصان. فَضْل اليَدِ على اللِّسَانِ، هُو نَفْسُهُ فَضْلُ الكِتَابَة على الشَّفَاهَةِ. لِمَاذَا، إذَنْ، فِي الثَّقَافَةِ العَرَبِيَّة، وفي الشِّعْر العَرَبِيّ، تحْدِيداً، لَمْ تَتَغيَّر سُلوكَاتِنَا، فِي هذا السِّيَاق، وبَقَيْنَا نَكْتُبُ بِمْعْنَى الخَطِّ أو الرَّسْم والتَّدْوِين، لا بمعْنَى الكِتَابَة الَّتِي قَطَعَتْ مَع «كَلام الله»، بتعْبِر ميرلو بونْتِي، أي مع الشَّفَاهَة واللِّسَان، وَبَقِيَ الصَّوْتُ هُوَ المُهَيْمِن فِي شِعْرِنا، نَكْتُب بِوَعْيِ الإنْشادِ والإلْقَاءِ. واليَدُ، ما إنْ نَنْتَهِي من تَدْوِين الصَّوْتِ، حَتَّى تَصِير بِدونِ جَدْوَى، لَيْسَتْ هِيَ يَدُ الشَّاعِر، لأنَّ يَد الشَّاعِر، هِيَ ما نَقْرَأُهُ عَلَى الوَرَقِ، عَلَى الصَّفْحَةِ، الصَّوْتُ فِيه حَاضِرٌ، لَكِنَّهُ ضَامِرٌ، لَيْسَ ما يَحْكُمُ بِنْيَة النَّص، بَلْ هُوَ ما حَكَم، وما يَحْكُمُ بِنْيَة «القَصِيدَة». القَصِيدَةُ، بِنْيَةٌ شَفَاهِية، الصَّوْتُ فِيها سَيِّدٌ، وَهِيَ في تَسْمِيَتِهَا، تَعْنِي شَطْر العُود إلى شَطْرَيْنِ. تَسْمِيَّة جَاءَتْ من مَاضٍ، لَهُ سِيَاقَاتُهُ الثَّقَافِيَّةُ والجَمَالِيَّةُ، التي لَيسَتْ هِيَ سِيَاقَات زَمَن الكِتَابَة.
V
مَا تَزَالُ يَدُ الشَّاعِر مَشْلُولَة، هِي صَدًى لِلِّسَان، للصَّوْتِ. الشُّعَراء الذين حَرَّرُوا أيَادِيهِمُ من اللِّسَان، من الثقافات المُخْتَلِفَة، حِينَ يَقْرَؤون نُصُوصَهُم، نُدْرِكُ، مُنْذُ الوَهْلَةِ الأولى، أنَّهَا نُصُوصٌ، ولَيْسَتْ خِطَابَات، نِسيجٌ، ولَيْسَتْ لَفْظَاً، بِمَعْنَى لَفَظَ الشَّيْءَ، أَلْقَاهُ فِي الهَوَاء. سَان جون بِيرْس، كان يَرْفُضُ قراءةَ شِعْرِه، لِأنَّ القليل منه الَّذِي قَرَأَهُ، أدْرَكَ فيه سَطْوَةَ اليَدِ عَلَى اللِّسَانِ، فَتوَقَّف عن إنْشَادِ شِعْرِه، لِأَنَّ إنْشَادَ المَكْتُوبِ تَمَحُّلٌ، وجَبْرٌ لِلْيَدِ على الكَلام.
اليَدُ تُقْرَأُ، بِكُلّ التَّعثُّرات التي هِيَ من آثَارِ الكِتَابَةِ، أو ما تَقْصِدُ الكِتَابَةُ إِلَى تَثْبِيتِه، لِأَنَّها لَمْ تَعُدْ غِنَائِيةً، لَمْ تَعُد «قَصِيدَةً». النَّصّ المُركَّب المُتداخِلُ، ذُو الأضْلاع المُترائِيةِ، مُتعدِّد الجِهَاتِ والمَناحِي، ومُتَعَدِّد الأَصْواتِ، أصْداء كثيرة تَجْرِي فِيه، لا يَكُونُ لَغَةً، أو بالأَحْرَى أُسْلوباً واحداً في لُغَتِه، فَهُو النَّثْرُ شَرِبَ الشِّعْر، والشِّعْرُ عَانَقَ النَّثْر. اللُّغَةُ تَعُودُ إِلَى بِداياتِهَا، قَبْل أن يتدخَّل أرسطو ليُصَنِّفَ ويُجَنِّسَ، وقَبْلَ أنْ تَمَزَّقَ اللغَةُ، لِتَصِير لَغَة وتعابير ومُفْردات للشِّعْر، ولغة وتَعَابير ومُفْردات للنثر. جِسْمُ واحِدٌ بِدَمَيْنِ، بِأَيِّ دَمٍ يَحْيا الجِسْمُ، إذن !!؟
VI
أَدونيس، ومَحْمُود دَرْويش، [ليْسَ في نصُوصِه الأخيرة التي كَتَبَهَا قَبْل وَفَاتِه، وَبَيْنَها «أحَد عَشَر كوكباً»]، لَمْ يَخْرُجَا مِن هَيْمَنَة اللِّسَانِ. اليَدُ، عِنْدَهُمَا، لَمْ تَتَحرَّر كُلِّياً مِن الصَّوْتِ، ما سَهَّل عَلَيْهِما الإنْشادَ، بَل الإنْشَاد كَان خَصِيصَةً في تَجْرِبَتَيْهِمَا.
«الكِتَاب ـ أمس المَكان الآن»، لأدونيس، رغْم الهَالَةَ والإدْهَاش الموجُودَيْنِ فِيه، فِي أجْزَائه الثلاثة، من يتأمَّلُه مُتحرِّراً من خُدَعِ التَّفْضِيَّة والتَّوْزِيعات الخَطِّية، والحَواشِي والهوامِش والإحَالات، سَيُدْرِكُ هَيْمَنَةَ الصَّوْتِ فِيه، علَى بَعْضِ مَا جَاء خَارِجَ الصَّوْتِ من مَقَاطِع، هِي إحالات. هَلْ سَنَعْتَبِرُ هَذَا كِتَاباً، بالمَعْنَى الذي ذَهَبَ إِلَيْهِ نُوفالِيس، ومالارْمِيه وفْلوبِير، وحتَّى «كِتَاب الزِّنْجِي»، كَمَا تَخيَّلَهُ رَامْبُو !!؟
إنَّنَا إزَاءَ مُفَارَقَاتٍ عَجِيبَةٍ فِي ثَقَافَتِنَا العَرَبِيَّةِ. ثَقَافَةٌ، العَقْلُ فِيها لَمْ يَنْخَرِطْ فِي الوَعْيِ الكِتَابِيّ، بَقِيَ مُقِيماً فِي ماضِيه، حتَّى وَهُو يَنْتَقِدُ هَذا المَاضي، ويُوهِم بالانْسِلاخِ عَنْهُ، لَكَنَّهُ انْسِلاخٌ فِي الظَّاهِر، الجَوْهَرُ هُوَ سُلْطَةُ اللِّسَانِ علَى اليَد.
مَتَى سَنُحرِّر اليَدَ مِنَ اللِّسَانِ، نُلْغِي العَلاقَةَ العَمُودِية بَيْن اللِّسَان واليَد، الأعْلَى يُمْلِي على الأدْنَى: «اكْتُبْ»، بمعنى سَجِّل ودَوِّن. الكِتَابَةُ، هُنا، هِي إمْلاءٌ، ولَيْسَتْ جَسَداً حَواسُّهُ تَسْتَنْفِر بَعْضَهَا لِتَتَصَادَى وتَتَنَادَى، بِنَوْعٍ من الحلُول والنَّشْوَةِ الصُّوفِيَيْن، لِتَكُون الصَّفْحَةُ فَضاءً، فِيها الزَّمان والمَكَان يَتَجاوَبانِ، في شبَكَةٍ من العَلاقاتِ الَّتِي تُشْبِهُ البِنَاءَ المُركَّب لِنَسِيج العَنْكَبُوت ذاته!!؟
كَيْفَ يُمْكِنُ أنْ نَعِيشَ فِي جَوِّ الاغْتِرَابِ هَذَا: زَمَن الشَّفَاهَة يُلْغِي ويَمْحُو زَمَن الكِتَابَة. الوَعْيُ الشَّفَاهِيّ، هو الوَعْيُ المُنْتَصِر، فِي مُقابِل الوعْي الكِتابِيّ الذي لَمْ نَبْلُغْه شِعْرِياً بعد. ألَيْسَ هَذَا هو التَّعْبِير الصَّحِيح، في ثَقَافَتِنَا، وفي شِعْرِنَا، عن مَعْنَى الوَعْيِ الشَّقِيّ!!؟
VII
هَلْ وَنَحْنُ نَقْرَأُ الشِّعْر، نَنْظُر فِي الصَّفْحَة، فقط، لِنَقْرَأ المَكْتُوب، الحُرُوف، والكَلِمَاتُ، والجُمَل، ونشِيحُ بِبَصَرِنَا عَنِ البَيَاض والرَّسْمِ والفَرَاغِ، مِثْلَمَا كَانَ يَفْعَل بِيرْسْيُوس، في تَفَادِي النَّظَر إلَى مِيدُوزا، حتَّى لا يَتَحَجَّر، ويَصِير غُباراً!!؟ بِمَعْنَى أنَّنَا ما نَزَال تَسْتَغْرِقُنا الأسْطورَةُ، في بعض مَعانِيها، كَمَا مَاضِينَا لا يَنْفَكُّ يُمْسِك بِتَلابِيبِنَا، حَتَّى وَنَحْنُ ندَّعِي الانْفِكَاكَ مِنْهُ
قَلِيلُون الشُّعَراء العَرب الَّذِين انْزَاحُوا وانْحَرَفُوا عَنْ هَذَا الوَعْيِ، مَعْدُودُون على رُؤوس الأصابِع، لَكِنَّ الوَعْيَ الشَّفَاهِيَّ الإنْشَادِيَّ الَّذِي كَرَّسَتْه المُؤسَّسَة، عِنْد القَارِئ، لم يَسْتَطِع اخْتِراقَ هذه التَّجارِب الَّتِي أُسَمِّيها بتجربة الكِتَاب، أو بتجربة حَداثَة الكِتَابَة، التي تَنْتَصِر للنَّصّ النَّسِيج، لِيَدِ الشَّاعِر، اليَد الَّتِي تَكْتُب، لا اليَد التي تَسْمَع وَتَرْسُم اللِّسَان على الوَرَق. العَمَل الشِّعْرِيّ، بهذا المعْنَى، هو الكِتاب في نَصِّيتِه، في بِنَائِه الكِتَابِيّ، بِكُلّ التَّوَسُّعاتِ في الدَّوالِّ الشِّعْرِيَّة، التي صَارَتِ الصَّفْحَة بَيْن أَهَمِّها، ولَمْ تَعُد مُجرَّد حَامِلٍ، فقط.
الوَعْيُ الشَّقِيُّ للشَّاعِر، يُقَابِلُه الوَعْي الشَّقِيّ للقارئ. وَعْيَانِ هُمَا وَاحِدٌ، لأنَّهُمَا جَاءا من نَفْس البِنْيَة، ومن نَفَس النَّسَق الفِكْرِيّ، ومن نَفْس الخَيَال، الَّذى كَان الشَّابِّي، في كتابه «الخَيَال الشِّعْرِيّ عند العرب» انْتَقَدَهُ، واعْتَبَرَهُ خَيَالاً مَادِياً، يَنْقُل ما يَراهُ، لا جَدِيدَ فِيه، لأنه يُحاكِي ويُسَايِر، ولا يخلُق ويَبْتَدِع.
المِنْدِيلُ الَّذِي نُلَوِّحُ بِهِ إلى القَوَارِب العَابِرَة للمَطْهَر، أو المَحْشَر، هُوَ نَفْسُه اليَدُ التي تُجدِّفُ هُناكَ فِي الطَّرَفِ الآخَر من النَّهْر، لا شَيْءَ يتَحرَّك أو يَجْرِي لِوَحْدِه. العَيْنُ الَّتِي تَكْتَفِي بالمِنْدِيل، لَنْ تُدْرِك ما فِي اليَدِ من رَعَشَاتٍ، ورَغَبَةٍ فِي العُبُور. وهذا مأزِقُ العَيْن في علاقَتِها بالقِراءَة، فَهِيَ تَنْقُلُ لِلِّسَانِ الكِلِمَات، ولا تَسْتَحِثُّهَا فِي بِنَائِهَا الشَّبَكِيّ المُعَقَّد. لِلْكَثَافَة عَلاقَة بالبِناء أيضاً، تَجَاهُلُهَا، إخْفَاقٌ فِي بُلوغِ النَّشْوَةِ الشِّعْرِيَّة، في النَّظَر إلى الشِّعْر باعْتِبَاره جَامِع أَنْواع.
VIII
تَجَلِّي الوُجُود في الكَلِمَات، هُوَ ما اسْتَشَفَّه هايدغر في شِعْر هولدرلين، باعتبار هذا النَّوْع من الشِّعْر، إشْراقاً وتَجَلِّياً. بِهَذَا المَعْنَى نُضْفِي عَلَى الشِّعْر طَابَعَهُ الأُنْطُولوجِيّ، في التَّعلُّقِ بالوُجُودِ بِمُقَاوَمَةِ نِسْيَانِه. لِفُوكُو تَعْبِيرهُ، في هذا السِّياق نفسه، لِتَفَادِي هذا النِّسْيان، ما سَمَاهُ بـ «تَذْكِير النِّسْيان».
هَلِ الشِّعْر العَرَبِيّ الرَّاهِن تَذَكَّرَ نِسْيانَهُ، هَلْ قَاوَمَ، حَقّاً، الوُجُود وتعلَّقَ بِه، الوُجُود بالإيجَاد لا بالمَوْجُود. الوُجُودُ الَّذِي يُسَمِّي ما هُوَ، وَمَنْ هُوَ، ما كَانَ ومَا يَكُون، الحُدُوثُ بالصَّيْرُورَةِ سِمَته الجَوْهَرِيَّة، لا الحُدُوثُ بالحَادِثِ والقَائم والمُتاح، هذا لَيْسَ وُجُوداً، بل هُوَ وجود بالمِعْيَار، أو بتعبير هربرت ماركز «لَيْسَ ثَمَّة وُجُود لِمَا يُعَدّ مِعْيَاراً مُلْزِماً وَمُطْلَقاً للِتَّغْيِير».
دَعْكَ مِنْ أنَّكَ تَكْتُب، الكِتَابَةُ مُتَاحَةٌ للجَمِيع. كَثِير عدد مَا يَصْدُرُ من دَوَاوِين، السُّؤالُ الَّذي لا نُذَكِّر بِهِ النِّسْيان، هو، كَيْفَ نَكْتُب، بأي مَعْنَى، وَفْق أيّ رُؤْيا وأي أُفُق، اللّغَةُ التي نَكْتُبُ بِهَا، مَجازاتُهَا، كَيْفَ تتخلَّقُ في بناء العَمَل الشِّعْرِيّ، بأيّ وَعْيٍ جَمَالِيّ، هَلْ نَحْنُ مَنْ نَكْتُبُها، أم هِيَ الَّتِي تَكْتُبُنا. للنِّسْيان، هُنا، دَوْرُه في ما نَعِيشُه من خَدَرٍ، اللُّغَةُ فِيهِ، وفي غَفْلَةٍ مِنَّا، تَسْتَدْعِي تاريخَهَا، وتَسْتَدْعِي ما يُرادِفُهَا، هِي مَنْ تَخْتار ما نَقُولُه، حتَّى ونَحْنُ ندَّعِي مراجَعَتَها، في المُراجَعَة، ما لم نَكُنْ وَعَيْنَا الطَّابَع الأنْطولُوجِيَّ للشِّعْر، بل للكتَابَةِ في عُمُومِهَا، نَسْقُط في مفهوم الانْكِتاب، وتَخْرُج الكِتابَة مِنْ يَدِنا، الكِتَابَة التي هي نَحْنُ، هِيَ دَمُنَا، هِي يَدُنَا، لِنَكُون سَقَطْنا، مِنْ حَيْثُ لا نَعِي، فِي فَخِّ الشِّعْر باعتباره مُدَنَّساً، تُمْلِيه الشَّيَاطِين على الشُّعراء، كَمَا تَمَثَّل ذَلِك ابنُ شُهَيْد الأنْدَلُسِيّ، في ما كَتَبَهُ في «رسالة التَّوَابِع والزَّوَابِع».
IX
كَتَب القَلَفَشَنْدِي، في «صُبْح الأَعْشَى»: «الَيَدُ الَّتِي لَا تَكْتُبُ رِجْل»، لم يكن في نَفْسِ مَعْنَى الكِتَابَةِ كَمَا نَذْهَبُ إلَيْهِ هُنَا، لَكِنَّهُ لَمَّحَ إِلَى دَوْرِ اليَدِ، وَفِعْلِهَا، وما لَهَا من وظِيفَةٍ تَبْطُل وَظِيفَةُ اليَدِ، حِينَ لا تَكْتُبُ، لا تَعْرِفُ أَنْ تَكْتُبَ، فَهِيَ بلا مَعْنَى، بَلْ إنَّهَا قَدْ تَصِيرُ فِي مَكانَةِ الرِّجْل الَّتِي هِي حَامِلٌ فَقَطْ، أدَاةٌ، إذَا شِئْنَا، ووظيفُتُها، رَغْمَ أَهَمِّيَتِهَا هِيَ غير وظيفَة اليَدِ ولا تُشْبِهُهَا فِي شَيْءٍ. فِي الوَضْعِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، وَظِيفَةُ اليَدِ مُضَاعَفَةٌ، فَهِيَ رِجْلٌ، إذا كَانتْ تَكْتَفِي أَنْ تكونَ حاملاً ووَسِيطاً، ولا تَعِي أنَّها هِيَ الحِبْرُ، أي السَّوَاد، وهِي البَيَاضُ والفَراغُ، وهِي الصَّفْحَة في نَسِيجِهَا، وفي طريقَة تَفْضِيَتِهَا، وتَوْزِيع الحروف والكَلِمَاتِ والأسْطُر والمَقَاطِع، وتأْثِيل النَّص بالأرْقَام والعناوين، والهوامش والإحالات. فهي يَدٌ في أكْثَر مِنْ يَدٍ، تَسْهَرُ عَلَى بِنَاءِ العَمَل الشِّعْرِيّ، عَلَى حِيَاكَتِهِ بِمَا تَخْلُقُهُ فِيهِ من غِنًى وثَرَاء في الدَّوالِّ، ما ينْعَكِسُ على كَثَافَةِ العَمَل، أي عَلَى مَدَالِيلِه.
اليَدُ الَّتِي تَبْنِي، تَخْلُقُ، تَبْتَكِرُ وتَبْتَدِعُ، مِثْلُ يَد البُسْتَانِيّ، الأَشْوَاكُ فِي عُرْفِهَا، هِي طَعْمُ الورْدِ، هِيَ ما يَحْمِي الوَرْدَ من الذُّبُولِ والانْهِيارِ، هِيَ جزء حَاسِمٌ فِي انْبِثَاقِ الزَّهْرَة ونُمُوِّهَا. يَدُ البُسْتَانِيّ، تُوَيْجَاتُ الزَّهْرَة عِنْدَهُ، هِي الأشواكُ نَفْسُهَا، هِي الغُصْنُ، بل هِيَ الزَّهْرَةُ فِي مَا تُسْدلُهُ مِنْ ظِلٍّ في الحَقْل أو البُسْتَان. عَيْنُ البُسْتَانِيّ، هِيَ يَدُهُ، لِأنَّ البُسْتَانَ هُو فَضَاءُ خُضْرَةٍ، مثلُ الصَّفْحَة في الكِتابَة، لا تَنْسُجُهُ الطَّبِيعَةُ وَحْدَهَا، يَدُ الشَّاعِر يكون لَهَا دَوْرٌ في الكَشْفِ عَنْ مَوَاطِنِ الدَّهْشَةِ والنَّشْوَةِ والجَمَال.
الأَعْمَى، يَدُهُ، هِيَ يَدُ الشَّاعِر، أيْضاً، هِيَ ما يَقُودُ عَيْنَيْه. يَقْرَأُ بَيَدِه، وَبِيَدِهِ يَتَحَسَّسُ الظُّلْمَةَ، يَرَاهَا، يُحَوِّلُهَا إلَى نُورٍ. يَدُ الأَعْمَى تَسْمَعُ، وتَقْرَأُ، وتَقُودُ، بَلْ تُهْدِي إلَى الطُّرُقِ والمَسَالِك. الشَّاعِر، أعْمَى، لَيْسَ بِمَعْنَى البَصِيرَةِ، التي يُمْكِن أن نُتَرْجِمَها هُنَا بالرُّؤْيَا، بل بمَعْنَى البَصَر، أي أنْ يَكْتَفِيَ بالسَّوادِ دُون غَيْرِه من دَوَالِّ الصَّفْحَةِ، أو مِنْ دَوَالّ الكِتَاب، وكأنَّه يَكْتَفِي بالرُّؤْيَةِ، وتَنْعَدِمُ عِنْدَه الرُّؤيَا، أي الأُفُقُ والزُّرْقَةُ.
هَذَا مَا أَدْلَى بِهِ «صُبْحُ الأَعْشَى»، الظُّلْمَةُ والضَّوْءُ مَعاً، البَيَاضُ والسَّوادُ، هَذِهِ هِيَ اليَدُ الَّتِي تَكْتُبُ، تُدْلِي وَتَدُلُّ، كَمَا تُدَلِّلُ، وتَخْتَلِق دَوَالَّهَا. يَدٌ تَمْسَحُ الغَيْمَ عَنْ عَيْنِ الأَعْشَى، تُرْشِدُهُ إِلَى الشِّعْر فِي كَثْرَتِه وَوَفْرَتِه، خَارِجِ انْحِسَارِ «القَصِيدَةِ»، وامْتِلائِهَا، أو اكْتِظَاظِهَا بالأَحْرَى.
X
عَيْنُ الصَّقْرِ فِي مَخَالِبِهِ، فِي الرُّؤْيَةِ البَعِيدَةِ، فِي الرُّؤْيَا، فِي المَسْحِ الَّذِي يَقُومُ بِهِ للأرَاضِي الَّتِي يَتَعَقَّبُهَا. بِصَبْرٍ يَنْتَظِرُ عَرَاءَ الطَّرِيدَةِ، نَأْيُهَا عَنْ خَبِيئَتِهَا، بِحِنْكَةٍ وتَبَصُّر يَقِيسُ مَا يَفْصِلُ عُلُوَّهُ عَنْ خُلُوِّ الطَّرِيدَة، بِنَفْسِ مَجَازَاتِ الشَّاعِر، بِنَفْسِ إيقَاعَاتِه التي تَتَلوَّنُ بإيقَاعَاتِ الطَّرِيدَةِ، ظُهُورِهَا وكُمُونِهَا، عَدْوِهَا وتَعَثُّرِهَا، جَسَارَتِهَا وتَوَجُّسِهَا. بِقَدْرِ ما الرُّؤْيَةُ تَحْتَدُّ، تَحْتَدُّ المَجَازَات نَفْسُها، وبِقَدْرِ ما تَضْطَرِبُ الطَّرِيدَةُ أو تَضْطَرِمُ، بِقَدْرِ ما الإيقَاعُ والنَّغَمُ والحَرَكَةُ، يَتَشَرَّبُهَا الصَّقْرُ، لتَكُون مَخَالِبُهُ يَقِظَةً، مُشْتَعِلَةً، تَقْتَنِصُ المَجازَاتِ، لِتَجُوزَ مِنَ الرُّؤْيَة، فِي قُصُورِهَا، إلى الرُّؤْيَا في عُبُورِهَا.
XI
ما قَالَهُ أُنْطْوان سعادة عن الفِكْر، يُمْكِنُ أنْ نَقُولَهُ عَنِ الشِّعْر، وهُوَ كَان بِصَدَدِ الحَدِيثِ عَن «الفِكْر المُضْطَرِب» الَّذِي رَآهُ تَلْفِيقاً، وسِجْنَاً فِي أَفْكارٍ هِيَ نَفْسهَا لم يَعُد يَقْدِر أن يَخْرُجَ مِنْهَا، حَتَّى أنَّ «الإنْسَانَ الَّذِي لا يَزَالُ عَلَى سَذَاجَة الفِطْرَة لَهُ شَخْصية واستقلال نفسي وجوهر أعظم من شخص وضع نفسَهُ أدَاةً تَسِيرُ بِأَفْكَار حَقِيقَتِه».
ما نراهُ فِي الشِّعْرِ، حِينَ يَعْتَنِقُ المثال والنَّمَط، وحِينَ يَبْقَى في المَسْبُوقِ والمَعْرُوف من الأشكال لا يَخْرُج عَنْهَا، يُقِيمُ فِيها، فَاقِداً حركَةَ نَفْسِهِ هُوَ، ما يَجِيشُ فِي فِكْرِه من مَجَازَاتٍ. فَحالةُ الاضْطِرابِ الشِّعْرِيّ، هَذِهِ، هِيَ تَأَثُّر دُونَ تَفَكُّر وتَمَلٍّ، وفيهَا «تَنْشَأُ حَالَةُ الفُسَيْفِسَاءُ [التَّرْقِيعُ والتَّرْمِيقُ] الَّتِي تَتَقَارَبُ قِطَعُهَا ولا تَتَّحِد».
هَذَا وَضْعُ «القَصِيدَة»، حتَّى فِي حَداثتها، لَمْ تَخْرُج من البَيْتِ، وَمِنَ القَافِية، ومن الوَزْن، ومن الصَّوْتِ، وَمِنَ الشَّفَاهَةِ واللِّسَان، رَغْمَ كُلّ ما جَرَى فِيها من فُسَيْفِسَاء. الاخْتِراقَاتُ قَلِيلَةٌ، نَسْتَطِيعُ بُلُوغهَا فِي تَجَارِب مَالَتْ إِلَى الكِتَابَةِ، اليَدُ فِيهَا لَمْ تَبْقَ أَسِيرَةَ اللِّسَانِ، تَسْتَجِيبُ لِمَا يُمْلِيه ويَحُثُّ عَلَيْه من أَصْواتٍ. اليَدُ في «القَصِيدَة» رِجْلٌ، هذا هو لَيْلُ الأَعْشَى.
XII
يَدُ الشَّاعِر أثَر. يَدٌ دَهْشَتُها في رَعَشَاتِهَا، تَخُطُّ، كما تَتْرُك خَلْفَهَا الفَراغَات. البَيَاضُ أَثَرٌ من آثارِها، بل دَالٌّ من دَوَالِّهَا. لا تَفَكِّرُ في المَلْءِ، وحَتَّى حِينَ تَمِيل إلى المَلْءِ، فهِيَ تُفْرِغُ، تَسْعَى لإظْهَارِ الفَرَاغ، لأبرازهِ. يَدُ الشَّاعِر لَمْ تَعُدْ كَسِيحَةً، لَم تَعُد رَهِينَة اللِّسَان، تَتَعَقَّبُهُ، تُدَوِّنُ ما يَقُولُه ومَا يُمْلِيه. تحرَّرَتْ، صَارَتْ هِيَ مَنْ تُمْلِي، لم تَبْقَ أدَاةً ووَسِيطاً، في كُلِّ رَعْشَةٍ تَتَخيَّلُ، تَنْسُجُ ثَوْبَهَا، تُحِيكُ خُيُوطَهُ، مثل العَنْكَبُوتِ تَمَاماً.
الشِّعْرُ، هو أثَرُ اليَدِ. الشِّعْر بِكُلِّ دَوالِّهِ، بتوَسُّعاتِه. اللُّغَة في الشِّعْر، هي اسْتِنْفَادٌ لِلُّغَةِ نَفْسِهَا، كُلُّ شَيْءٍ في اللُّغَةِ، شِعْرٌ، دَوْرُ اليَدِ أن تُذِيبَ الكَلِمَاتِ والجُمَلِ والعِبَاراتِ في البِنَاءِ، أعْنِي في الثَّوْبِ، الذي لا يَبْقَى فِيهِ خَيْطٌ هُوَ ما يُسَمَّى به الثَّوْبُ، دون غَيْرِه من الخُيُوطِ. الثَّوْبُ، في الشِّعْر، يُسَمَّى بنسيجِهِ، كَما اللُّغَة، في حداثة الكِتَابَةِ، تُسَمَّى بِشِعْرِيتِهَا، لا بالكلِمَةِ خَارِج هذا النَّسْجِ أو البِنَاءِ.
الشَّاعِر مِعْمَارِيٌّ، كُلُّ بِنَاءٍ عِنْدَهُ حَدَثٌ، خُرُوجٌ من السَّابِقِ، سَعْيٌ لِمَا لَم يُوجَدْ بَعْدُ، لِمَا هو كامِنٌ، لِمَا يَحْتَاجُ أن نَتَقَصَّاهُ، نَذْهَبُ إِلَيْهِ، نَنْزِلُ إلَى قَاعِهِ، نُخْرِجُهُ مِنْ غُفْلِيَتِهِ، نُظْهِرُهُ في خَفَائِهِ، ونُخْفِيهِ في إظْهارِهِ. مِثْلُ عَمَل الإشْراقِيِّين من الصُّوفِية، مَنْ إيمَانُهُم، لِفَرْطِ شَفَافَتِهِ، بَدَا كُفْراً.
لا يَدَ، في حداثَة الكِتابة، تَنُوبُ عَنْ يَدٍ، كُلُّ يَدٍ لَهَا إيقاعاتُها، لَهَا مُوسِيقَاهَا، لَهَا خَفْقُهَا ودَفْقُهَا، وهِيَ يَدٌ تَسْتَفْرِدُ بِلُغَتِهَا، بِسِيمَائِهَا، بعلامَاتِهَا، بِصُوَرِهَا ورُسُومَاتِهَا، بالبَيَاضَاتِ التي تَتْرُكُهَا خَلْفَهَا. ثَمَّةَ «أشْيَاء أُخرى في العَالَم تتكلَّم، مع أنَّ هذه الأشياء لا تكون لُغَةً» هِيَ هَذِهِ اليَدُ، لا تِلْكَ، وَلَنْ تَكُون. بَلْ هِيَ اليَدُ التِي أرْهَفَتْها الكِتَابَةُ، بتعبير نيتشه، وَأَرْهَقَتْهَا الكِتَابَةُ. التَّشَابُهُ، يَأْتِي من الشَّفَاهَةِ واللِّسَانِ، مِمَّا يَسْكُنُ في الأذُن، لا في البَدَنِ.
في حداثة الكِتَابَةِ، الصَّقْرُ يَظْفَرُ بِصَيْدِهِ، بِجِسْمِهِ كاملاً. الجِسْمُ كُلُّهُ، يَذُوبُ في المَخَالِبِ، في اليَدِ، في مجازِ الجِسْمِ هذا، فيما تَخُطُّهُ المَخَالِبُ من آثارٍ عَلَى فَرْوِ الطَّرِيدَةِ. حِدَّةُ البَصَرِ، هِيَ نَفْسُهَا حِدَّةُ المَخَالِبِ، لا فَرْقَ، كِلَاهُمَا يُضِيءُ طَرِيقَ الآخر، ومِنْهُ يَسْتَمِدُّ طَاقَتَهُ، بل دَمَهُ.
XIII
بِهَذَا المَعْنَى، تَكُونُ حداثة الكِتَابَة، هي نَفْسُها زُرْقَةُ الشِّعْر، هِيَ ما يَشُكُّ في ماضِي الشِّعْر، وفي حاضِرِهِ، ما يَرْتَابُ، ما يُذَكِّر النِّسْيان، وما يُبَعْثِرُ المفهوماتِ والتَّسْمِيَاتِ، يُفَكِّكُها، ويُذَكِّر بِمَا تَجُرُّهُ خَلْفَهَا مِنْ غُبَارٍ قَدِيمٍ، كَان يُعْشِي البَصَرَ، يُعْمِيهِ، لا يُحَقِّقُ، ولا يُفَرِّق، يَنْطِقُ بنَفْسِ الاسْم والصِّفَةِ، حَتَّى وَهِيَ غَيْر ما يُرِيدُهُ ويَذْهَبُ إِلَيْهِ.
عند بعض الحَدَاثِيِّين مَمَّنْ كَانُوا فِي قَلْبِ التَّنْظِيراتِ الشِّعْرِيَّةِ المُعاصِرَة، نَجِدُ هَذا التشويش، وَهَذَا الالْتِبَاس، وهَذَا الخَلْطُ في التَّسْمِيَاتِ، دُون مُراقَبَتِهَا، رَغْمَ ما ادَّعَوْهُ مِنْ مُراقَبَةٍ وِمُراجَعَةٌ. هُمْ اتَّهَمُوا القَارئ بـ «الـكَسُول..يَنَامُ فِي حَرِيرِ الأَمْجَادِ والكُشُوفِ المَاضِية..واسْتَرَاحَ مِنْ طَلَبِ المُغَامَرَةِ في المَجْهُول المَصِيرِيّ»، كانَ «حَرِيرُ الأمْجَادِ» فِي لا وَعْيِهِم، في المَاضِي الَّذِي مِنْهُ جَاؤُوا. فَهُم جِيلٌ نَشَأَ فِي مَاضي الثَّقَافَةِ والشِّعْر، إي في «القَصِيدَة»، قَبْلَ أنْ يَنْتَقِدَهَا، وهُوَ يُسَمِّي الحَدَاثَة بِهَا، فِي غَفْلَةٍ من الحَداثَةِ نَفْسِهَا.
لا حَدَاثَةَ، ولا تَنْوِيرَ، ولا مُغَامَرَةَ، ولا إبْدَاعَ، دون الذَّهَابِ إِلَى الأسَاسَاتِ، إِلَى مَا بَقِيَ فِينَا من غُبَارِ المَاضي، ما يَحْجُبُ عَنَّا الرُّؤْيَةَ، يُضَبِّبُهَا ويُغَيِّمُهَا، بَلْ يَجْعَلُهَا فَخّاً، أو شَرَكاً نَسْقُطُ فِيهِ، ظَنّاً مِنَّا أنَّنا تَجاوَزْنَاهُ.
XIV
في روايته «بحثاً عن الزمن المَفْقُود»، يَدُسُّ مارسيل بْرُوستْ، في سرده وما يُراكِمُهُ من صُوَر وأَوْصاف، الكثير من تَصَوُّراتِه عن الشِّعْر وعن الكِتَابَة، وفي هذا السِّياق، عَطْفاً عَلَى مَا سَبَقَ، يقولُ «فَنَحْنُ نَبْتَدِعُ مَا نُسَمِّيهِ». أو، إذا أَعْمَلَنَا القَلْبَ في الصِّيَاغَةِ، فَنَحْنُ مَنْ نُسَمِّي مَا نَبْتَدِعُه.
بهذا المعنى، فنحن نَكْبُر، ونُدْرِكُ الاتِّسَاعَ، بمعنى بْرُوست، بِـ «شَيْءٌ من الكَثَافَةِ والاتِّسَاعِ أُحِسُّ وَكأَنّمَا فِكْرِي يَكْبُرُ». إلى الدَّرَجَةِ التي لَمْ يَسْتَوْعِب معَها كُتَّاب كِبار في فَرَنْسَا أنَّ عَمل بروست هذا رِوايَةً، وحَثُّوا النَّاشِرَ عَلَى رَفْضِهَا. الرِّوايَة عندهم كانت مِعْياراً، وبُرُوست جاء من خارِج المعيار، جاءَ مِمَّا تَصْعُبُ تَسْمِيَته، مِمَا يَتَعَذَّر، ويُبَلْبِلُ القِراءة، يَخْرُجُ بِهَا مِنَ النَّسَقِ إِلَى السِّيَاق، سياقُ الصَّقْر، بِما فِي رؤْيَتِهِ من مَجازاتٍ وتَجَاوُزَاتٍ.
فَـ الفَنُّ، والشِّعْر ضِمْنَهُ، هو «خُطْوَةٌ مِنَ المَعْرُوفِ الظَّاهِر إِلَى المَجْهُول الخَفِيّ». هاااا جبرانُ يُلِحُّ عَلَيْنَا، وهُوَ واحِدٌ من الَّذِين انْقَلَبُوا عَلَى المُتاحِ، ومَالَ إلى ما لا تَلْتَمِسُه العادَةُ، أو يَسْتَقِرُّ في اللِّسَانِ، دون اختبارٍ ومُساءَلَةٍ. المَجْهُولُ، هو ما تأتي منه حداثَةُ الكِتابَة، ومنه يأْتِي الشِّعْر. «القَصِيدة»، هِي المعلوم، هي بناء مَسْكُونٌ، كَمَا أدْرَكَ ذَلِكَ ابن رشيق القيرواني، في كتابه «العُمْدَة».
XV
في حداثة الكِتابة، نحنُ، أمَامَ مُنْعَطَفٍ، لَمْ نَتَبَيَّنْهُ بَعْدُ، تَحْجُبُه عَنَّا النَّمَاذِج والأَمْثِلَة التي اسْتَسْلَمْنا لِنَسَقِيَتِهَا، باعْتِبَارِها الإطارَ أو المَرْجِعَ. لا أتَحدَّثُ عن الشِّعْرِ القَدِيمِ، بَلْ عَنِ الشِّعْرِ المُعاصِر، والشِّعْرِيةِ المُعَاصِرَة. ما لَم نَنْتَبِهْ إِلَى هذَا المُنْعَطَفِ، لَنْ نُدْرِكَ ما يَحْدُثُ في هَذِه الشِّعْرِية من تَوسُّع وتَنوُّعٍ، ومن مِسَاحَاتٍ شَاغِرَةٍ، لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهَا النَّقْدُ والبَحْثُ والقِراءَة.
الشِّعْرِيةُ وَسَّعَتْ أراضِيهَا، نَوَّعَتْهَا، حَدَثَتْ فِيهَا امْتِدَاداتٌ، ولَمْ تَبْقَ أسِيرَةَ الصَّوْت واللِّسَانِ، كَمَا أنَّ اللُّغَةَ فِيهَا، لم تَعُدْ هِي ما يُشَكِّل المَعْنَى، لأنَّهَا لَمْ تَعُدْ هِي الدَّالّ الَّذِي يُوَجِّهُ القِراءَةَ. ثَمَّةَ ما هُوَ صَامِتٌ فِي الصَّفْحَةِ، تَعْمَلُ حداثَةُ الكِتَابة على إظْهَارِهِ، وإخْراجِهِ من غَفْلَتِهِ وَكُمُونِه، والنَّظَر إلِيْهِ كدالٍّ، مِثْلُه مِثْل اللغة، مثل الإشارة والرَّسْم والخَطِّ، لا فَرْقَ، لأنَّ إغْفَالَ الصَّفْحَة، هُوَ إغْفَالٌ لشِعْرِية العَمَل الشِّعْرِيّ، لِحداثَة الكِتَابَة التي تَرَكَتِ «القَصِيدَة» خَلْفَهَا، وسَعَتْ إِلَى المُمْكِنِ، لا الكَائِنِ، إلى ما سَمَّاهُ كَامِيل فِيتَار، في مُقَدِّمَتِه لرسائلِهِ التي تَبَادَلَهَا مع مَارْسِيل بْرُوست بـ «التقنية التي تَمِيلُ إِلَى تَعَدُّد الأقْواسِ [و المَعْقُوفَات] والجُمَل وأَدَوات الرَّبْط، والاسْتِرْجَاع والتَّوْلِيد والفَوَاصِل». ما وَسَّعَ دَوالّ الشِّعْر، وأخْرَجَهَا مِنْ هَيْمَنَة اللُّغَةِ الَّتِي توسَّلْنَاهَا وَحْدَهَا، فيمَا كُتِبَ إلَى اليَوْم بِاسْم الشِّعْر.
فَنَحْنُ أَمَامَ خَيَالٍ هَنْدَسِيّ، مثل «العَقْل الهَنْدَسِيّ». بِنَاءٌ شَبَكِيّ ـ إشْكَالِيّ ـ سَرادِيبِيٌّ، أو خَرائِطِيّ، فَضَاءَاتُه ومِسَاحَاتُهُ، وما فِيهِ مِنْ تَرْكِيبٍ وتَصَادٍ، هُوَ ما يُمَيِّزُهُ عَنْ المِعْمارِ التَّامِّ، الَّذِي لَهُ بَابٌ واحِدٌ، ونوَافِذ تُطِلُّ علَى واجِهَةٍ واحِدَةٍ، من حَيْثُ نَدْخُلُ نَخْرُجُ. هذا هُوَ بِنَاءُ «القَصِيدَةِ»، حَتَّى وَهِيَ تدَّعِي الحَدَاثَةَ، لِأَنَّ الصَّوْتَ فِيهَا ظَلَّ يَسْتَدْعِي صَدَاهُ. المَاضِي فِي الحَاضِر، أو مَاضٍ لا يَفْتَأُ يَحْضُر.
XVI
فِي حداثَة الكِتابَة، لانَكْتُبُ بالحِبْرِ، بل بالأنَامِل، كَمَا يَقُول كَامِيل فِيتَار عن مَخْطُوطات رسائل بْرُوسْت «يَبْدُو كَأَنَّهُ لا يَكْتُب بالرِّيشَةِ بل بالأنَامِل». فالأنَامِلُ لا تَكْتَفِي بالمَكْتُوبِ، للمَحْذُوفِ، والصَّامِتِ، والمَتْرُوك، ما لا نَقُولُه، أو مَا لا يُكْتَب، حُضُورُه في غِيَابِه. غِيابُه ما يُنَبِّهُنَا إلَى وُجُودِه.
يَدُ الشَّاعِر، إذَنْ، لا تَقُولُ، تَكْتُبُ، وكمَا تُظْهِر تُخْفِي، الإثْبَات فيما تكتُبُه نَفْيٌ، والنَّفْيُ عِنْدَهَا إثْباتٌ، وهَذَا ما نَجِدُهُ فِي المُمَارَسَة النَّصّية، أي في العَمَل الشِّعْرِي الَّذي هُوَ نَصُّ ونَسجٌ وحِيَاكَةٌ، ولَيْسَ خِطاباً، أي شَفَاهَة وإلْقَاءً. هذا زَمَنٌ لَهُ سياقَاتُه الشِّعْرِية الجَمَالِية، وَهِيَ غير مفهوم ومعنى الجَمَال كَمَا نَرَاهُ اليَوْم.
حداثَةُ الكِتَابَة، هِيَ الشِّعْرُ بِأَكْثَر مِنْ عَيْنٍ، وأَكْثَر مِنْ يَدٍ، واللِّسَانُ، في وُجُودِهِ، هو أحَد دوالّ النَّصّ، وليس هو النَّص، لأن هَيْمَنَة الصَّوْت عَلَى النَّص، يُحَوِّلُه إلَى خِطَابٍ. ترفض حداثة الكِتابَة قِرَاءة الشِّعْر بِعَيْن السِّيكْلُوب، لِأَنَّ العَيْنَ الوَاحِدَة لا تَسَعُ الجِهَات، فَهِيَ حَالَما يَعْتَرِيهَا قَذًى، تفْقِدُ نَهَارَهَا، وتَغْرَقُ فِي الظُّلْمَةِ، كَما فِي «الأودِيسا»، حِينَ اكْتَشَفَ أودِيىسْيُوس خَلاصَهُ من السِّكْلُوب، بِطَعْنِهِ في عَيْنِهِ الوَاحِدة.
الشِّعْرُ، هُو كُل العُيُونِ، هُو رُؤْياااا، لا رُؤيَة، لِأَنَّ اليَدَ، أو الأنَامِل التي تَكْتُب، هِيَ كُوَى ضَوْءٍ أُخْرَى، هِي نَورٌ آخر، بل هِي عَيْنٌ أُخْرَى، تَرَى ما لا نَراهُ بالعَيْنِ المُجرَّدَةِ.
لا دَاعِيَ، إذَنْ، لِنَحْصُرَ الشِّعرَ في الشَّكْل الواحِدِ، أو الفَهْم الواحِد، أو العَيْنِ الواحِدَة، أو البِنَاءِ الوَاحِد التَّامِّ والمُغْلَق. زَمَنُ الشِّعْرِ، بالفِعْل، هُوَ زَمَنُ الكِتَابَةِ، لا زَمَنَ الشَّفَاهَةِ، زَمَنُ الدَّوالِّ المُتَعَدِّدَةِ، المُتواشِجَةِ، فِي ما سَمَّيْناهُ بالخَيَال الهَنْدَسِيِّ، حَيْثُ عِمَارَةُ الشِّعْر، هِي عِمَارَة بأكثر من بابٍ، وبأكثر من نافِذَة، وأَكْثَر من واجِهَةٍ وأكْثَر من شَمْس، حَيْثُمَا نَظَرْتَ يَكْتَنِفُكَ الضَّوْءُ، كَمَا يَكْتَنِفُكَ الظِّلُّ، وما يَنْعَكِسُ عَلَى زُجَاجِهَا البِلَّوْرِيّ من شُمُوسٍ وأقْمَارٍ. أوْ كَمَا يَقُولُ هولدرلين «وَحَيْثُ يُرْتَقَبُ الخَطَرُ تَزْدَادُ حُظُوظُ الخَلاصِ أَيْضاً».