خالد اليماني
اليوم، على خلاف العادة، كان موقف السيارات العمومي في المجمع التجاري على ضفاف نهر الهدسون، غير مكتظ. كانت تقف وحدها وعلى صدرها تدلت عريضة مناشدة كتب عليها ما معناه أنها أم لطفلين وتحتاج إلى من يمدها بما تيسر من العون؛ وفيما أخذت ريح خريفية باردة تعبث بخصلات شعرها الفضي؛ تساقطت حولها أوراق الشجر، محدثة حفيفًا تحت ضغط الرياح أشبه بإيقاعات الكنس بمقشة. حفيف الأوراق كانت تتردد أصداؤه في المكان كخلفية لمعزوفة بدأت تؤديها صاحبة الشعر الفضي المتطاير على آلة كمان أسطورية، فانتشرت عذوبة، بعزف رخيم يتسلل إلى الروح.
كأنما عانقت معزوفة تشايكوفسكي صفحة ماء الهدسون الباردة المضطربة وأحالتها سكينة ودفئًا في المكان. أرقب السيارات المغادرة والقادمة وهي تقف أمامها تباعًا فيما تجمع هي في جعبة لديها الدولارات التي يجود بها متذوقو موسيقى الطرقات، في مزج ما بين الذائقة الفنية والعمل الخيري؛ هناك بقي مني حتى اليوم شخص غمرته موسيقاها!
حينما فرغت من خلوتي على ضفاف النهر، التي أضفت عليها موسيقاها تأملا وجوديًا.. استقللت سيارتي نحو المنزل مارًا بالعازفة، فحييتها بإجلال تاركًا لها مما وجدت في محفظة نقودي، وقد دفعني كل من إشعاع سحنتها الشرقية، وحب استطلاعي الذي بلغ مني مبلغًا لسؤالها «من أين انتِ؟» فأجابتني المرأة الأربعينية فارعة الطول، بإيماءات من لا يعرف اللغة: «لا .. إنجليزي!»، وواصلت: «هل أنتِ عربية».. فجاء الرد بابتسامة عريضة مشحونة بالشجن «أفغانستان».
في طريق العودة، ثارت في ذهني زوبعة من التساؤلات عن حال عازفة الكمان شرقية الملامح. أتراها تعاني من وحشة الاغتراب مثلي؟ فمن غير الجائز أن تكون مستوطنة أمريكية وهي لا تفقه شيئا من لغة المكان!، أم هي كحالي، من القادمين الجدد. ربما تكون من القادمين خلال الشهرين الماضيين، فقد أجْلت القوات الأمريكية بعد خروجها أكثر من ١٢٠ ألف مواطن أفغاني من كابول؟. أم لعلها فقدت زوجها الذي تعاون مع القوات الأمريكية خلال الحرب التي استعرت حقبًا متتاليات وعصفت بأقدار أجيال من القوميات الأفغانية.؟ هل كانت ضمن فرقة موسيقية معروفة في كابول بعد الانفتاح الكبير الذي شهدته المدينة خلال السنوات العشرين الأخيرة. وماذا عن مصير بقية العازفات، وأين استقر بهن المقام، أفي برلين؛ أم لندن؛ أم باريس؛ أم سواهن. كيف آلت أمور عازفة الكمان، وانتهى بها المطاف للتسول برقيٍ دعمَ المارة في ولاية نيوجرسي، وفي هذا الفضاء الجميل المقابل لفاتنة المدن منهاتن.؟ أسئلة هي في ذهني، تتدافع بصخب كمتواليات حسابية، يستدعي أولها تاليها وهلم جرّا.
بغتة، تمكنت غصة في القلب مني أيما تمكن، وحنين إلى البعيد الذي لم يفارقني لحظة، فأنا وعازفة الكمان بعيدان عن أوطاننا في ملاذات قد تكون أوطانًا لأولادنا وأحفادنا، لكن حتمًا ليس لنا، فأنا وعازفة الكمان منغمسان بشغف بتراب تلك الأوطان البعيدة التي لم تعد صالحة للعيش فيها، ولم تعد ملاذًا روحيًا إلّا في الذاكرة.
كذلك هي فكرة الوطن، تلك السردية التي نصنعها بحميمية في الذاكرة.. تدغدغ أحلام طفولتنا، ومراتع صبانا.. إنها المساحة التي تشهد أولى تحولاتنا؛ رغباتنا؛ نزواتنا وتطلعاتنا. فقد كانت وما زالت محكومة بمنظومة قيمية توارثناها عبر آلاف السنين، اعتقدنا أنها ستحمينا من الانقراض والمهانة والشتات. فإن لم يكن هكذا واقع حالها وحالنا، فما تفسير ما كان عليه صديقي محمد حسن ابن بيرمنغهام البريطانية الذي قضى ثلاثة أرباع عمره الثمانيني في شوارع لندن وليفربول وشفيلد وبيرمنغهام، ولم يعش في عدن غير سنوات طفولته الأولى؛ ومع هذا كان يتحين الأيام والساعات كي يزور حبيبته عدن، وحينما يطؤها ينحسر ذلك الشوق في يوم وصوله الأول وهو يرى نكد الدنيا منصبًا على حي التواهي، وطنه العدني الصغير الذي شهد أجمل أيام صباه، فتتكسر أمامه مرايا الحنين لتستحيل طفحًا للمجاري وانقطاعًا متواصلًا للكهرباء، وانعدامًا في الخدمات ورعبًا من المليشيات والعصابات والمجهول؛ ومن ثم يسارع للمغادرة إلى وطنه بالتبني. لكن ما إن يستقر به المقام في بيرمنغهام، حتى يعاود النفخ في مرايا الحنين، تأهبًا لرحلته القادمة إلى محبوبته عدن مجددًا.
أما أنا وعازفة الكمان فمن المؤكد أن وطن الحنين لدينا أشمل وأعمق مما هو في حالة صديقي محمد حسن، فهو يعتصرنا ويحيل عظامنا الباليات هشيمًا رغم كل هذا الجمال المحيط بنا.. وهذا الخريف الخرافي وأوراق الأشجار الذهبية المتساقطة وسكينة المكان الربانية.