لماذا نحتاج إلى الفلسفة دوما؟ ولماذا تحتاجنا الفلسفة الآن؟ وما هي الفلسفة التي نحتاج إليها اليوم؟
الفلسفة مثل الغذاء الذي ينمي في جسمنا القدرة على العيش، فنحن نتغذى لنعيش، ولنضمن لجسمنا نموه السليم ونحن نزاول مهامنا الحياتية، ولذلك تعشق نفوسنا ما تجود به الأرض التي ترعانا، من منتجات طبيعية كالخضروات والفواكه، أو الحيوانية كالدواجن والمواشي والأسماك، لنستمتع بأكلها وهضمها والاستعداد ليوم جديد من حياتنا.
إذن نحن نتغذى لنعيش. لكن لماذا نعيش؟ وكيف نعيش؟ وما القيمة الجوهرية لتجربة عيشنا مع العلم أن تجربة عيشنا في العالم مشروطة بالتناهي؟ وما هو دورنا في هذا العالم المعيش؟
هذه الأسئلة /القديمة/ الحديثة هي ما يقظ مضجعنا، ويبعث داخلنا سؤال الرضى بما نعيشه، وبما نريده ونفعله في عالمنا المعيش أي يقودنا نحو فلسفة العيش، فما هي فلسفة العيش إذن؟
إنها تغذية مغايرة لا تستهدف إشباع جسمنا بما هو معطى للطبيعة والجهد الإنساني من أجل البقاء، ولكنها تغذية للعقل بما هو روح ينتمي إلى العالم، إذن فوجودنا لا يتأتى إلا من خلال تغذية تتيح لنا أفق عيش فسيح. والعيش الفسيح هو فضاء الإمكانات الرحب الذي يغري الكينونات الإنسانية باختيار صيغ وجودها، وفي هذا الفضاء تنبعث الحرية لتعانق الكائن الحر وتقوده إلى اكتشاف ذاته من أجل تغذيتها ونمائها. فالذات ككيان أنوي لا يرضى فقط بما يقتات به جسمه فقط وإنما يرضى بما يشبع رغبات جسده الروحية. لأن الذات ليست مجرد بدن ولكنها جسد يعيش من خلال الرغبة المؤسسة لمشروعه المعيش.
يغدو الجسد إذن مشروعا ما دامت الرغبة هي ماهيته الجوهرية (سبينوزا). وفي هذه الرغبة تنبثق روح العالم. ومعنى ذلك أن الروح بما هي وعي العالم اليقظ يتشكل انطلاقا من رغبات الكائنات الإنسانية التي تشترك وتتقاسم نفس الوجود. فروح العالم ليست إلا رغبات الكينونات الجسدية الشخصية أو الخصوصية التي تنتعش في أفق كوني.
ومن ثمة فالروح هي كونية العالم البيجسداني التي عبرها تتجلى الحرية وتتحقق في الأرض.
فما الذي يغذي هذه الروح لتظل منكشفة لوجود الكينونة؟ إذ كانت الروح هي الرغبة ذاتها وقد غدت كونية من خلال وجود بيجسداني يحيا من خلال الرغبات الأنوية المختلفة والمتعددة المتصالحة والمتصارعة، فإن انسجام الروح بما هو كونية العالم الإنساني، يتغدى بواسطة هذه الرغبات الأنوية الجزئية التي يؤسس توافقها واختلافها، تآلفها وتنافرها، انسجامها وتصادمها، تساكنها وتصارعها، لنواة تشكل القوى المتصارعة التي تقود العالم أي التي تصيره فضاء للتحولات الكبرى.
فالروح الكونية هي ما يعبر دائما عن الرغبات المنتصرة العامة، أي هي ما ينتج عن صراع الرغبات بما هي قوى متناحرة تسعى نحو التعين والتحقق داخل الوجود البيإنساني، غير أن هذه الروح الكونية تتسم في تاريخيتها بتجاذب حاد فهي إما أن تظهر كإنسانية كونية تنتعش فيها الذاتية كمشتركة على نحو حر بناء يتقاسم الأدوار من أجل الإسهام في إثراء الروح الإنساني من خلال إشباعه للرغبات الفردية. وإما أن تظهر كاحتواء للإنسانية أي كنسق كلياني يفضي إلى قمع الرغبات والوصاية على الحرية.
إذن يتأرجح روح العالم بين صيغتين للوجود تتسم الأولى بالانفتاح على الوجود البيإنساني المشترك، بينما تتسم الصيغة الأخرى بالانغلاق والتنميط الحاد لشكل الوجود البشري، ومن ثمة يغدو وجودنا داخل العالم رهينا بمدى قدرتنا على التفاعل مع الروح، بما هو تجل للحرية الإنسانية بوصفها انفتاحا يغذي في الكائنات الإنسانية الرغبة في ابتكار العالم.
إذن ما هي الفلسفة التي نحتاجها اليوم لننخرط في هذا العالم المبتكر الذي يعبر عن الروح الكوني الإنساني؟
لن تكون هذه الفلسفة التي نحتاجها اليوم تعبيرا عن نزعة مذهبية نصوغ من خلالها أسلوب تفكيرنا وفق مبادئ صورية قد تقودنا إلى التموقع في نَمْذجة نمطية، أي الوقوع في شرك دوغمائية مذهبية ذات بعد وحيد. لن تكون الفلسفة التي نحتاجها اليوم لتحررنا من الاستسلام للمذهبية العقدية سوى فلسفة للعيش. معنى ذلك أننا ككائنات محايثة مشروطة بوجودها العضوي الحيوي، نتغذى من الطبيعة ومِمَّا يُنتجه عملنا الدؤوب من أجل الحفاظ على وجودها المادي، ومن أجل تنمية كيانها الجسمي. لكننا ككائنات متعالية أي موجودات تحوز وعيا يصيرها متعالية، نغذي الروح بفلسفة عيش توقظ كينونتنا الجسدية، فأن نغذي الروح معناه أن نصير جسدنا حيا يتفاعل مع العالم من خلال تفلسف يوقظ فيه وعيه الخاص بالنمط الذي يختاره لجسديته.
إذن تنبع حياة الجسد وتموقعه الخاص ضمن العالم الزماني- المكاني من روح تتغذى من خلال واقعة الوعي بالجسد، بمجرد ما يعي الكائن أَنَّه جسد يعيش فإنه يتحقق مُتعاليا. والتعالي هنا لا يعني مفارقة الكائن للعالم المعيش، وإنما يعني أنه ليس مجرد كائن غفل يحيا خاضعا للطبيعة أو لنمط الاستحواذ، فالتعالي بهذا المعنى هو كيفية مغايرة للعيش تولد الحرية وتنتج معنى العيش، أي تمنح للجسد قيمة بما هو كينونة يقظة تملك إرادة اختيار كيفية مغايرة للوجود.
إذن فالتعالي هو طريقة وجود من خلال الحرية، هو تخلص من محايثة الضرورة التي نوجد، -باعتبارنا كائنات مادية حيوانية- في حضنها، فالمحايثة تشملنا بوجودها، ووجودنا لا يتم إلا من خلالها.المحايثة هي كلية للوجود ومبدأ لا تناهيه، وفي الكلية واللاتناهي تتجلى الضرورة كمولد للتناهي، والتعدد، والتحول والصيرورة، للحياة والموت. فكل ما هو موجود وجودا متناهيا يخضع لمحايثة الضرورة، أي لقدرية تبعت فيه الحياة، وتصيره قابلا للتحول والنماء. ولكنها في ذات الوقت تصيره فانيا. والفناء ليس عدما بالنسبة للمحايثة، بل هو عدم فقط بالنسبة للموجود. فالمحايثة لا تعرف العدم. فما يحكمها هو اللاتناهي والكلية، أي أنها قدرية الوجود من حيث هو وجود بالضرورة. لكن ثمة مفارقة لحد الآن، أي لحدود هذه اللحظة التي انكشف فيها الإنسان بما هو كذلك لذاته وللعالم الذي ينتمي إليه كفضاء إنساني وليس كفضاء وجودي محض، أي كفضاء لكلية محايثة خالصة. وهذه المفارقة لا تتجلى إلا في الإنسان من حيث هو موجود محايث تشكله الضرورة، ومن حيث هو موجود متعال، أي من حيث هو كائن ينكشف للعالم من خلال الروح. وهذا يعني أن انكشاف العالم بما هو الفضاء المشترك الإنساني هو فضاء للحرية، أي للعيش سويا.
يمكننا أن نقابل هنا بين المحايثة باعتبارها خاصية الوجود الفيزيقي، وما بين التعالي باعتباره خاصية العالم الميتافيزيقي، ولكن المراد هنا بالعالم الميتافيزيقي ليس عالما مفارقا لوجوده الفيزيقي، أو عالما يوجد خارج الزمان والمكان، ولكنه العالم الإنساني ذاته / العالم الزماني المكاني الذي يتعالى عن المحايثة من خلال الوعي اليقظ، ومن خلال الروح الذي تقوده الحرية. فيكون العالم الميتافيزيقي هو عالم الحرية، ونكون إزاء ميتافيزيقا مضادة، تحرر بشكل مزدوج الإنسان من المحايثة العمياء، أي من فيزيقا الضرورة ومن الخضوع لميتافيزيقا غيبية تفصل الكائن عن عالمه الإنساني والطبيعي، كما تفصله عن زمانيته وعن جسديته. (الوعي بالعدم يصير التعالي ممكنا، ومن ثمة فالانسان كائن متعال لانه يعي موته الخاص، فما لا يموت ليس متعاليا وانما هو محايث، والانسان يموت وحده لانه يعي انه كائن فان. ومن ثمة يمكننا بطريقة استعارية أن نقول إن الحيوان لا يموت حتى وان كان يفنى بالفعل، لانه لا يعي موته).
إذن ما نعنيه بالميتافيزيقا ليس سوى نمط من التفكير في بَعْديه / ميتافيزيقا مغايرة تسمح بانكشاف الوجود الحر في العالم، وبذلك فليست الميتافيزيقا هي الماوراء المفارق للطبيعة ولكنها هي تفكير في المابعد المساوق للطبيعة. أو هي بالأحرى تفكير في الطبيعة الإنسانية ذاتها من حيث هي كينونة حرة في العالم اللامباشر الإنساني المساوق لعالم الطبيعة المباشر. وكلا العالمين ينتميان إلى كلية الوجود. ومادام الأمر متعلقا بالإنسان الذي يقتطع لذاته عالما من سطح المحايثة، فينفصل عن الطبيعة أو المباشرية العمياء عبر توسط الوعي بما هو توسط بيذاتي مشترك، فإن الما بعدية تعني التفكير في الإنسان من حيث هو كينونة ميتافيزيقية تتعالى من خلال الوعي أو الروح لتغذية وجودها الحر. تغدو الميتافيزيقا من هذا المنظور تجربة الوعي من حيث هي تجربة ذاتية أو من حيث هي يقظة الوعي بالذات، وتجربة الروح من حيث هي تجربة بيذاتية مغدية لروح العالم البيإنساني.
– أعني بتجربة الوعي تحقق الجسد بما هو كيان مستقل بذاته، أي بما هو رغبة حرة تؤسس لاختياراتها الخاصة بوصفها روحا فردية واعية بما يستطيع الجسد تحقيقه من خلال الفعل الباني والمبتكر لفن العيش. وأعني بتجربة الروح التحقق العيني للوجود البيجسداني من حيث هو واقعة كونية مؤسسة لفضاء حر تشترك فيه الذوات الإنسانية التي تتقاسم مجتمعة تجاربها الإنسانية البانية لفن التَّعايش.
إذن نحن إزاء تجربة الوعي التي تقود إلى فن العيش من جهة، وإزاء تجربة الروح التي تقود إلى تجربة التعايش، أي أننا إزاء تجربة الجسد الفردي الخاص وإزاء تجربة الوجود الجسدي المتعدد.
تكتسب تجربة الجسد بعدا جوانيا من حيث انكشافه لوعي بالذات يؤكدها كرغبة حرة، وبعدا برانيا من حيث هي شكل ظهورية الجسد الرائي / المرئي في العالم الخارجي. ومعنى ذلك أن ما ينكشف كبعد جواني لوعي الجسد، ينعكس على البعد البراني، أو على شكل الظهورية بما هو عرض تجربة الذات إزاء الغير. فأنا أعيش تجربة وعيي كتجربة جوانية، ولكن بما أنني جسد أوجد في عالم أتساكن فيه مع أجساد أخرى فأنا وإن كنت أعيش تجربة العزلة لست قط منعزلا، فهذه التجربة تتخذ لها شكل ظهورية خاصة، وبذلك فهي تلتقي بتجارب الآخرين وتشاركهم العالم، باعتباره فضاء مفتوحا على أشكال الظهور. فنحن ذوات من حيت وعينا بذواتنا، ولكننا عوالم من حيث شكل الظهور الذي يتخذه جسدنا، وبما أننا عوالم مستقلة ولكنها غير منعزلة تظل في حاجة للغير الذي يجعل تجربة العيش ممكنة، فإننا نؤسس مجتمعين للعالم بما هو صيغة للوجود البيجسداني، أي الوجود بالتعايش.
يمكن أن نمثل لوضعي التعايش الإنساني /الجسدي، بمباراة من مباريات كرة القدم الأكثر شعبية والأكثر دلالة على ما يجري في الحقل الإنساني داخل العالم. ثمة فريقين متنافسين في العالم الكروي، وكل فريق يتشكل من عناصر فردية تحاول أن تظهر تجاربها ومهارتها وابتكاريتها الخاصة، لكن كلا منها يعبر عن استراتيجية مدرب هو بمثابة العقل المدبر الحكيم، وثمة حكام يسهرون على قانون اللعب، وهناك جماهير مشجعة للفريقين. والكل يجري داخل الملعب بوصفه عالما مشتركا تسوده روح رياضية تحافظ على جمالية اللعب التنافسي الحاد، فتعلي من قيم الانتصار لكنها في ذات الآن تكبح العنف من خلال قيمة الاعتراف والتسامح. ويبدو أن الإنسان من حيث هو جسد فردي، هو كاللاعب الفردي الذي تم اختياره ضمن فريق يُمارس تجربة وعيه الخاص باعتبارها تجربة عيش داخل الأفق الذاتي، تجربة تستند إلى فكرة العقل المدبر أي استراتيجية المدرب وحكمته. ولتكون هذه التجربة مؤثرة، فلابد من أن تكون تجربة مؤسسة لابتكار فن خاص للوجود، إنه الابتكار الذي تولده الرغبة التي لا ترضى إلا بما يحقق لها متعة خاصة، ولذة لا تضاهى، لا لأنها لا متناهية، ولكن لكونها فريدة ومحدودة وعابرة أيضا. واجتماع المتعة واللذة عبر توسط الرغبة هو نمط للسعادة. أليس اللاعب الماهر هو ذاك الذي يستمتع ويمتع بإبداعيته المبتكرة لفن اللعب؟ أليست الأهداف التي يسجلها بأسلوبه الخاص المبتكر قمة الانتشاء والغبطة واللذة؟
وما يحققه اللاعب الفنان لا يقتصر على ذاته فقط فهو يمتع الفريق والجماهير ويجعلها تنتشي بلذة الفرجة.
فما ينفرج أي يفيض عن المتعة واللذة يشيع السعادة، ومن ثم تكون السعادة معدية، كما هو البؤس معد أيضا، والانفراج هو حالة برانية نتقاسمها في فضاء العيش بكيفية جوانية.
أما ما نعيشه على نحو خاص كعلل تأسيسية لا يقتصر على تجربة عيشنا الخاصة، وإنما ينتشر من خلال الروح الكونية ليشمل الوجود البيإنساني بلحظات سعادة لا تضاهى، ومن ثم نفهم لماذا تخرج جماهيرنا الغفيرة إلى الشوارع محتفية بلذة الانتصار، تلك طريقة فريدة في التعايش المنفرج الذي يتقاسم السعادة ضدا على كل أنواع البؤس المادي والمعنوي أيضا. نفس الأسلوب يتكرر مع لحظة فوز في الاستحقاقات الديمقراطية التي يعيشها العالم الديمقراطي الحر.
ثمة علاقة إذن بين الجسد الخاص والوجود البيجسداني والعالم بما هو فضاء ديمقراطي حر.
فالديمقراطية هي شرط تحقق الجسد الخاص من جهة وتحقق الوجود البيجسداني من جهة أخرى. فأنا لا أغدو جسدا حقا إلا من خلال عالم ديمقراطي، ففي عالم آخر كلياني أو عشائري أو عقائدي أو ما شابهه من أنظمة استبدادية لا أوجد على نحو الجسد، وإنما أنا مشمول بقاعدة وجود تكبح جسدي، فلا أصير إلا كائنا غفلا، أو كائنا ناقص الجسدية لأني حتى وإن كنت واعيا بحريتي وقادرا على الإبداع إلا أنني أظل مقهورا لا أستطيع أن أتعالى من خلال جسدي لأعيش حقا على نحو أرغب فيه، وليس على نحو ما ترغبه البنية المهيمنة لجسدي، وبالتالي فإما أن أكون منافقا مادحا لنمط الوجود القهري، معيدا إنتاج ثقافة الطاعة والنفاق الاجتماعي، أو منبوذا مغضوبا عليه. ومن ثمة فأنا لست جسدا أعيش، لست سوى وسيلة تغدي بنية الطغيان. وليس الطغيان سوى القوة المضادة للجسد ورغباته وكينونته الحرة. وبما أنني لا أوجد كجسد في هذه البنية، فليس ثمة قط وجود بيجسداني، مادام أن هذا الوجود ضامر لا يعيش حالة الانفراج بل يعيش تحت سلطة تحدد مصيره وترسم له طريقة للعيش ليس بها تعايش أو تقاسم. فلا يظهر الوجود البيجسداني إلا إذا غدا بانيا فضاءه المشترك من خلال انخراطه الحر في تنظيمات تتنافس رغم اختلافاتها في التعبير عن الإرادة المشتركة من أجل بناء عالم الصلاحية. والإرادة المشتركة ليس أساسها الإجماع، وإنما الاختلاف الذي يبرز القوى القادرة على الإسهام في بناء التاريخ. ذلك لأن الإجماع لم يكن إلاَّ وسيلة قهرية للإخضاع ولإعادة إنتاج العبودية. فهو قدرية جمعوية عمياء، وليس روحا كونية حرة. ومن ثمة فالإجماع محايثة اجتماعية ثقافية تقوم بديلا للمحايثة الطبيعية.
وإذا كان الاختلاف مؤسسا للجسد الإنساني الواعي برغبته وإمكانياته على تصريف حريته داخل العالم البيجسداني أي داخل فضاء الغيرية، فإن الإجماع كان دوما عاملا من عوامل ضمور الجسد وتلاشيه داخل عالم الجماعة أي داخل فضاء البدنية الغفلية. ذلك لأن الفرق بين البدن والجسد إنما يقوم على كون الأول لا يمتلك حرية تصريف جسديته، ومن ثم يظل بدنا، أو بالأحرى جسدا ضامرا، بينما الجسد هو من يمتلك اختلافه الذي يقوده نحو التمتع بكيفية خاصة وإبداعية للوجود في العالم البَيجسداني. ومن ثمة فما نسميه جسدا هو ذلك الوجود الخاص القابل للانفراج.
ثمة فرق آخر بين العالم البيداني (نسبة إلى البدن) وبين العالم البيجسداني ويَتَمثل في كون الأول مفصولا عن الاختيار الحر أي عن الإرادة، بينما نقصد بالعالم البيجسداني ذلك العالم الذي تَشْتَرِك فيه أجساد حرة قادرة على صوغ اختياراتِها. ومن ثمة فالعالم البَيداني المُشيَّأ عالم لا يريد، ما دام هو مأوى الإجماع الاستبدادي المؤسس للعنف، بينما تمكن خاصية العالم البيجسداني في كونه عالما يريد مادام هو مأوى كل تجربة عيش ديمقراطية حرة.
نتحدث عن العالم البيجسداني باعتباره العالم الكوني المتجانس وليس المتطابق أو المتماثل، والذي يظهر كتجل لروح الإنسانية التي تشمل كل جسد إنساني بالحق في الحياة، وتمكنه في ذات الوقت من المواطنة الكاملة داخل العالم الإنساني. أي الانتماء إلى مواطني العالم الكوني. (التجانس تأكيد للاختلاف، بينما التنافر تأكيد للتطابق، ما يختلف يتجانس، أما ما يتطابق فيتنافر. في التجانس إثبات للمتمايزات وفي التنافر إنكار لها. التجانس اتحاد أما التنافر فهو وحدة. الفرق بين التجانس والتنافر هو أن التجانس تعايش من خلال الاختلاف، بيد أن التنافر هو إخضاع المختلف إلى نمط وحدة محايثة لا تعترف بالمتمايزات. ومن ثمة فالدولة الديمقراطية متجانسة لأنها تتعايش من خلال التقاسم ولعب الأدوار بينما الدولة الاستبدادية دولة متنافرة لأنها تخضع جميع المتمايزات إلى وحدة، ينصهر فيها الكل لخدمة نمط كليالي ذي بعد وحيد.
ليست الفلسفة التي نحتاجها اليوم سوى فلسفة تغذي وعينا بما هو كوني أي بما هو إنساني فينا، في نفس الوقت الذي تغذي فيه انتماءنا إلى الأرض التي نتعذى منها لنعيش. ذلك لأن التفلسف ارتباط حقيقي بالأرض وبالإنسان. كما هو ارتباط بالوجود الذي يعلمنا كيفية الإصغاء، ويولد داخلنا طاقة هائلة لا متناهية من أجل إيجاد أجوبة لمشكلاتنا الجوهرية، ومن أجل إبداع صيغ مغايرة للحياة الإنسانية. لكن أية إجابة ليست هي الصيغة الأخيرة لوضعنا، فليس هدفه بناء المعرفة المطابقة للحقيقة، وإنما الكشف عن طريق الحقيقة الذي يقودنا نحو مغامرات متجددة باتجاه المجهول.
عبد العزيز بومسهولي
باحث ومفكر من المغرب