هنالك ما حرّك رغبة محمد المحروقي للسفر إلى زنجبار وممباسا والبر الأفريقي. هنالك ما دفع همّة الشباب فيه ليصطاد ذاكرة أندلس مفقود. ربما هي الحكايات الأولى التي سمعها في طفولته البكر عن وطن أشبه ما يكون بأسطورة. ربما هي أمه التي كانت تُغني له قبل أن ينام تلك الأغنية السواحيلية وقصة البنت التي ألقتها عمتها في البئر، والتي تتقاطع قصتها مع قصة الوجود العماني في شرقيّ افريقيا الذي لم يعد يصلنا سوى أنينه المتواصل كأنين الفتاة في قعر البئر. أنين بالكاد يلتفت أحد إليه.
تكبر في خيال المحروقي صورة المهجر الجميل،وقد تغذى خياله ونما بفضل الحكايات والكتب،من مثل كتاب الشيخ سعيد بن علي المغيري «جهينة الأخبار» وكتاب السيدة سالمة بنت سعيد «مذكرات أميرة عربية».ومن حسن حظنا أن رافق المحروقي بالإضافة إلى الرفاق، دفتر مذكراته بنفسجي اللون، لتتحول رحلته في صيف 1992م إلى كتاب شيق جمع فيه المفيد والممتع والطريف الذي أحبّ أن يُشارك القراء فيه بعنوان «من الفرضاني». وهو كتاب رحلات مهم في ظل قلّة الكتب التي تشي بتاريخ عماني عظيم يُنهش اليوم بوسائل كثيرة ولا أحد يدافع عنه.
عنوان الكتاب يُقدم إشارة قوية إلى تمازج العربي بالأفريقي لينجب ثقافة أخرى تتصل بالاثنين بدرجة وشيجة، فكلمة الفرضاني التي استخدمها كعنوان للكتاب هي كلمة سواحيلية مأخوذة من اللغة العربية «الفُرضة» وهي محط السفن من البحر. كما ورد في القاموس المحيط وكما يشيعُ في الكتابات التاريخية وفي الاستخدام اللهجي. وهو مكان للترفيه عن النفس على شاطئ البحر. والآن هو مكان للاستجمام يقصده الزوار بُعيد المغرب، فرادى وجماعات، رجالا ونساء، للتنزه والاستمتاع بالوجبات الزنجبارية وفي صدارتها «المشاكيك».
الرحلة الأولى مع قلة التجربة وحداثة السن والشوق الجامح، رحلة لم تنقصها الإثارة ولا المغامرة ولا حتى الطيش. والجميل فيها أن تكون وجهتها إلى مكان نشعر بانجذاب خاص له. كما هو سفر المحروقي إلى أرض القرنفل. حيث أخذته رسالة الماجستير للبحث عن شاعر عمان الأول أبو مسلم بن ناصر البهلابي وغيره من شعراء المهجر.
لا يبخل علينا المحروقي بحسه الطريف وأسلوبه الساخر. إذ تبدأ رحلة الطرافة من تلك المسميات الطفولية.. «أولاد الشاهي» و«أولاد السح»، فأولاد الشاهي قاصدا الشاي هم العمانيون من مواليد زنجبار، وأولاد السح قاصدا التمر، هم عمانيو المولد. إذ تأخذ المساجلات مجالها بعد كل مباراة حامية في كرة القدم، ويشير المحروقي إلى أنّ الهزيمة كانت في الغالب لأبناء السح. وللأسف هذه الهزيمة لا تتوقف عند لعبة الحارة في كرة القدم، وإنما يمكننا سحبها على مساحة أكبر من التاريخ العماني وغصصه المتوالية بعد مجد عريق.
يكبر محمد المحروقي ويجد نفسه فجأة «في ملابس فريق الشاهي». حيث يستقل الطيران لمدة ثماني ساعات، ممتلئا قلبه بالقلق والخوف وبالتمسك بالمساند ولا شيء يُطمئنه غير الثقة بالطيار الاوروبي. أول ما شعر به عندما حطت الطائرة بين الخضرة والبحر، شعور ببلوع وطن لم يره من قبل وملاقاة أهل اشتاق لهم. في تلك اللحظة استيقظ التاريخ فانسحب الخوف لم يطل مقامه.
تتنقل فصول الكتاب بين المناطق التي يزورها انطلاقا من دار السلام إلى تاليزا وتانجا واروشا وموانزا وكياكا وغيرها.. لم يكن المحروقي وحيدا في رحلته هذه بل كان وسط جماعة، ولكنهم منطباع مختلفة بين المغامر وبين من هو خارج هذا المزاج، ولكن في النهاية «فاز باللذة الجسور».وبينما كان ينشغل الاصدقاء بكتابة الرسائل للأهل، ينشغل المحروقي بدفتر مذكراته البنفسجي.
عندما يُسأل المحروقي «من أين أنت؟» كان يقول «من زنجبار», وكانت تأتيه الأسئلة. «من زنجبار ولا تتقن السواحيلية». وكأن المحروقي راغب في أن يؤكد على جذره التاريخي المهم في تلك البقعة من الأرض وإن لم يكن يجيد السواحيلية كما ينبغي. ففي «موانزا» يكبر حنين غامض فهو المكان الذي ولد فيه أبواه وعاشا فترة قصيرة قبل عودتهما إلى عمان. ففي مطلع الاربعينات عاد والده، وفي الستينيات عادت والدته، ليكتب لهما لقاء آخر في عمان. الأمر الذي يجعل من زنجبار محطة غير عابرة في حياة كثير من العمانيين. لدرجة أن الحكايات والأغاني السواحيلية كبرت مع محمد المحروقي وهو من مواليد عُمان، فلم يكن يمل سماعها قبل النوم من أمه. كانت الحبل السري الذي يشده لذلك المكان. يسمع عن «موانزا» وعن نهرها وخضرتها وأجوائها الغامضة. وتكفي تلك الإشارة الذكية التي أطلقها المحروقي وإن كان ظاهرها ماديا، فعندما كان يُطلب منهم الدفع بالدولار بدلا من «الشلنج» على اعتبار أنهم من زمرة السياح قال: «نتوقع أن نُعامل معاملة المواطنين، ندفع بالشلنج الرخيص بدلا من الدولار المرتفع». وهذا وإن بدا موقفا عابرا كونهم يحملون الجنسية العمانية إلا أنّ دلالاته عميقة، تذهب بنا إلى أنّ جذورنا هناك باتت منبتة عن تربتها الخصبة.
يُواجه المحروقي الصورة الذهنية الوردية للجنة التي رسمها العمانيون بصور أخرى من الواقع. فيوجه الضربة الأولى لإرشيف زنجبار، فرغم الأهمية العالية لمحتواه إلا أنه فقير الفهرسة والحفظ.يوجه الضربة الثانية لاستهتار الناس هناك بعامل الوقت. الوقت عندهم لا يهم. «قالوا لنا الطريق تقطع في ساعة فقط وها نحن نقضي يوما ونصف». الناس متعاونون ولكن لا يعطونك الإجابة الشافية ليس بُخلا منهم ولكنه مستوى تفكيرهم المحدود. والأطفال هنالك يمارسون شقاوتهم، «وازنجو واميفا كوفيا» بمعنى البيض يعتمرون القبعات.يُدخلنا المحروقي بلد العجائب.. بزمنهاوسياراتهاوهواتفها، وقد سخر أيضا من المسائل التي تحتاج إلى حزم قائلا: «ولماذا الحزم؟ لا نحتاج إليه في هذا البلد. إنه عملة نادرة».
يتكلم المحروقي بإسهاب جميل عن عجائب السيارات التي استأجروها لقطع المسافات،» كانت الحافلة تنصبنا قياما في إحدى الجولات.. نصطدم بالمقاعد الخشنة فيما المياه تتسلل من السقف». وقد ننفجر بالضحك ونحن نقرأ :»لا تعتمدعلى كفاءة السيارة وإنما على حسن الحظ». يتحدث عن سيارة لا تفتح أبوابها من الداخل ولا تنزل نوافذها حتى يمكن للراكب إخراج يده وفتح الباب، وإنما يطلبون بالصراخ والإشارات من المارة أن يفتحوا لهم. أما السيارة الأخرى التي ركبها مع أصحابه والتي تقاعدت زنابر لها «جمع زنبرك» فيصدق عليها قول أمرئ القيس «كجلمود صخر حطه السيل من عل». بل يأخذنا إلى سخرية فنتازية وهو يقول «سيارات النقل مصحوبة بمكيانيكي، ومفهوم الصيانة الدورية يعني أنه يتوجب على الميكانيكي أن يتفقد السيارة في كل استراحة وكلما اقتضى الحال وتعطلت عن الحركة». يسخر من الوقت الطويل الذي يستهلكه سائقو الحافلات-الأشبه بالسلاحف- في القيادة. فالواحد منهم يسوق بسرعة 30 كيلومترا في الساعة. بل يتوقف لأكثر من مرّة لتبادل الاخبار والنكات والاحاديث الودية. يُضحكنا المحروقي وهو يقول: «يستعيذ الواحد منا قبل ركوب السيارة ويدعو الله أن يحفظها من شر ثلاثة، الشارع والنشالين ونفسها».
ولم تكن السيارة وحدها العجيبة بل حتى الهاتف عجيب أيضا، إذ لايعمل كباقي الهواتف في العالم بل له قانونه الخاص. توضع العملة في الأعلى. ينقطع الاتصال بسرعة أو قد يمنحك قرابة النصف ساعة من دون انقطاع ومن دون أن تضيف شلنجا واحدا. بل الأكثر طرافة أنهم تكيفوا على التعامل مع الجهاز.. فظرف انقطاعه المتكرر دفعهم إلى تكثيف الكلام في كلمة واحدة تعطي ردا حازما.
ويبدو أنّ علاقة المحروقي كانت متوترة مع كل وسائل المواصلات، فقد تحدث عن إمكانيات الطيران التنزاني الضعيفة، التي بالكاد تتسع لعشرين راكبا أو أقل، لا تزيد مساحتها من الداخل عن مساحة حافلة صغيرة ولا يفصل شيء بين قائد الطائرة والمسافرين، «كنا نراه وهو يمسك بالفرامل ويتحكم في ارتفاع الطائرة». ويضيف قائلا: «بقينا بين خوف ورجاء».
السخرية الطريفة تتناسل وتستمر مع علي بابا ورفاقه الحرامية الذين كادوا أن يستغلوا عدم معرفة المحروقي ورفاقه بأسعار النقل ولكن الله كتب لهم النجاة. ويضعنا المحروقي أكثر في ظرف الحياة هناك، فالفنادق كانت رخيصة إلا أنّ ماء الاستحمام فيها يدفع أطرافك لأن تتجمد. ولا يفوته الذهاب إلى حي الفقراء وبيوتهم التي يسكنون فيها ولا تعدو أن تكون أكواخا من سعف النخيل وقليل منها مبني بالطوب الأحمر وأشكالها جميلة. يتحدث أيضا عن المهور المتدنية للنساء، وعن سوقهم قريبا لشكل من الاسواق العمانية الشعبية.
يطارد المحروقي التفاصيل الصغيرة، فيأخذنا إلى طبق «الوجالي» المُهيب وهو عبارة عن طحين مخفوق بالماء على نار هادئة ويلازم «الوجالي» القاشع وهو السمك المجفف والمقلي مع البصل والطماطم و»المتشيشا» وهي شجيرة خضراء تُطبخ قليلا ثم تقلى بالسمن. «المهوجو» هو عبارة عن جذور شجرة تعرف «الكسانفو». لكن المحروقي لم يشتر»المدافو» جوز الهند لأنه مدر للبول في تلك المسافات الطويلة التي يقطعونها. ولم يعرف تقدير أعمار ذوي السحنة السوداء من الركاب معه، وكان يُفضل الفواكه على الكعك والصودا.
يعاود المحروقي نسف الصورة الفانتازية وهو يصف دار السلام قائلا:»وصلنا دار السلام وليست عندي بدار السلام. عتيقة وشوارعها رديئة ومملوءة بالحفر». فالعماني الذي كان يذهب إلى زنجبار في أربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم أو قبل ذلك بعقود، كان يعيش دهشته الخاصة. فهو لا يعرف في بلده سوى بيوت الطين والأفلاج و»المال» مزارع النخيل، وعندما كان يذهب إلى زنجبار كان يتفاجأ بتمدنها وتحضرها ووفرة مدارسها ومستشفياتها وخضرتها ومزارع «الشامبا» فيها ومبانيها وصحفها ومجلاتها وتنوع المهن فيها. بينما هذه الصورة الذهنية تنقلب الآن رأسا على عقب فهذا العماني الذي عاش ذاكرة خصبة من تاريخ زنجبار يُكابد الآن صدمة الصورة، فقد خرج من عُمان المتطورة والمتمدنة عام 92، ليُصدم بواقع حال مختلف.
«الفساد الاداري ينخر في عظامه»هكذا قال مسعود الغيثي مدير المعهد الاسلامي محللا الوضع. ففي مطب انتهاء صلاحية التأشيرات تذكر المحروقي وفاقه قول الحكيم، «وإذا لقيت صعوبة في مطلب فاحمل صعوبتها علىالدولار»، وقد ذكر الحكيم الدينار، ولكن الكاتب كيفه ليلائم الظرف.فالعملة الصعبة هي التي يسرت كل شيء. وعلا صوت الختم كضربات مطرقة. فالمطالبة بحق الشاي، «الرشوة او الاكرامية» قصة صادفتهم في أكثر من موقف. ويحيل المحروقي قصة الرشاوى لقلة الرواتب، إذ يتقاضى الخادم عن عمل شهر كامل 3000 شلنج أي ما يوازي 3 ريالات عمانية.
يُلقي المحروقي سنارة السؤال الصعب، والذي كثر من العمانيين يترددون أمامه. «الحقيقة أننا لانريد أن ندين أنفسنا، ولكن كيف حدث أننا استعبدنا هذا الشعب، وهو صاحب الأرض ونحن الغرباء كل هذه الفترة الزمنية، ولم نعترف بحريته إلا تلبية للمطالب الأجنبية». قال مسعود الغيثي ردا على السؤال: «استعبدناهم عندما استعبدهم العالم أجمع، وتركناهم عندما تركهم العالم. هم الآن يعرفون أننا نحن وليس الانجليز من كان إلىجوار صفهم». وأظن أنّ جواب من هذا القبيل يأخذنا إلى تحليل آخر وعميق لمشهد التواجد العماني، إلا أنّ المحروقي فضل عدم الإسهاب فيه. وإن كان قد أورد لنا شهادات من أبناء المنطقة تدلل على ذلك، فقد قال له أحد أفارقة موانزا، «الهنود ينشغلون بتجارتهم ولا يمتزجون بغيرهم، بينما العرب يخالطون الأفارقة ويزاوجونهم». وغالبا ما يُقصد بكلمة العرب العمانيون.
بالمقابل تصدمنا أحيانا بعض الجمل التي تُعلي من شأن النظرة المتعالية، كما قال العُماني صاحب المحروقي، «إنهم أحقر خلق الله ولا داعي لمجاملتهم». وجملة أخرى من قبيل «فهم في الشر اخوان». ويضيف: «في هذه البلاد لا يأمن الواحد على الساعة في معصمه ولا على المعطف فوق جسده». ويبدو لي هذا التعميم مُبالغا فيه، وليس على درجة كبيرة المصداقية، حتى وإن كانت هنالك تنبيهات مستمرة بضرورة الحذر. ولكن أمام صور لا مبالاتهم وقلة حيلتهم ورغبتهم في الرشاوى، يُرينا المحروقي الوجه الآخر من الطيبة وحسن المعاملة عندما التقى بالوالد سعيد وأولاده الذين أحسنوا معاملته هو ورفاقه، رغم جفاء اللقاء بداية الأمر.
التقى محمد المحروقي بعمه يحيى بن راشد الذي أخذ يردد عبارة «أولادنا جاءوا من بلاد العرب على غفلة». وهنالك تساءل المحروقي لماذا سمى العمانيون نهر النيل بالبحر, وعلل الأمر من وجهة نظره قائلا: «ربما لأنهم أتوا من بيئة جافة ليس بها أنهار فلم يحفلوا به كثيرا وسموه بحرا لوفرة مائه. على الرغم من أن مجراه ليس عريضا البتة». حكى العم عن الحرب بين الجارتين تنزانيا وأوغندا وعن الذين ماتوا وطفت جثثهم في مجرى النهر. ويظهر لنا العم في هذه الزيارة وجه آخر من المعاملة التي بات يلقاها العماني الماكث هنالك بعد الانقلاب. يقول العم بدرجة عالية من التأثر «لا حرمة للعرب أمواتا ولا أحياء، فالحكومة تنوي جرف مقبرة آبائنا الذين ينامون نوما قلقلا».
غالبا ما تركز الكتب والدراسات على الأمجاد العمانية في شرق أفريقيا، ولكن المحروقي ينبش ويحكي عن حال العمانيين هنالك بعد التمرد 64, فأموالهم وحيواتهم تُسلب، وهم عرضة للاستهداف بلا سبب، وعليهم تقديم الرشوة المطلوبة بين حين وآخر. السؤال المهم الذي أطلقه المحروقي في هذا الكتاب، وبقي للأسف الشديد من دون إجابات شافية هو: «ما الذي يُبقي أعمامي إلى الآن هنا». ربما لأن الإجابة شائكة وخانقة. فهو المكان الذي شهد طفولتهم وشبابهم. أفراحهم وأحزانهم، ولا يربطهم بعُمان سوى الحكايات التي يسمعونها والرسائل التي تصل بين حين وآخر.
يتنقل بنا المحروقي بين أكثر من جرح وهو يرى البيوت العمانية العتيقة ذات الطابع العماني الطراز بنوافذها ومشربياتها المنقوشة نقشا بديعا. وما أن وقع الانقلاب حتى أممت الحكومة المنازل والمزارع ووزعتها بالسوية على مُلاكها وبقية السكان. وهي الآن تباع شيئا فشيئا. وكم تؤلمنا صورة الشيوخ الكبار الذين أبوا أن يخلعوا دشاديشهم رغم أن المجد ذهب وغربت شموسه.
ويبدو أن ّزيارة المحروقي الثانية لزنجبار عام 2006، قد غيرت الكثير من الانطباعات التي تولدت في الزيارة الأولى،»شهدت تغييرات طفيفة للأحسن، وتغييرات شاسعة للأسوأ. أمست الحياة أكثر مشقة وإن مع استقرار نسبي. الفساد والبيروقراطية والجهل والمرض والفقر كلها كانت بارزة. كما أن هوية زنجبار كأهم مدينة اسلامية متحضرة على الساحل الأفريقي الشرقي تواجه ضربات عنيفة». ويبدو أيضا أن ّالتغيير لا يُرافق المكان وحسب فحتى كاتب هذا الكتاب يعترف بأنه هو الآخر تغير كثيرا في استقباله للعالم وفرحه بالحياة بينما كان عليه في أوائل العشرينات وخواتم الثلاثينات.
ليت الدفتر البنفسجي استوعب تفاصيل أكثر، وليته ما انتهى، هذا ما شعرتُ به وأنا أصل إلى الصفحة الأخيرة. المحروقي أيضا كان مغتاضا لأن دفتره البنفسجي لا يسجل لحظات من رحلة القنص «السفاري»، فيما الذاكرة التي لطالما تغنى بها لا تسعفه لتكوين مشهد متكامل. ربما لأننا نعيش لحظات السعادة ولا نفكر بها. ولهذا السبب بقيت الصفحات الخاصة بزيارة ممباسا بيضاء أيضا. فلا يحضر منها سوى لقطات متفرقة.
حس السخرية يُضفي لذة خاصةعلىالقراءة. تنقلات سهلة ورشيقة، تُشعر كأنك رفيقه في الرحلة وأنك تُكابد مثله برود الأفارقة وعدم مبالاتهم بالزمن، ولا شيء يُكدر عليك متعة القراءة سوى الأخطاء اللغوية، وليت الكاتب أعطى هذا الكتاب حقه وقليلا من صبره لكي لا يخفت وهج القراءة ويتعثر أمامها. والمهم أيضا أننا نكتشف حس محمد المحروقي الروائي، وليته يُعيد انتاج مخزونه الثري عبر الأدب السردي، ولعلنا نشعر بهذه الرغبة عندما يقول: «عندما أنظر في هذه الوجوه المتغضنة والمتعبة أفكر كثيرا في أنها كانت مليئة بالحياة والنشاط. ولاشك في أن تجاربهم الثرية والعنيفة في ان تصلح مادة روائية ملحمية».