مستعرب إيطالي
د. ألدو نيكوسيا –جامعة باري- إيطاليا
يعتبر هذا المقال محاولة للبحث عن الجدلية بين قِيَم التّراث والحداثة/ التجديد في الشعر العربي القديم والحديث، انطلاقًا من المتنبي ومرورًا بأبي القاسم الشابي و”إرادة الحياة” وفلسفة الأضداد لدى أدونيس، للوصول إلى ثنائي الآدمية/ العدمية في قصائد آدم فتحي. هنا نقترح رحلة في قِيَم الشعر العربي، والشاعر وقِيَمه، من منظورِ مستعربٍ يرغب في الانتماء إلى أهل الشعر.
كيف تكتبُ؟ (سألت الطفلةُ أباها وكان أعمى) كيف تكتب؟
أنظرُ في نفسي (قال) أنظر في نفسي طويلًا
إلى أن أرى ثقبًا في الورقة
أضعُ على الثقب كلمةً صغيرة
ثمّ كنافخ الزجاج
أنفخُ في الكلمة كي تكبر (قال) أنفخ في الكلمة
كي تكبر قليلاً
هكذا أحصلُ أحيانًا على قصيدة
ثمّ ماذا (سألت الطفلة أباها) ماذا بعد؟
لا شيء يا ابنتي (قال) لا شيء يا ابنتي
يستحقّ الذكر
سوى أنّي
قد أقع في الثقب فلا أعود.
(آدم فتحي، نافخ الزجاج الأعمى، 2011)1
1. على سبيل المدخل
ـ مدرس العربي طردني من الصفّ وقال لي ما تجيش إلا ووليّ أمرك معاك
ـ ليه؟ عملت معاه إيه؟
ـ أبدًا. طلب مني أقول بيت البحتري. قلت له ما يعجبنيش …طردني.
ـ ما شاء الله. البحتري ما يعجبكش ليه؟
ـ أصلو منافق. مش هو بس. المتنبي وأبو تمام كمان.
ـ الثلاثة منافقين؟ إزاي؟
ـ كانوا بيمدحوا عشان ياخدوا فلوس وإن ما خدوش يشتموا.
هذا مشهد من فيلم مصري عنوانه «محاكمة علي بابا2 من إخراج إبراهيم الشقنقير3ى، عرض في أوائل الثمانينيات من القرن الماضى، نرى فيه طالبًا من طلاّب الإعدادية يحدّث أباه عمّا جرى له في الصف بعد رفضه لحفظ قصائد الشعراء الثلاثة المذكورين مندّدًا بأخلاقهم لأنّهم كانوا يمدحون، ويذمّون الحاكم بناء على مصلحتهم الشّخصية، لا حبّا فيه.
في مشهد لاحق يحاول الأب إقناع ابنه بالتّهوين من نقائص الشّعراء الشّخصية، والتركيز على الجوانب الجمالية في أشعارهم، لكن الطّالب يعتقد بأنّ الأمرين (العبقرية والأخلاق) مرتبطان بعضهما ببعض، فعبّر بذلك، بشكل غير واعٍ عن تساؤل سقراطيّ: ألا يمكن للجمال أن يولد إلاّ موصولا بالطّيبة؟4
لمّا اقترحوا عليّ أن أكتب مقالا عن الشّعر العربي والقيم الإنسانية5 طفح هذا المشهد بالذّات على سطح ذاكرتي، فانتابتني حيرة كبيرة: أأكتب عن قيم الشّعراء السيرذاتية؟ أم عن القيم التي تعبّر عنها قصائدهم؟ إذ الأمران مختلفان.
في بادئ الأمر، نتساءل ما مفهوم القيمة؟ إنه أمر نقيّمه، ويترتّب عليه سلوكنا. مثلًا، المبادئ أو المثل العليا التي تحدّد أفكارنا، فتنعكس على أفعال حياتنا اليومية. لو صار انفصام بين مبادئنا وأفعالنا، فذلك قد يدلّ على أنّ قيمنا قد فقدت قيمة وأهمّية. ففي تلك الحالة، كيف نصر ّعلى أن نسميها “قِيمًا”؟
كثيرا ما يكتسب شيء ما قيمة لأنّه مرغوب فيه. أو هو مرغوب فيه لأنّه ذو قيمة ذاتيّة، ممّا يعني أنّ هناك قيمًا كوسيلة وقيمًا كغاية. القيم تترجم في سلوكيات ترتبط بأخلاق الإنسان، أو الفضائل الدّينيّة، أو الحضارية التي تقوم عليها حياة المجتمع. يمكن أن نعتبر القيم تعبيرًا عن الوعي العقليّ، أوالوجدانيّ، أومجرّد معتقدات أومحرّمات دينيّة.
القيم المجرّدة لا تتغير من مجتمع إلى آخر، في حين أنّ القيم السّلوكية يمكن أن تُطبّق بشكل مختلف باختلاف المعطيات الاجتماعيّة والحضاريّة والدّينية. لكنْ، ورغم الخصوصيّات الحضاريّة بين الناس، فإنّهم جوهريًا، سواسية كأسنان المشط. غير أنّه، لسوء الحظّ، ينسى الإنسان أو يتناسى أنّه جزء لا يذكر من الكون الذي له ألوان وأشكال وأصوات، بروح واحدة نسمّيها الإنسانيّة.
ذكّرني مشهد الفيلم المذكور بأحد أكبر كوابيسي المدرسيّة لمّا كنت تلميذًا في الابتدائية والإعداديّة، أعني حفظ قصائد شعراء إيطاليين غالبًا ما تكون من القرون الماضية. كنت أجد صعوباتٍ في فهم بعض الكلمات القديمة أو غير الدّارجة. وكان الخوف والإخفاق يخامراني دائما، ذلك أنّ حفظ ما لا نفهمه عمل شاق!!.
أصفق لطالب الفيلم الذي فهم كلّ الأبيات بسهولة رغم أنّه كان يحتاج إلى شرح معمّق من قبل مدرّسه. وبنوع من السّذاجة المبرّرة، وجد الطالب القصائد متناقضة، فلم يُولِهَا قيمة، لأنّه لم يعط قيمة لمن نظمها. على كلّ حال من المنطقيّ أنّ شاعرا عبقريّا مثل المتنبي، الذي ما زالت أبياته قادرة على أن تكون حِكَمًا ومرجعًا في اللّغة، يخضع للانتقاد بسبب التّناقضات المزعومة في المدح والهجاء. بلا شك، أنّ للمتنبي مواقفَ خارجة عن السّائد والمستقرّ والمألوف، ونفترض أنّه كان يمكن أن يتقبّل هذا الانتقاد مبتسمًا.
لمَّا كنت طالب اللّغة العربية في جامعة نابولي في إيطاليا في آخر الثمانينيات، حدثت لي تجربة تشبه تلك التي وصفتها سلفًا. كنت أجد القصائد العربية الأصليّة (يعني غير المترجمة) المقرّرة في برنامج امتحان اللّغة العربيّة صعبة إلى حدّ ما، وكنت مضطرًا للبحث عن معاني الكثير من الكلمات في القاموس، فضلا عن استحالة فهم دلالات ثقافيّة أو كنايات أو رموز وحيل شعريّة أخرى في كثير من الأحيان. وممّا زاد الطّين بلّة أنّ مدرّسي كان يشبه مدرّس الفيلم. ولم يكن يشرح الأبيات كلمة بكلمة كما ينبغي لمتعلّمي العربية كلغة ثانية.
2. ألست من أهل الشّعر؟
وسوست لي تجربتي المعقّدة والصّعبة في فهم الشّعر العربيّ الكلاسيكيّ، وبالتالي التمتّع به، والتي ذكرتها للتوّ، بأفكار سلبيّة في داخلي. هل شعوري بالشِّعر ضعيف وناقص إلى حد ما؟ سلوتي الوحيدة أنّ ورطتي كانت القاسم المشترك بيني وبين أكثريّة زملائي وزميلاتي في قسم اللّغة العربيّة وآدابها خلال فترة الدّراسات الجامعية. فتيقنت أنّي لا أنتمي (وربّما لن أنتمي) إلى حضارة أهل الشّعر، والدّليل أني اندهشت بمشهد رهيب عجيب لمّا زرت البلدان العربية: جماهير غفيرة، ناس الشّارع، ليسوا من المثقّفين فحسب، يحتشدون في ملاعب كرة القدم أو المدرّجات الأثريّة من أجل الاستماع إلى… قصائد بعض الشعراء. وهذا يكفي لندرك مدى الحساسيّة الشّعريّة الخاصّة للعرب مقارنة مع اللامبالاة المحتملة من قبل الجماهير الإيطاليّة، على سبيل المثال. وإذا حلّلنا جذر مصطلح “شعر” يتسنّى لنا فهم أولويّة عنصر الشّعور، أو الانفعال، في حين أن لمصطلح poiesis الإغريقيّ يبرز عنصر فعل الشّاعر الصّانع البارع في الاختراع6.
عودةً لموقف طالب الفيلم السلبيّ من البحتريّ والمتنبي وأبي تمام، وانتهازيّتهم المزعومة وتناقضات غيرهم من الشّعراء تجاه رعاتهم، يتبادر إلى ذهني جزء من الآية 226 من سورة الشّعراء: ﴿ يقولون ما لا يفعلون﴾. يجب ألا ننسى، في هذا السّياق، أنّ للشّعر القديم وظائف براغماتية وعملية، فهو عند العلماء والنّقّاد مبنيّ على أربعة أركان تسمّى أغراضا، وهي المدح والهجاء والغزل والرّثاء.
في مقاربتي للشّعر العربيّ في هذا المقال لن أتبنّى وجهة النّظر التي ارتضاها طالب الفيلم، و”هجاءه” للشعراء الفحول من القرون البعيدة، بل سأحاول أن أستوعب جهود الشعراء لمواكبة القيم الانسانيّة المُعبّر عنها في قصائدهم مع حيواتهم. لماذا أركز على القرن العشرين في هذا المقال بدلا من القرون الماضية؟ للردّ على هذا التّساؤل يجب أن أذكر قول ابن رشيق القيروانيّ في كتابه: العمدة في محاسن الشعر وآدابه، ومفاده أنّ الشّعر يقوم، بعد النيّة، على أربعة أشياء، وهي اللّفظ والمعنى والقافية والوزن. في القرن العشرين، بعد ثورة بدر شاكر السياب وغيره من الحداثيين، تخلّص الشّعر من قيود قد تعرقل آفاقه وتطلعاته، وقد حافظ، في الوقت نفسه، على الإيقاع والمفعول الموسيقيّ للكلمات.
لقد اعتبر النّقاد، وبالإجماع، أنّ قصائد شعر الجاهليّة هي المثل الأعلى لما يمكن أن يبلغه الشّعر في البلاغة والأسلوب والإيقاع. وهي قصائد كانت تتغنّى بقيم الكرم والشجاعة والمروءة في أبيات خالدة في أذهان المستمعين. وكان هدف الشّعر الجاهلي، والذي دام لعدة قرون، هو إثارة ما يسمّى بالطرب لكي يتوغّل الشّعر إلى أعماق روح القارئ أو المستمع.
ظلّ اللفظ، حسب النّاقد التونسيّ الشاذلي بويحيى7 في مقالة له في مجلة الفكر العريقة، مفضَّلًا على المعنى حتّى ثورة الحداثيّين في منتصف القرن العشرين. وكان يتمّ الاشتغال على اللّغة وأسرارها، أو البلاغة وتطبيقاتها بدلا من الإبداع أو الاختراع. إذ إنّهما يتمثّلان في محاولات انحراف عن طريقة تقديم الفكرة. فتتجسّد مهارة الشّعراء في تكرار القديم المتماشي مع نوع من التّجديد.
لم يلبث العرب أن تجاوزوا فترة تجاهلهم للتّجارب الفنّية للشّعوب الأخرى والشّعور بالتفوّق على آدابها، فنظروا إليها بإعجاب، وقاموا بتخصيب أدبهم من خلال التّرجمات، وتعلّم اللّغات الأجنبيّة والثّقافات الغربيّة.
كانت مواقف بويحيى من تطوّر الشّعر العربيّ تشبه تلك التي عبّر عنها أبوالقاسم الشابّي في مقاله الشهير: الخيال الشعري عند العرب الذي صدر في أواخر العقد الثالث من القرن العشرين مثيرًا جدلا حادًا، وتشهيرًا به في أوساط المثقفين العرب آنذاك. كان أبو القاسم الشابي قد ندّد بنقص الصّور الشّعرية للعرب بالمقارنة مع غِنى الأساطير الغربّية وتنوّعها، وخاصّة منها الإغريقيّة القديمة. وقد لاحظ أنّ الطّبيعة الصّحراويّة ووحشة الأراضي القاحلة التي تحيط بشعراء الجزيرة العربية، لا تساعد على تأجيج الخيال. فالشاعر ابن بيئته، فقد كان الشّعر الجاهليّ يعتمد في جلّه على النّزعات القبليّة، أكثر من التّعمّق في أمور النّفس والرّوح. وهو أمر بدأ في التغّير بدايةً من العصر العباسيّ، مرورًا بالعصر الأندلسيّ بعد أن انتشرت ترجمات آداب الشّعوب الأخرى. كما كان يرى أن الرّوح العربيّة خطابيّة ومادّية محضةٌ، (خاصة في نظرتها إلى المرأة). وكان لهاتين النزعتين -الخطابة والمادّية- أثر كبير في إضعاف الخيال الشِّعريّ العربيّ. في رأي الشّابي، كان هذا الشّعر يناسب أذواق تلك العصور البعيدة، لكنّه لم يعد ُمناسبا لروح الحاضر. ويمكن للعرب أن يعجبوا به ويحترموه بوصفه تراثا شعريّا قديما فحسب. أما أن يسْمُو هذا الإعجاب إلى التّقديس والتقليد، فهذا أمر غير مقبول، لأنّ لكلّ عصر ذوقه وحساسيّته الفنّية وظروفه الحياتيّة الخاصة به.
3. إرادة الحياة، من الشّعر إلى الشِّعار
إذا الشّعبُ يَوْمًا أرَادَ الْحَيَاةَ
فلا بدّ أن يستجيب القدرْ
ولا بُدَّ لِلَّيلِ أنْ يَنْجَلِي
وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَنْكَسِـر
ورد البيتان المذكوران في بداية أشهر قصائد أبي القاسم الشابي “إرادة الحياة”. وما زال الشّباب العربي منذ عدّة عقود، يتغنّون بها تكريسًا لقوّة إرادة الشّعب في تقرير مصيره. وفكرة استجابة القدر، بلا شكّ، توحي بالآية 11 في سورة الرعد: ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم﴾. (صدق الله العظيم).
صارت الأبيات المذكورة من أهمّ الشّعارات الثّوريّة المخلِّدة للشّاعر الذي يعتبر فخر تونس والعالم العربي لدورها في تعبئة الجماهير. لوكان “طالب الفيلم” مطالبا بحفظ قصائد أبي القاسم الشابي لتساءل: هل كانت حياة الشّاعر متماشيةً مع مستوى شحن قصائده الرّمزي القويّ إلى درجة إثارة جدلٍ حول مفهوم القدر؟
نستنجد بتحليلات النّاقد التّونسي عامر غديرة الذي كان أوّل من ترجم قصائد الشّابي إلى الفرنسيّة. فكتب أن أبا القاسم كانت له علاقة متناقضة مع بلده ومواطنيه، علاقة تتأرجح بين اليأس والنّضال الذي يغذّيه الأمل في التّغيير. من ناحية، كان يتمنّى أن ينبع في بلاده أدب جدير بالخلود، ومن شأنه أن يدمّر الأصنام الخشبيّة التي كانت تحلّ محلّه، لاستبدالها بقيم عالية مثل حب الحقيقة والجمال. ومن ناحية أخرى، كان يندّد بالشّعب التونسي وكسله وغفلته. ويعبّر باستمرار عن ضيقه بأحلامه التّافهة، ممّا أدّى إلى الشّعور بالاغتراب الروحي، والحاجة إلى العزلة في الصحراء أو تحت ظلال النّخيل، في أحضان الطبيعة، ففي فلسفته يجب على الشّاعر أن يطمح إلى الكونيّة، وأن ينأى بنفسه عن الأحداث اليوميّة الطارئة التي تخصّ بلاده وحدها8. ويعتقد غديرة بأنه فجأة صار رمزًا لتحرير الشّعوب، ولبثّ قيم الوطنية دون الحديث الواضح عن الاستعمار. من المؤكد أنّ الشابي لم يسع إلى الانخراط بشكل علنيّ ومباشر في العمل السّياسيّ. لكنّه صُنّف، بسبب تقاريره وقصائده، في فئة الشّباب الثوريّ9.
يهاجمه غديرة لأنّه كان معجبًا بثقافة المستعمر، وفي الوقت نفسه كان غير راضٍ عن بعض جوانب ثقافته10. كانت تناقضات الشّاعر تتعلّق بالتّفاوت الملحوظ بين أفكاره وسيرة حياته. فكان ثوريًا في شعره، أمّا في حياته الخاصة فكان محافظًا. كان يتغنّي بالأفكار والقيم العظيمة من أجل النّهوض بشعبه، لكنّ معرفته، المعرفة الحقيقيّة بأوضاع الشّعب القاسية فكانت محدودة، خلافًا -مثلا- للمصلح والمفكرّ الطاهر الحدّاد المعاصر له، يبدو أنّ الشّابي لم يفهم شعبه، ولم يدرك وضع المرأة، فتصرف مثل Dandy (متأنّق)، بلا وعي سياسيّ، كان يناضل مع رفاقه ثورةً ضدّ كلّ ما هو عربيّ قديم، في حين أنّه كان يمدح كلّ ما يأتي من أوروبا التي كانت تعدّ رمز النّجاح والتقدّم11.
أظنّ أنّ الناقد عامر غديرة يبالغ في إلصاقه لافتات مسطّحة وجاهزة، فالإعجاب بالثّقافة الغربيّة والانجذاب إلى شعر الرومانسيّين لا يعني بالضّرورة الإصابة بعقدة الدّونية. ويغلب على ظنّي أنّ الحقد على المستعمر الأوروبي قد لعب دورًا حاسمًا في اتّهامات غادرة لأبي القاسم الشّابي.
في ضوء الأوضاع العربية الرّاهنة التي تشهد تشتّتًا ملحوظًا في إرادات الشّعوب العربيّة وغياب جبهة واحدة متماسكة لمواجهة القضايا الملحّة في الوطن العربي، تثير قصائد الشابي تساؤلات جدية حول الفارق بين الشّعر والشِّعار، وبين الهويّة العربية وأبعاد النّكبات والنّكسات المتكرّرة ومخاطر الاستعمار الذاتيّ أوالأفقيّ.
4. الحداثة الشّعريّة ولغة الأضداد
يرتبط مفهوم الحداثة الشّعرية بالسّياق الثقافيّ والتّاريخيّ للبلدان العربيّة، وبتفاعل الفنّانين بالجماليّات والتّقاليد الأدبيّة الغربيّة والتّراث الكلاسيكيّ القديم خلال القرن العشرين12. وفي هذا السّياق، دائما ما يثور التّساؤل الملحّ: كيف تنسجم هذه التّجارب التي تتأثّر بالتّفاعل المذكور مع الأصالة العربيّة؟
بعد إعادة صياغة التّراث المتراكم، ينتهج الشّعر الحداثي العربي نهجَ اكتشاف الذّات، والتخلّص من تقليد النّماذج الماضويّة وإدخال “قيم وأفكار جديدة، مثل الديمقراطية والمواطنة والعلمانية والتقدمية13”. ولروّاد الحداثة العربية الفضل في اقتراح رؤية فنية جديدة كان لها تأثيرها على السّاحة الأدبية. ومن أبرز رموزها نذكر بدر شاكر السياب وأدونيس ومحمود درويش14. فخلال عقدين أو ثلاثة عقود تمكّن هؤلاء الروّاد من خلق ذائقة شعريّة جديدة اختلفت عن ذائقة من سبقوهم، وكثير من مجايليهم. وقد لامست تلك الثّورة الشعّرية المواضيع والصّور الشّعرية والأساليب متجاوزين في ذلك كلّه الضّوابط التّقليديّة.
في فلسفة أدونيس الشّعريّة “ظلت الدينامية حيةً بين الماضي (التراث) والحاضر. لكنّه، إذ يؤكّد، من خلال رؤيته، على تجاوُز ذلك القديم وهدمه ومحوه، فلأنّه يريد تأكيده لاستعادته، لاسترداد ذلك الماضي بتحريره من ذاته التي دجَّنها الحاضر وحوَّلها إلى قيم كسيحة في قطيع15”.
في ملحمته الشّعرية تحت عنوان الكتاب يتبنى أدونيس المتنبي بوصفه دليلًا في رحلته داخل تاريخه، كأنّه فيرجيل الكوميديا الإلهية لدانتي أليغييري. أراد أدونيس كشف الحجاب عن التراث “مانحًا مومياوات الماضي روح الحاضر، (…) رافعًا ما ذبل عن وجه التاريخ للارتقاء به إلى معمار جديد، إلى وعي الضدّ– الوعي الذي يلعن الظّلمة لأنه يريد الخروج، إلى الأبد، من هذا الظلام16″، حتى تولد قصيدة متفتحة على أفقها الكونيّ مانحة الكلماتِ “هويتَها” وحريتَها. يكتب أدونيس:
“لكي تولد “البذرة” لا بدَّ من أن “تُقبَر (…) الموت ليس إلا وجه آخر للحياة. فنحن لا نحيا إلا حينما نعيش موتنا”17.
ويرى أدونيس أنّ الكتابة الشّعرية يجب أن تثير زلزلة لكلِّ مستقرّ، أن تقيم علاقات مختلفة بين الأشياء والكلمات، وفي فهم العالم والإنسان. وأن تمدّ الشّعر بحياة ثانية من شأنها أن تضيء قيم الحبّ والصداقة والحرية التي يجب أن تتميز بها حياتنا الأولى. وفي رأي أدونيس أنّه إذا كانت القصائد مجرد “لوحات كلامية، تعكس الأشياء إياها كما هي، فلا تكشف للقارئ تصورات وحدوسا وإشراقات. فلا يجوز أن نسمّيها قصائد. ولكي نتذوق الفنَّ بوصفه رؤية معرفية “كونية”، إنسانيّة وشاملة، يكشف لنا قيم الجمال والحرية، يجب ألا يتكلّم الشّعر عمّا هو إيجابيّ في ماضي العرب وحاضرهم. لا تتعالى الإنسانية إلا بقدرة الفنّ على الكلام عن السّلبيّ والكارثي. وهذا يوحينا بوظيفة التّطهير التي ينهض بها الفنّ، كما ورد إلينا من الفيلسوف أرسطو. يذكّرني هذا الموقف على نحو عكسيّ، بالتجارب السّينمائية المصرية التي تقدّم للمتفرّج العربي بشكل ممنهج حبكًا ميلودرامية ونهايات أفلام سعيدة وتوافقيّة يمكن أن تخدّر الجمهور من أجل تحقيق المصالحة الاجتماعية. كان المخرج القدير توفيق صالح قد حذّرنا من مخاطر النّزعة الميلودرامية لتجنّب تقديم بصريّ للصراعات الطبقية.
لكي يتجاوز التّراث ويخلق جمالًا جديدًا، يجب على الشّاعر أن يعرف جمال الشّعر القديم. فلسفة أدونيس توحي إلينا بنظرية الأضداد عند الفيلسوف الإغريقي هيراقليطس18: يتكون العالم من أضداد، النور والظلام، الخير والشرّ، اللّيل والنهار، هما يتصارعان باستمرار ضدّ بعضهما بعضا، ولكنهما، في الوقت نفسه، غير منفصلين. فلا نستطيع أن ندرك الظّاهر إلاّ بارتباطه العضويّ بالباطن. العالم مشهد صراع أبديّ بين الأضداد، لكنّها لا يمكن أن تعيش دون بعضها بعضا، وبالتالي تشكّل وحدة، لذلك يتمّ إنشاء توازن ديناميكيّ بين الأضداد، وغنيّ عن البيان أنّ هذه الرؤية الجدليّة للواقع نجدها في التصوّف.
يقدِّم الشّعر صورة جديدة للعالم وللعلاقة بين الإنسان والإنسان، بين الإنسان والعالم. والقارئ، حين يفهم هذه العلاقات ويتذوّقها، يمكن لها أن “تغيِّره” في سلوكه وفهمه. وهذا التّغيير في داخل الإنسان يمكن له أن يؤثّر في التغيير خارجه19. وترتيبا على ذلك فالشعر، لكي يقلب النظام الثقافي–الاجتماعي للمعاني والقيم والدلالات الموروثة، يحتاج إلى فكر نفّاذ ونقيّ.
لجأ أدونيس وحركة تموز إلى فلسفة هيراقليطس، وإلى هذا التوجّه للفكر غير العقلانيّ، ولفهم التّراث كمصدر لإحياء الأسطورة وذلك بفضل ترجمة نيتشه وت.س.إليوت والسرياليّين الفرنسيّين إلى اللغة العربية، فبدأت حركة تموز في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين عمليّة إعادة صياغة الهوية العربّية المعاصرة خارج الإطار التقليديّ للكتب المقدسة واكتشاف أواصر وعلاقات جديدة مع الميثولوجيات القديمة الشّرقية بما فيها الإغريقية والهلنستية.
5. خاتمة أو ما شابهها
افتتحنا مقالنا هذا بقصيدة للشّاعر التّونسي آدم فتحي وعنوانها: “نافخ الزجاج الأعمى”. ونفخ الزجاج يشير إلى نفخ الروح في الكلمات. فعل النفخ يشبّه بفعل الخلق الإلهي كما تذكّرنا بذلك سورة الحجر. في الظّلام تتدفّق على الذّات الشّاعرة صورٌ من الطفولة وعيشها في مدينة اسمها «مارام»؛ وهي عبارة عن فردوس للأحلام احتجاجا على بؤس الواقع. فالعمى، رمز للانفصال عن الدنيا ومحاولة قصوى لتجاوز الواقع نحو الحلم. الحلم وحده يمكن أن يكون مصدرا للمعرفة واكتشاف الذات. بعد نفخ الكلمات قد تقع الذّات في ثقب العدم. يجب أن ننتبه لأنّ مارام هو اسم مبتكر من فعل رام، ويمكن معه التلاعب بالمعنى، إذ قد يشير إلى معنيين مختلفين: “ما هو مرغوب به، وكذلك إلى عكسه، أي “ما هو غير مرغوب به”20.
الروح المنفوخة هي اللّغة الشّعرية التي يراها الأعمى بنور القلب، اللّغة هي القلب الذي يستشرف معاني مخفية وراء بعد المرئي21. ومن هنا يتميّز جوّ القصيدة العامّ بالتّأرجح بين الآدمية (المشتقة من اسمه واسم أول إنسان على الأرض) والعدمية أو الفناء المتصوف.
لقد بدأت هذا المقال طارحًا السّؤال الآتي: ما هي القيم الشّعرية؟ ربّما يفيدنا الآن أن نحدّد ما هو الشّعر. في هذا الخصوص يتساءل آدم فتحي:
“النثر أم الوزن؟ الملاك أم الشيطان؟ براءة الطفل أم حكمة الشيخ؟ نقاء اللغة أم تلوّثها باليوميّ؟ الإقامة أم الرحيل؟ المعنى أم البياض؟ اللغة أم التجربة؟ المباشر أم الملغز؟ أسئلة قد يطرحها الشاعر إلاّ أنّه لا ينحاز فيها إلى ضفّةٍ واحدة فهو هذا كلّه وكذلك الحياة. وهو في حيرته المزمنة وشكّه الأبديّ لا يتّكئ إلاّ على يقين واحد لا يتزعزع: أنّ الشعر أوركسترا وليس عزفًا منفردًا. لكنّها أوركسترا يشخّصها عازف واحد أعزل إلاّ من شظاياه، أعزل إلاّ من شظايا العالم، هو الشاعر، الكائن الأوركستراليّ بامتياز، وفي يده القصيدة (العصا) تقود الأوركسترا (الشظايا) لتتحاور وتتناشز وتتشاكل وتتقابل وتتضامن وتتناقض مفضية بذلك كلّه إلى تعقّدٍ مَا، إلى بساطةٍ ما، إلى انسجامٍ ما، إلى تنافرٍ مَا، إلى تناغمٍ لا يعرف سرّه إلاّ الشعر”22.
حسب فكرة هيراقليطس، لكي نفهم ما هو الشعر أظنّ أننا بحاجة ملحّة لنعرف: ما هو نقيض الشّعر؟ أعتقد أنّه الشِّعار، خاصّة الشّعار بالقافية، حتى لو كانت النّوايا صادقة والشّعارات نبيلة، فإنّها تظلّ مجرّد أقوال ما لم تتحوّل إلى أفعال وما لم يساهم المبدعون والقرّاء في التأمّل فيها كأوّل خطوة لتنقية الأفكار والاشتغال عليها. وكل ما نعثر عليه خلال كتابة القصيدة أو قراءتها قد يكون أهمّ ممّا نبحث عنه.
الهوامش
– ولد آدم فتحي بقرية من قرى الجنوب التونسي عام 1957، والتحق بكلّية الحقوق، ثمّ اشتغل بتدريس اللغة العربية قبل أن يتفرّغ للكتابة منذ مطلع الثمانينيات. أعماله الشعريّة المطبوعة والمنشورة هي: سبعة أقمار لحارسة القلعة (1982)، حكاية خضراء والأمير عدوان (1984)، أغنية النقابيّ الفصيح (1986)، أناشيد لزهرة الغبار (1991) والمعلّقة (1994).
الأعمال المنشورة التي ترجمها عن الفرنسيّة هي: يوميّات بودلير (1999)، ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان (2006)، ووداعًا بابل (2000). تغنّى بأعماله المكتوبة بالفصحى أوالعاميّة فنّانون عديدون من بينهم لطفي بوشناق (تونس)، والشيخ إمام (مصر)، ومارسيل خليفة (لبنان)، والشابّ خالد (الجزائر). أحرز العديد من الجوائز التونسيّة والعربيّة والعالميّة.
أشكر الصديقة د. عبير السيد التي تفضلت بإمدادي بمقطع الفيلم الوارد هنا.
عاطف بشاي كاتب السيناريو والحوار عن قصة لأحمد رجب. يناقش الفيلم المناهج المتخلفة والتراثية المتحجرة التي لا تتناسب مع العصر وتصر على الحفظ والتلقين واجترار سطور الكتب. تكمن رسالة الفيلم الواضحة في أنّ التعليم يحتاج إلى ثورة تنويرية.
عند مواجهة مدرّس اللّغة العربيّة ثم رئيس الإدارة التعليمية يحاول الأب -بلا جدوى- أن يساعداه في حلّ معضلة ابنه، لكنّهما يسخران منه لأنه يتجاسر لانتقاد هؤلاء الشعراء “الفحول”. بطبيعة الحال يهدّد المعلم الطّالب بالرّسوب في الامتحان.
تم رفض المقال بصيغته الحالية من قبل لجنة هيئة التحرير لمجلة أدبية جديدة لن أذكر اسمها مدعية بأنه “يتيح لنا أن نستكشف، مرة أخرى، نظرة الآخر/ المستشرق إلى الشعر العربي”.
– العجيب الغريب أنّه في اللّغة الصّينية الشّعر يقال “شي” بنبرة عالية ثالثة. في اليابانيّة يقال بطريقة مماثلة، ويكتب بنفس طريقة الأيديوغرام.
– Chedly Bouyahya, “Les Arabes et leur littérature”, in Jean Fontaine, Histoire de la littérature tunisienne, tome 3, Tunis, Cèrès, 1999, pp. 288-299.
– Aldo Nicosia, “L’epistolario di ash-Shabbi, dietro le quinte del Diwan”, in Abu’l-Qasim ash-Shabbi, I canti della vita, Trapani, Di Girolamo, 2008.
-Abu’l-Qasim ash-Shabbi, I canti della vita, a cura di Salvatore Mugno Trapani, Di Girolamo, 2008.
-Ameur. Ghedira, Abu-l-qasim Chabbi, Tunis, Société d’arts graphiques d’édition et de presse, 1986 , p. 21-22.
– المرجع نفسه.
– Isabella Camera D’Afflitto, Letteratura araba contemporanea dalla nahda ad oggi, Roma, Carocci, 1999, p. 220.
– Simone Sibilio, Poesia araba contemporanea, Roma, Istituto per l’Oriente, 2022, p. 19.
– Dounia Abourachid Badini, La revue Shiʿr/Poésie et la poetique arabe. Beyrouth (1957-1970) . Paris, Actes Sud / Sindbad, 2009.
– أمل الجبوري وستيفان فايدنر، “الكلمة في تاريخنا العربي جرح”. حوار مع أدونيس, www.maaber.org/issue_september07/literature3.htm
– المصدر نفسه.
– المصدر نفسه
Andrea Celli, “Dov’è il fiume? Eraclito e la cultura classica in Adonis”, in Intersezioni, n. 3, dicembre 2012, pp. 431-444.
– أدونيس ,www.maaber.org/issue_september07/literature3.htm
– Hager Ben Driss , “Three Poems from The Blind Glassblower by Adam Fethi”, in Transference, vol. 7 , issue 1, art. 8, available at: https://scholarworks.wmich.edu/transference/vol7/iss1/8
– انظر جهاد التّرك، نافخ الزجاج الأعمى، مجموعة جديدة للشاعر التونسي آدم فتحي. سيرة للإبصار من الظّلمة إلى النّور إلى اللّغة إلى الكون، في: www.maaber.org/issue_july12/books_and_readings2.htm
– نص مقتبس من المقال التالي: أنطولوجيا إيلاف الشّعرية، آدم فتحي، www.elaph.com/Web/Archive/1047108860260340600.htm