ظهرت الرواية النسوية العمانية في سياق ظهور جيل من الروائيين في مرحلتي الثمانينات والتسعينات و بداية الألفية الثالثة من القرن الحادي والعشرين،إذ ظهر زخم هائل من الروايات العمانية بمختلف التيارات الواقعية والرومانسية لتشق الرواية النسوية طريقها مسجلة حضوراً لنوعية كتابة المرأة الروائية المغايرة لكتابة الرجل الروائية.
عليه تحاول هذه الشهادة قراءة المشهد السردي الروائي النسوي العماني منذ بدايته حتى اليوم وما يحويه من سبر عميق لمحاولات التحليق لكسر صمت الأنثى عن خصوصيتها والإفصاح عن ذاتها مغايرة للأنساق الثقافية والاجتماعية السائدة. كما تعلن هذه القراءة الفاحصة أن حضور الرواية النسوية العمانية في المشهد السردي العماني جاء متأخرا حتى أواخر التسعينيات من القرن العشرين. ورغم هذا التأخر في التجربة النسوية لكتابة نص روائي مغاير ، إلا أنه جاء مكثَفاً ومختزلاً لكل مراحل كتابة الرواية العربية النسوية. بمعنى آخر لم يكن ظهور أول نص روائي نسوي عماني ظهوراً خجولاً متردداً كما هي عادة التجربة في الكتابة الأولى ولم يُتّهم كذلك بالضعف والهشاشة ومجاراة الكتابة الذكورية السائدة. كما أنها لم تكن تجربة تقليدية متخبطة تغلب عليها ضحالة الفكرة وهشاشة التسلسل للأحداث بل جاءت محملة بكل مقومات التجربة الروائية النسوية الناضجة وكأنها وُلدت ولادة طبيعية لم تحرق معها مراحل الكتابة الروائية المفقودة.
يتبدى كل ما سبق منذ أول رواية نسوية عمانية بعنوان «الطواف حيث الجمر « لبدرية الشحي والصادرة عام 1999، إذ يجد قارئ الرواية علو صوت المرأة الرافض للصمت الطويل ضد الأنساق السائدة كما يتضح أن النص يمثل نضجاً فنياً ولغوياً وعمقاً فكرياً.
و منذ شرارة الرفض والإختلاف في حضور الرواية النسوية العمانية سواء من الجانب الفني أو الموضوعاتي كانت بداية الحلم بإعلان الرفض ضد كل الأنساق القيمية والمجتمعية السائدة، حيث أتخذ المشهد الروائي النسوي العماني منذ (1999-2014) من حلم كسر الأنساق الاجتماعية والثقافية الذكورية الأبوية منبراً للرفض والتمرد والتحطيم وكأنها ردة فعل قاسية بمقدار قسوة تلك القيم والأنساق في تعاملها مع المرأة / الإنسانة. وأعلنت غالبية روايات المشهد السردي النسوي العماني تمرد ورفض الشخصية المحورية سواء كانت إمرأة أو رجل ضد أية سلطة أبوية اجتماعية – حتى وإن كانت تلك السلطة تمارس من قبل الأم أو المرأة نفسها متمثلة في ذلك بالنسق الثقافي الاجتماعي من خلال العادات والتقاليد الراسخة في ذهنية المجتمع.
و المتمعن في جملة المشهد الروائي النسوي العماني يدرك أن وعياً ثقافياً حاضراً بقوة لتحطيم وخلخلة جملة الأنساق الثقافية والاجتماعية الأبوية التي سيطرت على المجتمع بدت بعمق تتكثف وتسيطر على كتابات المرأة ونصوصها. تلك هي طبيعة كتابات المرأة في طرحها للمغاير والمختلف لكتابة الرجل ولأنها -أي المرأة/ الأنثى- كانت وما زالت موضوعا وقضية مقترنة بالتهميش والدونية والاحطاط من قيمتها ومكانتها منذ بداية الكتابة / اللغة وبداية التاريخ / الذاكرة مما شكل لاوعياً جمعياً نسقياً سحق مكانة المرأة وألغى عقلها وفكرها وقدمها في صورة جامدة تحولت بفعل التكثيف إلى صورة نمطية ذهنية لا تتجاوز قيمتها الشهوة والإغراء والمتعة الجسدية التي قدمها ومارسها المجتمع الأبوي. فجاءت كتاباتها لتؤسس لفكر نسقي مغاير ولترد الاعتبار لكينونتها وتقييم فكرها ووعيها بدلاً من تضخيم الجسد/ الجنس وحصر قيمتها فيه. ومزجت الأثنين معا إذ لم تنفي قيمة الجسد ولكنها كذلك لم تغفل قيمة العقل وعمق الوعي كجزء اساسي من كينونتها.
بتلك المغايرة والاختلاف بدت الرواية النسوية العمانية منذ نقطة البداية أكثر جسارة وأعلى صوتاً في كسر ذلك الصمت المطبق الذي عاشت تحت كاهله عقوداً طويلة والذي خلق منها صورة نمطية لدونيتها وهامشيتها وفراغ فكرها وعقلها، فما كان منها- المرأة الروائية- إلا أن تعلن وبصوتها وتعري أدق تفاصيل حياتها وكينونتها التي تغاير تلك الصورة النمطية وقد تقترب منها مع التأكيد على أن ذلك الإقتراب يأتي منها وعبرها وليس بالإنابة عنها.
وقد عايش المشهد الروائي النسوي في سلطنة عمان من الفترة (1999-2014) تحولات جذرية على المستوي الفني والفكري للكتابة الإبداعية مما جعل الروائية العمانية تتموضع لها موقعاً بارزاً على خريطة الأدب السردي العماني الحديث لفت إنتباه النقاد والروائيين من الخليج والعالم العربي بدرجات متفاوتة وبرزت اسماء لروائيات عمانيات أسهمن في تشكيل المشهد الروائي العماني بصورة عامة والمشهد الروائي النسوي بصورة خاصة لما كان لهن من دور في المغايرة وتحطيم الأنساق الثقافية والاجتماعية التقليدية كما نجدها في روايات غالية آل سعيد وجوخة الحارثية وهدى حمد وزوينة الكلبانية وفاطمة الشيدي وأخريات ممن ظهرن مؤخراً.
و من البديهي أن تتمايز وتتغاير كتابة المرأة حين تكون كتابة واعية بحرفنة الرواية وليس لمجرد الكتابة. إذ لم يكن حضور الروائية العمانية في المشهد السردي العماني مجرد أرقام بل أثبتت الروائية العمانية معرفتها ووعيها منذ أول نص روائي نسوي وصولاً إلى أخر رواية صدرت في عام 2014 . تلك المغايرة في كتابة الرواية النسوية العمانية بدت من خلال التمحور حول قضية شائكة في كتابة المرأة عن ذاتها ومصيرها بصورة تختلف كلية عن ما قدم عن المرأة في الرواية الذكورية، يكمن الاختلاف في تهشيم للأنساق الثقافية والاجتماعية لاسيما تلك القيم الجمعية المعلنة التي تلغي قيمتها وتؤكد على دونيتها كقيم العيب والعار والفضيحة والوأد وفي المقابل تؤكد ذات القيم والأنساق على أن المرأة ليست سوى معادل للجنس والجسد. لمجرد المسايرة للسياق العام المقبول واللاعقلاني.
وإذ نستشهد على تلك التحولات الجذرية الفكرية التي أعلنتها الروائية العمانية بوعيها وفكرها ومعرفتها من خلال نتاجاتها الروائية واصبحت منهجاً فكرياً في تكثيف الرفض والتمرد من خلال الزخم الروائي بدءاً من رواية « الطواف حيث الجمر» وختاماً بـ«التي تعد السلالم». إذ تؤكد غالبية تلك الروايات على رغبة عارمة في التمرد ورفض القهر والكبت الذي طغى على حياة المرأة حتى وإن تبدت تلك الرغبة في حلم أو خيال ينقشع أو ينتهي بنهاية النص الروائي.
ونجد الشخصيات المركزية في تسيير أحداث النصوص النسوية تتكلم بصوت العلم والمعرفة وشغف الإطلاع والتجربة مهما كانت تجربة مؤلمة أو قاسية؛ فكل من «زهرة – صابرة- ميّا- أمل – نورة – زهيّة وأخريات « يسعين للتغيير لحياتهن لكنه تغيير ينتهي إما بموت للحلم أو تحليق بعيد عن الواقع وفي كلاهما يبقى الرفض والتمرد مجرد حلم داخلي نفسي لا يقوى على المجابهة والتصادم للأنساق الثقافية السائدة والسلطوية لتهوي كل الأصوات المتمردة وتبقى الأنساق الثقافية والاجتماعية قوية صامدة.
تبدو زهرة في «الطواف حيث الجمر» متمردة بكسر مرحلة الصمت الحلال كمعادل للكلام /التابو المحرم على حياة المرأة من خلال رغبتها للتعلم والأختيار ومن ثم هروبها إلى زنجبار المكان الذي هاجر إليه «سالم» الحبيب الذي نذروه الأهل لها منذ الصغر ومات غرقاً بعد أن تزوج من أفريقية. تكسر زهرة أول نسق إجتماعي أبوي حين تقرر الهرب متمردة ضد قرار عمها ووالدها تزويجها من ابن عمها الذي يصغرها بعشر سنوات فتهاجر إلى زنجبار لتبدأ رحلة الطواف حول حلم الحرية. هروب زهرة من أجل الإنتقام من النسق التقليدي المجبرة عليه والبحث عن الحرية في زنجبار / وجهة العمانيين : مكان رحيل المحبوب الذي تركها من أجل حب أفريقي زنجي غير قبيلي « محرم آخر من محرمات النسق الاجتماعي- السلطوي القبلي». وتمر رحلة زهرة بمحطات موت ومهانة وإذلال لتنتهي بأن تتزوج من خادمها الزنجي حماية لها من ثورة الزنوج التي أشتعلت وبالتالي تنتهي بعبودية من نوع آخر. وكأن حلم الحرية والإنعتاق أنكسها فيما كانت ترفضه وتتمرد عليه لتأتي هي نفسها بممارسته.
ويتكثف حلم الانعتاق من سلطة القيم المجتمعية والأبوية كسلطة الأخ والمجتمع لدى « صابرة» في رواية «صابرة وأصيلة 2007» « لغالية آل سعيد إذ تبدو «صابرة» المحكومة من قبل أخيها حمد «أب لثماني بنات» والأم التي تسيرها الأنساق والعادات القديمة تجاه البنت لتصبح صابرة فتاة منهكة مقهورة تبحث عن ذاتها تمارس تحطيماً نسقياً خفياً أخر بحب العلم المحرم ورغبة عارمة في الهروب من المجتمع المنغلق بفكره وممارساته حباً للمعرفة الرحبة ليتحول الشغف بالعلم إلى شغف بالمدرس العربي «شهم أبو طفلة» لتدخل في علاقة محرمة يسافر بعدها شهم دون عودة وتنتهي بحمل غير شرعي تنوء بثقله حتى تلد الولد «باسم» لينتهي النص بموت الحلم على يد أخيها حمد صبيحة يوم العيد». صابرة الفتاة البيسطة ذات اللون الأسمر والجميلة والأسرة القليلة العدد تتحول بفعل الكبت والبؤس المجتمعي الذي تعيشه وحرمانها من التعليم والخروج من البيت وحكرها ضمن سياق العيب والعار إلى ثورة في الرغبة في التجربة وكسر صنم الأخوة المتسلطة. وتنتهي تلك الرغبة بالموت بدم بارد وتركها دون تحديد لهويتها لتعلن الرواية موت حلم الحرية والإنعتاق.
وو يتواصل حلم الإنعتاق بحكاية «أمل» في رواية في «الأشياء ليست في أماكنها» لهدى حمد والصادرة في 2009 ؛ الفتاة البيسرة الراغبة في التخلص من العبء الاجتماعي والثقل القبلي من خلال ممارستها الفساد والرذيلة الذي لا يغير من حالتها ومكانتها الدونية ولا يخفف من العبء الاجتماعي في علاقتها المفتوحة والمعلنة يصل كل ذلك الصوت في الرفض ليكون مجرد مشهد لتنويم مغناطيسي لدى «منى».
وتكمل نساء «سيدات القمر» لجوخة الحارثية والصادرة عام 2010 مسيرة الحلم والتحليق في سموات الحرية لتكشف الرواية علاقة كل من الأخوات الثلاث «ميّا» و«خولة» و«أسماء» مع تفاوت عقليتهن وحظهن مع بعضهن ومع الأم «سليمة» والأبنة «لندن» وذواتهن المأزومة بالآخر وعلائقهن مع الأب والزوج لتكشف خبايا معاناة الذات وليبقى حلم الإنعتاق مكلفاً وباهضاً بخسران الآخرين كالزوج والأب والعائلة.
أما «نورة» في «ثالوث وتعويذة» لزوينة الكلبانية والصادرة عام 2011 والهاربة من سوداويتها وتشاؤمها للرقم ثلاثة ولتجد نفسها تتعرف على «سعود» في رحلة الهروب إلى لندن لتنتقل من سوداويتها بعلاقة إعجاب تتطور لحب يخلق لها أجواء جديدة من الفرح الحذر والملتبس بخوف قاتل من المستقبل الذي لا يخطئها لتنتهي بموت الحلم / سعود ليلة زفافها بحادث تدهور ثلاثة جمال تدخل بعدها في غيبوبة طويلة تتعافى منها ببطء.
ويختم المشهد السردي النسوي العماني بـ«زهيّة» في «التي تعدُّ السلالم» لهدى حمد والتي يعينها والدها على تحقيق حلم التعلم لترفع اسمه بين القبيلة رغم رفض والدتها لكون تعليم البيت لا فائدة منه سوي العار وأن التعليم وسيلة انحراف البنت وفسادها. ثم تكبر ويكبر الحلم معها في إختيار ابن السواحيلية «بي سورا» زوجاً لها رغم رفض والديها وخوفهما من العار والفضيحة وتزويجها لعامر ودخولها في دائرة الانغلاق الاجتماعي لتظهر أحلام أخرى وكوابيس تنتقل من ذهنية خادمتها إلى ذهنية زهية نفسها ولتكتشف بأن ذلك الانتحار لن يتعداها إلا بخروجها من الانغلاق ومن المربعات رسمتها للخدم وللأخرين ولكنها تعيش فيها. وتنتهي الرواية بانفراج الحلم من خلال انعتاق «زهية» نفسها من وساوسها.
ختاماً، من القراءة الفاحصة للمشهد السردي النسوي العماني في الفترة من (1999-2014) تتضح الرغبة الشديدة لدى الروائيات العمانيات في تكثيف رفضهن للأنساق الاجتماعية الذكورية السائدة ضد المرأة في المجتمع والصورة النمطية عن دونيتهن وهامشيتهن ومحاولاتهن في تحطيم تلك الأنساق السائدة وتصحيح الصورة المغلوطة عن المرأة.
لكن من يتعمق في قراءة نهايات غالبية عينة النصوص الروائية النسوية يصل إلى استنتاجات مؤلمة تبين أن كل مساعي المرأة الروائية في الرفض إما بسبب الرجل أو لحب رجل آخر أو الهروب من ظلم رجل وجميع الروايات تجمع على ذلك السبب، ولم تتفق على أن المرأة نفسها هي السبب في كل ما تقع فيه من ظلم وقهر واستبداد وأن خنوعها وخضوعها للأنساق راجع لعدم قدرتها على مواجهتها إلا بالحلم . كما أن تمرد الأنثى لا يعدو كونه أحلاما معلقة تتهاوى إلى الأرض مخلفة فقاعات فارغة بموت الحلم. وكأن تحطيم الأنساق الاجتماعية والثقافية التي ترفضها المرأة في الواقع الذي تعيشه يبقى حلماً لن يقترب من الواقع ولن تجازف المرأة في الإعلان عنه بصوتها بل تجعله حلماً محلقاً مؤجل التنفيذ.
——————————
شريفة بنت خلفان اليحيائية