في عام 1962 استقال توفيق صايغ من جامعة لندن وعاد إلى بيروت ليصدر مجلة “حوار” التي أحدثت زوبعة فكرية لم تحدثها مجلة عربية من قبل او من بعد. صدرت المجلة بتمويل من المنظمة العالمية لحرية الثقافة التي كانت تتخد من باريس مقرا” لها. شارك فيها نخبة المفكرين العرب وأفسحت المجال أمام كتاب القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد، الا انها حوربت منذ صدورها لارتباطها بالمنظمة العالمية، في بيروت ثم في القاهرة وانتقلت العدوى الى العواصم العربية الأخرى، ورأى بعض المحللين آنذاك ان هذا الهجوم وليد تسلم اليسار مقاليد الصحافة في القاهرة. وشاع ان المنظمة تمولها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ولما تأكد توفيق من ذلك أصدر بيانه الشهير في مايو (أيار) 1967 معلنا” احتجاب المجلة الى ان يتوفر لها تمويل عربي. على أن المجلة بلغت رقيا” من حيث المادة والإخراج والتوزيع لم تبلغه مجلة عربية خلال العقود الأربعة الاخيرة، الا أن تعثرها الأساسي يعود إلى اعتبارها يمينية في القاهرة وماركسية في الدول العربية المحافظة.
قبل إصدار “حوار” بسنة عُقد في روما مؤتمر “الأدب العربي المعاصر” [16-20 اكتوبر1961] بحضور نحو من خمسين اديباً من الشرق الأدنى والمغرب واوروبا وأمريكا، كان مدير برامجه سيمون جارجي، حضره فيمن حضره توفيق صايغ، استاذ الادب العربي في جامعة لندن، وجون هانط، مدير المنظمة العالمية لحرية الثقافة في باريس.
على مدى 53 صفحة مسطَرة ومنفصلة [ 15.5 × 23.5 سم] وبخطّ أحمر وكلمات صغيرة تكاد لا تُقرأ دوّن توفيق صايغ [ 1923-1971] مذكّراته وهو يستعدّ لإصدار مجلّة “حوار”. تمتدّ فترة المذكّرات من 7 ابريل (نيسان) إلى 31 يوليو (تموز) 1962 وهو بين بيروت ولندن وباريس ثم بيروت. توخّى توفيق الإيجاز فجاءت يوميّاته مقتضبة لكن موحية، وتشكل دفاعه الشخصي عن تجربة “حوار”. اليوميّات هذه بقيت بين أوراق الشاعر لعقد قبل ان تنتقل إلى منزل أهله وفيما بعد منزل أخته ماري في عين المريسة عند بحر بيروت، وفيها أفصح:
9 ابريل (نيسان):
مباحثات أوّلية مع سيمون جارجي. العشاء مع ليلى [بعلبكي] في [مقهى] “الهورس شو” [في شارع الحمرا]. ليلى هاجمت بعنف المنظمة والمجلة وسيمون، وتوفيق [صايغ] لأنه قبل العمل [مع المنظمة]. “نزعة يوسيفية” [نسبة إلى يوسف الخال] قوية في عناصر هجومها.
10 ابريل (نيسان):
رياض [نجيب الريّس] وافق على منصب مساعد التحرير. محمد يوسف نجم تحدث عن حملات كثيرة ستُثَار [ضد توفيق صايغ]
14 ابريل (نيسان):
غداء في الجندول مع سيمون وزوجته وجميل [جبر] وبدر [شاكر السيّاب] للتباحث مع جمال [احمد]:
عمل المنظمة:
1 ) خدمة القومية العربية.
2 ) لا غوغائية.
3 ) لا سياسة مباشرة.
4 ) لا نعادي أية فئة.
17 ابريل (نيسان):
جميل وسيمون يريان ان نقولا زيادة وبشارة الغريب ويوسف الخال يزودان كثيراً من الحملات والإشاعات بمضمونها، خاصة عن وجود عنصر صهيوني في المنظمة!! (المضحك هو ليس فقط ما في هذا من أكاذيب، بل في من ينشر هذه الشائعات).
مساء في [مطعم] “فيصل” مع مطاع صفدي واورخان ميسر وخليل حاوي].
خليل يفضّل الاقتصار على لون واحد هو الشعر ولو أدّى ذلك كما أدّى إلى اعتزاله الفلسفة التي يحبها والرواية التي يتوق لكتابتها.
23 ابريل (نيسان) لقاء مع سهيل ادريس. عشاء مع محمد يوسف نجم واحسان عباس ومحمود زايد في مقهى الجندول قال محمد يوسف نجم: أنا ويوسف الخال سنوجّه هجومات ضد المنظمة.
28 مايو (أيار) أرسلت ترجمتي ل “لتل غدنغ” الى دنيس [جونسون ديفيز].
اقتراح من سيمون بالذهاب إلى باريس ومقابلة هانط.
أخذت الفيزا لفرنسا.
3 يونيو (حزيران) في كامبردج . المجلات التي تصل أنيس [صايغ]: هجوم في مجلّة “الأحد” على فرانكلين. علي الجندي في مجلّة الصيّاد يهاجم المنظمة.
18 حزيران الطائرة إلى باريس – جميل وادوار [طربيه]، غداء
تلفن سيمون، لقاء مع هانط وسيمون،
جاء جورج صيدح، حديث عن حوار.
عشاء مع جميل وسيمون. قالا انهما واثقان أن الدول الغربية تدرس الآن فكرة القضاء على سورية المستقلة وعلى تجزئتها وتقسيمها بين العراق والأردن وتركيا.
19 يونيو (حزيران) مقابلة هانط مع سيمون/جبرا مراسل بغداد. قراءة نصّ كتبته مرفق هنا + ميزانية. الاتفاق على المراسلين (المنظمة تدفع لهم) جبرا بغداد/المزالي شمال افريقيا/أورخان سورية.
21 يونيو (حزيران) أعطيت لهانط قائمة بالمجلات التي أريد الاشتراك بها. رسالة من بدر يطلب فيها النقود التي اقترحت المنظمة اعطاءها له للتطبب كي يذهب للعراق أو يحضر عائلته لبيروت.
عدتُ مساء إلى لندن.
تعرّفت على فاتيكيوتيس
حفلة لوداعي عملها أنيس وهيلدا [صايغ]. آربري Arberry كان حاضراً.
28 تموز مع دنيس جونسون ديفيز والطيّب صالح.
خلال شهري أيار وحزيران 1962 كان توفيق التقى بمسؤولي المنظّمة العالمية لحرية الثقافة Freedom Cultural for Congress The في باريس ولندن واجتمع إلى سيمون جارجي وإبراهيم مدكور الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالقاهرة وجون هانط Hunt John مدير المنظمة في باريس وتمّ الاتفاق على أن يتوجّه توفيق في وقت لاحق إلى القاهرة لمقابلة الكتّاب المرشّحين للمساهمة في المجلّة شخصياً.
وفي “مؤتمر لندن” [ 4 – 5 يونيو (حزيران) 1962] كان الاتفاق على اهتمام المجلة متى صدرت بالأدب والفن والاجتماع والحضارة.
كانت مباحثات توفيق الأولى جرت مع سيمون جارجي في لندن في نوفمبر1961، وركّز توفيق في مراسلاته اللاحقة على استقلالية مكتب بيروت. كان جون هانط John Hunt يفضّل أن يكون عنوان المجلّة “أضواء” [رسالته إلى توفيق، 29 – 1 – 1962]، لكن توفيق أصرّ على تسميتها “حوار” وأن يكون بدء العمل في بيروت في أغسطس 1962.
كان جارجي صلة الوصل بين “حوار” ومكتب المنظمة في باريس، والمشرف آنذاك على “أضواء” النشرة الصحفية الاسبوعية الصادرة بالعربية عن مكتب باريس، وأستاذ تاريخ الحضارة والآداب العربية في جامعة جنيف. استقرّ الرأي في المراسلات الاولى أن يكون جمال أحمد مديراً وتوفيق رئيساً للتحرير، وكان جمال أحمد آنذاك سفير السودان في الحبشة. وكان هانط في مراسلاته إلى توفيق يطالبه بالتنسيق مع جميل جبر مدير مكتب المنظّمة العالمية في بيروت وسيمون جارجي وجمال أحمد.
كان يوسف الخال على اطّلاع على الجهود المنصبّة لإصدار “حوار” فأرسل [ 7 – 11 – 1961 و 8 – 1 – 1962] إلى توفيق يعرض عليه تحرير مجلة “شعر”: “أنت وأنا صاحبا المجلّة ورئيسا التحرير، وأنسي الحاج سكرتير التحرير”. في تلك الأثناء كان أدونيس مختفياً إثر محاولة القوميين الانقلاب على النظام فيما الماغوط كان قد أوقف. اقترح جارجي [ 14 – 11 – 1961] أن يكون الخال ناشر “حوار”. وكان الخال وصل باريس طالباً التعاون مع المنظمة العالمية للمضي في إصدار “شعر”. اقترح الخال إصدار “أدب”، لكن جارجي رأى في رسالة إلى توفيق [ 22 – 12 – 1961]: “كيف نقبل بها ولم يشترك واحد منّا في إعدادها وندّعي انها مستقلّة تماماً عن يوسف ودار شعر”. وكان سيمون جارجي قبل ذلك أخبر توفيق [8 – 12 – 1961] أن “يوسف مصمّم على إصدار “أدب”، فالمجلّة إذن مجلته. نصدر مجلّة ثابتة مستقلّة تحت إشرافك، وإنشاء مكتب دائم للمنظمة في بيروت يشرف عليه جميل جبر”. ومن لندن بدأ توفيق يبعث برسائل إلى مفكري العالم العربي وشعرائه وفنّانيه يطلب فيها منهم المشاركة في “حوار”.
وصل توفيق إلى بيروت مطلع صيف 1962 وبدأ يستعدّ لإصدار “حوار”. قابلته صحيفة “المحرّر” وكان يشرف على صفحتها الأدبية آنذاك غسان كنفاني [ 1936 – 1972]. قال توفيق: “إن فكرة إصدار “حوار” فكرة قديمة، لكني سأتابع الشعر كتابة وترجمة وقراءة [27 – 8 – 1962].
في نوفمبر 1962، صدر العدد الأول من “حوار”.
واجه توفيق صايغ أزمة “حوار” الاولى حين مُنع العدد (5) [يوليو/اغسطس 1963] من دخول العراق. وقبل ذلك كانت صحف بيروت والقاهرة قد بدأت حملتها على “حوار”.
في سبتمبر (أيلول) 1962 بدأت مجلّة “الصياد” البيروتية بمهاجمة “حوار” لارتباطها بالمنظمة العالمية لحرية الثقافة في باريس. تكثّفت الحملة الهجومية على “حوار” في القاهرة ثم انتقلت إلى بيروت في أواخر 1963. المنظّر الأساسي لهذه الحملة كان رجاء النقاش على صفحات “أخبار اليوم” القاهرية، وفي “النداء” و”الآداب”، و”صوت العروبة” و”الأنوار” و”الصياد” و”الشعب” في بيروت.
وسط هذه الحملات جاء الدفاع الاصيل الوحيد عن حوار وصايغ من بدر شاكر السيّاب اذ اعلن بصريح العبارة وبنفس حزين ان الازمة ابعد من المنظمة العالمية لحرية الثقافة وأعمق من أزمة الحرية في العالم العربي، فتحت عنوان “قليل من الإنصاف” كتب السياب من البصرة:
لا يسعني وأنا أمر في أعقاب المحنة القاسية التي ظللت أعانيها لأكثر من عام، إلا أن أذكر الدور المشرّف الذي وقفته تجاهي “المنظمة العالمية لحرية الثقافة”. والحق أنها كانت الجهة الوحيدة التي أمدتني بالعون المالي السخي دون “مدائح” أكيلها لها واستجديها فيها أن تساعدني.
أوفدتني “المنظمة” إلى المملكة المتحدة في زمالة لمدة سنة لتتيح لي الفرصة كي أعالج نفسي هناك. وخصصت لي راتباً شهرياً قدره ستون جنيهاً استرلينياً. وبعد أن راجعت الأطباء الأخصائيين وحجز لي سرير في واحد من أحسن مستشفيات لندن، أرسلت لي المنظمة شيكاً بخمسمائة جنية استرليني أنفقها على علاجي. ثم غادرت المستشفى محطماً عاجزاً عن المشي بل حتى عن الحركة لأن الجراحة البريطانية لم تجد في جسدي ما تقصه أو تقطعه، أرسلت المنظمة مستشارها الأستاذ سيمون جارجي كي يراني ويطمئن على وضعي ويدبر أمر سفري إلى باريس للمعالجة هناك.
وتم الاتفاق على أن أطير إلى باريس برفقة صديق يعنى بي، وأن يكون كل ذلك – بما فيه تكاليف اقامتنا في باريس – على نفقة المنظمة.
وفي باريس وجدت نفسي محاطاً بالرعاية والعناية من موظفي المنظمة والعاملين فيها. وعرضت على أكبر أخصائي فرنسي في الأعصاب: مدير مستشفى الأمراض العصبية. وزودْت بالأدوية التي وصفها لي الطبيب بعد أن اشتريت لي على حساب المنظمة. إنني الآن أحسن حالاً مما كنت إلى حد كبير، ولكن لا بدّ من مرور بضعة أشهر قبل أن أصبح قادراً على المشي بمعونة العصا.
وإنني ليؤلمني، وأنا في هذه الحال، أن أقرأ التهم الباطلة التي تكال للمنظمة، لمجرد أنها أصدرت مجلة قد تنافس المجلة الفلانية، وعملت على إبراز أدباء قد ينافسون الأدباء الفلانيين. كان أول ما عرفت المنظمة في مؤتمر الأدب العربي الذي عقد في روما شتاء 1961. وكانت المنظمة هي التي عملت على عقده. لقد كان ذلك المؤتمر تظاهرة قومية عربية في وسط أوروبا. شكلت، داخل المؤتمر، جبهة للدفاع عن العروبة والتراث العربي، ضد أي هجوم قد يقع عليها من بعض الجهات التي أسفنا أنها كانت من لبنان، هذا البلد العربي الأصيل. وكانت هذه الجبهة تتألف من الدكتور ابراهيم بيومي مدكور (ج. ع. م.) والأستاذ جمال أحمد (السودان) وكاتب هذه السطور (العراق). وأشهد أن المستشرقين المدعوين إلى المؤتمر كانوا أكثر عروبة في مواقفهم من بعض الجهات العربية.
لقد خسر أحد الأدباء مركزه الذي كان موعوداً به كوكيل للمنظمة في بيروت، نتيجة لموقفه المعادي للقومية العربية في المؤتمر. ان موقف أية منظمة ثقافية غربية لا يمكن ان يختلف كثيراً عن أحسن موقف غربي من قضايا العرب، وفيما يخص قضية فلسطين: الحياد بين العرب واليهود.
أيتحتم على المجلات ذات المستوى العالي أن تهبط مستواها لئلا تنافس المجلة الفلانية؟ ويتحتّم على الشاعر الفلاني أن يعطل مواهبه لئلا ينافس الشعرور الفلاني؟ وإلا فهما عدوان للعرب والعروبة؟
حرام أيها الناس أن تزجوا بالسياسة في معارك للمنافسة الفردية، فلن يستفيد من ذلك إلا أعداء العروبة المتربصون بنا هنا وهناك.
لكن الحملة لم تشتدّ إلا في أواسط 1965، وعنفت بعد رفض يوسف إدريس لجائزة “حوار”. لكن لا يمكن فهم هذا الهجوم على “حوار” وعلى “المنظمة العالمية” بمعزل عن ازدياد معاداة الغرب في الستّينات وتسلّم اليسار المصري مقاليد الصحافة في القاهرة. رأى رجاء النقاش أن مجلة “حوار” تدافع عن حريّة زائفة و”غريبة علينا”، ثم شهد مطلع عام 1966 هجوماً عنيفاً على “حوار” في مجلة “العلوم” [مُحرّرها منير بعلبكي].
ففي عدد شباط 1966، حمل عبد العزيز الدسوقي (القاهرة) حملة شعواء على “حوار” وعلى مقالة لويس عوض (الأهرام، 19 – 11 – 1965) التي شخّص فيها أزمة الثقافة في مصر، معتبراً الدسوقي أن هذا التشخيص دفاع مبطّن عن “حوار”. وفي عدد أيار 1966، هاجم ياسين نزّال النصير (البصرة) “حوار” ودافع عن عوض. وفي العدد نفسه رأى طلعت همّام (القاهرة) أن “حوار” تميّع الاشتراكية.
ثم نشرت صحيفة “النيويورك تايمز” [ 27 – 4 – 1966] مقالة زعمت فيها أن “المنظمة العالمية لحريّة الثقافة” تدعمها وكالة المخابرات المركزية [الأمريكية] (سي. أي.إي) وان هذه المنظمة تموّل مجلاّت “انكاونتر” الانجليزية و”بروف” الفرنسية و”حوار” العربية. كانت مجلّة “روز اليوسف” القاهرية بالمرصاد، فأشارت في عددها الصادر بتاريخ 23 – 5 – 1966 إلى مقالة “النيويورك تايمز” واحتدمت المعركة واتّسعت، فدافع توفيق عن نفسه في “الاسبوع العربي” [ 30 – 5 – 1966]. وفي أوائل يونيو (حزيران) 1966، أصدر نائب رئيس الوزراء للثقافة والإرشاد القومي والسياحة في مصر عبد القادر حاتم قراراً بمنع “حوار” من دخول مصر بعد “أن تأكدت السلطات المصرية أن المخابرات المركزية الامريكية تموّل “حوار” [“الأهرام”، 6 – 6- 1966]. الدفاع الوحيد في ذلك الوقت جاء من أنسي الحاج [“النهار”، 12 – 6 – 1966].
وهنا لم يجد توفيق بداً من السفر للوقوف بنفسه على حقيقة موقف المنظمة العالمية، فقضى الاسبوعين الأولين من يوليو (تموز) 1966 متنقّلاً ما بين لندن وباريس.
ثم صدرت “النيويورك تايمز” في 29 – 7 – 1966 وفيها ثلاث مقالات تتصل بقضية “حوار”: منع “حوار” من دخول مصر، ونفي المنظمة العالمية لتمويل “حوار” من وكالة المخابرات المركزية وردّ توفيق صايغ على قرار منع مجلّته.
مرّ أسبوعان قبل ان يضطلع لويس عوض بصفحة كاملة من “الأهرام” الاسبوعي [ 5 – 8 – 1966] ليردّ على مقالات “النيويورك تايمز”، وناشد توفيق صايغ أن يستقيل من تحرير “حوار”، “لأن الاستمرار فيه ما يمسّ الوطنية”، وفي “روز اليوسف” [15 – 8 – 1966] دافع أحمد غبد المعطى حجازي عن موقف عوض، إلا أنه اعتبر قرار منع “حوار” خاطئاً، وفي اليوم التالي شنّ رجاء النقاش في “الكواكب” [ 16 – 8 – 1966] هجوماً شديداً على “حوار”، وفي “الكواكب” بعد قرابة شهر [ 13 – 9 – 1966] رأى جلال كشك أن مسألة “حوار” خرجت عن طوق النشر لتدخل المفهوم السياسي ومن هنا منعها في مصر. لكن قرار المنع ذلك لم يثبط عزيمة توفيق، إذ كان وجّه نسخة من “حوار” إلى الرئيس جمال عبد الناصر وجاءه الاشعار بوصولها من محمود الجيار “مدير مكتب الرئيس للشؤون الداخلية” [صادر من القاهرة بتاريخ 26 – 6 1966].
وما هي إلاّ أسابيع حتى تفشّت عدوى الهجوم على “حوار” في صحف بيروت والقاهرة ودمشق وبغداد وحتى عمّان والكويت. وفي 14 – 9 – 1966 دعت صحيفة “البعث” إلى مصادرة “حوار” وهاجمت “الكاتب” المصرية سبتمبر (أيلول 1966) المجلة وارتباطاتها. وطلعت صحيفة “العرب” [بغداد] يوم 30 – 12 – 1966 بعنوان “امنعوا حوار” وفيها هجوم عنيف شنّه عبد الرحمن مجيد الربيعي على “حوار”. ولكن حين سئل يوسف ادريس في “الاسبوع العربي”، البيروتية [ 31- 10- 1966] عن رأيه بمنع دخول “حوار” إلى مصر قال: “ذاك حديث لا أحبّ أن اتكلّم عنه، لا بشرّ ولا بخير”.
وفي اكتوبر1966، أشارت مجلّة “المكتبة” (البغدادية) إلى أن مجلّة “حوار” التي منع دخولها في مصر بدأت تصل بالبريد الجوّي إلى عدد من الشخصيات في القاهرة والإسكندرية. ذكرت ذلك مجلة “روز اليوسف”. يوم 23- 10- 1966 وصل توفيق إلى باريس وأقام فيها عدّة أيام اجتمع خلالها إلى هانط وجمال أحمد وسيمون جارجي. اتفق توفيق وهانط على ضرورة متابعة اصدار المجلّة في حين رأى أحمد تأجيلها، ولو مؤقتاً. أما سيمون فقد أصرّ على إيقافها. ثم عادت “الآداب” و”الحوادث” إلى تجديد حملتها على “حوار” في مطلع 1967 فتمكّنتا من توجيه ضربات موجعة إلى “حوار” والتعريض برئيس تحريرها الذي يبدو أنه صمد، حتى ذلك الحين، بعناد وحزم لوحده امام تجريح اصدقاء الأمس وخلانه وأعداء اليوم وحسّاده. ثم جاء منع آخر من العراق. وأمام هذه الحملات لم يجد توفيق بداً من ايقاف المجلة. الاربعاء 17 مايو (أيار) 1967 استشار جمال أحمد الذي رأى ضرورة ايقاف المجلة وإصدار بيان توضيحي. كتب توفيق في مذكّراته: “لا عدد 28. أنا أقفلت المجلة. دفع مرتبات الموظفين وإهداء الأثاث إلى مؤسسة ثقافية احبّها. عصراً حضّرت بياني للصحف”.
صباح الأحد 21 – 5 – 1967 نشرت الصحف مقتطفات من بيان توفيق صايغ الذي أعلن فيه ايقاف “حوار” فيما نشرته “النهار” كاملاً، وفيما يلي نصّه:
1 – نشرت الصحف العالمية المختلفة، منذ أواسط الأسبوع الماضي، أنباء وتصريحات وبيانات اتضح منها أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية قد امدّت بالمال، طوال سنين عديدة وعن طريق بعض المؤسسات المنظمة العالمية لحرية الثقافة في باريس، التي تسند مجلة “حوار” مالياً.
وقد اطلعت على الصحف الانجليزية والأميركية التي حملت هذه الأنباء، يومي الجمعة والسبت الماضيين (في 12 و 13 أيار) فكانت الصدمة لي صدمة بشعة مؤلمة، لم تكن لتشوه حاضر المجلة فحسب، بل جعلت التأكيدات التي أعطتها في الماضي لكتابها وقرائها ولأنصارها وخصومها محل شك. ولم يكن هناك مجال للاختيار بين مواقف: فثمة موقف واحد ينبغي اتخاذه في الحال، ولم يكن لي بد من اتخاذه: ألا وهو إيقاف المجلة فوراً بشكل نهائي. اذ تبين لي، بأسف، ان “حوار” قد فقدت بهذا كل مبرر لبقائها واستمرارها. لذا ابرقت إلى رئاسة المنظمة الممولة في باريس، بتاريخ الثالث عشر من الشهر الحالي، أشعرها بقراري توقيف المجلة نهائياً عن الصدور.
2 – ويوم الأربعاء (في 16 الجاري) ذهبت إلى باريس لأنهي المعاملات الادارية المختلفة المترتبة على إيقاف المجلة. وهناك وجدت أن الجمعية العمومية للمنظمة قد وزعت على الصحف في الرابع عشر منه بياناً عن اجتماع غير عادي عقدته في اليوم السابق، أطلعها خلاله مدير المنظمة العام على ان الأنباء عن مساعدة الوكالة الأمريكية مالياً لها هي أنباء صحيحة. وأبدت الجمعية العمومية في بيانها أسفها البالغ لقبول مديرها العام لتلك المساعدة المالية وإخفائه الحقيقة عن جميع زملائه قاطبة.
وقالت الجمعية العمومية في بيانها “أنها تستنكر، بأقوى ما تستطيعه من تعابير، الطريقة التي خدعت وكالة المخابرات المركزية الأميركية بها الأشخاص المعنيين، واضعة جهودهم بذا موضع التساؤل”. وأردفت “ان نتيجة مثل هذا العمل هي تسميم ينابيع النقاش الفكري”، وأنها “تستهجن استهجاناً تاماً استخدام مثل هذه الأساليب غي عالم الآراء والأفكار”.
3 – ان هذه الخديعة من قبل الوكالة الأميركية، وهذا التسميم لينابيع النقاش الفكري، اللذين تحدث عنهما البيان المذكور، وإنْ هزّا الاوساط الثقافية في أقطار ومجالات متعددة، فإنهما اصابا مجلة “حوار” بمقتل. فالمجلة، عندما قبلت المساعدة المالية من المنظمة العالمية لحرية الثقافة، وخلال هذه السنوات جميعها التي عاشتها، لم يدر ببالها للحظة واحدة ان اي درهم يصلها منها مصدره رسمي، علني او سري، منبثق عن اية حكومة كانت. وعندما كانت تسري شائعات عن عكس ذلك كانت المجلة تنال تأكيدات جازمة قاطعة على انه لا صحة لتلك الشائعات. وغني عن القول انها لو عرفت قط، سواء في البداية او في اي ظرف آخر منذ ذلك الحين، بتلك الخديعة، وان المال الذي يصلها مال ملوث (كما وجدت الآن)، لرفضته في الحال – كما تفعل الآن حين تجلى لها الأمر، (بالرغم من أن مصدر تمويل المنظمة ذاتها، منذ أكثر من عام، قد اصبح مؤسسة خاصة ظل اسمها بمنأى عن الاتهامات، وموّلت وما برحت تموّل عدداً من المؤسسات الرسمية والخاصة في كثير من اقطارنا العربية – وبالرغم من أن نشاطات المنظمة المختلفة كانت على الدوام خالية من التأثر وبعيدة عن أي ضغط).
والمجلة تجد أن هذا الوضع الذي ألفت نفسها فيه، على غفلة منها وعلى حين فجأة، يجعلها مؤهلة لمتابعة المهمات التي أخذت على عاتقها القيام بها منذ إنشائها، كمجلة عربية صميمة، في روحيتها ومطامحها وأهدافها، لا في لغتها فحسب. إذ أن التسمم الفكري، الذي أشار إليه بيان الجمعية العمومية للمنظمة، قد جعل المجلة بعد اليوم تربة لا تقوى فيها بذورنا الجديدة على التنفس والحياة.
4 – ان هذه الخطوة التي اتخذتها بإيقاف “حوار” نهائياً، وإنْ تكن خطوة حتمية لا تردد فيها، كانت في الوقت خطوة محزنة. ذلك لأني طيلة السنوات الخمس الماضية كرّستُ كافة قواي تكريساً تاماً للمجلة، وآمنت إيماناً مطلقاً بقضيتها. ولكانت الخطوة أقل إيلاما لو أن المجلة قد ماتت عن شيخوخة واكتمال عمر، غير أنها في الواقع ماتت في وقت ابتدأت فيه بتوطيد مقامها وتوسيع آفاقها في الحياة الثقافية العربية وكانت تستعد فيه لوثبات جديدة أشمل وأعمق. وإن كان ثمة ما يخفف من حزني لاحتجاب “حوار”، فإنما هو فخري بما حققته في اعدادها السبعة والعشرين، وكتبها الثلاثة، التي هي بحقّ سجل للمنجزات العربية في سائر حقول الثقافة في خمس سنين، ودليل ناصع على امتياز المجلة، ورفعة مستواها، وجرأتها، واستقلالها.
وكلي أمل الآن ألا يطول الوقت قبل أن يتقدم بعض الممولين العرب، شعوراً منهم بالفراغ الأدبي والفكري الذي سيحدثه احتجاب “حوار” وإدراكا منهم بأن الوطن العربي لا غنى له عن مجلة على غرارها (مجلة تؤمن بالحريات وتشدد عليها، ويهمها المستوى والموضوعية والأصالة قبل أن يهمها أي اعتبار آخر، ويتسع صدرها للحوار الإيجابي الخلاق المثمر، مجلة للثقافة العربية الحية الحرة المنفتحة، تلتقي فيها اجود الكتابات بغض النظر عن مقام كتابها وميولهم، وتعنى لا بالمضمون فحسب بل أيضاً بالقالب والإخراج والشكل، مجلة للعالم العربي كله لا لقطر واحد من اقطاره، وتعكس محتوياتها أبعاده جميعها ولا تعبر عن أفكار فئة واحدة من فئاته، مجلة مستقلة الاستقلال كله، لا تخضع في تحريرها وتوجيهها لأي مموّل أو فئة أو جهة مهما كانت، رئيس تحريرها ليس موظفاً بل هو المسؤول الأول والأخير عن كل ناحية فيها) – أقول: أملي الآن الا يطول الوقت قبل أن يتقدم أمثال هؤلاء الممولين العرب، ويمكّنوا مجلة مثل هذه وعلى غرار “حوار” من الظهور، ويتيحوا لها الاسهام بجد وإخلاص في جانب من جوانب معركتنا المصيرية الشاملة ألا وهو الجانب الثقافي والفكري، بغية الوصول إلى أهدافها المنشودة.
كل أملي أن يؤول احتجاب “حوار” إلى حصول هذا قبل وقت طويل. وعندما يحصل هذا، ستكون “حوار” قد خدمت جوّنا الثقافي بمماتها كما خدمته بحياتها.
في اكتوبر1967، غادر صايغ بيروت فكان محاضراً في برنستون وجونز هوبكنز وشيكاغو وتكساس وهارفرد وكاليفورنيا وفي الجامعة الاخيرة في بيركلي كان هناك حتى وفاته نتيجة نوبة قلبية حادّة ليل الثالث من يناير1971، ودُفن في الثامن منه في مقبرة الغروب في El Cerrito بالقرب من بيركلي.
في مذكّراته قبل إطلاق “حوار” وصف حي ودقيق للجوّ الثقافي السائد في بيروت ولصورة المثقفين فيها، وعليه فإن مذكّرات صايغ خلال ربيع وصيف 1962 وثيقة عن مرحلة بأكملها هي مقدمة مرحلة انهيار الليبرالية العربية عن بكرة أبيها. 53 صفحة بخطّ صايغ بحبر أحمر ناشف شهادة عن تفاصيل حياته ومجلّته بجرأة ووضوح لا نعهدهما في أدبنا الحديث عند أعلامه.
الطيب صالح أنصف صايغ ومجلته ولو متأخراً في رسالة منه الى توفيق بتاريخ 15-9-1967:
أخي توفيق٬
تحيّة ومحبّة,
كان يجب أن أكتب لك قبل أشهر٬ وكما هو متوقّع تغلّب الكسل، ومرّت الأشهر وتلاحقت الأحداث ثم بلًغني دنيس تحياتك وحدّثني بأخبارك فعقدت العزم على الكتابة وها أنذا أفلح بعد كل هذه الشهور.
والآن كيف أبدأ؟ إنّني أرجو ألاّ يكون صمتي قد زعزع ثقتك في الودّ العظيم الذي أحسّه نحوك. وأنا أيضاً لن أستطيع أن أفيك حقّك من الشكرعلى تشجيعك وعلى أنّك تكبّدت مشقّة طبع “عرس الزين” في الهيئة المدهشة التي خرج بها. وأيضاً أرجو ألاّ يكون قد خطر لك أيّ شكّ في أنّني مع كلّ أصدقائك هنا، كنت أتابع “أزمتك” بالتوجّس والقلق والأمل التي هي قمينة بالصديق نحو صديقه. إنما المرء لم يكن يعلم ماذا يفعل وماذا يقول. وكان ثّمّة إحساس بأنّك ستتّخذ القرار الصحيح. ولا بدّ أنّك الآن تحسّ ببعض خيبة الأمل، إلى أنّ الجهد الشاقّ الذي بذلته، قد انتهى. ولكن لعلّه يسري عنك أن تعلم بأنّ ذلك الجهد لم يذهب سدى، وأنّ كثيرين من المثقّفين العرب الأمناء المتطلّعين إلى الأفضل – قد مسّهم وهج ذلك الجهد النبيل. ومهما يكن فأنت تعلم أنّك قد صدقت نفسك وصدقت الآخرين – هذا وحده يكفي.
لقد سرنّي أننّي علمت من دنيس أنك ستمرّ على لندن – إنّني متأكد أن هذه الرحلة ستنسيك بعض همومك – لا بدّ أحياناً من تغيير المناظر والوجوه والنظر إلى الأمور من بعد – ونحن نترقّب وصولك.
أمّا أنا فإنّني ما أزال معلّقاً بين السودان وهنا – احتمالات العودة النهائية ما تزال قائمة، ولم أكتب شيئاً، وثمّة إحساس بالقحط الروحيّ والعقليّ – على أيّ حال سنتحدث في كلّ ذلك. وفي انتظار وصولك لك خالص تحيّاتي وأيضاً تحيّات جولي وزينب.
أخوك دائماً
الطيّب
يكفي صايغ فخراً انه صاحب الفضل في تشجيع الطيّب صالح على كتابة روايته الرائدة موسم الهجرة إلى الشمال التي نشرها توفيق في حوار 24/25 سبتمبر (أيلول) – ديسمبر (كانون الأول) 1966 وفي اصداره عن منشورات حوار عرس الزين للطيّب صالح أيضاً، والعصفور الأحدب لمحمد الماغوط، أما كتاب صايغ نفسه أضواء جديدة على جبران فعلامة فارقة في النقد العربي الحديث لجرأة صايغ وطول باعه في فهم دقائق شخصية جبران وإخضاعها بالتالي للتحليل النفسي.
لكن توقف المجلة عن الصدور عطّل اصدار سلسلة كتاب حوار فأرسل صايغ نسخاً من أضواء جديدة على جبران وعرس الزين إلى المشتركين في المجلّة وذلك تعويضاً عمّا تبقى لهم من اشتراكاتهم.
ولعل رسالة دنيس جونسون ديفيز الى توفيق بتاريخ 27-6-1968 دلالة على أثر حوار الباقي رغم احتجابها، وعلى روح الفكاهة الانجليزية، في آن رغم جدية الموقف:
واليوم وبعد خمسين عاماً بالتمام والكمال على قضية حوار يمكن القول أنها تزامنت مع بداية انهيار الليبرالية العربية وتآينت مع تصدّع الفكر العربي الحديث برمّته، فيما كانت هزيمة 1967 خلف الباب.
وها نحن اليوم نشهد بحق اخفاق العلمانية في المشرق العربي، لكن الأدهى تشظّي جغرافية بلاد الشام وفلتان الفكر السياسي من بغداد إلى طنجة، ما يردنا إلى ما قاله صايغ على صفحة جريدة النهار [ 24 – 6 – 1966]: “لا خير يرتجى للحرية في هذا الجو الخانق”، وكان ذلك منذ نصف قرن. أما اليوم وقد بلغنا الدرك الأسفل حيث الجو خانق والحرية في خبر كان لا يصحّ سوى القول الآتي أعظم والانهيار الاعم وشيك لا محالة.
محمود شريح