تمثل الكتابة أولى بشائر الحضارة ومن هنا اصبح اثبات من كان له السبق باختراعها تحديا كبيرا إلا ان بعض المكتشفات الاثرية الحديثة قد تجيب على السؤال .
من الطبيعي ان نعتبر قدرتنا على الاتصال عبر الكلمة المكتوبة منحة ربانية ، ولذا كان اختراع الكتابة قبل حوالي 3300 عام قبل الميلاد ذا اهمية بالغة فى ايجاد وتطوير المدنية الحديثة وبالكتابة اصبح ممكنا حفظ السجلات الادارية ونقل الرسائل عبر مسافات بعيدة بما سهل تنظيم المجتمعات الكبيرة واقتصادياتها فى حكومة مركزية كما اصبح ممكنا بالطبع تبادل المعرفة والآداب بين الاجيال المختلفة.
وخلال خمسة آلاف وثلاثمئة عام مضت طورت مختلف الحضارات والثقافات عبر العالم اكثر من 700 شكل وللكتابة بما يمثل تنوعا محيرا ويبدو معظم هذه الاشكال متميزا بحيث لا يستطيع الذين يتواصلون به وجدوا ان يفهموا شكلا آخر وبشكل لا يصدق فقد استمر معظم هذه الاشكال حتى يومنا هذا وكان معظم التركيز، الان وعلى مدار الالفي سنة الماضية منصبا على الهند وجنوب شرق آسيا حيث مازال فيهما وحدها اكثر من 200 شكل للكتابة حتى الآن بينما كان معدل انقراض الخطوط القديمة أعلى ما يكون فى اوروبا وامريكا الوسطى حيث طمست وحشية اوروبي القرن السادس عشر معظم تقاليد الكتابة المحلية .
واذا ما عدنا بأنظمة الكتابة المختلفة التي عرفها العالم فى رحلة عبر الزمن الى جذورها الأولى لوجدنا انها تنبع فى الاصل من خطوط اربعة فقط هي: المصري القديم "الهيروغليفى" والمسماري القديم "لدى السومريين فى العراق " والصيني القديم والزاباتى القديم فى اواسط المكسيك ولا يوجد حاليا اي شكل متطور عن الخط الزاباتى مثلما لا يوجد خط تطور مباشرة عن الخط المسماري.
وكان افضل الاسلاف لعالمنا المكتوب هو الخط المصري القديم «الهيروغليفى» الذي تطورت منه جميع الخطوط العربية والاوروبية ومعظم الخطوط الآسيوية بشكل غير مباشر والخط الصيني القديم الذي تطورت منه الخطوط اليابانية والصينية والكورية والفيتنامية الحديثة .
ومن بين هذه كلها كان الخط الصيني هو الوحيد الذي بقى دون تغيير يذكر ويعد الآن بأحرفه واشكاله التي تصل الى خمسين الفاقد اجتاز امتحان الزمن لفترة تتجاوز اربعة الاف عام ، واصبحت الاحرف الرومانية الحديثة المستخدمة فى غرب اوروبا الشكل الاكثر انتشارا للكتابة فى العالم فيما يأتي الخط الصيني فى المرتبة الثانية .
وقد كانت الاشكال الاول للكتابة تصويرية تستخدم صورا مبسطة لتمثيل الاشياء وبالتدريج استبدلت بالرابطة البصرية لتمثيل الاشياء وبالتدرج استبدلت بالرابطة البصرية المباشرة بين الشىء والرمز و الكتابة الرمزية التي تستخدم رمزا للدلالة على الشىء المعنى.
وقد جمع الخط المصري القديم «الهيروغليفى» بين الكتابتين التصويرية والرمزية ، ولكن مشكلة هذا الخط تمثلت فى الحاجة الى استخدام رمز جديد لكل كلمة جديدة ، وسر عان ما اصبح خطا مزعجا وبطيئا.
وقد استخدمت العناصر الصوتية الأولى لتمثل اسماء الاشخاص والاماكن بدقة تحتاجها الحسابات التجارية لتوثيق اسماء المرسل والمرسل اليه وال منشأ واتجاه البضاعة وكانت هذه الرموز الصوتية ، ومثلها الرموز الصوتية غير المرتبطة بشكل ، ضرورية بسبب الاسماء الطويلة جدا التي اعتاد الناس على استخدامها قبل 5000 عام مضت .
وقد تم تطوير النظام الابجدي الذي تتكون فيه الكلمات من جمع احرف او رموز ممثلة لاصوات مختلفة ، في منطقة الشرق الاوسط قبل حوالي 3700 عام وانتقل هذا النظام الى الخطوط العربية والهندية ومن ثم الاغريقية ومنها الى الخطين الروماني والسلافى المستخدمين الآن في اوروبا.
ورغم المراحل المعقدة التي مرت بها انظمة الكتابة خلال تطورها إلا انها الآن سهلة الاستيعاب لكن جدلا واسعا مازال يدور لتحديد اي من الخطوط الاصلية الاربعة ظهر قبل غيره .
وقد كان يظن منذ زمن بعيد ان الكتابة قد بدأت بالخط المسماري ورثى وقتها انها انتقلت الى مصر القديمة ومن ثم الى شبه القارة الهندية وحسب نظرية مقبولة فإن هذه الفكرة قد انتقلت، او ربما طورت بشكل مستقل ، فى الصين بعد الف عام من ذلك الوقت .
لكن اكتشافات مثيرة فى المجال الاثري ظهرت حديثا قد تدفعنا الى تغيير كثير من فرضياتنا حول مكان وزمان بدء الكتابة .
فقد اظهرت اكتشافات حديثة فى مقبرة فرعونية جنوب مصر كتابات هيروغليفية مصرية تعود الى حوالي عام 3250 قبل الميلاد سابقة بذلك اقدم كتابة مسمارية معروفة بفترة من 50 الى 100 عام ، وقد عشر فى هذه المقبرة على عشرات النقوش محفورة على العظام والعاج او مرسومة بحبر اسود على جرار فخارية .
وتنتمي هذه النقوش الى عهد ملك غير مشهور وهو الملك سكوربيون الذي حكم مدينة ثينيس المفقودة وقد استخدمت العظام والعاج للتعريف بالصناديق التي رافقت الملك في رحلته الى العالم الآخر، كما كانت التقاليد الفرعونية تنص .
وقد اظهر التحليل ان نظام الكتابة آنذاك احتوى رموزا صوتية واختصارات بما يشير الى انهم عرفوا الكتابة قبل ذلك بزمن معقول ، مما يجعلنا نفترض ان الخط الهيروغليفي المصري ربما يكون قد ظهر فى وقت اسبق بين حوالي عام 3350 ق .م أو 3400ق.م .
ويقدم اكتشاف آخر دعوة الى مزيد من المراجعة ولكنها هذه المرة فى تحديد هوية الذين طوروا الخط المسماري.
ذلك انه قبل الاكتشاف الاخير فى مصر كان العالم يدين الى السومريين بفضل تقديم اول نظام كتأبى متطور لكن تحليلا حديثا لبعض الادلة الاثرية والنقوش اظهر ان السومريين لم يكن لهم وجود في المنطقة قبل انقضاء 200 الى 300 سنة على تطوير الخط المسماري ونتيجة لذلك اصبح المخترع الحقيقي لهذا الخط مجهولا، ويعرف ببساطة على انه شعب دجلة الاول نسبة الى النهر المعروف .
لكن المفاجأة المذهلة جاءت من الصين حيث اظهرت اكتشافات اثرية هناك ان بعض الرموز الصينية طورت قبل 7500 عام فيما طور بعضها الاخر في الفترة من 3500 الى 2800ق.م، وحتى الآن كان اقدم النصوص الصينية بعود الى حوالي 1300ق.م لكن نصين اكتشفا حديثا فى منطقة النهر الاصفر يعودان الى حوالي 2500
وهكذا يغدو التساؤل اذا كان الصينيون هم الذين طوروا الكتابة فهل انتقلت الفكرة من الشرق الى الغرب وليس العكس ؟ وهل كانت الصين نقطة انطلاق مدنية العالم وليس الشرق الاوسط؟ واذا كان المصريون هم الذين ابدعوا الخط المسماري فهل يعنى هذا ان الكلمة المكتوبة ولدت على ضفاف النيل لأعلى ضفاف النهرين .
وهل نعتبر الكتابة اذن مساهمة افريقية فى تقدم العالم .
ومع كل هذه الاسئلة وما تحمله من شك فإن علماء الاثار يرون ان تقدما كبيرا تحقق فى تحديد اصول الكتابة التي كانت واحدا من الالغاز المجهولة عن بدايات التمدن .
جهاد عبدالله أحمد: باحث علمي من الاردن