… بلا جلبة ولا صدى ولا شفقة انهدمت عليه كذلك أنحاء وطقوسُ. الضواحي والأحياء المكتظة والجنود وسيارات الاسعاف. جبال من الاجسام حطت عليه. فقد كل اتصال بما حوله. صار كتلة غائبة من هذه الكتل الغائبة. حتى عندما راحت تخف هذه الأحمال عنه شيئاً فشيئاً تحولت غيوماً غائمة من التبن والقش والروث اجتاحت وجهه وفمه وعينيه وشعره. كأنما خفة الموتى. خفة الآخرين الذين يعرفون (أو لا يعرفون) متى يأتون ومتى لا يأتون. متى يحيون متى لا يحيون. متى يقتلون ومتى ينقتلون. وعندها أحس ببرد في مفاصله، سرى حتى شفتيه فصمتِه. الصمت البارد. صمت الخجل ربما او الخوف. وأحس بان كل ما تداعى عليه من ضواح وأحياء ومدن وأجراس وطيور وأشخاص وتبنٍ وروث يطلع منه هذه المرة على دفعات لمزيد من الألم (انها من علامات الآخر ؟ هذه!) من أصابع قدميه التي كأنها سالت في سيرورة ملتبسة وتجوفتْ ومنخاره اتسع لينزف ما يذكر بالحنين القاطع وما يصنع الأحياء عندما لا يرزقون، فالى عموده الفقري الذي استطال ثم قرقع وطرطق بعظامه ولحمه ليتسرب منه ما يذكِّر بالسِّير والاخرة والقعود والنوم والمشي على حد الكلام الخطر والسقوف الواطئة: ماذا دخل إليه، ماذا خرج منه. (من علامات الآخر). وماذا ينتظره…
***
… ما ينتظره انه، وعلى غير توقع، ظل باهتاً كالظل الذي فتح عليه هذه الهاوية وهدَّ عليه الجبال، فكأنما قسمها أجزاء وذرات ثم جمعها بخفةّ البهلوان وبدقة الكيميائي (نفايات ثرية بالعدم). لكن ما يجمعه يتفرق من توه. وما يتفرق يلتئم بلا سبب. ولهذا كان عليه ان يحصي ما خسر (قبل ان يعود الى المقهى) ثم ان يُحصي ما لم يخسره (ولم يربحه) بعدما يعود الى المقهى. ولهذا كان عليه أيضاً أن، ينتظر ما لا يمُسُّ القعر والعتمة فيتحرك ما يخشى ان يتحرك من قسمات الآخر الذي يشرب فنجان القهوة إذا رفع الى شفتيه، ويغادر قبله وبعد أن يهم بالمغادرة، ويرخي ظله أمامه إذا مشى في الشارع. ذلك أن الجزء الآخر من الجسم (أو الأجزاء الأخرى من الأجسام سيّان) القسم المرسوم بالجهل والغفلة واشتداد العماء والالتباسات والعجز ملتقى ما يتآكل وما يتهارَشُ وما يتشكل من عفونة الشتات وما يتكاثر من أسماء وأوبئة وسموات لم يعد له سوى أن يستبقيها على عواهنها، وعلى ما لم تستنبشه في وجهه، وقسماته، واحشائه، من تضارب، وتقاسم، وإلا كيف له أن يقبل أحيانا أن يأتي (أو يطفو) معه الآخر سواء، غافله أو سبقه أو اختلس ما عنده وما فيه…
***
… وهذا ما يباغته على غير دراية واستعداد. وعندما يكون له أن يلمحه وعلى بُعد، فيعني أن علامات كثيرة مجهولة الاقامة، والوشم، والترتيب تطفح على جلده، من بثور، وورم، وبُقع، ولُطخ، وحتى زيوت صافية، تسيل على غير مطارحها، وأخاديدها، ولا من ينادي، او يضطلع برسالة. كأنما جروح صامتة، في كل جهة، وصفاءات مكلومة بلا مألوفها، وندوب تُفلتُ دماءها القديمة، على غير تواصل، وعلى غير ما يُعيد الأمور الى مجاريها المطلقة، بين آخرَ قائم على أوشامه، وآخر على قابلية للمغادرة بلا أسف، وعلى عُري يُنبه الى المقتلات الأولى بين الألوان وصنائعها، والاختبارات ومسالكها، والأنهر وما تضخُه من نفايات قابلة للحياة او للمثول في أي لحظة وفي أي مكان. لهذا ربما بدا له ان ما قد يفعله ولا يفعله ليس بذي جدوى، وان بدا في عينيه ذا جدوى، ومروءة، واستسلاما للطبائع، والمقادير، ونزق الآلهة، وسمومها الرضيعة. هذه العمليات الحسابية المعقدة، لا يمكنه أن يحلَّ رموزها، ولا جغرافياتها، ولا تراجيدياتها الكامنة وكذلك لا يمكنه أن يزيدها تعقيدا فلربما فوق فهمه. وما يتجاوزه، أو ما يعض شاشات المُطلق وعداداتها، بالنفي، والتجهيل، وعدم الفهم لكنه، مع هذا لا يعرف إذا كان عدم فهمه يسهل الأمور أو يعرقلها.
***
لكن هذا قد يزيد الأمور غربة عما حواليه، والتباسا عما فيه. خصوصا عندما، ومن باب الاستياء ربما، يقارن بين الجسم وما فيه، وما بين الداخل وما منه. (أحبولة كما يقال، أو مرثية مموَّهة في أفضل الأحوال) ولعلّ ما يربكه عدم استطاعته التمييز ، وفي أكثر من مناسبة، بين هذه الأعراض والأسماء. وقد يعني ذلك أن ما يلتبس عليه بشدة يزداد التباساً بأشد. وهذا ما يخفيه في أعراض الآخر والخ… ذلك انه، ومن خلال تهيؤاته ومدوناته، قد يكون الآخر في كل هذه الأغراض، فيكون الجسم وما عليه، ثم يكون ما على الجسم وحده. ثم يكون الجلْد عاريا حتى من العظام. مما يؤدي الى مغالطات لا يستطيع تداركها أو اللحاق بها. من هنا جاءته فكرة أن الآخر دائما أمامه. لكن هذه الفكرة بعدما راجعها بدت مبتورة: لأنه سجل أحياناً كثيرة سبقاً على الأخر، وفي العديد من المناسبات تعادلا جنباً الى جنب، ظهراً على ظهر، ملْبسا على ملبس، وقُبعة على قبعة… لكن حتى في هذا التعادل ما يوحي الريبة والتمويه وإمارات لا يقدر عليها إذ كيف له أن يتحمل او يتصور زمناً على زمن وأمكنة على أمكنة، وموتى على موتى، ومصحات وتوائم غير منفصلة وغير ملتئمة.
***
ولكن هل تم فصل التوأم عن غريمه، والحاسة عن ليلها هنا أراد بإصرار ان يمتحن مغزى الأمور: إفشخْ الى الأمام: هل فشخت بقدم أم باثنتين أم بعشر. فشخ ولم يتأكد: فشخته كانت صحيحة لكن النتيجة مبهمة. تنفسّ الصعداء: هل تنفس بمنخار واحد او بعدة مناخير. تنفّس لكنه لم يتمكن من الركون الى حكم واضح لا بكمية الأنفاس ولا بعدد المناخير ولا الرئات. والنتيجة يمكن أن تؤجل على الأقل: أنظره جيداً: هل نظرت بعينين اثنتين أم بعيون عديدة: الرؤية شبه واضحة لكنه لم يتأكد ممن كان ينظر؟ وهكذا راح. يقيس الأشياء والأعضاء والأنفاس الواحدة تلو الأخرى بمقاييس مضلّلة ليبرز عجزه (أو تواطؤه) عن الفصل في هذه الظواهر والأمزجة المائية والهوائية والصلصالية والضوئية، وحتى في مرأى الغيوم والطبائع والأشياء الميتة والنوم وحتى العدم.
***
بدت له هذه الأمور سديمية تتمازج في فضاء بلا وزن ولا جاذبية كالكلام والنوافذ والليل واللحم والماء، وربما استعذب ذلك لو قَدر على حلّ بعض اللغز ولو بنسب ضئيلة. ولهذا كان عليه أن يواجهها بمنطق آخر، أو بغير منطق آخر فيتلمس ملامح هذه التخوم المتضاربة. فتداعت ملكاتُه الآمنة وغير الآمنة: دال: يعني البقُبّرة اذا طلعت من عنق الزجاجة. (جيد) نون شكسبير يدخل الى ملحمة هوميرس ويفوز برأس ريتشارد الثالث (جيد)
السطح هناك: نساء يندبن أمواتهن بشجاعة فائقة.
الليل: بيضة تفقس على أرقك
النهر: قسوة العدّو بلا طائل.
لحظات بديهية خاصة على اختلافها وتنافرها . مع هذا ما كان له أن يقف بهذه الحيادية إزاء ما يتخطاه بلا إذن ولا قاعدة..
***
هل كان وحده؟ وكيف كان له أن يعرف اذا كانت الأمور والعناصر على هذا الصخب والتلبُّد والأشرطة المشوشة، ولم يستحضر من في وسعه ان يعينه على أخذ الأمور بلا ماخذ ولا قبول ولا تبيان. ربما الأنظمة المرعية يمكن أن تتولى فك الرموز لكن هذا الضعف من اين له ألا يعتبره من العوامل التي تحول دون افراز الاحجام والأوزان والنفوس والمشابهات، أو تحديد ما في البدائل والقرائن والظلال. ربما ليس ضعفاً. ربما من عوارض الطبيعة وربما من فانتازيا الافتراق والتلاقي على غير قصد او ايصال وربما تبدو له هذه المور على ما يشتهي حقاً. ولكن ما يشتهي فعلا؟ إذاً اللعبة الميلودرامية جميعة الأضداد والطبائع شّتيتة الدمع أو الصرخة او وهن الأعراض. إذا اللعبة. الدرامية. أيضا : نكِّسي دمعك إذا ليبلل نحرك. ها هو الدمع ملء الأكُف! وعندما يبلل نحرك تبلل بالموتى. وبأنصاف الموتى. وكذلك الأحياء وهم طالعون من بريق دمعك أم مترجلون عن خوفك. اذا فلنعلب التهريج: مونودراما بعدّه أشخاص، وعدة أشخاص بمونودراما: اعطني انوفك. إذاً هات آخر فوق آخر، ربما انوف شميم الهزل والبكتيريا وعطور الاستعراضات الباذخة. إذا: فلنلعب: قبعة تحت بيضة، بيضة في ميزان العدالة، ديك فوق بيضتين تحت نهر فوق جبل فوق نفايات غنية بالبروتين: قبعة تطير او تحمل تفاحة او تنزل مطراً او تخلع باروكة عن شجرة آثرت غيمة،… وماذا: قبرة تحترق فوق الرؤوس فجاة. (المعجزة الآتية من عند الرب. هللويا) إذن فلنلعب الموت (لا للموتى؟): نفايات تقسم فيها الأرزاق وطرق الخلاص والأبدية. إذا الموت فليتراجع: ويتحرك الموتى بعده أو قبله يدورون كساعات طويلة من الأجراس ولا يعلمون واذا علموا ارتفعت احجياتهم في عيونهم توسلاً وعنفاً. ها هم وراؤك. تعدهم بأنفاسهم القاطعة، بمبارد أبصارهم حملة مشاعل تضيء مواربة ما في الحقائق الكبرى (النفايات تتكرر الى الأبدية) وعندها يحجّون في جحيمهم ولهاثهم ومرضى أعمارهم في أحضانهم:
ثم لعبة: يستند الحجر الى الحجر، الظل الى الظل، البرتقال الفاسد الى البرتقال الفاسد، الجنينات المبذورة في الهواء الموبوء: ميتات قد تثير ضحك الموت (أو على العكس) ليستلقوا على ظهورهم من شدة الهزل والقهقهات حديد مشاعرهم.
فلنلعب الموتى إذاً: صفعة واحدة تكفي لتدق الكواليس أجراسها السوداء..
***
صفعة واحدة، وأيهُّا ، ولا تكفي او تكفي، من سُنن توليك دهشة ومرتبات، وتبز ما تحفظ خلفك النوافذ. كأن تفتح عينيك: للمرة الأولى، ويسبيك ما يدفع تحولاتك، وتدرجات تداعي أحوالك، حتى من مومساتك، وقديسيك، ولهافى، (وراءك) وقطع الفترات، وحتى تكشط سحنّ أمام سحن لتمتزج مخيلتك بما يعابثها، ويهارشها، فتكون أنت من الآخرين وما بعدهم، ومن المتداعية والسافطين ، وعندها لا يكون لك حتى ان تتبين في نفسك شبحاً داخل شبح واسما فوق اسم ولقباً يدفنه لقب وشجرة تفصل في أنسابها: فلا قسمة عادلة في مسوخ تتآلف في أحشائك، ولا اقتسام بغير القطع، ونزف الجذور وتساقط القشور، انها اسماؤك عجلى الى ما يفوتك، ولا هويات مدموغة أو هويات سائحة بين الطقوس العابرة والمحن. ولا حتى غيابات غير ممسوحة بشطور الألم وتعذيب الذات وتخمين الغفلة وترسيم الفَوات.
***
… وعندها وفي هذه الانقطاعات الشتَّى كان له بيدين أرثى من عينيه، ان يُطرق كأنه فنجان قهوة قُلب على عقبه. وان يتنهنه، ويعيد النظر بترتيب الطاولة أمامه، وبوضع أصابعه وأفكاره وريباته. الكرسي أمامه: الكرسي وراؤه. وهكذا الطاولات. والمنفضة وحمالة المفاتيح. وما هي انسابها فعلاً، وإليك، ومنك، وعلى تجرد من أمكنتها وأحجامها. وماذا تفعل هذه العوالم: والآثار: متاحف الفضاء: والرماد: الدمع: الخوف: المصائر الكامنة: جوف المنفضة (مثلاً) سطح الجدران (مثلاً): لكن هل من يصرخ بأصوات عديدة ولا تسمعه بأي اذن مهددة وإذا سمعته لا تعرفه او حفته أو نهرته (سيان). وكيف لهاتين اليدين هن بالمقادير والأوزان وقانون الجاذبية والاختراق: ان تمسكا أي كائن أو غير كائن لكي تُفلتاه أو يُفلتهما ثم تأتي (من باب فقدان الأثر) أو لا تأتي ويأتي سواها (من باب المغفرة)، أو تتكلم فيتكلم سواك من دون أن تتكلم. إذاً ماذا: الاعتكاف في الأعواد والأوشام والمقادير ثم الخروج بلا اجندة ثم المجيء: ومن يجيء عندما يذهب الآخر (تنساه طويلاً من باب الندم) أو يذهب عندما يكون الفوات بلا مأثرة ولا ترْك ولا خواء يذكر…
****
لا معانٍ ولا أحجيات ولا حقائق: لكن يجتمع الى نفسه (فجأة) ولا يلتئم أصلاً. تجمِّع اذا على نفسه: المثيل الآخر حوله ثم الآخر غير المثيل ثم حوله ثم عليه والأخر أيضا (يدري ولا يدري: تنفس الصعداء برهة. وربما كانت الطاولة (كشريك مجهول) مستمرة مثله في تنفس الصعداء. هو يرتجل ما يشاء من المثيل. وقد يرتجله مرات هذا الأخير. (بلا تبادل أو تواتر) وعليه وبدلاً من ان يقف تهيباً استمر في جلسته تهيباً، واستمرت الطاولة والكراسي والزجاج مثله ربما تهيباً. يغادر وهو مُقتعد، ويرجع وهو مبارح، يمد يده اليمنى فتسبقه اليسرى، وعندما تمشي قدمه اليمنى تتوقف اليسرى (صراع الأجناس ربما أو ذوات الموتى)، وهكذا يستمر في قعدته ثم لا تستمر معه الطاولات ولا الكراسي ولا أي شيء: وفي هذه اللحظة بالذات يتبدّد كل أمل باستعادة متروكاته. لكن لماذا عليه الأسف عندما يكون له ان يقسم ما فيه وما عليه وما حوله من دون أن يسمي او يصف او يرسم او يمتلك أو يتجرد. هذا ما أقضّ عينيه، شريحة (ملتبسة منه)، قطعة مهملة ليصير كل ما يبددها او لا يبددها قدراً لا حول له ولا قوة ولا محجّ ولا قهقرى.. الى ذلك الجمع الكلبل والمتعب…
***
… أصخي جيداً الى حركة التاريخ وتحولاته من طرق الأحذية. ثم كان عليه أن يفتح عينيه جيداً (هذا اذا قدر)، ويحاول ربط صمت الملابس وألوانها وموديلاتها وقماشها، ليعثر على علاقة بين الأقدام والملابس. لكنه عرف انه قد يقع في التكرار، وقد يفوته ما للروائح والأنوف من وشائج وما يفوح في الشارع من أعباق ملء الهواء ومن تداخل المارة بلا حساب: من البصاق الى روث القطط والكلاب والعصافير على الأرصفة، الى المازوت، والمانغا والعطور والأنفاس والأوبئة والتلوث لتجعل كلها من الهواء كتلة صلبة تنفذ حتى الى الغرائز الطافحة: فالغريزة رائحة سابقة. (من يدري)، والغريزة لأن مضروب بالفاكهة او بالعرف او بالصمت او حتى بالقتل. كوكتيل روائح وغرائز وأفكار وموتى وأحياء. احتفال قاسٍ بما تولّى او لم يتَوَل. احتفال بآثار الأجسام وهي تقطع غياباتها الكثة وأثقالها وهشاشاتها.
***
… وهكذا يرى (او لا يرى) ما يراه المنامُ في النائم (وغزيراً) او ما يتوجه المنذور في شقاء الجدران أمامه، عندما لا يجد من يغافله أو يراسله او ينفيه بيد الرحمة. وهنا بدا له أن يكون 0من دون اعتراض جدي)، «الى آخره» (في صفحة ما من صفحات متشابهة) عندما يقرر (على غير يقين ايضا) انه ليس الى آخره بالصوت والشاشة والصورة، وان ما سبق ليس ضرورياً أن يمتَّ بصلة الى فوق او الى ما قبل (بلا قداسة متوسلة) ولا الى حينه: ولهذا التخلف من المُتع المارقة ما يستحق اللعنة او مجرد التجربة بشعور من يتفلت ولو لحظة لا يريدها أن تكون لا من آخره ولا الى آخره ولا بين بين لا جدوى! باطل بغير الأباطيل. او نسمة. أو قفزة في فراغ لا يصل. (تذكر وجهه الذي سقط قبل سنوات ولم يصل): الهاوية أيضا لا تصل. عندها، وبجهود واضحة بائسة كاد يدمع: لكن قبل ان يُقرِّر دمعة (او اثنتين او زهرة او ورقة) أحس ان كثيراً من الدمع سال على الطاولات في المقهى وتحت الكراسي وفي المصابيح ومن اللحى والقمصان. لكن، وبقدرة مجهولة، جفت كلُّها فجأة بلا أثر. لكن في مثل هذه اللحظة لا يعرف لماذا حاول أن يتذكر لون عينيه: قرّب وجهه من الزجاج: العين اليمنى عسلية فاتحة واليسرى بلون الزئبق. هنا ينظر بلون عسلي وهنا بلون الزئبق (الرجراج). لكن ودَّ (من دون اصرار) لو ان عينيه بلون واحدة. مرة أحب أن تكون زرقاوين لأن هذا اللون الأزرق يشبه الأفكار الغامضة، (هو ينظر بالأفكار أحياناً كثيرة)، والأفكار البيضاء وأحياناً صوت الغيوم (صوت الغيوم يطلع من العينين). وودَّ أحياناً أخرى أن تكون عيناه سوداوين (يا للرهبة!) لأنه قيل له أن لون العينين الأسود يشبه الأيام الفائتة (والتفاح الموضوع على الطاولة) وقيل له ان سواد العينين كأنْ تفتح النافذة وتبقيها مغلقة، لكن مع هذا عاد واقنع نفسه بأن لا مانع لديه من أن من قبول لون عينيه البني. وبدون تبرير شبه هذا اللون باليدين إذا أمسكتا يداً أخرى وافلتتاها. وقال ربما (متداركا)، قد يشبه البني اللاشيء. (وهذا رائع أن تشبه عيناك اللاشيء وتنظران باللاشيء… الى اللاشيء) . ولهذا تمسك ولو مؤقتاً بهذا اللون، وكاد يحبه: فالعيون تشبه المدن والأرصفة والكسل وكل ما يخطر بالبال… العيون تشبه الأشياء التي لا تراها.
***
تماما كما يفوح الهواء برائحة القتل (خليط العشبة في الماء صباحاً) وبأقوى من الموتى (شميم قاسٍ في مثل هذه اللحظات الخصبة). حتى عندما تفاجئك السماء بمثل غياب (بلا عذر)، وحتى عندما تفاجئك غيوم، وليست غيوماً: أيام ذابلة تمر بلا قصد ولا غضب وتحمي اللمعان الجاف على الوجوه، وعلى أديم البحيرات الكبرى عديمة الجثث والجثامين ، تلقيها، بما يُشبع الأيدي والخناجر، الى مكعبات النفايات (الغيوم كمثل نفايات خفَّتْ فضلاتها) وهنا عليك ألا تدهش بسموات واسعة (مكتظة) وبغيوم ليست غيوماً (أنفاس الموتى أعلى) وأنهر ليست أنهراً. غيوم تفيض من الأيدي تقص الأجساد والشجر بأبصار قاطعة. وهكذا يمكن في مثل هذه اللحظات ان تستجير. بما لا يستجيرك وعندها تغمض عينيك على صوتك وعلى يديك وعلى غُيومك وتقف هكذا صنو ما يقف خلف الموتى او الحرائق، تقف كما يفوح الهواء برائحة الدم.
***
وعندها يكون للساحات ان تنهض بأجسام وجثامين تتهارش وتتناكح (في مثل هذه الملاحم الكبرى) بأنفاسها وفروجها وأشلائها، كأن تستعيد معاني الحياة النبيلة، وعندها يكون لأشباح وظلالها أن تنجب في مثل تلك العمال المفتونة بالأبد، أن تُنجب ما ينجبه الظلال من أبدان ومن أرحام مفضوضة بأختام وأوشام، معضوضة بذكرى الانتصارات المظفّرة ، (القتل بلا نسب/ يقطع الأسماء من أسمالها)… متشابهة بلا ذكرى او محفوظات..
بــــول شــــــاؤول
شاعر وناقد من لبنان