لم يجامل، ولم يتب عن الحرّيّة، ولم يقتصر تحرّره على التّمارين النظريّة والمنهجيّة. ثلاث أدوات جزم («لم») ألخّص بها السّمات التي أراها في الأستاذ صادق جلال العظم، كما قرأت له، ثمّ كما التقيت به في إطار «رابطة العقلانيّين العرب»، أو غير ذلك. وقد تعمّدت هذا النّفي، وهذا الوصف السّلبيّ لأنّني لا أدّعي في مساحة هذه الشّهادة أيّ نوع من الاستيعاب أو الإحاطة.
أنتمي إلى جيل قرأ «في نقد الفكر الدّينيّ»، ولهج بذكر ما جاء فيه عن تمرّد إبليس ومأساته، كما قرأ «الثّالوث المحرّم» لبو علي ياسين. كان هناك طلبة إسلاميّون لهم مراجع أخرى، بطبيعة الحال. ولكن أظنّ أنّ الكتابين المذكورين كانا ضروريّين في زاد الطّالب «المثقّف» أو المسيّس آنذاك، أضيف إليهما بعض نصوص العفيف الأخضر، وبعض الأدبيّات الماركسيّة أو نصوص «مبدعي الأوضاع» أحيانا. وأقصد بالطّالب المثقّف من «يحلّل ويناقش»، ويأخذ الكلمة في مكان شبه عموميّ هو ساحة الجامعة.
لكنّ الجامعة فضاء يبقى مخمليّا ومحميّا بهامشيّته السّياسيّة من «معترك» الحياة والسّياسة. فداخل الجامعة لم نكد نشعر بالمدّ الأصوليّ الجارف الذي جاء بحلول الثّمانينات. أحرقت «ألف ليلة وليلة» في القاهرة سنة 1985، ونشطت الرّقابة الأزهريّة نشاطا لا مثيل له، وظهر بالسعوديّة كتاب يكفّر كلّ المفكّرين العرب، أحياء وأمواتا، مسلمين ونصارى. ثمّ انفجرت قضيّة «الآيات الشّيطانيّة» وما حفّ بها من مجازر استهدفت النّاشرين والمترجمين. وجاءت التّسعينات بمقتل فرج فودة، وطعن نجيب محفوظ، وتحوّلت الجزائر إلى مقبرة كبرى للكتّاب والمبدعين.
تزامن دخولي الجامعة مع أزمة «الآيات الشّيطانيّة». وأذكر أنّني عدت بخفّي حنين عندما أخذت أجمع تواقيع الجامعيّين سنة 1989 على بيان يساند سلمان رشدي ضدّ الفتوى الخمينيّة التي تهدر دمه. وأذكر خيبتي من عدد كبير من المفكّرين ظننتهم بعيدين عن الخوف الغوغائيّ على الهويّة وعلى ضياع الأصل. ولم يخب ظنّي في ناقد «بؤس الفكر الدّينيّ». فقد كان من المائة الذين ساهموا في كتاب «مع رشدي» وقد صدر بالفرنسيّة سنة 1993. ثمّ قرأت له بعد ذلك بالعربيّة عن «ذهنيّة التّحريم: سلمان رشدي وحقيقة الأدب»، و«ما بعد ذهنيّة التّحريم».
صمد صاحب «نقد الفكر الدّينيّ» أمام شيوخ التّكفير وآلة الرّقابة الدّينيّة والأخلاقويّة التي تتّخذ من أدواتها القتل أحيانا، والمحو والطّمس دائما. فلم يصمت ولم يعلن عن توبته، ولم يلذ إلى كتب التّراث يكتشف روعتها مثلما فعل الكثير من روّاد النّهضة احتماء من المدّ الأصوليّ التّقليديّ الأوّل الذي رأيناه في النّصف الأوّل من القرن العشرين، ولم يتراجع عن تسمية القطّ قطّا، ولم يعتبر العلمانيّة غير ملائمة للعرب والمسلمين. فالنّظام العربيّ الذي انتصب مع هزيمة 1967 ومع الطّفرة النّفطيّة كان يحمل معه الكثير من الإغراءات التي يمكن أن تحوّل «بؤس الفكر الدّينيّ» إلى نعيم هوويّ وترف توفّره مؤسّسات هذا النّظام من جوائز ومنابر ومراكز ثقافيّة وبحثيّة.
من أين استمدّ العظم هذه الأنفة الفكريّة؟
عندما بدأت أعدّ أطروحتي عن العشق والكتابة، اكتشفت كتاب «في الحبّ والحبّ العذريّ»، ووجدت فيه قطعة نابضة بالحياة والتّوق إلى التّحرّر الفرديّ، وكأنّه تعبيرة عربيّة عن ثورة مايّو/ أيّار 68، أو كأنّه يعبّر عمّا يمكن تسميته بـ«الحداثة العشقيّة».
فصادق جلال العظم لم يهتمّ فحسب بالمادّيّة التّاريخيّة وبالقضايا المعرفيّة والمنهجيّة على نحو يقصي الذّاتيّة، ويعوّض النّفسيّ بالأبستمولوجيّ نهائيّا، وكأنّ الإنسان عقل لا نفس، ووعي بلا لاوعي، أو كأنّ قضايا العرب تتلخّص فيما سمّي بـ»العقل العربيّ» أو «العقل الإسلاميّ». لقد اهتمّ بالذّات وجسدها وبالجسد ومعيشه النّفسيّ، وبأهمّ ما يعصف بهذه الذّات من شوق ودوافع غريزيّة، وأهمّ ما يكبّلها من كبت وشعور بالذّنب. فكان هذا الكتيّب الذي يعرّي وهم الحبّ بقدر ما يحتفي به، كما يفضح أسطورة الحبّ العذريّ التي استخدمها العرب المحدثون ليسقطوا عليها صفويّتهم الأخلاقويّة المكتسبة حديثا. فقد رأى في الحبّ العذريّ «حالة مرضيّة متغلغلة في نفس العاشق وتتبيّن في ولعه بسقمه وهزاله وحرمانه وتلذّذه بألمه وشقائه وتعاسته واستمتاعه بحرقة الشّوق الذي لا أمل في إشباعه»، وهي حالة مرتبطة بالوضعيّة السّادومازيشيّة المعنويّة، أي بالمتعة بلعب دوري الضّحيّة والجلاّد.
فانهارت بذلك أسطورة «الحبّ» الخالد الذي تبيّن أنّه حبّ للكره أو نوع من تنظيم منع الحبيبة، والإيهام بأنّ القوم يمنعونها في نطاق قانون تبادل النّساء.
وفي سنة 2009، نشر موقع الأوان حوارا للأستاذ صادق جلال العظم، أجراه معه الأستاذ خلدون النّبوانيّ، وهو أحد طلبته السّابقين في جامعة دمشق. سأله خلدون: «… بعد هذه الرحلة الأوديسيّة التي حارب فيها عوليس/ العظم الوحوش الخرافية وغضب الآلهة وتنقل فيها عبر كل بحار العالم وعرف في رحلته نساء كاليبسو، هل عرف هذا البحّار أخيراً الطريق إلى أحضان بينلوب وإلى دروب إيثاكا؟» فقرأت في الحوار هذا الجواب الذي أدهشني: «أسافر وأبحر كثيراً ولكنني أعود. لذلك ليس لدي إيثاكا تنتظرني، وإذا استخدمتُ تعبير فرويد أقول أيضاً لا أريد بالتأكيد العودة إلى الرحم الأول حيث السكينة والسلام. ليس هذا هدفي أو ما أطمح إليه أو أريده. لذا لا «أحنّ إلى خبز أمي» لأنني قطعت حبل السرة منذ زمن طويل كما قتلت آباء السماء والأرض جميعاً في داخلي لحظة الرشد والنضج والرجولة والاستقلال. ما يهمني هو الإسهام في الثقافة المعاصرة وبخاصة الثقافة العربية التي أريد لها أن تكون ثقافة حية، ثقافة تجدّد نفسها وتعيد قراءة ماضيها وتستشرف المستقبل وتحمل العلم الحديث والفكر الفلسفي الذي نجم عنه على محمل الجدّ وتقيم وزناً للعقل النقدي والبحثي وللتقدم أيضاً. هذه هي إيثاكا بالنسبة لي.»
فهمت آنذاك علاقة العظم بالحبّ العذريّ وسبب نفوره منه وكتابته عنه. فالعاشق العذريّ حبيس عصاب يجعل ظلال أمه، وهي المرأة الأولى الممنوعة المحرّمة، مكتسحة صورة المرأة الأخرى، وهي المرأة المتاحة في حدود تنظيم المتعة والإخصاء، بحيث تصبح المرأة الأخرى ممنوعة كالمرأة الأولى. فالعاشق العذريّ ليس محبّا مفرطا، بل هو محبّ عاجز عن الحبّ، لأنّه مضطرّ إلى تنظيم منع الحبيبة، ومضطرّ إلى الرّكوع أمام الآباء المانعين، خوفا وتأثّما. صادق جلال العظم متحرّر من الاثنين: من الأمّ الحاضنة أكثر من اللّزوم، ومن الأب اللاّأوديبيّ الذي يريد قتل الابن وإخصاءه، بدل أن يرى الابن متحرّرا مستقلاّ. ولذلك فهو منتبه إلى ألا يكون في علاقته بطلبته أبا خاصيا، أو شيخ طريق مؤبّد لقتل الأبناء والتّضحية بهم في هيكل القضيبيّة القبيليّة المنتصرة: يقول في حوار له صدر بصحيفة السّفير (30/07/2009): «… لم أحب أبداً المريدين والأتباع والحفظة وشيوخ الطرق (بعمامة او من دونها) والمقلِّدين والمقلَّدين والوعاظ وعبدة الشخصيات، وفضلت عليهم دوماً الزملاء والأنداد والخصوم والنقاد والأصدقاء، بخاصة إذا كانوا من أهل البحث والعلم والنقاش والسجال والجدال والمراجعة والاختلاف ورد الصاع صاعين إن اقتضت الحاجة».
تساءلت أعلاه: من أين استمدّ العظم هذه الأنفة الفكريّة؟ وأجيب الآن: لم يفصل الفكر عن الذّاتيّة، ولم يفصل الذّاتيّة عن وقائع الجسد، ولم يفصل ذاته المتحرّرة من الآباء والأمّهات عن ذاته المتفلسفة، ولم يفصل فكره عن حياته، فظلّ شابّا متجدّدا، وظلّ التّحرّر طاقة مولّدة لفكره، وظلّ غيورا على حصّته من الهامشيّة المبدعة.
—————————
رجاء بن سلامة