شاعر وكاتب من المغرب
«لا ثورة بدون انشراح، ولا مقاومة بدون استمتاع»، هذا هو الشعار الثابت لدى الفيلسوف الفرنسي «ميشيل أونفري» المعروف بفيلسوف المتعة.
في كتاباته نشتم رائحة الحرائق العظمى، ونرى جثت المفكرين المكرسين وقد تفحمت من فرط المساءلة والاستنكار. لا يهادن ولا يؤمن بالحلول الوسطى. ومن رؤاه ينبع العصيان والتمرد في أبهى صوره. يصفونه بنعوت كثيرة: مستكشف المعدات الفلسفية والدواخل البركانية – عاشق الفن والأطعمة اللذيذة – متذوق الجمال المرهف – النيتشوي المنشق – عالم الأخلاق النفور من التزمت الأخلاقي… أما هو فإنه يشبه الفلاسفة بالمتاريس المنيعة. من مؤلفاته: «جورج بالانط، دراسة حول نيتشوي من اليسار» – «بطن الفلاسفة، نقد العقل الحميي» – «مذاهب كلبية، بورتريه فيلسوف في هيئة كلب، فن الاستمتاع، من أجل مادية متعوية»– «العين المترحلة، رسوم جاك باسكييه»– «نحت الذات، الأخلاقيات الجمالية»– «آرس مورييندي، مئة لوحة صغيرة حول محاسن الموت ومساوئه»– «العقل الشره، فلسفة الذوق»– «ميتافيزيقا الخرائب، رسوم مونسي ديزيدريو»– «الرغبة في التحول إلى بركان، يوميات متعوية» – «أشكال الزمن، نظرية الخمور السوترنية» – «سياسة التمرد»…
هنا بعض من تأملاته الشهية:
حواس غير كافية:
أنا كاتب حسي، كلاسيكي وميال إلى الإيجاز في نفس الوقت. وأعتقد أن حواسنا الخمس غير كافية. ومع ذلك ينبغي الاحتفاء بها من خلال الموسيقى والرسم والذواقة. وأنا دائم التساؤل حول علاقة الجسد بما هو اجتماعي وعلاقته بالمرض وبالعالم. ويبدو لي أنه من واجبنا أن نتصدى للواقع من وجهة نظر حسية ومتعوية ومادية،وإبيقورية بالمعنى الإغريقي للكلمة.
استباق المأساة:
لقد كنت دوما منشغلا بنيتشوية اليسار، إذ أن ثمة نصوصا لنيتشه يستشف منها نقده للرأسمالية والدولة والمسيحية. ونيتشوية اليسار تعنيني باعتبارها مناسبة لتجاوز نيتشه والتفكير انطلاقا منه. لأن نيتشه نفسه يقول إن المعلم الجيد هو الذي يعلم تلامذته كيف يتخلصون منه. ومذهب المتعة الذي أطرحه مناهض لنيتشه إلى أبعد حد. فهو في بعض نصوصه يعتبر المتعوية عارضا من أعراض الانحطاط أو العدمية. لكن إذا كان المرء «حيويا» أمكنه أن يكون نيتشويا ومتعويا. وأنا من جانبي أؤمن بأن لدينا طاقة في حاجة إلى نحت وتشكيل. والبحث عن المتعة هو فرصة للاحتفاء بالقوة التي تلازمنا وتجعلنا على نحن عليه من منظور تراجيدي. بحكم أن النيتشوية التي اقرأ والمتعوية التي أطرح كلاهما تفترضان رؤيا مأساوية للعالم: الموت أمر محتم. والمتع البسيطة هي التي تساعدنا على مواجهة القدر. ينبغي إذن استباق المأساة وتحملها، والعيش رغم حتمية الموت.
الحضارة عدوة الجسد:
الاعتقال يعني إنكار الحق في الحياة، انتصار ثانطوس (إله النوم) على إيروس (إله الحب)، ومبدأ الواقع على مبدأ اللذة. وفي هذا الحقد الجارف على الجسد يكمن جوهر الحضارة، فهي تكره الجسد. ولأن الجسد طاقة ومجموعة من الرغبات والقدرات والحيويات فإن المجتمع يحاول احتواءه. والحياة كما تبدو لي هي جملة من القوى التي تقاوم الموت، كما أن الحيوية التي أدافع عنها هي مذهب فلسفي يأخذ بعين الاعتبار، وبشكل ايجابي، هذه القدرات التي تتيح لنا مقاومة الموت. إلا أنني لا أرى بأننا ملزمون بالانتقال من المذهب الحيوي إلى المذهب البيولوجي ومنه إلى العنصرية، بحكم أني أعتنق رؤيا فردية للعالم وأعتقد أن العالم يتشكل من أفراد لا من طوائف وقوميات وأعراق، هذه أمور ثانوية، مجرد طوارئ. فأن يكون الناس يهودا أو سودا، نساء أو شبابا، أمر لا يعنيني في شيء. لأنهم جميعهم يتوفرون على نفس القدرات التي ينبغي استثمارها، بنفس الطريقة، مهما اختلفت الحضارات.
امتلاك الوجود:
ثمة تعارض كبير بين المتعوية الفلسفية والمتعوية المبتذلة. هذه الأخيرة تعني الاستهلاك، والاندماج في مجتمع الاستهلاك يعني امتلاك منزل وسيارة وقضاء عطلة مريحة والقدرة الشرائية والمال، وهذا بالطبع ما لا أهتم به، فالمتعوية التي أتبناها لا علاقة لها بكل ذلك على الإطلاق. أنا أرفض فكرة الارتهان بالعمل من أجل كسب المال. والمتعوية التي أطرحها ترتبط بالوجود عوض الكسب وبالعالم عوض السلطة، ومنطقها يقتضي الجودة في العمل مقابل الزيادة في ساعات العمل، وتقاضي أجر أكثر، والتقاعد في سن مبكرة، وإخراج الأطفال من المناجم لإرسالهم إلى المدارس بهدف التعلم والتأدب، وذلك وفقا لمبدأ اللذة وإعادة تملك الوجود.
موقف شخصي من الذات:
لا يتمثل التأنق في إحكام عقد ربطة العنق وتدخين السيجار باهظ الثمن، بل هو فن « المحافظة على التفرد وسط الجموع » بتعبير نيتشه، أو فن « الاستمتاع المطلق بالرفض » كما يقول بودلير. وبالتالي فإن التأنق لا علاقة له بتاتا بالقدرة الشرائية أو التميز الاجتماعي، بقدر ما يتجلى في قدرة الفرد على أن يرتضي بحاله رغم كل شيء. فالعديد من الصعاليك هم أقرب إلى التأنق من بعض الأثرياء الذين يستنسخون التأنق بشكل مثير للضحك. وأنا نفسي عشت تجربة التأنق فيما مضى، إذ رغم فقري فقد كانت لي علاقة بالعالم شبيهة بما هي عليه اليوم. ولم تكن لتأنقي أية صلة بالسيارات الفاخرة ولا بأجود الخمور، فقد كنت أستمتع بوقتي وطاقتي وحيويتي وجسدي على نحو معين.
بإمكاننا أن نكون متعويين ومتأنقين ضدا على ترهل العالم، أن نجابه هذه الحضارة المائجة والمتقلبة بعنادنا الصلب، أن نحافظ، في أقسى لحظات الحرمان، على تلك الكرامة التي تجعل من التأنق موقفا ذاتيا ضد الذات.
الثقافة أسمى من الطبيعة:
يعتقد البعض أن المتعوية فلسفة استرخاء واستسلام، وهذا خطأ. فهي على النقيض من دلك فلسفة توتر وحيوية وانتباه، أقرب ما تكون إلى الزهد والتنسك، كما عاشهما الكلبيون، ولذلك أتساءل: كيف يمكن للمرء أن يكون كلبيا، بالمعنى الإغريقي والفلسفي للكلمة، في الوقت الحاضر ؟ فهدا الوعي الذي يتيح له أن يقاوم، وهدا العمل الدؤوب الذي تباشره الثقافة على الطبيعة وضدها، لهما صلة بالزهد والتأنق: ذلك أن كره الطبيعة هو أيضا مبدأ من مبادئ التأنق.
لست عدوا للطبيعة، غير أني أعتقد بأن الثقافة أسمى من الطبيعة، وأن العمل الثقافي يكمن في إضفاء شكل ما على الطبيعة، وبهذا المعنى فإن التأنق مطالب بالكثير في وقتنا الراهن.
زلازل الواقع:
خلال انتفاضة مايو 68، لم أكن خلف المتاريس، كان عمري آنذاك تسع سنوات. إلا أنني أعرف بأن حياتي قد تغيرت منذ ذلك الحين، لسبب بسيط هو أن المعلمين الذين درسوني وكذا أبوي قد عاشوا جميعهم هذه المرحلة وكانوا مناوئين للعقيدة القدوسية للسلطة. لقد كانت تجربة ماي 68، بالنسبة للرجال، مناسبة للتحدث إلى النساء بطريقة مغايرة، وبالنسبة للنساء فرصة سانحة لمطالبة الرجال بأن يحدثوهن بلهجة مغايرة. نفس ذلك يصدق على العمال في علاقتهم بأرباب العمل، وعلى التلاميذ في علاقتهم بمدرسيهم. وما زالت آثار ماي 68 السلبية أو الإيجابية سارية إلى اليوم. ولنا أن نتصور مثل هذا النوع من الزلازل الواقعية التي تقع في حضارة ما وفي حقبة معينة فتدفع الناس إلى إعادة النظر والتفكير في العديد من المقولات والمفاهيم، وبالتالي الإقبال على الحياة اليومية بمنظورات جديدة.
نزعات إنسانية شتى:
إذا ما انطلقنا من التصور الذي تتبناه كل نزعة إنسانية عن الإنسان، تأكد لنا بأنه ليست هناك نزعة إنسانية واحدة، بل نزعات كثيرة: هناك النزعة النازية والنزعة الفاشية والنزعة البولشفية…الخ. وحين انتقدت النزعة الكلاسيكية قيل إني أنا بدوري أطرح نزعة إنسانية من طراز خاص، وهذا صحيح إلى حد ما فأنا أرى أن النزعات الإنسانية لا تتشابه في ما بينها، مثلها في ذلك مثل النزعات المتعوية. والنزعة الإنسانية التي أهاجمها هي تلك التي تستوجب إعادة تأهيل المسيحية من خلال الصيغ الكانطية والمثالية، وأنا أصارعها باسم نزعة إنسانية أخرى مادية ومتعوية وواحدية، مناقضة للنزعة السائدة في وقتنا الحاضر، وسأمضي بعيدا في مكافحة النزعة الإنسانية النازية المزعومة بكل تجلياتها.
لن أواعد أحدا:
أود أن يقرأ الناس ما أكتب فيشعروا بأنهم معنيون وساخطون وقلقون ومغلوبون على أمرهم، وأن يصدر عنهم رد فعل، وأن يتمكنوا من اعتبار بعض أفكاري قابلة للتبني والتطبيق. وسأكون أسعد الناس إذا ما كان لهذه الأفكار أثر في الواقع. فقد كان «غراك» يدعو الكتاب إلى التسلح بالشجاعة التي تؤهلهم لضرب موعد صباحي مع قرائهم الأوفياء في ساحة لاكونكورد. من يدري كم سيكون عددهم: واحدا، اثنين، ثلاثة، عشرين، مائة ؟…
أعتقد أننا نكتب بغاية تحقيق قرابة معينة مع القراء، كي نحظى بصداقة بضعة عشرات من الأشخاص الذين يتعاطفون معنا في صمت وسرية. بيد أني لن أضرب موعدا مع أي كان في ساحة لاكونكورد.