شهد الشعر العربي في الثمانينيات من القرن العشرين أزمة بالغة تجلت في انحسار قراءة الشعر، وخفوت إيقاع تلقيه إلى درجة العزوف التام، أحيانا، من النخبة وغير النخبة. ومما له دلالة على ضخامة هذه الأزمة وانتشارها الاستفتاء الذي أجرته مجلة الناقد في غير عدد (1988-1989)، تحت عنوان معبر «محنة الشعر العربي الحديث». وتنبثق هذه المحنة، برأي كثير ممن جرى استفتاؤهم، عن انقضاء المعنى في الشعر، إذ تحولت كثير من النصوص الشعرية إلى لعبة بلاغية (بالمعنى الرث للعبة) تلاحق المدهش والغرائبي إلى درجة الهذيان، وربما، الاستخفاف باللغة والمتلقي معا، فيما نجده من «ثورات» شعرية: قصيدة (البياض)، قصيدة (اللغة)، قصيدة (الرسم والتصوير).
وبنفض يديها من المعنى خلت هذه النصوص من الحساسية الشعرية لتصير إلى مجموعة مركومة، لا متراكمة، من الصور المبهمة والمطلسمة. إنها محنة تولد من رحم «ميتات الحداثة» لتضيف إليها ميتات: موت المعنى، موت النص، موت القارئ. وقد لا نعدم جمالية ما في هذه النصوص، لكنها أشبه بجمال قبر مزين مزركش بألوان فاقعة.
وقد بدأ الشاعر طاهر رياض مسيرته الشعرية في زمن المحنة (أول إصداراته عام 1983)، لكنه لم ينزلق في مآزقها، إذ حرص منذ البداية على استقلالية صوته الشعري، الاستقلالية الفعلية المتمثلة في خصوصية شعره وتفرده، لا الاستقلالية الزائفة في هذه الفترة التي سارت بالشعر إلى التغريب، وهذر التمارين البلاغية.
ويصعب تصنيف شعره ضمن أي من التيارات الشعرية السائدة في الشعر العربي الحديث، سواء المعاصرة له، أم السابقة عليه. وليس من السهل، أيضا، أن نصف شعره، ناهيك عن أن نصنفه، بالكلمة المحرجة «الحداثة»، كما اندفع يوسف سامي اليوسف في وصف/ تصنيف (حلاج الوقت) بأنها «إنجاز حداثي من الغلاف إلى الغلاف»، ذلك أن أي مفهوم من المفاهيم العديدة للحداثة لا ينطبق على شعره، لا المفهوم الرسمي الذي أسس له أدونيس وأبو ديب شعرا وتنظيرا وتطبيقا، والقاضي بأن الحداثة إحداث «قطيعة» تامة مع التراث، «وانبتات» عن الجذور، «واجتثاث» للجذور، على نحو لا يبقى بينهما من مشترك إلا اللغة، ولا المفهوم الألطف، أو الملطف، الذي يقرر الحداثة على أنها «صراع» الحديث مع القديم الذي «شاخ»، أو مواجهة الحديث للقديم. فلا نكاد نقع على أي صراع بين «حديث» طاهر رياض و»قديم» الشعر العربي، فحديثه يضرب في جذور القديم ويولد من رحمه.
وقد أفصح طاهر عن ذلك بوضوح تام، بقوله: «إن كل ما أسعى إليه هو كتابة قصيدة كلاسيكية، قصيدة عربية كلاسيكية، ترسخ جذورها في عمق التجربة الشعرية العربية، وتتغذى بكل قطرة مطر عابرة، مهما كان مصدرها الغيمي، وكل هبة ريح ولسعة شمس». وذلك بناء على رؤيته للتجديد في الشعر، إذ يقول: «إن القصيدة العربية لن تمتلك هويتها المميزة وسماتها الخاصة ما لم تعد اتصالها بجذورها الفنية». ولا يعني ذلك تقليد النماذج الشعرية التراثية، أو استنساخها، ولا اجترار الذاكرة، إنما الأمر عنده أن التراث داخل في نسيج تكوين المرء الوجودي والثقافي والوجداني.
ويمكن لنا أن نسمي الاتجاه الشعري الذي يؤسس له طاهر رياض بالكلمة الذكية في العربية: الأصالة، فهي على معنيين الأصالة التراثية الجماعية والأصالة الذاتية الفردية؛ التجذر في القديم: أَصْلُ الشيء أساسه، أَصُل الرجل نسبه، أَصُلَ الشيء ثبت وقوي، الأصولية ارتباط الخلف بالسلف، والتفرد الذاتي: الأسلوب الأصيل هو الأسلوب المبتكر، النسخة الأصلية للشيء هي وجوده المتفرد في المكان والزمان المرتبط بموجده، أصالة التفكير جدته.
وأكثر ما تجلت الأصالة الجامعة بين السند التراثي والابتكار الذاتي في كتابات شيخ الصوفية الأكبر محيي الدين بن عربي، فقد اتخذ من التراث الصوفي أساسا بنى عليه رؤاه الجديدة ولغته الجديدة، بتوسيع أفق الرؤى واللغة القديمة لا محوها. وكذا طاهر رياض لم يعتزم محو التراث، أو تجاوزه في حضرة ابتكاريته، إنما تجاوزه على الطريقة الأكبرية التي تتخذ فيها المرتبة الأعلى مكانها في سلم الترقي دون إلغاء المرتبة/ المراتب الأدنى، بل على العكس، فهي تتأسس على هذه المرتبة الأدنى.
موسيقى الشعر وقصيدة النثـر:
لعل أوضح أشكال القطيعة مع التراث تتجلى في قصيدة النثر، ففي الخمسينيات انبرت أقلام الدعاة والمبشرين (وعلى رأسهم أدونيس ويوسف الخال) بإعلان ولادة هذا الشكل الشعري الجديد، بل المستقبلي، إنها الولادة التي يستعذبونها، تلك التي «لا تكون إلا من لا شيء»(1). فالعروض العربي تقليدي، ينتمي إلى التراث المتحجر، وما شعر التفعيلة إلا كسر لهذا التحجر وخلخلة له، إنه محض تجريب في التجاوز. أما قصيدة النثر فهي الخروج التام من عباءة التراث، النبذ التام لهذا التحجر بالاستعلاء عليه وتحطيمه تماما، إنها تجاوز التجاوز. العروض العربي قيد ثبات إيديولوجيا، فيتنافى بذلك مع الحرية- الإبداع. بالمقابل، تؤسس قصيدة النثر شعر المستقبل، قرآنه الذي تتهجد به أرواحنا، إذ ان شعر المستقبل هذا ميتافيزياء الكون، على حد تعبير أدونيس.
ويدافع دعاتها عن الفوضى الناجمة عن الانفلات من الوزن بأنها موقعة، لكن إيقاعها حر، فهو «إيقاع شخصي لا قواعد له ينتج من تزاوج الكلمات وتركيب العبارات»(2). وبايقاعها الحر والشخصي تحررت من «الوزن والقافية والقواعد العروضية السلفية»(3)، ولم تتحرر من الإيقاع، إنما من الإيقاع السلفي، إذ الموسيقى فيها داخلية نفسية. وأي موسيقى بلا إيقاع مضبوط(4)؟! يقول إليوت: «ما من شعر يمكن أن يكون حرا لمن يريد أن ينجز عملا شعريا جيدا، وإن الحرية لن تكون أبدا هروبا من الوزن، في الشعر، وإنما هي في السيطرة عليه وإتقانه»(5).
وقد انبثق ابتداع قصيدة النثر من التوق إلى هذه الحرية الحداثوية، وليست إلا بقطع الأواصر مع التراث، أو بتره باعتباره جزءا زائدا ومريضا في جسد الحداثة الصحيح. لكن العروض العربي يتيح حرية غشى هؤلاء الحداثيون أبصارهم عنها، فقد أحصى الشاعر السوري حامد حسن «التنويعات على البحور الستة عشر فوجدها (4096) ضربا أو إيقاعا، وفي الإمكان اكتشاف غيرها بالحس العميق والذوق السليم، ولا سيما أن البحور الفنية استخرجت من القصائد القديمة ولم تبنَ هذه على تلك»(6)، ناهيك عن الإمكانات غير المحدودة التي تتيحها قصيدة التفعيلة.
ويعترف أحد أساطين الحداثة، يوسف الخال، أن الهجوم على قصيدة النثر «له ما يبرره في كثرة الكتابة بها وسخف معظمها… فكل كاتب يقدر أن يدعي أنه يكتب الشعر بمجرد توزيع الأسطر جغرافيا على الورق»(7). وبعد ما يزيد على خمسين عاما اتسمت بغزارة الشعر والتنظير له لم يدخل مستقبل الشعر العربي المتمثل في قصيدة النثر مستقبله بعد، إذ لم يكوّن شكلا فنيا خاصا، ناهيك عنه شعريا، وما آل إلا إلى مزيد من الفوضى والخواء.
إن الوزن بنية تجريدية ذهنية تنتظم إيقاع القصيدة وتولده. فالإيقاع من جهة البنية الذهنية المتولد عنها ينتمي إلى المجال النفسي مشكلا «الطريقة الوحيدة لضبط الطاقات النفسية المتنوعة جدا ولحفظها، فهو أساس الدينامية الحية والدينامية النفسية»(8). وبتوليده من هذه البنية الذهنية ينتمي إلى مجال موسيقى اللغة، وذلك بتمظهره بصورة صوتية-سمعية قوامها الحروف والكلمات.
والوزن لا يضبط الطاقات النفسية وينظم تنوعها وحسب، وإنما له قيمة تعبيرية عن الحالة النفسية، وقيمة تأثيرية منبثقة عنها. فقد بينت تجربة عمد بها أحد علماء النفس إلى قياس مدى تأثير الوزن والنسيج الصوتي أن الوزن أكثر العناصر تعبيرا عن الحالة المزاجية يليه النسيج الصوتي بقيمه التعبيرية المتعددة والمختلفة(9).
فموسقة اللغة هي بالأساس توقيع للطاقات النفسية وفق نظام محدد؛ وزن يحكم توالي المقاطع الطويلة والقصيرة مشكلا عامل تجانس للقصيدة على المستويين النفسي واللغوي. إنه منبثق تواصل الشعر(10)، منبثق وحدة النص من حيث يحصنه من التفكك والانحلال والفوضى. وبانفلاتها من الوزن تفقد قصيدة النثر أهم عامل من عوامل التجانس بافتقارها لأساس التواصل في الشعر، فلا تعكس ثم إلا فوضى المشاعر واضطراب الحالة المزاجية للقصيدة لاضطراب حركية الزمن فيها، خلافا للقصيدة الموزونة التي تنظم فيها حركية الزمن (توالي المقاطع).
إن الإيقاع برأي المنظرين لتنثير الشعر مفهوم أوسع بكثير من أن يحد ويحصر بالوزن، وهذا توجه سليم لولا أنهم يتخذون منه مسوغا لنبذ الوزن باعتباره إسارا يقيد الدفقة الشعورية والشعرية، ويشوه إيقاعات الروح بتقييدها بقالب شكلي مسبق، بما يخالف، برأيهم، المسألة الأساسية في الشعر، والإبداع عموما، وهي الحرية. ولذلك فإن تحطيم العروض الخليلي في قصيدة التفعيلة ليس إلا حرية نسبية حرية ناقصة، إذ تزاوج بين الإيقاع الخارجي والإيقاع الداخلي. أما قصيدة النثر فهي الحرية الخالصة لتخليصها من أي ضابط خارجي، إنها الشعر الخالص الموقع بإيقاع النفس من حيث انتقل «إيقاعها نقلة حاسمة ونهائية من مستوى البنية الإيقاعية الصوتية إلى التكوين الإيقاعي الداخلي الخاص»(11). وبهذا انقلب مجال الشعر «من إطار الموسيقى إلى الإطار الشكلي أو التصويري… ويترتب على ذلك إلغاء اللوازم الموسيقية المتعلقة بالسمع أو الأذن العربية، واعتماد القصيدة على الوسائل البصرية وهي الأقرب إلى التشكيل وليس الموسيقى»(12).
ويقف الشاعر طاهر رياض موقفا مناهضا لهذا الاتجاه، لا من حيث إصراره على اتصال الشعر بالموسيقى، وإنما بقلبه لمجال الشعر من فن قولي إلى فن موسيقي، فالقصيدة، برأيه، «ابنة للموسيقى قبل أي شيء»(13). وتتحقق لها هذه البنوة في البناء الصوتي المرتكز على الوزن والقافية، والتشكيلات الصوتية للكلمات، وفي البناء الدلالي المعتمد الإيحاء والإيماء، إذ «الأدب توليفة دلالات، الشعر تشابق إشارات»(14).
وينفتح هذا التصور على جوهر الشعر الذي يكون فيه الوزن والقافية من أخص خصائصه، وذلك فيما يمكن أن يدعى القصيدة الأوركسترالية، باعتبارها ابنة للموسيقى، إذ تؤدى الأوركسترا بعدد من الآلات المختلفة الأصوات والنغمات، ويقاس نجاحها بقدرة اللحن والتوزيع على خلق تآلفات وتماسك لهذه التعددية الصوتية، ويعتمد ذلك على غير عامل، أولها حسن التوزيع لتكوين الانسجام والتآلف بين أصوات الآلات، وأهمها فاعلية القائد، من حيث إنه يضبط الإيقاع و»يجعل دور ترابط العازفين أكثر وعيا»(15). ويشكل هذا الترابط مصدرا هاما لتواصل المقطوعة الموسيقية وامتلائها، وما يؤدي إليه من الشعور بالتواصل والامتلاء الذي تتركه في السامع.
والشاعر منه بالإزاء، يرتكز نجاح قصيدته على ما يحدثه، بوعي أو لاوعي، من الترابط والتآلف بين الأنساق البنيوية للنص؛ أنساق البنيتين الصوتية والدلالية: الوزن والقافية والنسيج الصوتي والعبارات والتراكيب والبناء التصويري. وبقدر ما تترابط هذه الأنساق بقدر ما تلغى الفاصلة بين الإيقاع الخارجي والإيقاع الداخلي، الإيقاع السمعي والإيقاع غير السمعي، الإيقاع الصوتي والإيقاع الدلالي، بحيث يتشابك الإيقاعان، فلا يعود الإيقاع الصوتي ظاهر النص باعتباره محسوسا وحسب، وإنما داخله ووراءه أيضا. وتمتلئ القصيدة بقدر ارتباط وجوهها، فيكون الإيقاع الوجه الآخر للصورة، والصوت الوجه الآخر للمعنى, بما يستلزم كشف العلاقات الدلالية بين الوجه ووجهه، وذلك في سياق المعنى الذي تنميه القصيدة.
فتواصل القصيدة، ومن ثم امتلاؤها، لا يقع إلا في الموزون من الشعر، ذلك أنه يكمن في التداخل بين الإيقاعين الخارجي والداخلي، إيقاع الأصوات وإيقاع المعاني. ولا يكون هذا التداخل إلا بالعلاقة الجدلية بين البنيتين الصوتية والدلالية، جدل التشابه والاختلاف بين العناصر المكونة للنسق، وبينها وبين النسق الآخر.
ولعل اختلال العلاقة بين هاتين البنيتين مؤشر قوي على الخلخلة البنائية للقصيدة، وذلك باختلاف إيحاءات البنيتين، أو تضادهما، إذ إن وحدة الإيقاع النفساني تقتضي ضرورة وحدة إيقاع البنيتين بانسجام إيقاع الأصوات وإيقاع المعاني وتماسكهما، والمجاوبة بين إيحاء الموسيقى المتولدة عن الوزن والقافية وإيحاء النص. أما عدم انسجام الإيقاعين، أو تنافرهما، فلا يخل ببناء القصيدة وحسب، وإنما يعكس تشتت الإيقاع النفساني أيضا.
ويصدق على القصيدة المختلة المتخلخلة ما ينعاه أدعياء تنثير الشعر على الشعر الموزون من أنه قعقعة إيقاعية صاخبة وجعجعة لغوية فارغة(16). وهذا حكم لا يختص بالشعر الموزون، بل بالشعر الرديء عموما قديمه وحديثه، ذلك أن القعقعة والجعجعة ليس منشؤهما الوزن، إنما مردهما التوتر الحاد بين الصوت والمعنى، والتنافر الصارخ بين البنى الإيقاعية للنص (صوتية ودلالية).
بل ويرتد هذا الحكم ليصدق على كثير من نماذج الشعر الحداثوي موزونا وغير موزون. فالسقوط في الصخب والمجانية من أشد مميزات الشعر الحديث فالشاعر العربي المعاصر كما يقول المنصف المزغني «لا يبني قصيدته، فأنت لا تعرف متى ستنتهي هذه القصيدة، لأن الشاعر يظل منسابا مع ذاكرته لا يتفطن لما يكتبه والذي يتحول إلى ركام… فالقصيدة العربية سائبة»(17) يتبدد نسق اللغة فيها وتتشتت الدلالة، بما يحول دون التأثير الجمالي للإيقاع، بل يخلق توترا حادا بين البنية الإيقاعية والبنية الدلالية، «وهذا يدفع الشعراء الحداثيين بالضرورة إلى تنثير الشعر»(18).
فالدعوة الحداثوية للتحرر من الوزن والقافية حققت هدفين، الأول معلن ومقدس: وهو تحطيم التراث المتحجر، والثاني مستتر ومخبوء: وهو تغطية الفوضى الإبداعية التي يرتع بها الشعر الحداثوي. فهذا الشعر مما لا يلائمه الوزن ولا القافية، إذ بتنظيمه للطاقة النفسية وضبطه للوارد الشعري وتوقيعه لحركة الروح يفضح الوزن اندياح القصيدة الحديثة وانطفاء روحها، وباعتبارها ركيزة نغمية تقوم بتنسيق الموسيقى وضبط توازنها واستقطاب أكبر قدر من التركيز الدلالي وتركيز الشحنة العاطفية تعري القافية اندفاعات قصيدة الحداثة التائهة وغيبوبة دلالتها وبرود قلبها.
لكن التوجه نحو تحطيم وزن الشعر له ما يبرره ويدعم صحته، فهو محاولة لتخليص الشعر مما هو خارج عنه، مما هو بنية منفصلة عن بنية اللغة الشعرية، مما هو مقياس مفروض عليه ومكبل للقرائح الشعرية، ومن حيث هو كذلك، فإن في التمسك به تشويها للشعر وانتقاصا للحرية الشاعرة. وهذا التصور للوزن ليس مبتدعا، إنما يرتكز على تراث نقدي وشعري بدا فيه الوزن وكأنه معطى خارجي مفروض على الشعر والشاعر، من حيث بالغ العروضيون بقيمة الوزن والقافية على حساب قيمة الشعر نفسه، في كثير من الأحيان.
وبذلك يكون الوزن قد «ظلم قديما وحديثا مرتين: الأولى: عندما نظر إليه كمعطى خارجي لا علاقة له ببنية الشعر. والثانية: حين عاملوه كمقياس للشاعرية»(19). والنتيجة واحدة في الحالتين، وهي خروج الشعر من الشعر، فتقديس القدماء للوزن آل إلى انحدار الشعر إلى النظم، وعداء الحداثيين له آل إلى انحدار الشعر إلى النثر.
وتتميز البنية الإيقاعية للشعر بالازدواجية، فلها مستويان: خارجي وداخلي، صوتي ودلالي، موسيقي ولاموسيقي. وتتعدد العناصر الإيقاعية في كل مستوى منهما، غير أن الموسيقى لا تتولد إلا عن المستوى الخارجي؛ الوزن والقافية والنسيج الصوتي، أما العناصر الإيقاعية على المستوى الداخلي؛ حركة المعنى والتصوير، فهي إيقاعات غير محسوسة، ومما لا يتولد عنها موسيقى، إلا إذا اعتد بالموسيقى الصامتة أو البصرية.
وهكذا، فإن التمسك بالوزن والقافية مميزين للشعر، ضمن غيرهما من العوامل، ليس نزوعا تقليديا للحفاظ على أهم بنود عمود الشعر العربي، وإن كان لدى البعض كذلك، إنه حفاظ على إغراء الشعر وغموضه، على تنوع انتماءاته الجمالية بحسبانه فنا قوليا وفنا موسيقيا وفنا تصويريا في آن معا، على جدلية أنساقه الجمالية قولا وموسيقى وتصويرا. فالشعر هو الفن الأعظم لأنه فن جدلي بامتياز. وهو كذلك لتعدد الاستقطابات الجدلية فيه وتنوعها بين الكلام والموسيقى والتصوير. وجدل الشعر، أو جدلياته، يحيل المعنى إلى صيرورة لانهائية: إذ يستحيل المعنى إلى صورة، والصورة إلى قول، والقول إلى إيقاع، والإيقاع إلى موسيقى، والموسيقى إلى معنى، وهكذا.
الكل يرن في الكل:
الموسيقى في شعر طاهر رياض
ثمة ظواهر عديدة في الشعر العربي الحديث مما يمكن أن يدعى «المعادل الفني» للحياة الحديثة والفكر الحديث. ويقف الوزن والقافية على رأس هذه الظواهر، فالتحرر منهما معادل فني للتخلص من الإيمان بالكلية: وحدة الحياة، أو الوجود، أو التجربة من حيث تشكل كلا متناغما. فالقصيدة مزق متناثرة، «سائبة»، وهي انعكاس للحياة الممزقة المتشظية.
ولم يشرع طاهر رياض نوافذ شعره على هذا التشظي الحداثي، لم يكرس التمزق والانفصال والفرق وانعدام الوحدة، فسعى دائبا محموما لنوال برهة الوصال حيث «الكل مدغوم في الكل، داخل فيه بحميمية وتماه» على حد تعبيره، وذلك جريا على الطريقة الصوفية ببعدها التوحيدي الأكبري القاضي بأن «كل شيء فيه كل شيء»، وجدليتها الوجودية حيث الشيء مظهر للكل وموجود به وفيه، صورة خالقة له ومخلوقة به. وبروحها الأكبرية تلك جاءت قصيدة طاهر رياض معادلا فنيا لوحدة الوجود، كلا متناغما تتوازن عناصره كيانات متلاحمة برابطة جمالية، وجودية إن شئت باعتبار الفن خلقا. وتقوم هذه الرابطة ببناء العلاقة بين الكيانات على جدل الوحدة والاختلاف، الجمع والفرق، الوصل والفصل.
يقول في قصيدة بعنوان (عزلة):
زادنا السكر سوادا
هكذا نفتتح السهرة أو نختمها
الندامى يرفعون الليل بالليل
جميعا،
ثم يلقون به عن حافة الصبح
فرادى
(الأشجار على مهلها، 105)
ثمة تناقض في هذه القصيدة يظهر على مستوى العلاقة بين الموسيقى والدلالة حسبما يذهب ضياء خضير، ذلك أن الوضوح الإيقاعي والبساطة الخارجية للنص يخفيان، برأيه، تكثيفا في اللغة والدلالة، يقول: «فهذا الوضوح وضوح خادع يتخذ من الشكل الكلاسيكي للقصيدة العربية إطارا خارجيا ما يلبث أن يحطمه أو يبعث الشك في مجمل قوامه بمجرد التفطن إلى الدلالة الكامنة، أو معنى المعنى الثاوي بين أجزائه وبنيته الخارجية نفسها. ولنلاحظ، مثلا، أن تفعيلة الرمل (فاعلاتن) التي تدل على تلاصق وسرعة في الحركة تتناقض بطبيعتها مع طبيعة الحركة المتمهلة في هذه المقطوعة ومع هذا السواد الثقيل المسيطر على صدور الندامى، ولذلك، فإن الوزن يبدو بحاجة إلى التأني في مساوقة اللحظات الزمنية الداخلية المتأملة والمتباطئة بسبب السكر»(20). (التسويد للباحثة).
والعجيب أن خضير يقول ما يقول في سياق إظهار تميز الشاعر طاهر رياض من حيث اقتصاده «بلغته وحرصه على العناية بصوته الشعري متفردا متميزا هكذا». وهذه الـ»هكذا» تكمن، حسب خضير، في وحدة العالم واختلافه، الوحدة التي تحيل إلى تعدد في لغته الشعرية (لاحظ عنوان المقالة). فأي وحدة للعالم في قصيدة أبعد ما تكون عن الوحدة، تتصدع بنيتها بين الصوت والمعنى، وتتأزم فيها العلاقة بين الوزن والدلالة، وللخروج من هذا المأزق، يبدو الوزن بحاجة إلى التأني، كما ينصح.
وهكذا، لا يفلح طاهر رياض في هذه الـ»هكذا»؛ تفرد صوته الشعري وتميزه، فشاعريته أقل بكثير مما يظهره خضير، مع ما يقرره من هذا التوتر بين البنية الإيقاعية والبنية الدلالية، هذا التوتر الذي يقضي على تواصل القصيدة وامتلائها. فبتناقضه مع الدلالة ولغة النص يبدو الإيقاع «إطارا خارجيا» لا صلة له البتة بالمقول الشعري، والشاعر لا يستحضره إلا ليحطمه. وبهذا الاعتبار لا يكون الوزن ثوبا للقصيدة وحسب، بل هو ثوب لا يناسب قدها.
وبعد تحليل واف للقصيدة يخلص خضير إلى القول: «يوظف الشكل الغنائي عند طاهر رياض لفك مغاليق الكلام ومنحه آفاقا أبعد ما تكون عن الروح الغنائية، وللإيحاء بتقنيات شعرية أخرى ذات علاقة بالبناء السردي وحتى الدرامي في القصيدة الحديثة، بما فيها من تكثيف في اللغة وتلوين في الصورة وتطوير في الحركة واشتباك في الدلالة». وبهذا، فإن القصيدة جسد مترهل بوزنه، وتدبره روحان، أو أكثر، روح غنائية، وروح/ أرواح أبعد ما تكون عن الغنائية.
فهل ذلك كذلك؟ وإن كان، أفليس أدعى بطاهر رياض أن ينثر شعره، وأليق به تخليص شعره من هذه الموسيقى المترهلة؟ وإن لم يكن، فلا يخلو: إما أن يكون النص غير متمهل فيتساوق مع سرعة الوزن، وإما أن يكون الوزن متمهلا فينسجم مع تمهل النص، وإما لا هذا ولا ذاك.
تتوزع القصيدة من حيث تشكيلها البصري في ستة سطور، وأربع من حيث الاكتمال العروضي والدلالي. ومن شأن هذا البناء الشكلي الخارجي أن يضيء للمتلقي توجهه نحو اكتناه الدلالة، أي الإيقاع الداخلي، وذلك على أساس تكامل الإيقاعين الخارجي والداخلي وتلاحمهما. أما بافتراض التناقض الحاصل بينهما، على ما يقرر خضير، فسنلجأ إلى استيراتيجية معاكسة، تبدأ بالدلالي لتنتقل إلى الصوتي.
إن الإيقاع عموما، لأي شيء كان، يقوم على: التماثل والتكرار والنظام، فلا إيقاع دون هذه الثلاثة مجتمعة(21). وعليه، تتوفر القصيدة على إيقاع دلالي بتكرار معنى أو تناوب معنيين أو أكثر بالتكرار على نحو متماثل وبنظام محدد. والمعنى في قصيدة (عزلة) يدور حول قطب واحد: أيلولة الفعل إلى الخيبة، ويجسد هذا المعنى بالسكر وإخفاقاته في بعث ما يبعث من النشوة والتفتح والفاعلية والمشاركة. فينقسم المعنى إلى الفعل ومآله ليتكرر في أربع حركات وفق النظام التالي:
الخيبة، الفعل، الفعل، الخيبة.
ويحكم بناء القصيدة بالربط الجدلي بين حركات المعنى، جدل التماثل والتقابل، فالحركة الأولى تماثل الرابعة، والثانية تماثل الثالثة، وتتقابل كل حركتين متماثلتين: الأولى والرابعة تقابلان الثانية والثالثة.
أما التماثل فواضح، وأما التقابل فناشئ عن فشل الندامى في مسعاهم رغم وصولهم إلى لحظة السكر، إذ ازدادوا بهذا السكر سوادا وتفرقوا فرادى. وثمة براعة فائقة من الشاعر في اختيار تجربة الخمرة لتجسيد الخيبة، فهي من أكثر التجارب ثراء دلاليا وغنى إيحائيا لانتمائها إلى حقول دلالية ورمزية تنصرف إلى معاني الحياة، فهي دالة على الحيوية، واستيقاظ اللاوعي، وتفتح النفس، وتؤجج المشاعر، وصفاء الخيال، واكتمال الذات بلقاء ذاتها، وتكامل الذات مع الآخر النديم في أقصى فاعلية من المشاركة الوجدانية والحبية والرؤيوية، وما يؤدي إليه كل ذلك من النشوة والانطلاق والطرب. وهذا مما يتناقض تناقضا حادا مع ما وصل إليه الندامى بسكرهم من السواد الثقيل والوحدة، الأمر الذي يعمق حس الخيبة ويصعده. فيتسم إيقاع المعنى بحركية واضحة تنبع من التنقل بين المعنى وضده. غير أن هذه الحركية لا تصف زمن الحركة من حيث الطول والقصر. ولما كان المعنى مقولة لازمنية فإن طوله الزمني يقاس بوقعه وأثره في النفس. وتتصف الحركة الأولى (زادنا السكر سوادا) بتراخي إيقاع الدلالة وامتداده المتأتيين من الفعل ومتعلقه.
فالفعل (زاد) يدل على النمو والتكثير والإضافة، إذ يشير إلى كل إضافة كمية حسية كانت أو معنوية، وزيادة الكم تعطي انطباعا بطول الزمن، فالزمن شعور بالحركة والحركة كم متصل. ويتعمق هذا الطول بـ(سوادا)، فالسواد ينصرف إلى الكثرة والحشد والجمع(22)، ويضاف إليه الامتداد؛ الشعور بالامتداد الزمني للامتداد المكاني(23)، وبما أن اللون الأسود ثابت القيمة والشدة (لا يخضع للتدرج: فاتح غامق، صارخ باهت) فإن زيادة السواد تفيد الاستغراق في اللون، أي استغراق السواد لدواخل الندامى، مما يعمق الشعور بالامتداد الحركي زمنيا.
وتكسر الحركة الثانية (هكذا نفتتح السهرة أو نختمها) تراخي الإيقاع وامتداده لتقلبه إلى السرعة والقصر. فـ(هكذا) تساوي بين افتتاح السهرة واختتامها، بين حالة الصحو وحالة السكر. وهذه المساواة تتضمن هدم الإحساس بالزمن.
وينقلب الإيقاع الدلالي ثانية إلى التراخي مع الحركة الثالثة (الندامى يرفعون الليل بالليل جميعا) وفقا لما تقتضيه إشارية الليل، وما تتركه من أثر. لكن هذا التراخي ليس امتداديا على نحو امتدادية الحركة الأولى، إنما شديد الوقع وثقيله، وذلك بما يتركه الفعل (يرفعون) من أثر في النفس لما يستلزمه من الجهد والمشقة.
أما الحركة الرابعة (ثم يلقون به عن حافة الصبح فرادى) فتماثل الحركة الأولى من حيث إيقاعها المتراخي الممتد. ويتركز ذلك في إيحاءات (فرادى) الدالة على التفرق والاستغراق بالوحدة.
فالحركة الزمنية للمعنى، أي أثر المعنى زمنيا، ثنائية كما حركة المعنى نفسه، مبنية على التشابه والتقابل (ثلاث حركات متمهلة تقابل حركة سريعة)، وإن كان الطاغي عليها هو التمهل إلا أن نسق التقابل يمنحها حركية تخفف ثقله.
وثمة مكونات إيقاعية دلالية أخرى تحدث توازنا داخليا لإيقاع المعنى الثنائي، وتنبع من لغة السرد الثنائية، زمن السرد وضمائر السرد. فزمن السرد يتحرك باتجاه متقدم بحيث يبدو وكأنه متوافق مع التعاقب الكرونولوجي (ماض، حاضر مستقبل/ زادنا، نفتتح، نختمها، يرفعون، يلقون). لكن هذا التسلسل الزمني يعاكس تسلسل زمن المعنى ويقلبه، فالماضي ليس ماضيا، إنما هو مستقبل هذا الحاضر السردي ونتيجته، والحاضر ليس حاضرا، إنما هو ماضي هذا الماضي السردي وسببه. فالسكر حالة تتموضع في ذروة السهرة قبيل (نختمها، يلقون)، غير أن انكشاف أثره أو فعله في زيادة السواد سوادا يتزامن ولحظة تفرق الندامى (فرادى). فهذا التسلسل لزمن السرد يقلب تعاقب الزمن من حيث يتوافق معه، يقلب نسق الذاكرة، ويقلب رباط السبب النتيجة، فالنتيجة باعتبار ازدياد السواد تسبق الفعل الذي ينتجها، والنتيجة باعتبار التفرق فرادى تعقب الفعل الذي ينتجها.
فتنعطف النتيجة على النتيجة لتسير حركة الزمن في مجرى دائري (لاحظ حركة المعنى الدائرية) يبدأ إلى حيث ينتهي، وينتهي من حيث بدأ. و(الآن) بين حدي البداية والنهاية، بين حدي السواد الذي يغمر كل شيء، فالليل زمن السهرة، والليل يوازي الليل الداخلي، والليل أداة لإزالة الليل الداخلي، والصبح امتداد لهذا الليل لا ولادة نهار جديد، إنما ولادة ليل جديد (فرادى) لينعطف على وجهه الآخر (سوادا). ومن خلل هذا السواد الكثيف ثمة مغامرة خمرية تهز الليل، وإن أخفقت في تبديده إشراقا، ثمة الفعل الذي يحرك السكون، وإن أخفق في نفي الانفصال.
لكن الانفصال ليس عاريا تماما هنا، إذ يأتي في غمرة الاتصال بما يخفف من ثقل وطأته من وجه، ويعمق بعده المأساوي من وجه آخر. فلا تجري القصيدة بلسان الشاعر (الأنا)، ولا تنطلق من الذات المفردة لتعاين علائقها مع الآخرين ارتباطا أو انفصالا، بل تمتد على مساحة هذا السواد لتندمج بامتداداتها مع الآخرين وامتداداتهم، تنصهر الأنا في أنوات نحن. وينعطف الضمير من التكلم إلى الغيبة، مع الحفاظ على صيغة الاندماج التعالقي؛ صيغة الجمع. وبهذا تكون حركة إيقاع الضمائر ثنائية تسير باتجاهين متضادين، من الحضور (نحن) إلى الغياب (هم).
غير أن حركة الضمائر ليست منفصلة متقطعة متخلخلة، بل متصلة. فالمراوحة بين الحضور والغياب (نحن، هم) لا تؤدي إلى الالتباس أو الضبابية، إذ إنها تتوحد في الإحالة المرجعية- النصية: الندامى الذين يوحدهم زمن واحد (الليل، السهرة) ومصير واحد (السواد، الخيبة).
ويتعزز التشابك الدلالي وثنائية الإيقاع والمدى الطويل للحركة بتكثيف اللغة الثنائية الضدية (نفتتح/ نختمها، يرفعون/ يلقون، الليل/ الصبح، جميعا/ فرادى). فتنبجس الحركة قوية سريعة بالانتقال من الضد إلى ضده، باجتياز الهوة بينهما. أما المدى الطويل للحركة ببطئه وتراخيه فيتموضع في نهاية الحركة الانتقالية في الضد الثاني. فاللغة تنظم وتنسق حول قطبي الاتصال والانفصال. أما الاتصال فيتحقق بقطبها الأول (نفتتح السهرة: تجمع الندامى، يرفعون الليل: مشاركة الندامى بالفعل، واتصالهم بالمرفوع الليل، وبأداة الرفع الليل، واتصالهم معا جميعا). وينظم الانفصال في القطب الثاني (نختمها: إرهاص بالانفصال، يلقون به: انفصال الندامى عن الليل، وانفصالهم أنفسهم فرادى، والصبح: زمن الانفصال). ويتولد قطب الانفصال من العبارة الوحيدة في القصيدة التي لا تبنى بلغة الثنائية الضدية (زادنا السكر سوادا)، لتتمدد حركة الانفصال بتمدد هذا السواد وثقله.
وهكذا، يتشابك إيقاع الدلالة في القصيدة وتتعدد مولداته وتتنوع، وتنظم جميعها في نسقية ثنائية مركبة تجمع بين نسق المشابهة ونسق المقابلة. أما نسق المشابهة فتتولد عنه حركة متراخية بطيئة تتطور باتجاه واحد، اتجاه الانفصال، على حين يولد نسق المقابلة حركة حيوية تنبثق عن المراوحة بين الاتصال الذي هو محركها والانفصال الذي هو مآلها.
فهل يتوافق هذا الإيقاع الدلالي مع الإيقاع الصوتي (الوزن والقافية)؟ هل ينتظم الوزن في نسقية ثنائية مركبة؟ هل تحدث القافية إيقاعا ورويا نسقا مع الدلالة؟
إن الوزن في العربية مقطعي كمي، أي زمني، مبني على توالي المقاطع القصيرة والطويلة بنظام محدد. وتتحدد السرعة في البنية التجريدية للوزن بطول الوحدة الإيقاعية (التفعيلة)، فمثلا: (فاعِلُن) تساوي (فَعولُن)، تتألفان من طويلين وقصير. وهما أقصر، وبالتالي أسرع، من (فاعِلاتُن). أما حركية الإيقاع لهذه البنية التجريدية فتتحدد بنظام ترتيب المقاطع، فمثلا (فاعِلُن) أكثر حركية من (فَعولُن)، ذلك أن التنقلات في (فاعلن) ذات انسياب طباقي، فالنقلة الأولى هابطة من الطويل إلى القصير، القوي إلى الضعيف، العالي إلى الخفيض(24)، والثانية صاعدة من القصير إلى الطويل. أما (فَعولُن) فانسيابها صاعد، فالنقلة الأولى فيها صاعدة (قصير فطويل)، والثانية مستوية (طويل فطويل). فيبدو المقطع الأخير فيها وكأنه امتداد للذي قبله، إذ تسكن تصاعدات الحركة في مستوى الطويل الأول. ولهذا توصف (فاعلن) بأنها حركة جامحة لاهثة، و(فعولن) بأنها حركة رخية هادئة (قارن: قادمٌ، قديمٌ). ولـ(فاعِلاتُن) ما لـ(فاعِلُن) من الحركية، وما لـ(فَعولُن) من التوازن والامتداد. أما (مستفعِلُن)، وهي تساوي (فاعلاتن) طولا، فليس لها حركية (فاعلاتن)، ذلك أن الامتداد (توالي طويلين) يقع في بداية الوحدة الإيقاعية لا في نهايتها (قارن: قادماتٌ، مستقدمٌ).
لكن المعول عليه هو التجسيد الصوتي لهذه البنى التجريدية (التفعيلات)، والذي قد يبرز سماتها الإيقاعية أو يخففه، فالتفعيلات قوالب عروضية تضبط الإيقاع وتنظمه وتوجهه، فهي وحدات مولدة للموسيقى، أما التمثيلات الصوتية فهي التي تحدد ملامح النغم الموسيقي، وهذا سبب تنوع الموسيقى في القصائد المؤسسة على وزن واحد. فمثلا: إيقاع (لعوبٌ) أسرع وأخف وأسلس من إيقاع (زجومٌ)، ذلك لخفة اللام والعين ومرنانيتهما مقابل خشونة الزاي والجيم واضرابهما.
فالقول إن للرمل موسيقى سريعة بإطلاق لا يسلم. فهو يوحي بالسرعة لما في وحدته الموسيقية من حركية متأتية من نظام ترتيب المقاطع الثلاثة الأولى فيه (طويل فقصير فطويل)، ولا يكون سريعا بحق إلا في حال توارد التفعيلة المزاحفة السريعة بطبيعتها والأقصر زمنا من السالمة، وهي (فَعِلاتُن) وتشكل من تتابع قصيرين فطويلين. وعلى الرغم من ذلك، يتوفر الرمل على طاقة لتوليد موسيقى متراخية لتتابع طويلين في نهاية الوحدة الموسيقية التي يمكن معها مد الصوت في حال كان المقطعان مفتوحين، أي تعتمد على التشكيلات الصوتية لهما.
وقد تنوعت موسيقى قصيدة عزلة بحيث جاء بناؤها متداخلا ومتغيرا من حركة إلى أخرى من حركات القصيدة. فالحركة الأولى (زادنا السكر سوادا) ذات إيقاع متراخ امتدادي، بفعل ألفات المد. وإن كانت لا تعدم حركية الرمل، وهذا سر التداخل الموسيقي فيها. بما يتوافق مع إيقاع المعنى الموحي بتراخي الزمن.
أما الحركة الثانية (هكذا نفتتح السهرة أو نختمها) فهي سريعة إيقاعا وصوتا. تبعا لتفعيلة المزاحفة، وكثرة الأصوات المهموسة التي تعطي نغما خافتا متلاصقا.
وثمة ازدواجية في الموسيقى المنبعثة عن الحركة الثالثة (الندامى يرفعون الليل بالليل جميعا)، إذ تكثر المقاطع الطويلة المغلقة قياسا إلى المفتوحة (7: 4)، وهي تولد إيقاعا شديد الوقع بفعل المقاطع المغلقة، ولينا في آن معا، وذلك لما تتوفر عليه الأصوات المقفلة للمقطع من الرقة والخفة واللين، فجميعها أصوات مائعة من أرق أصوات العربية، ويقابلها امتداد الإيقاع في المقاطع المفتوحة.
أما القافية فلها استحقاق جمالي يرتبط باستحقاقها الدلالي. فهي (سوادا، فرادى) مطلقة بالألف مردفة بها. فالإرداف يكسب إيقاع القافية وضوحا. أما الإطلاق فله قيمة إيقاعية غنائية، لما في حروف المد، والألف خاصة، من ترنمية وإطالة تناسب الغناء، فالعرب إذا أرادت الترنم مدت الصوت. وتقابل هذه الدندنة الواضحة القوية الممتدة بامتداد الألفين شدة الروي. فالدال صوت وقفي (شديد باصطلاحات القدماء). فكأن ألف الردف توقف فجأة بالدال لتتدفق ثانية بألف الإطلاق. فتنتج القافية نغمة صاعدة متوالية التصاعد، وبذلك تكسر نسقية الوزن المتسارع بامتداديتها المتراخية، وهذا مكمن قيمتها الجمالية.
وتتعمق هذه الجمالية بالقيمة الدلالية للقافية، من حيث يتوحد التجانس الصوتي بالتجانس الدلالي. فالأسود دال على كل ما يستكره من المعاني، فهو لون الحداد، الموت، الكآبة، الضيق، الانغلاق، الحسرة. وبهذه الارتباطات الدلالية والإشارية فإن «الأسود والفراغ متحدان، بحيث لا يمكن الفصل بينهما»(25). و(فرادى) لون العزلة، الانفصال، الانغلاق، الكآبة، الضيق، الوحدة، وبهذه الإشارية تتحد مع الفراغ أيضا. فتنتظم (فرادى، سوادا) داخل إطار فراغية الخيبة التي تجثم على صدور الندامى فتزيد سوادهم سوادا لتفرقهم فرادى، أو تفرقهم فرادى لتزيد سوادهم سوادا. وبذلك ترتبط (سوادا) و(فرادى) دلاليا بحيث تصلح الواحدة منهما أن تكون سببا للأخرى، و/أو مسببا عنها في الآن عينه، ودون ترجيح لإحداهما على قسيمتها. فقد انبنت قصيدة (عزلة) على إيقاع الرمل، وهو من الأوزان الصافية (واحدي التفعيلة) واضح الإيقاع بسيطه، ساذج على حد وصف القدماء. ولم يتصرف الشاعر في التفعيلة (بالزحافات والعلل) بما يخرج الوزن عن صفائه وسذاجته. وعلى الرغم من ذلك، ارتفعت موسيقى القصيدة من مستوى الإيقاع البسيط للربابة إلى مستوى البناء الموسيقي المتداخل متعدد الآلات للأوركسترا. وتأتى لها ذلك من بناء القصيدة على نسقية مركبة تجلت في الجمع بين نسق التشابه ونسق التقابل على المستويين الصوتي والدلالي منفصلين ومجتمعين، وفي المناغاة بين الأقيسة الشكلية الحسابية المقننة للوزن والقافية والتمثيلات الصوتية لهذه الأقيسة، وفي التساوق بين الإيقاع الصوتي والإيقاع الدلالي، وفي التناغم بين المعنى الإيحائي للموسيقى بمولداتها مجتمعة (الوزن والقافية والنسيج الصوتي) والمعنى الذي تنميه القصيدة.
وإذا كان ذلك كذلك، فإن موسيقى القصائد المؤسسة على إيقاع بحر واحد تتنوع ولا بد، وتختلف من قصيدة إلى أخرى باختلاف مبناها ومعناها، ولا يكون إلا باتقان الشاعر لأدواته الفنية، وإلا انفلت الوزن منه ليكون محض إطار خارجي للقصيدة، والأمر أن تكون الموسيقى باطن القصيدة وظاهرها، وهي كذلك في شعر طاهر رياض. يقول على إيقاع الرمل:
واقلقي
لو قلق الثدي إلى رضعة طفلِ
قلق اللحم لعضِّ النار فيهِ
ومرايا المطر الأعلى
لتهويمة شكلِ
واقلقي أكثرَ
حتى لا تظلي
مثلَكِ الآن…
ومثلي! (العصا العرجاء، 108).
يقوم النسق الإيقاعي على إيقاع التفعيلة المزاحفة (فَعِلاتُن) (26)، غير أن إيقاعها لا يرد بانتظام مطلق، إذ تتخلله (فاعلاتن) في كل بيت. إنما يشكل إيقاع (فعلاتن) نسق إيقاع القصيدة من حيث ما هو سائد(27)، وبذلك يتسم إيقاع القصيدة بدرجة عالية من الحركية والسرعة. ومبعث الحركية اختراق النسق الإيقاعي، ففي دخول (فاعلاتن) في سياق (فعلاتن)، وإن كان يجري على سنن العروض، كسر لانتظام النسق وخلخلته، بما يضفي بعدا نغميا وحركية موسيقية تتركز في نقطة اختراق النسق الإيقاعي. بالإضافة إلى حركية (فاعلاتن) التي ترجع إلى ما تتسم به من انسياب طباقي وتنوع حركي (فحركتها: هابطة صاعدة مستوية) تفتقر إليهما قسيمتها (فعلاتن). أما السرعة فمردها التفعيلة المؤلفة للنسق (فعلاتن)، إذ إنها أقصر زمنا من قسيمتها فهي أسرع، ويتوالى فيها مقطعان قصيران بما يزيد سرعتها.
يقوم الوزن أساسا على تتابعات كمية زمنية ترتبط جدليا بعلاقات التماثل (القصير ومثله، والطويل ومثله) والتقابل (القصير والطويل). ويبلغ هذا الجدل مبلغه في (فعلاتن) من حيث يتوالى فيها متماثلان هما ضد لعقيبيهما المتماثلين. فتنظم الطاقة الموسيقية في القصيدة في ثنائية ذات بعدين متضادين: قصير وطويل، سريع وممتد، حركي ومتراخ، ضعيف وقوي، خفيض وعال. وحركة الإيقاع الناتجة من تناوبات هذين البعدين انسيابية متثنية، من التسريع إلى التراخي، التضام إلى الاتساع، التقريب إلى التهادي، ذلك أن اعتقابهما لا يكون إلا بعد إشباع الحركة ونغمتها بتكرار المثل.
وقد تسير حركة التثني إلى منتهاها وقد تنحسر، ومعتمدها طبيعة المقاطع الطويلة. فبقدر ما تكثر المقاطع الطويلة المفتوحة بقدر ما تتناهى وتأخذ مداها، وبقدر ما تكثر الطويلة المغلقة بقدر ما تنحسر ويقصر مداها.
ووزن ذلك أن نطق المفتوح يجري مجرى مخالفا لنطق المغلق إلى حد التعارض. فبالنظر إلى أن المقطع الصوتي «توزيع منظم للطاقة الصوتية»(28)، فإن هذه الطاقة تنسرح بحرية في نطق المفتوح حتى انقضاء الدفقة الهوائية المنتجة للصوت، بينما تقيد في نطق المغلق، إذ إن «الطاقة الصوتية للصوامت مقيدة على أي حال»(29). وتختلف شدة التقييد باختلاف الصامت المقفل به المقطع، فهي تصل إلى حد يتجشم فيه انقضاء دفقة الهواء، وتكون أسلس انقضاء مع أصوات اللين المائعة (قارن: مَنْ، قفْ، قدْ، عِضْ).
وتتردد في القصيدة المقاطع المغلقة (نسبة المغلق إلى المفتوح 3: 2). وهي بتضاغط الدفقة الهوائية المنتجة لها ذات إيقاع شديد ونغمة حادة غليظة بعيدة عن السلاسة والرقة. غير أنها لا تقوض الرهافة التي لـ(فعلاتن) ببنيتها المجردة وتمثيلاتها الصوتية بالقصير والطويل المفتوح، إنما هي خروقات أو تخللات تتقطع معها استمرارية الحركة بالرهافة والليونة التي هي عليها. فتقلقل انسيابية الحركة الإيقاعية وتلايناتها المتثنية بالاصطدام بحاجز الخرق المنافر بما فيه من الشدة والصعوبة والحدة والغلظة، وبتجاوزه تستأنف ثم ما كانت عليه من اللين والانسياب، لتعود وتخترق من جديد، وهكذا.
وبذلك ينتاغم الوزن أيما تناغم مع حركة النفس، حركة القلق (بالأحرى التحريض على القلق) المتقلقلة بين ما قد يكون وما قد لا يكون، والمتقلبة بين الشعور بالانفراج والراحة والهدوء في الاسترواح إلى ما قد يكون، والشعور بالحصر والضيق والاضطراب في الاسترواح إلى ما قد لا يكون.
ويجيء النسيج الصوتي على سمت الإيقاع من حيث ينعقد بتآلف المتنافرات: الأصوات المفخمة (القاف،الطاء، الضاد، الظاء، والقاف أكثر ترددا) والأصوات المائعة (اللام، الراء، النون، الواو، الياء، واللام أكثر ترددا). وثمة تباين طباقي لهذه الأصوات، فللمفخمة نغمة حادة غليظة انفجارية في حين أن للمائعة نغمة خفيفة رقيقة مرنانة، وتوحي المفخمة بتثاقل الحركة وشدتها، وذلك لصعوبة نطقها، إذ تستلزم جهدا عضليا زائدا يصحبه جهد نفسي يعادل الجهد المبذول في النطق(30)، وفي المقابل تشف المائعة عن الخفة والحركية والحيوية، إذ يجري في نطقها اللسان بانطلاق وطلاقة.
ويتكثف التمزيج اللحني المنبني على المنافرة الصوتية في كلمة (قلق) المكررة أربعا بصيغتين (واقلقي، قلق)، فهي بذاتها، ناهيك عن أنها مكررة، من الكلمات ذات الخصوصية في اللغة، الكلمات المصوتة التي تتعمق فيها الشحنة التعبيرية، والتأثيرية من ثم، إذ تجيء أصواتها على سمت المعنى المعبر بها عنه، فالجمع بين شظف القاف ولين اللام، شدة القاف وميوعة اللام، تجسيد صوتي لحركة القلق النفسية يحاكي صوتا موهوما لصورة متخيلة لهذه الحركة النفسية.
وتشكل (قلق) نقطة انطلاق تخضع القصيدة لتداعياتها الداخلية صوتيا ودلاليا، لتصير أشبه بمقام النغمة الموسيقية، والقصيدة تنويع موسيقي ودلالي على هذا المقام. فتفتتح (واقلقي) مقطعي القصيدة، وتكرر في ثناياها بصيغة مختلفة (قلق). وللتكرار أهمية تنبع من دوره الموسيقي في الشعر من حيث يحدث توازنات موسيقية تعطي انطباعا بأن المكررات هي اللحن الأساسي للقصيدة. ولا تؤدي (واقلقي، قلق) هذه الوظيفة الثانوية التي تسند الوزن وتوازنه بحيث تبدو وكأنها اللحن الأساسي للقصيدة، إنما هي أساس اللحن فيها من حيث تزن الوزن بوزنها، ففي تنقلها من صيغة إلى صيغة (واقلقي إلى قلق) تنقل للوزن من (فاعلاتن) إلى (فعلاتن)، وتشكيلها الصوتي أساس ينبجس منه التمزيج اللحني والنغمي، إذ تستدعي القاف أخواتها المفخمات، وتستدعي اللام أخواتها المائعات.
وليس القلق نقطة انطلاق تحكم إيقاع القصيدة وأنغامها وحسب، بل هي نقطة انطلاق للدلالة أيضا. فحركة الدلالة في القصيدة ثنائية ضدية: الحركة المتمثلة في المستقبل، والسكون المتمثل في الحاضر. أما الحركة فيشف عنها مجيء القلق بصيغة الأمر (واقلقي)، فهي تحريض على القلق، تحريض على الحركة، واستشراف للمستقبل المتمخض عن حركة القلق، وأما السكون فيدل عليه دافع التحريض على القلق (حتى لا تظلي مثلك الآن ومثلي). فضدية الحركة- السكون تنعقد بحركة القلق، ذلك أن القلق جسر للانتقال من الجدب إلى الخصب لانصراف مجالات القلق إلى الدلالة الإخصابية.
فالمجال الأول للقلق (قلق الثدي إلى رضعة طفل) يظهر المرأة الأم المتحكمة بالإخصاب والتكاثر، بما يدل على قلق الحب الأمومي. والمجال الثاني (قلق اللحم لعض النار فيه) يظهر المرأة التي تتقد للتواصل، بما يدل على الحب العشقي الشبقي، قلق الرغبة في التكامل مع الآخر (الرجل/ الناطق الشعري)، قلق يكون فيه الآخر حاضرا حتى بغيابه. وهذه الشبقية في المرأة تكون عامل إثارة للرجل، مما يعيد لها دلالتها الأسطورية كأصل للحياة، وباعث لها ومثير.
والمجال الثاني (مرايا المطر الأعلى لتهويمة شكل) يحتمل دلالتين للخصب؛ عامة وخاصة في آن. أما الصورة العامة فتستقى من رمزية المطر إلى الحياة، وإضافة مرايا تعمق إشارته إلى أصل الحياة، الأصل الذي تنعكس عليه وفيه كل صور الحياة قبل تكوينها وتشكيلها، أي إمكانات انبجاس الحياة من المطر. وباعتبار الصفة (الأعلى) المشيرة إلى السماء، فإن (تهويمة شكل) تشير إلى ولادة العالم من رحم الأرض عبر توالج السماء والأرض بالمطر، «فالمطر هو المني المخصب للأرض»(31).
والمطر ليس رمز الخصب فقط، إنما له مدلول لقاحي أيضا. فهو «ملقح يشبه اللقاح الرجولي»(32). وبهذا تتصل الدلالة العامة بالدلالة الخاصة، تلك المرتبطة برمزيته اللقاحية. فتصبح مرايا المطر متصلة بالرجل وقد انعكست في نفسه غواية المرأة برغبتها المتقدة للتواصل (عض النار). وبذلك يمكن لنا أن نربط (تهويمة شكل) بالطفل الذي قلق الثدي لرضعته.
وفي هذا التشكيل للصور براعة فنية تتأتى من التحام الصور بعلاقات خفية، بحيث تبدو في ظاهرها وكأنها غير مترابطة، ثم ما تلبث بتداخلاتها الإشارية أن تشكل وحدة متلاحمة على غير ما هي عليه في ظاهرها. فالبؤرة اللفظية لهذه الصور هي (مرايا)، وهي تقع بحسب الإضافة في السماء، فتنعكس على سطح السماء المرآوي كل الموجودات الأرضية قبل تشكلها وتكوينها، الموجودات التي هي متعلق القلق الإخصابي. فهي تشكل العالم الخيالي الذي تتوحد فيه الكائنات الحية (الإنسان الحيوان النبات) والذي يحال إلى كائن حي، شكل واقعي بفعل هذا القلق الإخصابي.
أما بواعث أمر المخاطبة وتحريضها على القلق فترد في المقطع الثاني (واقلقي أكثر حتى لا تظلي مثلك الآن ومثلي)، أي حتى لا تظلي على الحال الذي أنت عليه، وأنا كذلك عليه. ولما كانت صور القلق مجتمعة ومفردة تدل على الخصب والخصوبة فإن حال المرأة والأنا في الحاضر (الآن) هو الحال النقيض، حال الجدب الذي ينبغي تغييره والتحول عنه إلى الخصب.
وثنائية الخصب والجدب في القصيدة تقع في نطاق أوسع، الحياة والموت، الوجود والعدم، ذلك أن القلق بربطه بالخصب لا يسم حالة نفسية متوترة تتطلع إلى التغير، إنما يبدو «علامة من علامات الوجود»(33). إنه قلق ميتافيزيائي، فهو «لا شيء وهو كل شيء، إنه شعور يوضع أمامي، وأمامي فقط مدى ما يكون عليه وجودي من أسى وجدب وإقفار في هذا العالم الذي أعيش فيه»(34). وهذا ينطبق على الصور التي تبنيها القصيدة، إذ تضع أمام المرأة، وأمام الذات، إمكانات ما سيكونان عليه، إمكانات الحياة، فيصير القلق طاقة الوجود، إذ التحول من الجدب إلى الخصب مرتهن بحركة القلق ومحكوم بها.
وهذه الصور لا تسمي الجدب، ولا تشير إليه، بل تلمح إليه بأن وقفت على نقيضه، وهو وفرة الخصب، من حيث تضع أمام المخاطبة إمكانات ما ستكون عليه إن هي قلقت لتجاوز ما هي عليه الآن. ولا يكون الخصب إذ يكون إلا بالاتصال والوصل والتواصل (الأم- الطفل، المرأة- الرجل، الأرض- السماء)، وبدون الاتصال فلا كون ولا تكوين.
وتتجلى الشعرية الشاعرة ببلاغتها العالية في تناسج البنية والحركة والمعنى المتأتي من تجانس المكون البنيوي والمكون النفسي والمكون المعنوي، ذلك أن الشاعر لما ذهب بالقلق من كونه علامة من علامات الوجود إلى كونه منبثق الخصب، اتخذ منه منطلقا للقصيدة ومبتدأ لحركات البنية جميعها، وموجها لإيقاعاتها وأنغامها. ولما رأى في نسيجه الصوتي (نسيج قلق) تباينا بين الشدة واللين، التضاغط والحركية ذهب به من كونه حركة نفسية دالة على الضيق والحصر إلى كونه حركة مراوحة بين الضيق والانفراج، الحصر والانسراح. وذلك بعقد مقابلة خفية بين هذا وذاك عبر المقابلة بين الجدب والخصب. فكان أن أعاد تنسيقه الوجودي ليكون برزخا بين الجدب والخصب وهذا لا ينفي أنه منبثق الخصب، بل يدعم هذه الدلالة ويعمقها.
ومن حيث موضع (القلق) البرزخي هذا يطل بقافه على الجدب وبلامه على الخصب، فيدل بما توحي به قافه من الشدة والصعوبة والضيق والتضاغط على الجدب، وبما توحي به لامه من اللين والرقة والتراخي والحركية على الخصب. وبين هذه الإطلالة وتلك، وهذه الدلالة وتلك، يرتفع القلق الإخصابي ليكون طاقة الوجود لتخطي العدمية في الوجود، من حيث هو برزخ يجسر الفجوة بين العدم والوجود.
وبينما كانت وظيفة القافية في الشعر العمودي ضبط الوزن بإحداث نقطة ارتكاز موسيقية، فاضت في شعر التفعيلة عن الوزن نفسه لترتبط بالقيم الموسيقية المولدة من الوزن(35). فصارت حالة خاصة مكثفة لموسيقى القصيدة من حيث تعقد العلاقة بين الوزن والدلالة وتبرز تناغمهما البديع وتناسجهما المتلاحم. وبالإثارة التخييلية لأصواتها صارت بالسمعي إلى التخيلي البصري. فبقدر ما تشبه المعنى بقدر ما تزيد من درجة الإثارة التخييلية للصوت، فإن هي فقدت شبهها بالمعنى فقدت إفاضتها عن الوزن وعادت أدراجها إلى ما كانت عليه في الشعر العمودي، إلى مجرد ركيزة نغمية ونهاية موسيقية للبيت، بل قد تفقد هذه القيمة الركيزية للموسيقى فيما إذا تنافرت مع الدلالة بحيث تنبو بها القصيدة.
وقد سار طاهر رياض، على ما رأينا، بتراسلات القافية إلى أبعد مدى لها من التناسج بالمعنى، وذلك بالجمع بين الشكل الموسيقي والتواصل الموسيقي، بين النغم الذي تولده والمعنى الإيحائي الذي تبعثه. ولما كان للقافية المقيدة دلالة مختلفة عن تلك التي للمطلقة، فلا بد أن يكون اختيار الشاعر لها بدافع دلالي أكثر منه موسيقي. ومثال ذلك القافية المقيدة في قصيدة (هي سكرة أخرى):
هي سكرةٌ أخرى لهذا الموت،
لم يبقَ الكثير من الوجود الفجِّ
كلٌّ ناضجٌ حتى السقوط..
بكى الحبيبُ
ولم يكن بيني وبين غيابِهِ سرٌّ،
فقلتُ: اهدأْ حبيبُ
أنا غيابُك كلُّهُ
وَبَكَيْتْ
هي سكرةٌ أخرى لنا:
مَيْتٌ روى عن مَيْتْ!
(الأشجار على مهلها، ص31-32).
تمثل سكرة الموت مواجهة فعلية للموت، فهي الحالة المعيشة للقلق الميتافيزيائي المواجه للفناء، حيث تتقلص المسافة بين التجربة الواقعية ومجاهيل الموت، إنها، بتصور الشاعر، اللحظة التي يكون فيها الموت أشد التباسا بالحياة، إذ تؤذن بالانقطاع عن الوجود لاكتمال الموجود، إنها التعبير الأكمل لاكتمال الذات (كل ناضج حتى السقوط)، واكتمال التوحد مع الآخر الذي هو الاكتمال العشقي (أنا غيابك كله).
إن سكرة الموت صورة خاصة من صور القلق شبيهة ومفارقة، شبيهة من حيث هي حالة نفسية فيزيائية تتغشاها الشدة في تردد النفْس والنفَس بين الإراقة والإفاقة، فهي كما القلق برزخ فاصل واصل بين الموت والحياة، الفناء والبقاء، ومفارقة من حيث مؤداها، فهي مواجهة للفناء تفني، على حين أن القلق مواجهة للفناء تحيي.
ولأنها مفارقة جاءت قافيتها مفارقة. فبينما اجتلب القلق قافية مطلقة اجتلبت سكرة الموت قافية مقيدة، وما بين الإطلاق والتقييد من فروق هو ما بين القلق والسكرة من فروق؛ الحركة والسكون الحياة والموت.
وقد انبنى إيقاع القافية على مقطع من أصعب أنماط المقاطع على لسان العربي، وذلك لتوالي صامتين ساكنين (ص ح ص ص)، ولا تسوغ العربية التقاء ساكنين إلا في آخر الكلمة في حالة الوقف عليها. وحتى في هذه الحالة لا تستسيغه وتنفر منه، إذ تلجأ إلى التخلص من التقاء الساكنين بتحريك الصامت الثاني من آخرها. وهو من حيث البنية التوزيعية للأصوات يجافي ميل العربية إلى الخفة والسهولة، بيد أن نسيجه الصوتي جاء مشوبا بالخفة من وجه، ومصعدا للشدة من وجه. فالساكن الأول فيه (الياء) من الأصوات الانزلاقية المائعة خفيفة الإيقاع والنطق، وإن كان التسكين يذهب شيئا من خفته، والساكن الثاني، الذي هو الروي، (التاء) من الأصوات النفَسيّة (بفتح االفاء) حيث تتبعه دفقة هوائية فيتجشم الحفز والضغط عند الوقف عليه(36).
وبهذا، فإن إيقاع القافية شديد صلب متضاغط، وإن كان مشاما برائحة الخفة. أما النغم فمتنوع رغم قصر الوحدة الزمنية للقافية، إذ ينتقل من الصعود إلى الهبوط إلى السكون. فيصعد قليلا مع الفتحة، ثم ينحدر بخفة مع الياء، ثم ينحدر بشدة بالانتقال من الياء الساكنة إلى التاء الخافية المتسفلة، ليسكن بشدة كبيرة في الصويت الذي يتبع التاء الساكنة. فالوقفة الموسيقية للقافية إيقاعا ونطقا ونغما تكاد تكون أشبه بلفظ الأنفاس الأخيرة. وبذلك، تبدو القافية مرآة لسكرة الموت من حيث ترتسم ملامحها في الصورة التخييلية التي يثيرها الإيقاع ونغمة الروي. ومن جانب آخر، ما كان لهذه الصورة التخييلية للقافية أن تتضح ملامحها لولا وقوعها في سياق السكرة.
فالقافية باعتبارها وقفة موسيقية تثير صورة تخييلية تبعا لإيقاعها ونغمتها حيثما وردت وفي أي سياق، وفي حال التناغم والانسجام بين موسيقى القافية والمعنى الذي ترد في سياقه، فإنها تقول المعنى موسيقيا، ويعمل سياق المعنى على إبراز قولها وتقريبه، أي إشباع الإيحاء الموسيقي.
وتكتمل الشحنة التأثيرية للموسيقى التي تولدها القافية، وتتضح الصورة التخييلية التي تثيرها بكلمتي القافية (بكيْتْ، ميْتْ)، إذ تدل كلتاهما على السكون والانقضاء، فالبكاء يخفف من شدة القلق الممثل للحياة والحركة، ليرتد إلى نوع من السكون الممثل للموت بانعدام الحركة، أما (ميت) فهو السكون بذاته وقد تجسد.
وبهذا، يتجلى في شعر طاهر رياض كنه الشعر الذي عد لأجله أعظم الفنون، وأكثر نظم الاتصال تعقيدا، وهو تعدد الجدل في نظام اللغة الشعرية، فكما يرى لوتمان، ثمة جدل يجري بين لغة الشعر كحالة خاصة من حالات اللغة، وبين اللغة كحالة خاصة من حالات لغة الشعر، وتتحد العلاقة بينهما في توتر دائم، وجدل، أو جدليات بين مستويات النص المتعددة؛ العروضية والصوتية والنحوية والدلالية. وهذا ناتج عن أن العلامة داخل نظام لغة الشعر علامة مركبة (أصوات، صور، رموز)، والقصيدة نفسها علامة مركبة تتألف بدورها من تواليات العلامات المركبة(37).
ويعنينا هنا جدل الشعر والموسيقى، اللغة والعروض، من حيث يقوض المبدأ الأساسي الذي يحكم العلاقة بين الأنظمة السيميلوجية المختلفة، وهو «مبدأ عدم الترادف بين الأنظمة، فلا يوجد ترادف بين الأنظمة السيميلوجية، إذ لا نستطيع أن نقول نفس الشيء بالكلمة أو بالنغم، إذ تختلف الكلمة عن النغم من حيث هما نظامان يقومان على أسس مختلفة»(38). وفي الشعر لا يترادف هذان النظامان وحسب، إنما يتزامنان ويتداخلان أيضا. فيعزف اللحن بالكلمات، وتتنسق الكلمات باللحن. فتزدوج الكلمات علاماتيا في انتمائها إلى نظامين مختلفين مؤدية الوظيفة التي تؤديها وحدات كلا النظامين في آن معا. فالكلمة وحدة دالة (علامة= دال+ مدلول) في النظام اللغوي، وتصير في الشعر، دون أن تفقد كونها وحدة لغوية دالة، وحدة موسيقية (وحدة غير دالة) باعتبار تنسيقها المقطعي.
ويبلغ هذا الجدل مبلغه في شعر طاهر رياض في نشوة للكلمات تمزج الطرب بالخيال وتمازجهما، حيث إن الموسيقى المتولدة عن الوزن والقافية ليست مهمة في ذاتها ولذاتها، إنما في تراسلها مع اللغة، وليست الموسيقى شرطا للشعر إلا بهذا التراسل. وهو تراسل اندماجي، توالج للكلام والموسيقى في العمق، في فيض الرؤيا. فالشكل الذي يتنسق بما هو خارج عن اللغة، بالقواعد الحسابية في سلم الموسيقى الشعري، يتناسق مع الداخل في علاقات العناصر المكونة للشكل، وموسقة الكلمات المتحققة بالوزن وجمالية الأصوات وتآلفات النظم هي في العميق العميق موسقة لخيال الكلمات.
بيد أن شعر طاهر رياض لا ينفرد بهذا الجدل. فجدل الكلام الموسيقى أحد السمات المميزة للشعر قديمه وحديثه، وما محاولة القدماء لاستظهار ملائمة الأوزان للأغراض الشعرية إلا من هذا القبيل. ويتمثل هذا الجدل، مثلا، في شعر السياب، فثمة توازن يخلقه النص السيابي بين مكوناته الصوتية ومكوناته الدلالية. وقد ينبثق هذا التوازن من علاقات التماثل الصوتي- الدلالي في بعض النصوص، أو التقابل الصوتي- الدلالي في أخرى(39).
لكن جدل الكلام الموسيقى، وإن كان عاما في الشعر الموزون، قد يكون جدلا زائفا، وذلك في حال عدم التناغم، أو التنافر، بين الانطباعات والأحاسيس والصور التخييلية والمعاني التي يستدعيها الكلام، وبين تلك التي تستدعيها موسيقى هذا الكلام. فتتدنى فاعلية الموسيقى بتوتر البنية الإيقاعية والبنية الدلالية. ومن الأمثلة الشعرية على ذلك شعر أدونيس الموزون، حسبما يظهر صلاح فضل أن الدلالة التغييبية في شعر أدونيس تبطل فاعلية الغنائية التي تبنى على مستوى الإيقاع، وأن التشتت الدلالي يجعل الإشباع الإيقاعي في القوافي «منزوع الشجن وباهت الغنائية»(40).
ويظهر بذلك أن العناية بالموسيقى المولدة بالوزن والقافية وجرس الأصوات المكررة لا تكسر روح الشعر على حد زعم أدبيات الحداثة، إنما الذي يكسرها فعلا تنافر مكونات القصيدة وتشتت بناها، بما يؤدي إلى تمزيق الشعور بالتواصل معها، «ذلك أن بؤرة الاهتمام في عملية التلقي لا يمكن لها أن تتوزع في نقطتين متخالفتين في الآن ذاته. وهذه حقيقة تظهرها البحوث الفيزيولوجية المحدثة»(41).
وحتى لو سلمنا بشعرية قصيدة النثر، وأن انتظامها البنائي يعوض فوضاها الظاهرية، فإنها تبقى شكلا شعريا محدثا لا جذور له ولا أسلاف، ولذلك لم يقع طاهر رياض في حبائل إغراءاته، إذ لم ينزع إلى اجتثاث التراث، أو إحداث قطيعة معه، وشعره امتداد لهذا التراث كما يقول: «أنا ابن هذا التراث، أنا الشجرة التي مهما أخذت من الشمس والهواء، فلن تكف عن حاجتها إلى الغذاء من جذورها، لا أتصور شاعرا مبتوت الأواصر بتراثه، فكيف بتراث غني ديمومي الحيوية كتراثنا العربي»(42). ولم يقنع بتهافت ما ترسخ تاريخيا من ربط الشعر بالوزن والقافية بدعوى أنه تحديد خارجي للشعر بمكونين شكليين، إذ يرى أن القصيدة ابنة للموسيقى، ولا كون للشعر إلا بتراسل اللغة- الموسيقى.
ومهما يكن الخلاف حول اعتبار الوزن والقافية شرطين وجوديين للشعر (ضمن شروط أخرى طبعا) فإنهما كذلك في شعر طاهر رياض الذي يتجلى فيه جهد الشاعر الواعي وحرصه البالغ على نمنمة اللغة، فكلماته كما يصفها الشاعر محمود درويش «مصقولة بمهارة صقل الماس، حتى لنكاد نخشى عليها من المحو، فهو يعرف أن الحذف كفاءة الصنعة»(43). وصوفيته الشعرية تجعل من قصائده «تمرينا دائما على الحذف والنمنمة والتخلص من الزوائد والإفاضات»(44). وروحة الأكبرية لا تطيق كسر الحرف أو اختراقه أو تحطيمه، بل تكتفي بظلالات وهجه في مرآة القلب، فلغته كما يقول منعمة، مرفهة الأديم(45).
ومثل هذه اللغة المرتعشة من فرط رهافتها وتأنقها تتكسر رعشتها وتفقد ألق تأنقها على عتبات فوضى انفلات الوزن والقافية. فالوزن والقافية شرطان وجوديان لشعره من داخل الشعر نفسه، وإن اتفق مع مشروطيتهما الخارجية في النظرية العروضية التي تقف الشعر على توفرهما، ذلك أن هجرهما في شعره يبدد كثيرا من الجهد المبذول في نحت اللغة ونمنمتها، ولا بد.
وعلى مزاج اللغة المنعمة كان مزاج الوزن، إذ لم يحفل الشاعر بتنويع الأوزان كثيرا في شعره، فالإصدار الأول (شهوة الريح) تأسس على نظام الشعر العمودي، وهيمن فيه إيقاع الخفيف (وهو من البحور الممزوجة)، والإصدار الثاني (طقوس الطين) زاوج بين العمودي وشعر التفعيلة، وشدد كسابقه على نغم الخفيف، والإصدارات اللاحقة (العصا العرجاء، حلاج الوقت، الأشجار على مهلها) نحت نحو شعر التفعيلة، والبحور الصافية (متقارب، متدارك، رمل، كامل)، وهيمن فيها جميعا نغم المتقارب(46). والإصدار الأخير (كأنه ليل) قصيدة طويلة مؤسسة على الكامل.
وبالإضافة إلى انحسار سعة التنوع في الأوزان، لم يحفل الشاعر بتنويع صور التفعيلات، فعادة ما يكتفي بصورتين للتفعيلة، وإن جاءت ثالثة ففي منطقة القافية لا غير. وقد ينعى هذا الأسلوب بالرتابة، لأنه لا ينوع بالأوزان ولا بوحداتها الموسيقية، وإن كان رتيبا فحسبه أن مثل هذه الرتابة تبرز النغم الموسيقي للتفعيلة فيرتفع جرسها، وتؤمن الاتساق الكمالي لإيقاعها فتدعم اللغة المنعمة بالوزن المنعم. من ذلك قوله:
لأن الذي يشره الآن في جسدي نحلة لا عسلْ
(فعولن فعولن فعولن فعول فعولن فعولن فعو)
أنام لكي يحلم الموت بي(فعول فعولن فعولن فعول)
وأسير لكي لا أصلْ (حلاج الوقت، 29)
(فعول فعولن فعو)
فلو تنوعت صور التفعيلة في هذين البيتين لخفتت الموسيقى وبهتت، فمثل هذه الرتابة، إن سلمنا بأنها رتابة، تمسك الوزن من الانفلات والموسيقى المولدة عنه من الاندياح والتشتت، خاصة أن أبيات شعر التفعيلة متفاوتة الطول.
وعلى العموم، فإن إيقاعات القصائد تنزع إلى النمطية الأقرب إلى الرتابة من حيث عدم التنويع في صور التفعيلات، والأبعد عنها من حيث قيامها على نسقية مركبة حسبما أوضحنا في أعلاه تفصيلا. وهي لذلك كإيقاعات الحلم من حيث هي سريعة وهادئة، خفيفة ورخية، راقصة ومتراخية.
وليست القافية أقل نمطية وانتظاما من الوزن. فالغالب اعتماد القصائد على نمط التقفية المنتظمة مقطعيا بقافية واحدة (والمقاطع فيها أبيات أيضا لتدوير السطور). مما يقرب القصيدة من الشعر العمودي، إذ لا تختلف عنه، مع توحيد القافية، سوى في تفاوت طول الأبيات. وقد لا يلتزم بقافية واحدة في القصائد الطويلة، ومع ذلك تتحد كل مجموعة من مقاطع القصيدة بقافية واحدة. ونادرا ما يلجأ إلى نمط التقفية الحر المنوع(47). ومن أمثلة التوحيد القافوي قوله في قصيدة (أبو حيان التوحيدي):
خبا الليلُ،
واختبأ الأصدقاءُ
وخلَّعْتَ دونك بابَكْ
على رعشة في الخواءِ،
تفتشُ عنك
وتحصي غيابَكْ
تعبتَ إذن؟
أم وليُّ اغترابِكَ
أوهن فيكَ اغترابَكْ؟
خُذِ الريح من أول الريح:
نمْ عن هبوبكَ شيئا
ورَمّدْ كتابَكْ (حلاج الوقت، 95-96).
وبهذا التوحيد القافوي يتصاعد رنين الموسيقى الصوتية في الوقفات القافوية، بما يمسك الوزن من الانفلات، هذا فيما لو تنوعت الوحدات الموسيقية في الوزن (تنوع صور التفعيلات)، فما بالنا بالوزن الدقيق غير منوع الوحدات.
وعلى الرغم من تصاعد الرنين الموسيقي القافوي فإنه لا ينزلق إلى التطريب والصدح الغنائي، بل يبقى في دائرة الغنائية الهادئة، ذلك أن الشاعر كان أميل إلى القوافي المقيدة على المطلقة، وحتى القوافي المطلقة جاءت حاجة دلالية أكثر منها حاجة غنائية تطريبية. وتظهر براعة الشاعر الإبداعية في هذا المستوى القافوي في أن القافية تطرب السمع لكنها لا تحجب المعنى أو تزيحه خلف إنشادها الحاد، وأن موسيقاها تثير خيال الكلمة وتداعيات المعنى بحيث تطرب الروح بإثارتها التخييلية، فهي تقول المعنى موسيقيا بالإلماح والإيماء والإيحاء.
وهذه الصرامة الإيقاعية بالوزن والالتزام بالقافية الموحدة تقرب الشعر من جذوره الفنية أكثر، من سلفه الجاهلي، وتبعده عن الرائج في الشعر الحديث الأميل إلى التنويعات الوزنية والقافوية، أو التحرر منهما. والمسألة ليست تقليدا شكليا، إنما لغة هذا الشعر الهادئة المصقولة ومعانيها الظلية لا تحتمل التفاوت الإيقاعي في الوزن، ولا التوتر الصوتي في القافية. ومع هذه الصرامة الإيقاعية المتوافقة مع ميل اللغة الشعرية إلى التمهل، يبدو الشعر «شبيها بتموج وجداني شديد التماثل والتناظر»(48)، نظرا لانتظام الموسيقى شبه المطلق.
ويتعزز هذا الانتظام العروضي بالانتظام الصوتي، حيث تتكرر الأصوات المتماثلة، أو المتقاربة نطقا أو صفة، ومن ذلك تكرار اللام، ثم السين والشين، فالتاء في قوله:
يقول الكلام الذي لم أقلْهُ
كلاما كثيرا عليَّ،
وينقش جسميَ باسمي
أنا آخر العاشقين الطغاة،
ويسألني: لم تمتُ بعدُ؟
لا لم أمتُ!
(الأشجار على مهلها، 17)
وتكرار كلمة بعينها، كالتكرار الطقوسي لكلمة (كأس) في قوله:
أنا واحدٌ
والكأس
لا
تحصى
كأسٌ لتُسندني،
وكأسٌ مثلها لتطيحني
كأسٌ لأهدأَ،
مثلها كأسٌ لتهدأ بي
كأسٌ لأمحوَ فكرةً وحشيةً
ثقبت دمي،
ولأُلهيَ البرقَ الشفيفَ
عن احتراز أصابعي
كأس انتشاء
كاسُ بوحٍ،
كأسُ بلبلةٍ،
وكأسٌ للنعاسْ
(كأنه ليل، 40-41).
وبهذا يستعيد طاهر رياض وجه الشاعر الجاهلي، فيتعشق الكلمة المصوتة سبيلا للدخول في طقس اللغة. فيحتفظ شعره بجوهر الغنائية، ببؤرة الإبداع الرومانسي، التي هي الموسيقى. لكن هذا لا يعني أنه قصر تجربته على الغناء الساذج والبوح المباشر والذاتية الرائقة كعادة الرومانسيين، بل على العكس، إذ تتكثف فيها لغة المفارقة الضدية، واشتباك الأنا، واشتجار المعنى، واحتدام الرؤية. فيبقي طاهر رياض على الخيط الرابط للشعر بالغنائية، مهما بدا ابتعاده عنها، وذلك بالاشباعات الموسيقية التي تصير نفخة تبعث الحياة في الكلمات، مستعيدة روح الأشياء بكل حركيتها وحيويتها لتطل من خلالها على روح الكون بواحديته المتعددة.
أما الفاعلية التأثيرية لهذه الصرامة الإيقاعية والقافوية والتكرارات الصوتية فهي إثارة الارتخاء الحلمي وإثارة انتباه الخيال. وبقدر ما ينتظم الإيقاع والأصوات بقدر ما تزيد درجة الارتخاء الحلمي، أي غيبة الحس، فتزيد معها درجة انتباه الخيال، أي حضوره، ليصير الشعر بذلك أكثر إمساسا بالوجدان منه بالذهن. ولذلك، فإننا مع طاهر رياض نحس الشعر قبل أن نفهمه، ونغنيه دون أن نفهمه.
فالوزن والقافية ليسا إسار حديد يكبل روح الشعر والشاعر على ما يزعم أدعياء الحداثة وما بعد الحداثة، إنهما حمالان للرؤيا كغيرهما من العناصر المشكلة للنص. والالتزام بهما، بالأحرى الالتزام الصارم، لم يضع طاهر رياض في أسر ضروراتهما، ولم يقيد قريحته الشعرية، ولم يحل دون تجديده الواضح في البنية والأسلوب. ومن ذلك فرط الاقتصاد في اللغة بالاختزال والحذف والنمنمة، إلى حد أنه «يمحو أحيانا أكثر مما يجب، فنستمهله ونسأله أن يترك قليلا من الفحم والغبار لنرى العلاقة الأولى بين الأشياء والكلمات في تكوينها الأول»(49).
أوليست هذه هي السمة الأولى، أو الشرط الوجودي الأول لقصيدة النثر التي يباهى بامتيازيتها بها على الشعر الموزون المقفى السائر، على حد قول الصكر، نحو الترهل والهيجان اللغوي بما تفرضه ضرورات الوزن والقافية(50). ولعل فتنة اللغة المكثفة المحمولة بالوزن والقافية والمتوهجة بهما في شعر طاهر رياض ينطبق عليها ما قاله يوسف الخال بحسرة وأسى: «كنا نشكو من الوزن أنه إسار وسلسلة حديد، فإذا هو يعود يطل قالبا للمواهب»(51).
وإلى جانب الاقتصاد في اللغة تتميز قصيدة النثر حسبما هو قار في أدبيات الحداثة بكثافة الصورة الشعرية فيها، هذه الكثافة التي لا تكاد تجد لها مثيلا في الشعر العربي، وذلك نتيجة لانعتاقها من سلاسل الوزن والقافية. فهذه السلاسل أدت بشعر التفعيلة إلى استنفاد «طاقاته خلال فترة زمنية قصيرة، وقد لا يعمر طويلا في المواجهة مع الشعر الحر [قصيدة النثر] المسلح بأخطر أسلحة الشعر وأقواها، وأعني الصورة»(52).
ويقرر أبو ديب أن ثمة تناسبا عكسيا في توفر الفجوة: مسافة التوتر (=الانحراف) بين مكونات العمل الشعري، أو بين مكونين من مكوناته. وفيما يتصل بالوزن والصورة الشعرية من هذه المكونات يبدو «أن طغيان الانتظام الوزني في الشعر يرافقه انحسار للصورة الشعرية عنه. وكلما خف طغيان الانتظام الوزني كلما ازداد بروز الصورة الشعرية في النصوص المنتجة»(53).
وباستجلاء الشعر العربي في مراحله المختلفة يتبين له «أن نسبة ورود الصورة الشعرية في قصيدة النثر أعلى بمرات من ورودها في شعر التفعيلة. كذلك، إن نسبة ورود الصورة في الشعر الحديث أعلى بمرات من ورودها في الشعر القديم. والعامل الحاسم المرافق لهذا الخط البياني لارتفاع نسبة ورود الصورة الشعرية أو انخفاضها هو توفر الانتظام الوزني وانحساره»(54).
ويسقط شعر طاهر رياض هذا العامل الحاسم من أساسه، فطغيان الانتظام الوزني شبه المطلق في شعره يرافقه طغيان للصورة الشعرية. ولا يعني هذا أن أبا ديب أخطأ في استجلاء الشعر وتحديد خطه البياني الذي يظهر تناسبا عكسيا بين الوزن والصورة الشعرية، إنما يرجع الأمر إلى الخصوصية الشعرية لنص طاهر رياض. وهو ما دعا محمود درويش إلى وصف قصيدته بأنها «العناق الأقصى بين الصورة والإيقاع»(55). ولعل بضعة مقاطع من قصيدة (جهات عمياء) كافية لإظهار النسبة العالية لورود الصورة الشعرية في سياق الصرامة الإيقاعية وزنا وقافية:
الكأس نحو هشيمها الفَوَّارِ،
لَبّات الصبايا نحوَ سكين الترهُّلِ،
غلمةُ الدفلى الطريةِ نحوَ أسنان الهواءِ،
جهاتُكِ العمياءُ نحوي
جرّي غيابَكِ كلَّهُ نحوي
هيأتُ ما أبقيتِ لي:
جسدا يهبُّ
وشهوةً تهوي
خذني قليلاً منكَ يا رملَ البدايةِ
أسمعُ الأصدافَ تنشجُ فارغاتٍ
في جيوبِ الماء،
أسمعُ بومةً تتلو بصيرتَها وحكمَتَها عليَّ
وتعتريني خفّةً سوداءَ،
أسمعُ ليلَها السريّ يشرقُ بي؛
قليلاً منك يا رملَ البدايةِ
ليس لي قلبٌ لأرحلَ فيكَ
أو لغةٌ لأنضِجَ في تَهدُّجِ نارها لغوي
(الأشجار على مهلها، 41).
فالانتظام الوزني في هذا الشاهد والمدعم بالانتظام القافوي لم يرافقه انحسار للصورة الشعرية، بل على العكس، ارتفعت نسبة ورود الصورة، ربما، إلى درجة أكبر من نسبتها في قصيدة النثر. هذا مع الفارق النوعي بينهما، إذ تكثف الصور في شعر طاهر رياض الدلالة، وتكشف ثراء المعنى وتعدده، بينما يرافق كثرة الصور الشعرية في قصيدة النثر انحسار للمعنى. والنص الشعري الحديث في الثمانينيات، كما يشير أبو ديب، بلا مقول ولا منطوق ولا محرق تركيز ولا رؤية، ومع كل تنام لغوي جديد يزداد تقلص الدلالة(56). خلافا لنص طاهر رياض، فله مقول ومنطوق ومحرق تركيز ورؤية، رغم غموضه وإيحائيته وتعدد الدلالة فيه واشتباكها.
فالدوال، الجسد التعبيري للقصيدة، شديدة التماسك والاقتصاد والاكتمال، وهي مشوقة بما تختزنه من طاقات شعرية هائلة. أما المدلولات فهي متراكبة الطبقات مع هذه الكثافة التصويرية التي تعتمد على كفاءة خيال الكلمات، مما يحفظها من الانزلاق إلى التعبيرية المباشرة والوضوح أو إلى التغريب والتجريد. فعلى الرغم من ميل القصيدة «إلى الغموض والتكتم، فإنها مزودة بمفاتيح لقراءتها على نحو مقبول»(57). وهذه مسألة تستأهل دراسة مستقلة، خاصة في ظل ازدياد النماذج الشعرية المنبنية على تغييب المعنى وإبهامه.
المراجع
– أبو ديب، كمال: في الشعرية. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، ط1، 1987.
– أبو ديب، كمال: لغة الغياب في قصيدة الحداثة. فصول، مجلد8، عدد3-4، ديسمبر1989.
– استيتية، سمير شريف: الأصوات اللغوية رؤية عضوية ونطقية وفيزيائية. عمان: دار وائل للنشر والتوزيع. ط1، 2002.
– باشلار، غاستون: جدلية الزمن. ترجمة: خليل أحمد خليل. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر. ط1، 1982.
– البريسم، قاسم: منهج النقد الصوتي في تحليل الخطاب الشعري، الآفاق النظرية وواقعية التطبيق. دار الكنوز الأدبية، ط1، 2000.
– بنفنست، إميل: سيميولوجيا اللغة. ترجمة سيزا قاسم، ص171-195، في: أنظمة العلامات في اللغة والأدب، مدخل إلى السيميوطيقا. إشراف: سيزا قاسم. القاهرة: دار إلياس، 1986.
– جيلفورد: ميادين علم النفس. ترجمة: يوسف مراد. القاهرة: دار المعارف، 1955.
– الحسين، أحمد جاسم: إيقاع الشعر العربي بين الاختراقات والثوابت، المعرفة، عدد 402، آذار1997.
– خضير، ضياء: الشاعر طاهر رياض في ديوانه (الأشجار على مهلها): العمى والبصيرة وارتباطاتهما معا مظهر لوحدة العالم في لغته الشعرية، الرأي الثقافي 22/9/2000.
– الخطيب، رحاب: معراج الشاعر، مقاربة أسلوبية لشعر طاهر رياض. عمان: المؤسسة العربية، 2005.
– رشيد، أمينة: السيميوطيقا في الوعي المعرفي المعاصر، ص47-65 في: أنظمة العلامات في اللغة والأدب، مدخل إلى السيميوطيقا. إشراف: سيزا قاسم. القاهرة: دار إلياس، 1986.
سيرنج، فيليب: الرموز في الفن، الأديان، الحياة. ترجمة: عبد الهادي عباس. دمشق: دار دمشق، ط1، 1992.
– شكري، غالي: برج بابل- النقد والحداثة الشريدة، بيروت: دار رياض الريس، 1989.
– الصكر، حاتم: قصيدة النثر والشعرية العربية الحديثة، من اشتراطات القصد إلى قراءة الأثر. فصول، مجلد15، عدد3، 1996.
– طاهر رياض:
– شهوة الريح. عمان: دار منارات للنشر. ط1، 1983.
– طقوس الطين. عمان: دار منارات للنشر. ط1، 1985.
– العصا العرجاء. عمان: دار منارات للنشر. ط1، 1988.
– حلاج الوقت. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط1، 1993
– الأشجار على مهلها. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط1، 2000
– كأنه ليل (قصيدة). بيروت: رياض الريس لكتب والنشر. ط1، 2005.
– الطرابلسي، محمد الهادي: تحاليل أسلوبية. مفاتيح. تونس: دار الجنوب للنشر. ط1، 1992.
– عياد، شكري محمد: موسيقى الشعر العربي، مشروع دراسة علمية. القاهرة: دار المعرفة. ط2، 1978.
– العياشي، محمد: نظرية إيقاع الشعر العربي. تونس: المطبعة العصرية، 1986.
– فضل، صلاح: أساليب الشعرية المعاصرة. القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع. ط1، 1998.
– اللاذقاني، محيي الدين: القصيدة الحرة معضلاتها الفنية وشرعيتها التراثية. فصول، مجلد16، عدد1، صيف1997.
– محمد، علي عبد المعطي: سورين كيركيجارد مؤسس الوجودية المسيحية. الاسكندرية: دار المعرة الجامعية (د.ت).
– ناظم، حسن: البنى الأسلوبية دراسة في «أنشودة المطر للسياب. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي. ط1، 2002.
– الهاشمي، علوي: جدلية السكون المتحرك، ج1، بنية الإيقاع، دراسة في البنية والأسلوب تجربة الشعر المعاصر في البحرين نموذجا. منشورات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، 1992.
– ياكبسون، رومان: قضايا الشعرية. ترجمة: محمد الولي ومبارك حنوز. الدار البيضاء: دار توبقال للنشر. ط1، 1988.
– يونس، علي: نظرة جديدة في موسيقى الشعر العربي. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1993.
الهوامش
(1) أبو ديب، كمال: في الشعرية. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، ط1، 1987، ص117.
(2) الخال، يوسف: النهار18/6/1978.
(3) السابق.
(4) نور الدين، جودت: مع الشعر العربي، ص126.
(5) المرجع السابق، ص105.
(6) المرجع السابق، ص107.
(7) الخال، يوسف، النهار18/6/1978.
(8) باشلار، غاستون: جدلية الزمن. ترجمة: خليل أحمد خليل. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر. ط1، 1982، ص151.
(9) جيلفورد: ميادين علم النفس. ترجمة: يوسف مراد. القاهرة: دار المعارف، 1955، ص489-490.
(10) باشلار، غاستون: جدلية الزمن، ص134.
(11) الهاشمي، علوي: جدلية السكون المتحرك، الجزء الأول بنية الإيقاع، دراسة في البنية والأسلوب تجربة الشعر المعاصر في البحرين نموذجا. منشورات اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، 1992، ص476.
(12) المرجع السابق، ص391.
(13) حوار مع الشاعر طاهر رياض، الرأي 30/1/2004.
(14) السابق.
(15) باشلار، غاستون: جدلية الزمن، ص139.
(16) انظر: الصكر، حاتم: قصيدة النثر والشعرية العربية الحديثة، من اشتراطات القصد إلى قراءة الأثر. فصول، مجلد15، عدد3، 1996، ص86.
(17) شكري، غالي: برج بابل- النقد والحداثة الشريدة، بيروت: دار رياض الريس، 1989، ص47- 48.
(18) فضل، صلاح: أساليب الشعرية المعاصرة. القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع. ط1، 1995، ص177.
(19) الحسين، أحمد جاسم: إيقاع الشعر العربي بين الاختراقات والثوابت، المعرفة، عدد 402، آذار1997، ص126.
(20) خضير، ضياء: الشاعر طاهر رياض في ديوانه (الأشجار على مهلها): العمى والبصيرة وارتباطاتهما معا مظهر لوحدة العالم في لغته الشعرية، الرأي الثقافي 22/9/2000.
(21) انظر: العياشي، محمد: نظرية إيقاع الشعر العربي. تونس: المطبعة العصرية، 1986، ص43-60.
(22) السواد الأعظم: الجمهور الأعظم، السواد: مال كثير، السواد: مجموعة النخل والأشجار. اللسان (سود).
(23) سواد الكوفة نواحيها وما حواليها، امتداداتها المحيطة. اللسان (سود).
(24) المقطع الطويل أقوى من القصير وأعلى صوتيا وأوضح سمعيا.
(25) سيرنج، فيليب: الرموز في الفن، الأديان، الحياة. ترجمة: عبد الهادي عباس. دمشق: دار دمشق، ط1، 1992، ص429.
(26) يتحدد نسق الإيقاع بصورة التفعيلة الأكثر ترددا في القصيدة، ولا بأس من أن تكون بالصورة المزاحفة لا الصورة السالمة. انظر: يونس، علي: نظرة جديدة في موسيقى الشعر العربي. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1993، ص181-182.
(27) ليس ثمة إيقاع منتظم انتظاما مطلقا، وهذا مكمن حركية الإيقاع التي تمسكه من الرتابة، بل شرط الإيقاع الجوهري عدم الانتظام المطلق. أبوديب، كمال: في الشعرية، ص52.
(28) استيتية، سمير: الأصوات اللغوية، ص300.
(29) المرجع السابق، ص300.
(30) البريسم، قاسم: منهج النقد الصوتي في تحليل الخطاب الشعري، الآفاق النظرية وواقعية التطبيق. دار الكنوز الأدبية، ط1، 2000، ص50.
(31) سيرنج، فيليب: الرموز في الفن، ص361.
(32) المرجع السابق، ص361.
(33) محمد، علي عبد المعطي: سورين كيركيجارد مؤسس الوجودية المسيحية. الاسكندرية: دار المعرة الجامعية (د.ت)، ص316.
(34) المرجع السابق، ص288.
(35) انظر: عياد، شكري محمد: موسيقى الشعر العربي، مشروع دراسة علمية. القاهرة: دار المعرفة. ط2، 1978، ص119.
(36) انظر: استيتية، سمير: الأصوات اللغوية، ص134-136.
(37) انظر: رشيد، أمينة: السيميوطيقا في الوعي المعرفي المعاصر، ص47-65 في: أنظمة العلامات في اللغة والأدب، مدخل إلى السيميوطيقا. إشراف: سيزا قاسم. القاهرة: دار إلياس، 1986، ص56-57، 60-61.
(38) بنفنست، إميل: سيميولوجيا اللغة. ترجمة سيزا قاسم، ص171-195، في: أنظمة العلامات في اللغة والأدب، مدخل إلى السيميوطيقا. إشراف: سيزا قاسم. القاهرة: دار إلياس، 1986، ص180.
(39) انظر: ناظم، حسن: البنى الأسلوبية دراسة في «أنشودة المطر للسياب». الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي. ط1، 2002، ص97-142.
(40) انظر: فضل، صلاح: أساليب الشعرية المعاصرة، ص176-178، 185-186.
(41) فضل، صلاح: أساليب الشعرية المعاصرة، ص177.
(42) طاهر رياض، اللواء 19/10/1988.
(43) من كلمة ألقاها بمناسبة توقيع إصدار (كأنه ليل) لطاهر رياض.
(44) بزيع، شوقي، الحياة 29/5/2000.
(45) العصا العرجاء، ص83-84.
(46) انظر: الخطيب، رحاب: معراج الشاعر، مقاربة أسلوبية لشعر طاهر رياض. عمّان: المؤسسة العربية، 2005، ص11-18.
(47) انظر: المرجع السابق، ص32-37.
(48) بزيع، شوقي، الحياة 29/5/2000.
(49) من كلمة ألقاها الشاعر محمود درويش بمناسبة توقيع إصدار (كأنه ليل) لطاهر رياض.
(50) الصكر، حاتم: قصيدة النثر والشعرية العربية الحديثة، ص 78، 81.
(51) الخال، يوسف، النهار 18/6/1978.
(52) اللاذقاني، محيي الدين: القصيدة الحرة معضلاتها الفنية وشرعيتها التراثية. فصول، مجلد16، عدد1، صيف1997، ص43.
(53) أبو ديب، كمال: في الشعرية، ص91.
(54) المرجع السابق، ص91.
(55) من كلمة ألقاها الشاعر محمود درويش بمناسبة توقيع إصدار (كأنه ليل) لطاهر رياض.
(56) أبو ديب، كمال: لغة الغياب في قصيدة الحداثة. فصول، مجلد8، عدد3-4، ديسمبر1989، 95.
(57) اليوسف، يوسف سامي: طاهر رياض وحلاج الوقت، الأسبوع 20/ 9/1997.
رحــــاب الخطيــــب
ناقدة وأكاديمية من الأردن